
مقال نشر بالعدد الثالث من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 131 من إعداد د. فريد أمعضـشو جامعة وجدة / المغرب، للاطلاع على كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:

توطــئة:
علي أحمد باكثير قامةٌ سامقةٌ في دُنيا الأدب العربي الحديث، ترك بصْماتٍ واضحةً في عددٍ من حقول هذا الأدب، امتدّ تأثيرها إلى أجيال من أدبائنا المُحْدَثين والمعاصرين. بل إنه “كان، وسيظل إلى أن يشاء الله، ظاهرة إبداعية متفرِّدة”[1] في أدبنا الحديث. وقد خلّف إنتاجاً وإبداعاً أدبييْن وَفيريْن في مجالات المسرح والشعر والرواية وغيرها، تشهد كثيرٌ من متونهما بريادته في أكثر من مضمار أدبي، إلا أنه – رغم ذلك كلِّه – “لم يَحْظَ – حتى الآن – بالاهتمام الذي يستحقه كفاءَ ما قدّم من أدب أصيل متميِّز”[2]. فباستثناء ثلةٍ من نقادنا المعاصرين المعدودين على رؤوس أصابع اليد الواحدة، أو اليدين معاً على أقصى تقدير، لا نرى أيَّ التفاتٍ نقدي ذي بال إلى باكثير وتراثه الأدبي الزاخر، مقارنةً مع عديدٍ مِمَّنْ جايَلوه في مصر وفي غيرها. ولا بأسَ من أن نشير، ها هنا، إلى بعض ناقدِينا الأوْفياء الذين قدموا خِدْمات جليلة لتراث باكثير الأدبي، وبفضلها عرفنا، نحن قراء اليوم، أشياء كثيرة عن سيرة الرجل وأدبه الغزير والمتنوع. وعلى رأسهم محمد أبو بكر حميد الذي تخصَّص في هذا الصدد؛ فأكَبَّ على تحقيق مجموعة من مخطوطات باكثير، وإخراجها إلى عموم القراء، وتأليف الأبحاث والمقالات من حول أدب باكثير، وتجميع جملة وافرة من نصوصه وإعدادها للنشر. بحيث حقق ديوان باكثير الأول، ونشره عام 1987، مُبْقياً على العنوان الأصلي الذي اختاره صاحبُه له، وهو “أزهار الرُّبى في أشعار الصِّبا”، ويتضمّن القصائد التي نظمها باكثير في صباه وبداية فترة شبابه قبل أن يغادر حَضْرَمَوت، أوائلَ ثلاثينيات القرن الماضي، في اتجاه عدن التي نطم فيها عدداً من القصائد التي ظلت مخطوطة أو منشورة في بعض الصحف إلى أنْ جمعها وحققها ونشرها محمد أبو بكر حميد، في مطلع 2008، في تأليفٍ مُعَنْوَن بـ”سحر عدن وفخر اليمن”، ألحق بنصوصه المنظومة في عدن بضعَ قصائدَ أخرى، ذات صلة بعدن وباليمن عامة، نظمها باكثير خلال مقامه بمصر. وقدّم المحقق لهذا المجموع الشعري بتقديم مطوّل استوى على حوالي ربع حجم الكتاب الإجمالي، الصادر عن مكتبة كنوز المعرفة بالسعودية، في خمس وسبعين ومائة صفحة من القِطْع المتوسط. ولم يقتصر اهتمامُ الباحث على شعر باكثير، بل اعتنى كذلك بإسهاماته في حقول الأدب الأخرى تجميعاً وتحقيقاً وتعريفاً ودراسةً. إذ نشر العديدَ من مسرحيات باكثير التي تركها مخطوطةً غيرَ منشورةٍ، بعد تحقيق نصوصها، وجمع الأحاديث التي أدْلى بها لوسائل الإعلام المختلفة في كتابٍ، وخصّ كتاباً آخرَ بتجميع جملة وافرة من أقوال معاصريه في حقه، ومن القصائد التي رُثِيَ بها بعد وفاته، أسْماه “باكثير في مرآة عصْره”. وأصدر سنة 1997، بالرياض، كتاباً عن سيرة باكثير وَسَمَه بـ”أحاديث علي أحمد باكثير: من هموم حضرموت إلى أحلام القاهرة”. ودبَّج عدداً مهمّاً من المقالات عن حياة باكثير وأدبه، نشرها في عدة صُحف ومجلات (كـ”الأدب الإسلامي”)، ومواقع رقمية (كـ”رابطة أدباء الشام”). إلى جانب إلقائه محاضرات، ومشاركته في ندوات ومؤتمرات بمُداخَلات في الموضوع نفسِه. وكان له إسهامٌ فاعلٌ في المؤتمر الدَّولي الذي عقده الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية، في مبنى الاتحاد المذكور في قلعة صلاح الدين بالقاهرة، تحت عنوان “علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية”، على امتداد أربعة أيام من يونيو 2010، بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد باكثير. وعرف هذا المؤتمر عقْدَ ثماني جلسات بَحْثيّة علمية، قدّم، ونوقش، خلالها أربعون بحثاً عن علي أحمد باكثير الشاعر والروائي والمسرحي. وكُرِّم في نهاية جلسة المؤتمر الافتتاحية عددٌ من المهتمين بأدب الراحل، ومنهم الباحث محمد أبو بكر حميد؛ مقرِّر المؤتمر، الذي سلمه وزير الثقافة المصري السابق فاروق حسني درعاً تكريمية اعترافاً بجهوده المتواصلة في خدمة تراث باكثير الفكري والأدبي.
ولعل الناقد الإماراتي عبد الحكيم الزبيدي يأتي في المنزلة الثانية، بعد محمد أبي بكر حميد، من حيث الاحتفالُ بأدب باكثير بعد وفاته. إذ كتب دراسات ومقالات من الوفرة بمكان حول هذا الأدب وصاحبه معاً، على امتداد أزيد من عقدين من الزمن. وقد جمع نسبة مهمّة منها في كتابٍ أصدرته له مجلة “الرافد”، ضمن سلسلة الكتب التي تنشرُها شهرياً وتوزَّع مجّاناً مع المجلة، في يونيو 2010. وسبق له أن نشر عدداً من المقالات في الموقع الإلكتروني الذي أنشأه، خصيصاً، لتعريف القارئ بعلي أحمد باكثير وأدبه المتنوع[3]. ونستحضر في هذا الإطار، كذلك، كتابات نقاد آخرين اهتموا بالراحل وبإنتاجه الأدبي؛ منهم الأديب اليمني المعاصر عبد العزيز المقالح الذي ألف دراسة نقدية دافع فيها عن ريادة باكثير في مضمار الشعر العربي الحديث، أسْماها “علي أحمد باكثير رائدُ التحديث في الشعر العربي المعاصر”، وأفرد فصلاً من كتابه “قراءة في أدب اليمن المعاصر” لدراسة إحدى روايات باكثير المعروفة، وكتب مقالات نقدية، نشرها في عدة دوريات عربية، حول الرجل وأدبه؛ مثل مقاله الموسوم بـ”باكثير رائدُ التجربة وبطلُ الانقلاب في الشعر المعاصر”، الذي نشره في العدد 307 من مجلة “العربي” الكويتية العريقة (يونيو 1984). ومنهم، أيضاً، أحمد السومحي في كتابه “علي أحمد باكثير: حياته وشعرُه الوطني والإسلامي”، الصادر عن نادي جُدّة الأدبي الثقافي، عام 1982. وينضاف إلى ما ذُكِر عددٌ من الأبحاث الجامعية التي أنجزها باحثون عرب، لنيل درجات علمية، عن باكثير وأدبه كُلاًّ أو بعضاً؛ مثل الرسالة الجامعية التي أعدّتها مديحة عواد سلامة، لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة القاهرة، عام 1980، بعنوان “مسرح علي أحمد باكثير – دراسة نقدية”. ومِثلَ الأطروحةِ التي أعدّها الباحث طه حسين الحضرمي، لنيل الدكتوراه، تحت عنوان “المنظور الروائي في روايات علي أحمد باكثير”، والبحثِ الذي أعدّه نادر أحمد عبد الحالق، لنيل الدكتوراه في الأدب العربي، بعنوان “الشخصية الروائية بين علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني – دراسة موضوعية وفنية”، بإشراف إبراهيم محمد إسماعيل عوضين، وقد ناقشه عام 2005، ونال به الشهادة المقصودة، مع مرتبة الشرف الأولى من كلية اللغة العربية بالمنصورة (جامعة الأزهر).
والواقعُ أن ما كُتب، إلى حد الآن، عن باكثير وإنتاجاته الفكرية، المتسمة بخاصيتي التعدد والتنوع، يظل، في نظرنا، ناقصاً غير وافٍ بالنظر إلى مكانة الرجل في الأدب العربي الحديث، وإلى رياداته في عددٍ من الميادين الأدبية والإبداعية. وعليه، فنحن في حاجة إلى معرفة أشياء أخرى كثيرة عنه، وإلى إنجاز دراسات وأبحاث ومؤلفات حوله وحول تراثه الأدبي الثريّ باعتماد مقارَبات متعددة.
وبما أن تقديم دراسة مُسْتفيضة عن الرجل وأدبه أمرٌ غير ممكن في مقال كهذا، لعدة اعتبارات، فقد وقع اختيارنا على أحد أعماله في مجال أدبي اشتهر بالخَوْض فيه، هو مسرحيته الشعرية “الشاعر والربيع”[4]، التي نُشرت بعد وفاته بسنوات طويلة، وهدفُنا أنْ نُقاربَها مضموناً وشكلاً، ونحللَها من زوايا مختلفة.
1- علي أحمد باكثير الأديبُ الكبير المجهولُ!
إن الكثيرين منا، في الواقع، لا يعرفون شيئاً كثيراً عن علي أحمد باكثير وأدبه الغزير، على الرغم من أنه كان، فعلاً، أحدَ عمالقة أدبنا الحديث الذي تُسجَّل له الريادة في عدة مجالات أدبية. لذا، فالحاجة ماسّة، الآن، إلى التعريف بالراحل وبإنتاجه الفكري، بعد كل هذه العقود الطويلة من الجَهْل به! تُرى فمَنْ هو الرجل؟
إنه علي بن أحمد بن محمد باكثير، وُلد يوم 21 دجنبر 1910، بمدينة سورابايا الأندونيسية، من أبوين عربييْن قَدِما إلى هذه المنطقة النائية من حضرموت اليمَنية[5]، وينتهي نسب أسرته إلى قبيلة كِندة التي افتخر بانتمائه إليها في شعره؛ كما في جيميته “لمنهاج امرئ القيس”. وقد تعلم في مسقط رأسه مبادئ العربية والحساب، وحفظ نصيباً من القرآن الكريم، ودرس بعض أصول علوم الشريعة، على غرار ما كان يفعله الحضارمة في أندونيسيا مع صغارهم. وحين بلغ العاشرة من عمره، تقريباً، انتقل به أبوه الشيخ أحمد بن محمد باكثير (ت1925م) – الذي كان أستاذه الأول – إلى بلده الأصلي ليتعلم العربية النقية من الهُجنة واللُّكنة، وليتفقَّه في الدين وعلومه، وليتربّى على عادات بلده الأصيلة، وليتلقى العلم من أفواه جملة من المشايخ والعلماء الأجلاّء، في اليمن، في عدد من حقول المعرفة؛ وعلى رأسهم عمّه القاضي الشيخ محمد بن محمد باكثير (ت1936م) الذي ألف كتاباً ترجم فيه لإحدى الأسر اليمنية العريقة في العلم والأدب والفضل، هي أسرة آل باكثير، سمّاه “البنان المُشير إلى علماء وفضلاء آل أبي كثير” (حققه عبد الله بن محمد الحبشي).
ولما تأسّست أول مدرسة في سيئون[6]، بحضرموت، حيث استقر بعد مجيئه من سورابايا، التحق بها، وتتلمذ فيها إلى حدود سنة 1342هـ، وقرأ عدداً من أمّات كتب الفقه والأدب واللغة وعلوم الدين؛ بحيث درس جملة من الكتب الأصول في المذهب الشافعي، الذي كان سائداً يومئذٍ في حضرموت، ومن المؤلفات الأدبية واللغوية، وفي مقدمتها كتب ابن هشام الأنصاري (مُغني اللبيب – قطر الندى – شذور الذهب)، و”ملحة الإعراب” وشرحها للحريري، و”الكامل” للمبرّد، وأمالي المرتضى، و”الأغاني” لأبي الفرج الأصبهاني، و”وفيات الأعيان” لابن خِلِّكان، و”العقد الفريد” لابن عبد ربه القرطبي. وحفظ، إلى جانب كثير من أحزاب القرآن الكريم، عدداً من المتون العلمية؛ من مثل ألفية ابن مالك الأندلسي في النحو والصرف، و”جوهرة التوحيد” لبرهان الدين إبراهيم اللقاني، و”الزبد” لأحمد بن حسين بن رسلان في الفقه الشافعي. كما حفظ كَمّية مهمّة من الأشعار، ولاسيما من شعر أبي الطيب المتنبي الذي كان يعْجب به كثيراً حتى كاد أن يحفظ ديوانه عن ظهر قلب. وكان باكثير متفوقاً في دراسته، معدوداً ضمن صِفوة طلاب مدرسة النهضة العلمية، وظهر نبوغه في الأدب منذ سنّ مبكرة؛ بحيث قال عنه عمُّه صاحبُ “البنان المشير”، في سياق تَعْداده أبناء أخيه أحمد: “الولد الثالث علي بن أحمد نبيل نبيه ذو فهم جيد بارع، خرج به أبوه من جَاوَه وهو دون البلوغ، قرأ القرآن وحفظ منه ما شاء الله وصار من أهل القسم الأعْلى من المدرسة المُسَمّاة “النهضة العلمية”، وترقى فيها، وعُدَّ نبيهاً، وحفظ المتون؛ مثل الألفية والزبد والجوهرة وغيرها من متون التجويد. كما حفظ اللامية لابن مالك، وقرأ في شرحها على عمه جميع هذه الكتب، وحضر الدروس، وهُرع إلى القاموس، وحفظ من اللغة كثيراً ومن الأشعار أكثر، وقال الشعر، وخطب الخُطب…”[7]
وعقيب تخرُّجه من هذه المدرسة، اشتغل مدرِّساً فيها، قبل أن يتولى إدارتها وهو دون سن العشرين. وطَوالَ فترة وجوده على رأس هذه المؤسسة، حاول أن يطوّر طريقة التعليم، ويُصلِح نظام التدريس فيها، وفي غيرها من مدارس اليمن إبّانئذٍ، بالدعوة إلى اعتماد أساليب أخرى، ووضْع برامج جديدة تكون أجْدى وأنجع. وهكذا، فقد نادى بانتهاج طرق حديثة في التعليم تركز على الفهم والاستيعاب لا على الحفظ وحشو أدمغة المتعلمين بالمعارف حتى إذا طُلب إليهم توظيفها، أو إذا وُضعوا في وضعيات أخرى، عجزوا عن التعامل معها وحلّها. ويظهر لقارئ أشعاره مدى تركيزه على إصلاح التعليم؛ لأنه كان يدرك، يقيناً، أن ذلك هو المدخل الطبيعي للنهوض والتقدم. وبالمقابل، استهجن الاستمرار في الأخذ بأساليب التدريس العتيقة، ونادى بضرورة ترْك الجُمود، ودعا إلى تكوين جيل جديد من الطلاب يكون سلاحُه العلم، ويكون قادراً على استيعاب ما يقرؤه، واستثماره عملياً، وتكون له كفاية التحليل والتركيب والتقويم المؤسَّس على معطيات ومنطلقات ثابتة. وعارَض الاقتصار، في التعليم، على البنين دون البنات، مؤكداً أن نهضة أي أمة تُبنى برجالها ونسائها معاً. وقد صرّف كثيراً من هذه الأفكار، ومرّرها إلى الناس، عبر مجلة شهرية أصدرها، عام 1930، باسم “التهذيب”، وكانت رسالتها تربوية إصلاحية بالأساس، إلا أنها لم تعمِّرْ طويلاً[8]. ولا شك في أن باكثير، في دعواته الإصلاحية، كان متأثراً بأعلام السلفية في الوطن العربي سواء ممّن جايلهم أو سبقوه. فقد تأثر بشخصيتي المُصلحين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقرأ كتب ابن تيمية وابن القيم قبل ذلك، وراسَل محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وشكيب أرسلان أيام إقامته في جنيڤ. ولم يكن باكثير منغلقاً على ذاته الأصيلة، ومتوقفاً عند الحدود التي رسمها الأسلاف فقط، غافلاً عمّا يجري في واقعه وعمّا لدى الآخر، بل إنه كان، كما يقول محمد أبو بكر حميد، مصلحاً سلفياً تنويرياً منفتحاً على عصره وعلى غيره، جامعاً بين الأصالة والمعاصرة؛ لأنه كان يرى أن ذلك هو أقوَمُ طريق للنهوض والنماء[9] .
وخلال مقامه بحضرموت، تزوج باكثير، وهو صغير السن، ولكنه فُجع بوفاة زوجته في بداية شبابها، بعد مدة قصيرة من زواجهما. وقد تأثر بهذا الحادث الأليم أيما تأثر؛ فكتب فيها قصائد عدة، وأهدى إلى روحها أول مسرحيةٍ ألفها. وبعد ذلك، غادر حضرموت صوبَ عدن عام 1931، التي لم يمكث فيها طويلاً حتى انتقل إلى الصومال والحبشة، قبل أن يتجه إلى الحجاز التي استقر فيها زمناً أتيحَ له خلاله أن يَنظِم منظومته الموسومة بـ”نظام البردة أو ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم”، ويؤلفَ أول عمل له في المسرح الشعري، طبعه لدى قدومه إلى مصر بعنوان “همام أو في عاصمة الأحقاف”، وحين أعاد طبْعه بعدن، عام 1967، أجْرى بعضَ التعديل على عنوانه، فطبعه، ثانيةً، بعنوان “همام أو في بلاد الأحقاف”، وضَمَّنَه عدداً من أفكاره الإصلاحية التي تكوّنت لديه طوال إقامته في حضرموت. وقد عَدَّ عبد الحكيم الزبيدي هذه المسرحية أول مسرحية شعرية اجتماعية عربية[10]، وقبلها كان يغلب على المسرح الشعري العربي الطابع التاريخي سواء في أحداثه أو موضوعاته أو شخصياته. وهي مؤلفة عام 1933، بعد تأثر باكثير بمسرحيات أحمد شوقي الشعرية. وتجدُر الإشارة إلى أن أديبنا كان من المتأثرين كثيراً بشوقي، ويمكن للقارئ أن يلمَس ذلك، بوضوح، لدى قراءته أشعارَه التي يتناصّ فيها، كثيراً، مع شعر شوقي. علماً بأنه كان، قبْلاً، مُعجَباً أكثر بأشعار معاصره حافظ إبراهيم؛ شاعر النيل، ومما يدل على ذلك أن باكثير أرْسل في طلب ديوان حافظ حين صدوره في مصر، وهو ما يزال مُقيماً في سيئون الحَضْرَمية، ولمّا وصلته نسخة منه أوْلَمَ، وجمع لفيفاً من الأدباء في داره[11]، ونظم أبياتاً بهذه المناسبة. وكان قدومُه إلى الحجاز، وقراءته المسرحيات الشعرية الشوقيّة، نقطة تحوُّل في نظرته إلى شوقي وحافظ؛ إذ غيّر موقفه في اتجاه تقديم الأول على الثاني، ولكنِ دون أن يعنيَ ذلك استخفافه بشعر حافظ مطلقاً.
وفي عام 1934، انتقل باكثير إلى مصر، التي اتخذها مستقرَّه النهائي، فالتحق بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول سابقاً)، مختاراً شعبة اللغة الإنجليزية وآدابها، وتخرج منها، عام 1939، حاملا شهادة الإجازة. والتحق، مباشرة، بمعهد التربية للمعلمين، الذي حصل منه على الدبلوم عام 1940. واشتغل مدرِّساً بمصر حوالي خمس عشْرة سنة. وخلال فترة دراسته الجامعية، ترجَم مسرحية “روميو وجولييت” لوليام شكسبير من اللغة الإنجليزية إلى العربية، بالشعر المُرْسَل أو بالشعر الحُرّ كما يسمى لدى جمهور دارسِينا اليوم. وبعدها بعامين (1938)، ألف مسرحيته المعروفة “إخناتون ونفرتيتي” بالشعر المرسل، لتكون، بذلك، كما يقول الزبيدي، “أول مسرحية عربية تؤلف بالشعر الحر، بل أول تجربة شعرية فيه.”[12] وستكون لنا وقفة مع هذه الريادة، لاحقاً، عند حديثنا عن مسرح باكثير الشعري.
ولمّا حلاَ لباكثير المقام بمصر، تزوج، عام 1943، بسيدة مصرية لها ابنة من زوج سابق، فتربّت في كنف أديبنا الذي لم يرزقه الله تعالى أطفالاً، وجعلها بمثابة ابنةٍ من صلبه؛ فأغدق عليها الحنان والعطف وشتى ضروب الإحسان المادي والمعنوي. وحصل على الجنسية المصرية، بموجب مرسوم ملكي، عام 1951. وأحبّ مصر حبّاً جمّاً، واستطاب العيش فوق أرضها وبين أبنائها، واختارها موطناً له إلى حين موته، ولم يخطُر بباله أن يتركها حتى في سنوات حياته الأخيرة التي تعرّض خلالها إلى مضايَقات من قِبل أعدائه من الشيوعيين وغيرهم، وحوصِر أدبياً فمُنعت أعماله من الانتشار، ونُصبت عراقيل في وجه شخصه وكتاباته حتى لا تصل إلى وسائل الإعلام! بل إنه آثر البقاء في مصر حتى حين تلقى عُروضاً مُغرية لترْكها من جهات عديدة في لندن ولبنان والكويت.
وسافر باكثير، عام 1954، إلى الديار الفرنسية ضمن بعثة دراسية حُرّة. كما زار دولاً أوربية أخرى (إنجلترا – رومانيا – الاتحاد السوفياتي سابقاً)، إلى جانب عدد من الدول العربية (لبنان – سوريا – الكويت…). وزار تركيا، كذلك، وكان عاقداً العزمَ على تأليف مسرحية شعرية عن فتح القسطنطينية، ولكنّ المنية عاجَلته قبل أن يبدأ كتابتها، كما باغتته قبل أن يُنهي مسرحيته الشعرية عن بلدته حضرموت، التي تكوّنت لديه فكرتها حين زيارته إياها عام 1968، ومكوثه فيها قرابة شهر، وقد استوحى تصور هذا العمل وموضوعته الأساس من أسطورة شاعر شعبي يمني اسمُه ابن زامل. وقد أتاحت له زياراته تلك تعلمَ لغات أخرى، إلى جانب الملاوية والعربية، ولاسيما الفرنسية والإنجليزية.
وبعد عقد ونصف من العمل في التدريس، انتقل باكثير، عام 1955، للعمل في وزارة الثقافة والإرشاد القومي المصرية لدى إحداثها، وبالتحديد في مصلحة الفنون، وظل فيها إلى حين وفاته. وكان يشتغل معه، في مكتب واحد، الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ. إلا أنه كان يُشرف على المسرح، على حين كان يشرف زميلُه نجيب على السينما. وكان رئيسهما المباشر، معاً، الأديب المعروف يحيى حقي. ولم يكن هذا أول تعارف بين باكثير ومحفوظ، بل حصل ذلك قبل سنواتٍ عديدة؛ إذ فازا مناصفةً بجائزة السيدة قوت القلوب الدمرداشية، في الأدب، عام 1944؛ بحيث نالها باكثير عن روايته الأولى “سلاّمة القس”، وهي رواية تاريخية الطابَع، على حين حازها نجيب محفوظ عن روايته الثانية “رادوبيس”، وهي كذلك رواية تاريخية تستلهم تاريخ مصر القديم. وحصل خلالَ مرحلة عمله بهذا القطاع الوزاري على منحتيْ تفرُّغ؛ أولاهُما امتدت من 1961 إلى 1963، أنجز خلالها ملحمته الدرامية الكبرى عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بدءاً من توليه الخلافة إلى حين مقتله، في تسعة عشر جزءاً حُوِّلت إلى مسلسل تلفِزيوني فاقت حلَقاته المائة. وقد عُدَّ بذلك أول مَنْ كتب الملحمة المسرحية في الأدب العربي، وعُدّت ملحمته تلك ثاني أطول عمل درامي في تاريخ المسرح العالمي بعد مسرحية “الحكام” للكاتب الإنجليزي طوماس هاردي. كما عُدّ باكثير أول أديب عربي يحصل على منحة تفرغ في مصر. وحظي بمنحة تفرغ ثانية أنجز خلالها ثلاثيته المسرحية عن الغزو النابُليوني لمصر (الدودة والثعبان – أحلام نابليون – مأساة زينب)؛ طُبع جزؤها الأول في حياة مُبدِعها، والجزآن الآخَران بعد وفاته. ويعد باكثير، بهذا العمل، أول عربي يؤلف ثلاثية مسرحية، نظيرَ ما فعله صديقه نجيب محفوظ صاحب الثلاثية الروائية المعروفة (بين القصرين – قصر الشوق – السُّكّرية).
وفارَق باكثير الحياة بالقاهرة، إثر نوبة قلبية، يوم 10 نونبر 1969، عن عمر يقارب الستين سنة، ودُفن بمدافن الإمام الشافعي في مقبرة عائلة زوجته المصرية. وكانت آخر صيحاته، كما يذكر المهتمون بسيرة حياته، “لقد ذبحوني”، في إشارة إلى أعدائه الذين حاربوه، وضايقوه، وحاصروه، وسعوا، بكل الوسائل، إلى تشويه سُمعته، لاسيما وأنهم كانوا فئة نافذة في الصحف والإعلام على اختلاف أشكاله، وفي عديدٍ من الميادين الثقافية بمصر، وكانت مدعومة من جمال عبد الناصر و”بلطجيتـ”ـه. وكان أولئك الأعداءُ، وأغلبهم من الشيوعيين، يستهزئون به، وينادونه ساخرين “علي إسلامسْتان”، ولم يكن المدعوّ يُخفي كبيرَ اعتزازه بأنْ تلصَق بشخصيته وبأدبه صفة “الإسلامية”. وطالما سَخّر قلمه للوقوف في وجه المدّ الشيوعي الذي كان جارفاً في الخمسينيات والستينيات في جُلّ أنحاء العالم العربي؛ كما في روايته “الثائر الأحمر” التي حُوِّلت إلى تمثيلية إذاعية.
لقد كانت حياة باكثير حافلة بالعطاء الفكري والأدبي؛ ذلك بأنه خلّف لنا مجموعة كبيرة من النصوص الإبداعية والأدبية التي توزّعت بين المسرحية والرواية والشعر وغيرها. ولكنّ الملاحَظ أنه بدأ مسارَه الأدبي بنظْم الأشعار، قبل أن ينتقل إلى ربْطها بالمسرح في إطار ما يُعرَف بـ”المسرح الشعري”، وكتب أيضاً المسرحية النثرية والرواية والدراسات والمقالات الأدبية، علاوة على ترجمة نصوص من لغات أجنبية كان يُجيدها. بيد أن المسرح، بنوعيْه، شكل المجالَ الأدبي الذي برع فيه الرجل، وتميّز، وأبدع فيه أكثر أعماله على نحو ما سنرى في المبحث الموالي.
تعود علاقة باكثير بالقصيدة إلى وقت مبكر من حياته؛ بحيث قرأ، وحفظ، أشعاراً عديدة لكثير من كبار شعراء العربية القدامى والمُحدَثين، وتأثر بها معانيَ وأساليبَ، وكان سريع البديهة، يقول الشعر سجيّةً بعيداً عن أي تكلف أو تمحُّل. وقد نظم الشعر، وهو ابنُ ثلاث عشْرة سنة، وكان غرض الرثاء أول مجال احتضن إبداعه الشعري؛ ذلك بأن أقدم قصائده كانت في رثاء زوجة أبيه خديجة بنت عمر بن محمد مهدمي (ت1923). وكان طبيعياً أن يبرز نجمُ باكثير في مضمار القصيدة أولاً لاعتباراتٍ ذكرها الباحث السعودي محمد أبو بكر حميد في قوله: “كان طبيعياً أن تتفجّر ينابيع الشعر في نفس الفتى علي أحمد باكثير في سن الثالثة عشْرة من عمره. فقد كان الشعر في أسرته ميراثاً، وكانت البِيئة العربية الخالصة في حضرموت لم تَعرف – في ذلك الوقت – من فنون الأدب غير الشعر يُبدع فيه الأدباء خيرَ ما تجود به قرائحُهم، ويصوّرون فيه قضاياهم وقضايا مجتمعهم، ومن خلاله يألمون ويأملون ويرسمون أحلامهم.”[13] وإلى جانب الرثاء الذي استأثر بكثير من قصائد الشاعر (رثاء الأقارب – رثاء الأصدقاء…)، نظم قصائدَ في أغراض وموضوعات أخرى؛ كالحب، والوصف، والتعبير عن الواقع والعصر المَعيشيْن. ولعل من أجمل نصوصه الشعرية عينيته التي رثى بها أباه (97 بيتاً)، عام 1926، ومطلعُها: [من الكامل التام]
عَبَـثاً تُحاوِلُ أنْ تَكُـفَّ الأدْمُـعَا وأبوكَ أمْـسَى راحِـلاً مُسْتَـوْدِعَا
وقد ترك باكثير أشعاراً عدة، مخطوطة أو متناثرة على صفحات الصحف التي كان ينشر فيها إنتاجاته الأدبية باستمرار، ولم يُصدِرْ، طوال حياته، أيَّ ديوان أو مجموع شعري، بل تحقق ذلك بعد وفاته على يد بعض الأدباء الأوفياء المُحبّين لباكثير، وفي طليعتهم محمد أبو بكر حميد الذي أصدر، عام 1987، ديوانَ باكثير الأولَ “أزهار الربى في أشعار الصبا”.
وإذا كانت الكثرة الكاثرة من نقادنا تجعل السياب ونازكاً رائديِ التجديد في الشعر العربي الحديث، وفاتحيْ عهد القصيدة الحرة في مشهدنا الثقافي، فإن ثمة آخرين يدافعون عن ريادة باكثير في هذا الصدد، وسبْقه إلى كتابة الشعر الحر، أو “الشعر المُرْسَل” على حد تعبيره، وذلك بترجمته مسرحية “روميو وجولييت” بالشعر المرسَل المنطلِق عام 1936، قبل أن يكتب بدر شاكر السياب قصيدته “هل كان حُبّاً؟” بعشر سنوات، وقبل أن تكتب نازك الملائكة “الكوليرا” بأزيد من عشر سنوات! وقد استفاد باكثير من تجربته الأولى هذه في هذا النوع من الكتابة الشعرية ليؤلف، عام 1938، مسرحية بالشعر المرسل، وهي مسرحيته المستوحاة من التاريخ الفرعوني، والموسومة بـ”إخناتون ونفرتيتي”، وقد اختار لها وزناً بحرَ المتدارك. وممّن أقرّ بسبْق باكثير إلى كتابة الشعر الحر، في ثلاثينيات القرن العشرين، عبد الله الطنطاوي في مقاله “مع رواد الشعر الحر”، الذي نشره في مجلة “الآداب” البيروتية، في شتنبر 1969، وأكد رأيَه هذا في مقال آخر نشره في العدد الحادي والثلاثين من مجلة “الأدب الإسلامي”، بعنوان “لماذا يتجاهل الدكتور يوسف عِز الدين ريادة باكثير للشعر الحديث؟”، وقد خصّه بالردّ على هذا الناقد الذي نفى أنْ يكون باكثير صاحبَ تلك الريادة، زاعماً أن جميل صدقي الزهاوي أولُ مَن نظم الشعر الجديد الذي احتفظ بالوزن العَرُوضي، مع التخلص من القافية الموحدة، وذلك اعتماداً على ما نشره في ديوانه المطبوع بمصر عام 1924، قبل أن يصلها باكثير بسنواتٍ، وعلى قصيدةٍ له، بلغت أبياتها الستين، نشرها في ديوانه “الكلم المنظوم” عام 1323هـ. ومنهم، كذلك، عِزّ الدين إسماعيل في مقاله “مسرح باكثير الشعري”، المنشور في مجلة “المسرح” القاهرية، في أبريل 1970. ونذير العظمة في دراسته النقدية، التي صدرت عن نادي جُدّة الأدبي الثقافي، عام 1988، بعنوان “مدخل إلى الشعر العربي الحديث”. وعبد العزيز المقالح في كتابه الذي أوْمَأنا إليه في توطئة هذه المقالة، وعبد الحكيم الزبيدي في عددٍ من دراساته عن باكثير المنشورة ورقياً أو رقمياً. والحق أن هذه الريادة أكّدَها باكثير نفسُه، ودعّم رأيه بأدلة ملموسةٍ وشهاداتِ فرسان الشعر الحر، وذلك في مقدمته للطبعة الثانية من مسرحيته “إخناتون ونفرتيتي”، التي صدرت عام 1967؛ حيث قال: “هذه مسرحية “إخناتون ونفرتيتي” أعود إليها بعد تسعة وعشرين عاماً منذ عايشتُها وكتبتها سنة 1938، فأقدمها اليومَ للقراء العرب كما خَرجت للناس في طبعتها الأولى سنة 1940. أقدمها مُنتشياً ممّا أجدُ في سطورها من أنفاس شبابي الأول، ومُغتبطاً لِما أصابت من حظ عظيم. إذ صارت نقطة انقلاب في تاريخ الشعر العربي الحديث كلّه. فقد قُدر لها أن تكون التجربة الأمَّ فيما شاع اليوم تسميته بالشعر الحر أو الشعر التفعيلي، وأسْميتُه أنا قديماً الشعر المرسل المنطلق.. تجربة انطلقت في منيل الروضة على ضفاف النيل بالقاهرة، ثم ظهر صَداها أولَ ما ظهر في العراق لدى الشاعرين المجدِّديْن الكبيرين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة بعد انطلاقها بعشَرة أعوام. ثم ما لبث أنْ شاع هذا الشعر الجديد في العالم العربي كله. وإن ممّا أعتزّ به من الذكريات أن أديب العربية الكبير الأستاذ إسعاف النشاشيبي، رحمه الله، كان لا يَلقاني في القاهرة إلا أبْدى لي كبيرَ إعجابه بهذه المسرحية، وحدّثني أن هذا الضرْب الجديد من الشعر قد مسّ وتراً في قلبه، فنظم قصيدة على مِنواله. وأن الشاعر السياب، رحمه الله، كان يذكر لي هذا السبْقَ في كلمات الإهداء التي كان يخطُّها على كتبه المُهداة لي. وما أذكر هذا مُفاخِراً – يعلم الله – ولكنْ للحقيقة والتاريخ. فقد شاع بين النقاد خلط كبير في هذه القضية.”[14]
وخلف باكثير، في فن الرواية، سبعة نصوص يطغى على معظمها البُعد التاريخي، ولعل أشهرها ثلاثة هي: “سلاّمة القس” التي حاز بها جائزة أدبية مرموقة مناصفةً مع نجيب محفوظ كما ذكرنا سابقاً، و”واإسْلاماه” التي فازت، عام 1945، بجائزة وزارة المعارف المصرية، وقُرِّر تدريسُها لطلاب الثانوية في مصر عام 1966، وقد صدّرها بنص قرآني ذي صلة وُثقى بمحتواها المُنطوي على دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، وترْك متاع الدنيا، والإقبال على ما عند الله عز وجل. والرواية الثالثة هي “الثائر الأحمر” (1948) التي عارض فيها، بشدة، الفكرة الشيوعية. وقد سبّب له توجُّهه الإسلامي في الكتابة الروائية، وغيرها، عدة مشاكل، ولاسيما في العشر سنوات الأخيرة من حياته، أشرْنا إلى بعضها في موضع سابق من هذه الدراسة.
والواقع أن المجال الأدبي الذي تميّز فيه باكثير، وترك فيه بصمات بارزة، هو المسرح عامة، والمسرح الشعري خاصة. وهذا الأمر سنفصّل الكلام فيه لاحقاً.
ولم يكن باكثير مبدعاً فحسبُ، بل كان له إسهامٌ في مجالات أخرى غير الإبداع. فقد أصدر، عام 1958، كتاباً نظرياً في المسرح، جمع فيه المحاضرات التي كان يُلقيها على طلبة المعهد العالي التابع للجامعة العربية بالقاهرة، عنْوَنَه بـ”محاضرات في فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية”. وألف سنة 1959 تصنيفاً يذكّرنا بكتب الاختيارات الشعرية التي اشتهر بها في تراثنا النقدي المفضّل الضبي والأصمعي وأبو تمام الطائي وآخرون، عنوانُه “المختار من الشعر الحديث”، ضَمَّنَه أشعاراً لواحد وثلاثين شاعراً، بينهم شاعرة واحدة من مصر، هي جليلة فؤاد رضا، ينحدرون من عدة دول عربية (مصر – اليمن – سوريا…)، ومهّد له بمقدمة مركزة. وباستثناء خمسةٍ من نصوص الكتاب المنظومة وَفق طريقة الشعر التفعيلي، للشاعرين السوري نزار قباني واليمني العزي مصوّعي، فإن باقي قصائده كلاسيكية عمودية. ولم يقتصر دور باكثير، في هذا المؤلَّف، على اختيار النصوص الشعرية وترتيبها، بل إنه عمَد، في كثير من الأحايين، إلى تقويم ما بها من اعوجاج، وتصحيح هفواتها اللغوية والعَروضية. وحقق ديوان الشاعر المصري صالح علي الشرنوبي، وألف كتاباً عن أدب رومانيا التي زارها، ومكث فيها مدة من الزمن، أسْماه “لمحات في الأدب الروماني الحديث”.
وقد كرّس باكثير أغلب إبداعاته وكتاباته لخدمة قضايا أمته، والدفاع عنها، وحثها على النهضة والتنمية، دون أن يغفل عن الالتفات إلى عصره المَعيش وتحدّياته. فـ”أدبُه – في الشعر والنثر، مطبوعاً ومخطوطاً، والذي يزيد على 70 عملاً – يعد مُعادلاً موضوعياً للمُنافَحة عن أمته وعن قضاياها وتراثها ولغتها، بل كان واحداً من أعلامها البارزين في وقت مبكِّر من القرن العشرين… وكذلك مثل أدبُه، بلْه حياته، الحداثة الفكرية الأدبية الحضارية بتجلياتها الفنية والاجتماعية والدينية، إذ شرع يأخذ مجتمعه شيئاً فشيئاً إلى النهوض والابتكار دون أن يُنتزع منه واقعه وحاضره، أو أن يتخلى عن روحه الأصيلة.”[15]
ويتضح لمتصفِّح هذا الإنتاج تميزه في كثير من الجوانب، وأصالته وقيمته الكبيرة. مما جعل عدداً من متونه تنال جوائز رفيعة في مصر وخارجها. ونال أوْسمة راقية من دولتيْ مصر واليمن اعترافاً بما قدّم من أعمال متميزة، كان آخرُها وسام الاستحقاق في الآداب والفنون الذي أهْدي إليه، بعد مماته، سنة 1998، من قبل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح. وتُرجمت بعض أعماله الأدبية إلى لغات أجنبية، ولاسيما الإنجليزية والفرنسية. كما نُقلت بعض رواياته إلى شاشة السينما، وحُولت بعض مسرحياته إلى عُروض رُكْحيّة.
2- علي أحمد باكثير علامةٌ بارزة في المسرح الشعري العربي:
لقد تبدّى لنا ممّا تقدَّم أن باكثير كان واحداً من أعمدة الأدب العربي الحديث، وإن قلت شُهرته قياساً إلى بعض معاصريه؛ لأنه كان يُؤثِر الابتعاد عن الأضواء، ويتحاشى الحديث “الأناني” عن نفسه، دون أن نُغفل أثر تلك الحملات المسعورة التي شُنت ضده في أواخر حياته. ولكنّ الثابت، حقا، أن أبرز حقل أدبي برع فيه باكثير، وعُرف بوفرة إنتاجه فيه، هو المسرح عموماً، والمسرح الشعري خصوصاً، والمسرح الشعري الإسلامي بصفة أخصّ. فقد خلف الرجل أزيد من خمس وثلاثين مسرحية نثرية متنوعة، مضمونياً وشكلياً، تترجّح ما بين المنشورة والمخطوطة؛ منها: الفرعون الموعود (1945) – عمر المختار (1948) – دار ابن لقمان (1960) – هكذا لقي الله عمر (1964) – حرب البَسُوس (صدرت عام 1990). وترك عشرات من المسرحيات الشعرية على اختلاف أحجامها ومضامينها واتجاهاتها. وكان يغلب عليها الطابع الإسلامي، مثلما غلب على كثير من أعماله الأخرى غير الدرامية؛ الأمر الذي جعله رائداً في المسرح الإسلامي عامة؛ كما أكد المرحوم نجيب الكيلاني حين ذهب إلى “أن باكثير مدرسة متميزة في معظم إنتاجه المسرحي، تحمل الطابع الإسلامي، وهي مدرسةٌ لم تأخذ حقها بعدُ من التحليل والدراسة”![16]
كتب باكثير المسرحية الشعرية، في الحجاز، بعد اطلاعه على مسرح شوقي الشعري، وتأثره به، علماً بأنه يعد رائد هذا النوع من الأدب المسرحي في أدبنا[17]، وبعد اهتدائه إلى أهمية الجمع بين الدراما والشعر في التعبير؛ على نحْو ما فعل رواد المسرح منذ أقدم العصور. فبين المسرح والشعر علاقة متلازمة عضوية عبر التاريخ؛ ذلك بأن “أولى الحوارات في المسرح كانت شعراً، وأولى القصائد التي خُطت على الصفائح أو اللوترغيات كانت دراما شعرية، أو لنقلْ كانت شعراً برؤيا درامية – تراجيدية. وبالرغم من أن المسرح نشأ في المعبد الديني والأسطورة، إلا أن الشعر كان ركيزته التراجيدية”،[18] كما لدى الأغارقة وقدماء المصريين. وقد استمر المسرح يُقدَّم بتلك الطريقة التعبيرية إلى حدود القرن الثامن عشر حيث بدأنا نرى مسرحيات تُكتب نثراً في أوربا، ولاسيما الكوميديات، ولعل مسرحية “تاجر لندن” للمسرحي الإنجليزي جورج ليلو، المؤلفة عام 1731، أن تكون أول مسرحية نثرية في الأدب الأوربي كله. وقد واصل هذا الصنف الدرامي انتشاره في أوربا، وأخذ حضورُه يتقوّى مع توالي الأيام، فظهر مسرحيون كُثر مكّنوا لهذا الصنف من الوقوف على قدميْه، وفرْض ذاته ضمن خارطة الأدب الأوربي الحديث؛ منهم الأديب النرْويجي هنريك إبسن الذي ابتدأ حياته المسرحية بكتابة الدراما الشعرية، ثم سَرْعان ما تحوَّل إلى المسرح النثري، عام 1871، حين ألف مسرحيته التاريخية “الإمبراطور الجليلي”، “انسجاماً منه مع العصر الذي يعيش فيه، وكان عليه أن يتفاعَل معه كأي فنّان أصيل له رسالتُه تُجاهَ الفنّ والمجتمع. والملاحظة الجديرة بالذكر، هنا، أن إبسن، وإنْ كان قد تحوّل عن المسرحية الشعرية إلى النثرية، فقد ظلت شاعريته وقصائده المعروفة تؤثر، بشكل واضح، على مجمَل المسرحيات المتأخرة التي كتبها فيما بعد.”[19]
إن المسرح الشعري لم يختفِ في أوربا خلال القرون التي تلت القرن الثامن عشر، على الرغم من الاكتساح اللافت للنظر الذي حققه المسرح النثري بوصفه الشكل الدرامي الأكثرَ انسجاماً مع التيار الواقعي الذي ساد الأدب الأوربي وقتئذٍ. بل إنه ظل حاضراً جنباً إلى جنبٍ مع الدراما النثرية، وسُجلت عودته القوية إلى الظهور مع أحد فرسان الأدب الأوربي الحديث، وهو الإنجليزي إليوت، في القرن العشرين، الذي كتب جملة من النصوص المسرحية الشعرية حققت نجاحاً ملحوظاً بدءاً بمسرحيته “جريمة قتل في الكاتِدْرائية” إلى مسرحيتيْه “حفل الكوكتيل” و”الكاتب المؤتمن”. يقول الباحث العراقي عبد الستار جواد عن دور إليوت في هذا الإطار: “إذا ما ذكرت المسرحية الشعرية اليومَ فإنما يجب أن يُذكر معها إليوت حاملُ راية عودتها، والذي أسْدى إليها فضْلاً ما زال يطوّق عنقها مزهوّة به. واهتمامُ إليوت بالدراما الشعرية نابعٌ من الاتجاه التطبيقي عنده؛ ذلك أنه لم يكتف بأنْ يكون شاعراً غِنائياً من الطراز الأول، وإنما أراد أن يوظف هذه الطاقة الشعرية المبدعة لصالح المسرح.”[20] ولا مناص من أن نذكر مع إليوت، في هذا المساق، اسم مسرحي آخر كان له إسهامه الوافر في المسرح الشعري حديثاً، هو كرستوفر فراي.
إن العودة القوية للدراما الشعرية إلى الظهور في مضمار الأدب الحديث جعلت أحد أدبائنا المعاصرين المعروفين، وهو صلاح عبد الصبور، يتنبّأ بأن المسرح، في أغلب الظن، سيعود شعرياً كما بدأ لدى قدماء اليونانيين[21]. ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقق إلى يوم الناس هذا! إذ ما زال النثر هو قالب التعبير الأثير لدى كتاب الدراما. وللإشارة، فلصلاح عبد الصبور أربعُ تجاربَ في المسرح الشعري، استهلّها بمسرحيته “مأساة الحلاج” التي ألفها، عام 1964، متأثراً بمسرحية إليوت الشهيرة “جريمة قتل في الكاتدرائية”.
وقد كانت البِيئة الثقافية العربية إحدى البيئات التي تلقفت تجربة المسرح الشعري في وقت متأخر، محاوِلةً تقديمَ نماذج درامية في هذا الاتجاه تستوحي التاريخ بالأساس، قبل أن تتحول إلى طرْق مواضيع أخرى اجتماعية وغيرها. ولم يكن صلاح عبد الصبور مدشِّن هذه التجربة في تربة الأدب العربي الحديث، بل سبقه إلى ذلك آخرون، بل تقدّمهم جميعاً، وحاز قصب السبق إلى تأليف المسرحية العربية الشعرية أمير الشعراء أحمد شوقي (ت1932) الذي كتب سبع مسرحيات شعرية، هي: مصرع كليوباترا – قمْبيز – علي بك الكبير – عنترة – مجنون ليلى – البخيلة – الست هدى. و”ليس ثمة أدنى شك في أن شوقي شاعرٌ غنائي كبير أراد أن يوظف طاقته الشعرية في عددٍ من المسرحيات التي استقى مواضيعَها من حوادث التاريخ، شأنه في ذلك شأن بقية المؤلفين الدراميين ابتداءً من المسرح اليوناني، وانتهاءً بتجارب إليوت ومَنْ جاء بعده من كُتاب المسرح.”[22] وإلى جانب الأديبيْن المذكورين، كتب المسرحية الشعريةَ في أدبنا الحديث والمعاصر آخرون؛ منهم علي أحمد باكثير، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومعين بسيسو، ومحمد الفيتوري، وعزيز أباظة، وغازي مختار طليمات، وأحمد أبو شاور. ومن الملاحَظ أن كثيرين منهم قد تأثروا بمسرح إليوت مضموناً وشكلاً. وسنركز كلامنا فيما يأتي على مسرح باكثير الشعري بالتحديد.
اقترن اسم باكثير، لدى دارِسِي أدبه، بهذا اللون الدرامي أكثر من اقترانه بغيره من ميادين الأدب التي خاض غمارَها. وفي ريبرتواره العشراتُ من المسرحيات الشعرية التاريخية والغنائية والسياسية والاجتماعية ونحْوها، وإن كان أغلبها قصيراً. فمن نصوصه الدرامية التي نالت شهرة واضحة مسرحيته “إخناتون ونفرتيتي” التي كتبها أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، بالشعر المرسل المنطلق، في وقتٍ كان أبناء مصر منقسمين، فيما يخص علاقتهم بتراثهم وبالعروبة والإسلام، إلى فريقين متعارضين؛ أحدهما كان يرى أن المصريين سليلو الفراعنة، لذا ينبغي لهم الاهتمام بتراثهم الفرعوني وإحيائه، وقطْع أي صلة لهم بالعرب والمسلمين! على حين ذهب الثاني إلى أن أبناء أرض الكنانة، وإن كان الفراعنة أجدادهم الأقدمين، قد أعزّهم الله بالإسلام، وتعرّبوا منذ أن رحّبوا بالفاتحين، وقبِلوا الدين الجديد؛ لذا عليهم نُصْرة الإسلام والعروبة، وقطْع علاقتهم بالفراعنة! وقد ألفى باكثير رأيي الفريقين متطرِّفيْن معاً، فوقف، في مسرحيته هذه، موقفاً وسَطاً من الدعوتين؛ بأنْ دعا المصريين إلى الجمْع بين الأمرين على نحو مقبول، وعدم إقصاء أي منهما، مؤكداً أن التاريخ الفرعوني ينطوي على جوانبَ إيجابيةٍ يُمْكنهم الأخذ بها، دون التفريط في العروبة والإسلام في الآن نفسِه[23]. والعارفون بتاريخ مصر الفرعوني يدركون، بلا شك، أن إخناتون؛ زوج نفرتيتي التي كانت آية في الجَمال، كما يذكر المؤرِّخون، كان نقطة مُضيئة في ذلك التاريخ؛ إذ إنه الفرعون الوحيد الذي وقف موقف الرفض من مسألة تعدد الآلهة، ودعا – بالمقابل – إلى توحيد المَعبود. وقد حصل باكثير، بمسرحيته هذه الواقعة في خمسة مناظر عناوينُها هي: المؤامرة – البعث – الإيمان – في مدينة الأفق – الاحتضار، على جائزة المباراة الأدبية القومية بمصر، عام 1940. وتجري أحداثها في مدينتيْ طيبة وأخيتانون المصريتيْن العريقتيْن، وفي القرن 14 ق.م. وقد خلف باكثير أكثر من عشر مسرحيات تاريخية طويلة، علاوة على ملحمة عمر (ض) التي ذكرناها سابقاً، وعشرات من المسرحيات التاريخية القصيرة، ذات الفصل الواحد، التي كان ينشرها في الدوريات والصحُف المصرية وغيرها، مثل جريدة “الإخوان المسلمون” اليومية التي استمرت عامين فقط، بسبب المُضايقات والعراقيل التي كانت توضَع في طريقها، والضغوط التي تعرض إليها مؤسسُها حسن البنّا الذي اغتيل في فبراير 1949. وقد أصدر من هذه المسرحيات، في حياته، مجموعتين ضمّت كلٌّ منهما سبعة نصوص، هما “من فوق سبع سماوات”، و”هكذا لقي الله عمر”. وإن تركيز باكثير في مسرحه الشعري التاريخي على مصر وماضيها ليس معناه أنه لم يستوحِ تاريخ بلدان أخرى ربطته بها صلات، بل وجدْناه، في بعض مسرحياته، يستلهم أحداث تاريخ مسقط رأسه ووطنه الأم وغيرهما؛ كما في مسرحيته “عودة الفردوس” التي صوّر فيها نضال الشعب الأندونيسي ضد الاستعمار الهولندي والياباني، وترجم في ختامها النشيد القومي الأندونيسي، الذي ألفه شاعر أندونيسيا الكبير سوبراتمان، إلى اللغة العربية، تحت عنوان “نشيد أندونيسيا الكبرى”.
وخصّ باكثير القضية الفِلسْطينية بقِسْطٍ وافر من مسرحياته، سواء الشعرية أو النثرية، الطويلة أو القصيرة، قبل وقوع النكبة أو بعدها؛ لأنها كانت تجري منه “مجرى الدماء في عروقه، حتى إنه كان ينشر عنها مسرحية قصيرة في كل أسبوع، حتى بلغت 50 مسرحية قصيرة، وخمس مسرحيات مطوّلة.”[24] وقد عَدَّّ أحمد السعدني باكثير أولَ أديب يعالج قضية فلسطين، درامياً، في المسرح العربي[25]، وذلك بمسرحيته الطويلة “شيلوك الجديد” التي قسّمها إلى قسمين: “المشكلة”، و”الحلّ”، وبصنيعه هذا عُدَّ، كذلك، أولَ منْ قسّم المسرحية قِسْمةً ثنائية. وهي مؤلفة سنة 1944، وتنبّأ فيها بهزيمة العرب أمام الإسرائيليين، وقيام دولة الصهاينة على أرض فلسطين، واضطرار أهاليها إلى ترْك وطنهم للعيش لاجئين في غير وطنهم. وكتب باكثير مسرحيته المطولة الثانية عن تلك القضية عام 1956، بعنوان “شعب الله المختار”، وهي كوميديا من أربعة فصول تكشف للقارئ حقيقة ذلك الشعب اللقيط الذي كان يعيش في الشتات إلى أنْ دُعِيَ، من قبل الحركة الصِّهْيونية المدعومة من قُوى الاستكبار الدَّولي، إلى إعْمار قطعة من فلسطين بعدما طُرد منها أهلها بشتى الطرق. وبعد ثلاث سنوات، ألف باكثير مسرحيته الطويلة الثالثة عن فلسطين وقضيتها، وهي “إله إسرائيل” التي استمد وقائعَها من مصادرَ دينية وتاريخية، لليهود ولغيرهم من القدماء والمُحْدثين، وتوخى تقديم تشخيصٍ للمشكلة اليهودية منذ أن طرحت أولَ مرة. والمسرحية الطويلة الرابعة لباكثير، في هذا الإطار، هي “لباس العفة” (1963)، ألفها عقب دعوة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة إلى عقد الصلح مع إسرائيل بعد سنواتٍ من النكبة، وتخيَّل، عبر مشاهدها، في كوميديا هزلية، رحلةً قام بها هذا الرئيس إلى الكِيان الإسرائيلي المُستوْطِن في فلسطين. وفي الواقع، فإن هذا الزعيم العربي لم يزُرْ ذلك الكيان، بل تولاّها رئيس عربي آخر بعد نحو عقدين من الزمن، وهو محمد أنور السادات. وآخرُ مسرحية طويلة كتبها باكثير عن القضية الفلسطينية هي “التوراة الضائعة”، وذلك في أعقاب النكسة، عام 1968، وظهور المقاومة الفلسطينية التي حملت على كاهلها مهمة تحرير الأرض المغتصَبة، والوقوف في وجه الاحتلال اليهودي الذي أخذ يزحف عليها يوماً بعد يوم[26]. ومن مسرحياته القصيرة الخمسين عن القضية نفسِها نذكر: يوم المزاد الدولي – جلسة مع الشيطان – الهدية المسمومة – ماخور الأمم المتحدة – راشيل والثلاثة الكبار – السكرتير الأمين – شهيد القسطل – ليلة 15 مايو – معجزة إسرائيل – الخطة المزدوجة – الجولة الثانية – نصير السلام – في بلاد العم سام – أخيراً نطق.
وغير بعيد عن مسرحياته عن القضية الفسطينية، نجد في ريبرتوار باكثير الدرامي عدداً من المسرحيات السياسية القصيرة التي شرع في كتابتها انطلاقاً من 1946، وظل ينشرها أسبوعياً، في عدد من المنابر الصِّحافية، إلى حدود 1954. وتتسم هذه المسرحيات بالسخرية والمُفارَقة على اختلاف ألوانها؛ كما في مسرحيته الهَزْلية “سأبقى في البيت الأبيض” التي سَخِر فيها من الرئيس الأمريكي هاري ترومان لدوره الأساس في مأساة الشعب الفلسطيني، وكما في نصه الكوميدي الساخر “إمبراطورية في المزاد” (1947) في إشارةٍ إلى “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”؛ أي بريطانيا العظمى، ونلمَس المفارقة في هذه المسرحية السياسية منذ أولى عتباتها النصية؛ أي العنوان. وباختياره هذا الأسلوب في كتابة المسرحية السياسية، عُدَّ باكثير “أول كاتب مسرحي عربي يَستخدِم الملهاة (الكوميديا) في المسرح السياسي، ولم يسبقْه أحدٌ في هذ المجال. والطريفُ أن باكثير لم يكتشفْ قدرته على كتابة الملهاة إلا عندما بدأ عام 1946 في كتابة سلسلة مسرحيات قصيرة ذات فصل واحد، وأخذ ينشرها في الصحف السائدة آنذاك.”[27]
إن المسرحيات الباكثيرية، أيّا كانت طبيعتها، تنطوي على كثير من مظاهر الفَرادَة والصدق والأصالة؛ مما أهّلها لأنْ تنال عدة جوائز أشرْنا إلى أغلبها سابقاً، ولأنْ يكون مؤلفُها رائداً في جوانب ذات صلة بالكتابة المسرحية كما أوْمأنا إلى ذلك آنفاً كذلك. ونضيف إلى تلك الريادات المذكورة أن باكثير كان أول مَن كتب الأوبريت باللغة العربية الفصحى (مسرحية “الشيماء شادية الإسلام”/ 1969)، وأولَ من كتب الأوبرا في اللغة العربية (مسرحية “قصر الهودج”/ 1944)[28]. ويظهر من تصفح مسرحيات الرجل، أو تصفح أكثرها على الأقل، أن صاحبها كان يكتبها عن وعي عميق، وكان متمكناً من آليات الصنعة الدرامية وقواعدها. كما لا يخفى على أحد حضور البُعد الإسلامي فيها بصورة جلية حيناً، وبصورة خفية حيناً آخر؛ مما يجعل باكثير واحداً من رواد المسرح الشعري الإسلامي في الأدب العربي الحديث. ويكفي القارئ الاطلاع على نصوص دراميةٍ لباكثير؛ من مثل “لبيْك اللهم لبيك”، و”قصر في الجنة”، و”كسوة العيد”، ليقف على هذا الطابع في مسرحياته. ومن أقوى المؤشرات على ذلك تصديرُه بعض نصوصه المسرحية بآيٍ من القرآن الكريم؛ مثلما فعل مع مسرحيتيْه “إخناتون ونفرتيتي”، و”أبو دلامة” على سبيل المثال لا الحصر.
إن المسرح الإسلامي، عموماً، نهرٌ من أنهار الأدب الإسلامي الذي يُعرَّف بأنه “التعبير الفني الهادف عن الحياة والكون والإنسان وَفق التصور الإسلامي.”[29] ومن هذا المنطلَق، نستطيع تحديد ذلك المسرح بأنه نوع مخصوص من الدراما، يتقاطع مع سائر أنواعها في انبنائه على مقوّمات الخطاب المسرحي المعروفة من حدث وحبكة وشخصيات وفضاء وحوار وصراع وإرشادات مسرحية وأسلوب، ويستهدف إيصال رسالة إلى المتلقين في حُلة تعبيرية فنية ترقى به عن مستوى الكلام العادي، إلا أنه يكون منطلِقاً – من حيث المرجعية – من الرؤية الإسلامية للوجود كله، ولا يخالف فحْواه في شيءٍ ما جاءت به شريعتُنا السمحة، ولا يَخدش الأخلاق السامية، وتضبطه جملة من الشروط حتى لا يزيغ عن سكته الصحيحة.
والواقع أن المسرح الإسلامي ما زال يتلمَّس طريقه في دُنيا الأدب الإسلامي المعاصر، باحثاً عن موطئ قدمٍ ثابت له في تربة هذا الأدب، حتى يُمْكنَه الوقوف على أرضية صلبة تتيح له إمكانات النضج والتبلوُر والنمو ليحقق، على الأقل، ما حققه الشعر الإسلامي، أو الرواية الإسلامية، أو النقد الإسلامي، بعد سنوات من المَخاض والجهد المتواصل لفرْض الذات في سوق التدافُع الأدبي اليوم.
إن المسرح الإسلامي، كما يظهر من عددٍ من نصوصه المتوفرة بين أيدينا، مسرح ملتزمٌ، في أكثر الأحيان، يلتصق بالواقع المَعيش، وينخرط فيه مصوِّراً مكامنَ الخلل فيه، في أفق البحث عن علاجات لها، ويعبّر عن آلام الناس وآمالهم، ويزرع في النفوس بريقَ التفاؤل طارداً عنها الإحساسَ بالقنط والتذمر والتضايق. وليس بصحيح ما ذهب إليه أحدُهم حين أكد أن المسرح الإسلامي، في الواقع، “لا يهتم إلا بالأعمال المسرحية ذات الطابع التاريخي عموماً؛ كالحديث عن عدْل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز، وإثارة مواضيع مستهلَكَة؛ كالتآمُر اليهودي، وإسقاط الخلافة، وقضية فِلسطين وأفغانستان”![30] ونحن لا نُنكر اهتمام المسرح الإسلامي، بشقيْه النثري والشعري، بالتاريخ من حيث هو أحداثٌ أو شخصيات، واستلهامها والتناصّ معها، ولكنّ ذلك لا يعني، بأي حال، اقتصاره عليه فقط، إلى جانب بعض الموضوعات المبتذَلَة في نظر الباحث، بل إن ذلك المسرح قد أوْلى الواقعَ المَعيش عناية كبيرة، وحتى حين يستوحي مادته أو شخصياته من التاريخ فإنه يستثمرها، أحياناً كثيرة، في تناول واقعه، وتشخيص أدوائه، والتعبير عن الحياة عموماً. وقد لمسْنا ذلك في جملة وافرة من أعمال باكثير الدرامية. بل إن أديبنا نفسَه أكد، في حوار أجْراه معه، في بيروت، إبراهيم عبده الخوري، أنه يلجأ إلى التاريخ والأسطورة ليعالج، من خلالهما، مشاكل عصره وواقعه الحاضر[31].
3- بين يديْ مسرحية “الشاعر والربيع” لعلي أحمد باكثير:
تعد هذه “التمثيلية الشعرية”، كما سماها ناشِروها، أجْناسياً، واحدةً من مسرحيات باكثير التي صدرت، وتعرَّف إليها القراءُ، بعد وفاة مُبدعها بعقود فاقت الثلاثة، وتقع في فصل واحد قوامُه ستة مشاهد متباينة طولاً وقِصَراً. وقد كتبت شعراً، على أن بعض الحوار الجاري بين شخصياتها توسَّل بما أسْماه باكثير، في مناسبات سابقة، الشعر المُرْسَل المنطلِق، الذي يُطلق عليه، في استعمال عديد من نقادنا اليوم، “الشعر الحُرّ” أو “الشعر التفعيلي” القائم على نظام الأسطر الشعرية المتفاوتة من حيث عددُ تفعيلاتها. واصطنع، في حوارات أخرى، شعراً قائماً على نظام الشطرين المتناظرين، ولكن بقوافٍ ورَوِيّاتٍ غير موحَّدة.
واختار باكثير عَنْوَنَة هذه “التمثيلية” بـ”الشاعر والربيع”، وهو اختيارٌ عُنوانيّ يُحيلنا على طابعها الغِنائي العام. وقد ورد – من الناحية التركيبية – في صيغة مركَّب عطْفي مكوَّن من اسمين معرَّفين مُفرَدَيْن، بينهما حرفٌ عاطِفٌ يفيد مطلق الجمع والاشتراك، ويوحي بوجود علاقةٍ مّا بين المعطوف والمعطوف عليه سنعرفها لاحقاً لَمّا نقرأ المسرحية ونحللُها. يراد بالشاعر، اصطلاحاً، ذلك المبدع في حقل مخصوص هو الشعر، بوصفه “القول الموزون المقفى الدال على معنى”؛ كما حُدِّد منذ زمن بعيد[32]. وقد “سُمي الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعُر بما لا يشعر به غيرُه.”[33] ويشير لفظ “الربيع” إلى زمن/ فصل معلوم يلي الشتاء مباشرة، وتكتسي الطبيعة والحياة خلاله حُلّة جديدة. وشكّل هذا الفصل إحدى الثيمات البارزة في أشعار العرب والأوربيين وغيرهم، ولاسيما منها الرومانسية (لامارتين – أبو القاسم الشابي…).[34]
إن هذا العنوان يجعلنا نتساءل عدة تساؤلات؛ من قبيل: ما الجامع بين الشاعر والربيع؟ ولماذا ارتأى الكاتب – وهو شاعر كما تقدَّم – استحضار الربيع، تحديداً، دون فصول أخرى؟ وما المَقصدية القابعة وراء ربْطه بين عنصرين من عالمين مختلفين؛ عنصر آدمي وعنصر زمني؟… الواضحُ، بداءةً، أن ثمة صلةً ما جامعةً بين الشاعر والربيع؛ كما توحي بذلك تركيبة العنوان ودلالته المباشرة. وإذا أضفنا، إلى هذه العتبة النصية، مؤشِّريْن آخرَين من داخل النص المسرحي، وهما بدايته ونهايته، يمكننا أن نفترض أن حياة الشاعر قد شهدت تحولاً مفصلياً في اتجاه الأحسن؛ إذ قدمه لنا النصُّ، في مُفتَتَحه، شخصاً مهموماً، يعاني العزلة، متذمِّراً من حاله وقد تقدمت به سِنُون عُمره. على حين نراه، في خاتمة النص، امرَأ آخر جَذلان نشوان فرِحاً، مُقبلاً على حياة الربيع رفقة الصبايا. ونفترض، كذلك، أن الربيع كان فاعلاً حاسماً في إحداث هذا التغيير على مستوى شخصية الشاعر. ويظل هذا الكلامُ مجردَ فرْضٍ إلى حين التيقن من صحته عقبَ فَراغنا من دراسة هذه “التمثيلية الشعرية”، لاسيما وأننا اخترْنا قراءة عنوانها وَفق مسلكٍ ينطلق من “القمة” إلى “القاعدة”، كان قد أطلق عليه محمد مفتاح “القِمْعَدَة”، وهي كلمة اصطلاحية منحوتة من هذين اللفظين الأخيرين[35].
4- متنُ المسرحية الحكائيُّ: عرض وقراءة.
اِفتتح باكثير مسرحيته الغنائية الرمزية هذه بمنظرٍ يتراءى فيه الشاعرُ، وهو الشخصية المركزية فيها، مهموماً مغموماً داخل حجرته الصغيرة، يعاني الأرَق، ويتحسّر على انصرام شبابه وغزو المَشيب رأسَه. ويحاول خادمُه معرفة علة معاناته ومفارقة النوم جفونَه، ظانّاً أن قصيدةً، تبْغي الخروج من أعماق وُجْدانه وكِيانه، قد تكون السببَ الذي أرّقه وحَرَمه الراحة، ولكنه نفى ذلك، مؤكداً أن “الشعر مات في قلبه، وليس له نُشور”. وهو بذلك، يخالف أكثر الشعراء، قدامى ومُحْدَثين، الذي يعُدّون المعاناة أحدَ الدوافع الأساسية التي تستحث الشاعر على الإبداع؛ إذ إنه لم يتأثر وينفعلْ بها، فيُنتِج في ذلك قصيداً معبِّراً، بل إن معاناته ذات مصدر آخر مغاير تماماً كما رأينا آنفاً!
وبينما الشاعر يعيش تلك الحال النفسية الكئيبة من جرّاء تقدُّمه في السنّ، يسمع صدى صوت يهتف بمَقْدَم فصل الربيع، ويأدِبُ الناسَ إلى استقباله والاستمتاع به؛ إذ هو رديفُ الحياة وروحُها، ومبعثُ الحيوية والنشاط في الطبيعة والأنفس. ولكن ذلك الصدى أثار في نفسية شاعرنا الدَّهَش والعَجَب والهَمّ، وذكّره بأيام شبابه الجميلة التي انقضى عهدُها؛ الأمرُ الذي لم يُحَمِّسْه ليكون ضمن المُرَحِّبين بهذا الوافد!
وفجأة يظهر إلى جنْب الشاعر، في حجرته، فتى وسيمٌ (تقمص دور الربيع) تعجَّب من صورته شاعرنا الكهل؛ لأنها ذكّرته بصباه وأيام ماضيه البعيد الحُلوة، وتعارَفا، بسرعة، وبادر الفتى/ الربيع بسؤال الشاعر عن سبب همّه الملحوظ عليه، محاولاً التخفيف عنه وطرْدَ اليأس والقنوط المسيْطرين عليه؛ فعرض عليه أن يشاهد قدرته على بعْث الحياة في الميّت، وزرْع الأمل في النفوس؛ وذلك من خلال “حبيبته السمراء”؛ أي “الأرض الغبراء”. فهذه الأخيرة ترقد وتهمُد وتجمُد طَوالَ الشتاء، ولكن الربيع حين “يغازلها” قُدّام الشاعر، موظفاً في ذلك شتى أفانين الغزَل والهوى التي تعلمها من هذا الأخير؛ كما قال الربيع، ينقلها من وضعها الجامد ذاك إلى وضعية أخرى قوامُها الحيوية والنشاط والغِبْطة. بأسلوب آخر، فالأرضُ تستحيل بفضل الربيع وتنتقل من “الموت” إلى “الحياة”. إن الربيع أراد، بدعوة الشاعر إلى شُهود تلك “الآية الكبرى”، أن يُقنِعه بقدرته على تغيير مسار حياته، وتبديل معالم نفسيته المنكسِرة. إذ هو – كما وصف نفسه – “روح الحياة”، ورمز الانبعاث.
وليكشف للشاعر، بالملموس، قدرتَه البَعْثية تلك، انسحب الربيع من حجرة الشاعر، هابطاً إلى الأرض كالطائر، وشاعرُنا يرقب ذلك بكثير من الانتباه، وراح ينادي حبيبته “السمراء”، ويدعوها إلى الخروج ليَقضيا معاً أوَيْقات السرور والانتشاء في أرجاء الطبيعة الفسيحة. وما كاد يُنهي نداءه حتى بان له شبح فتاة سمراء تمسح عن مقلتيها آثارَ النُّعاس.. إنها الأرضُ معشوقةُ الربيع. وبعد تمنُّع طويل من هذه الحبيبة، وتوسُّل متواصل من فتاها الراغب في وصالها، نجح العاشق الولهان في استمالتها ومعانقتها والالتحام بها و”تقبيلها” ودمْج روحه بروحها. ولم تفلحْ حِيَل الفتاة/ الأرض، التي تعللت بها، في ثنْي الفتى/ الربيع عمّا عزَم عليه بكل إصرار وثبات. فقد ذكرت له سوادَها، وأن بمُستطاعه العثور على معشوقة أخرى تكون ناصعة البياض، ولكنه – عوض أن يتراجع لهذه المُصارَحَة – زادت لوعة عشقها في نفسه اشتعالاً، مصرِّحاً لها بأن “السوداء هي قرة عينيْه”. ودعتْه إلى الأوْبَة إلى حيث أتى (السماء)؛ لأن فيها كل ما يعشق ويشتهي، بما في ذلك “الحِسان الوَضيئة كالشموس”، إلا أنه أجابها بأنه لم يجد ثمة ما يُضاهيها حُسناً وجمالا! ولَمّا استسلمت الأرض لمُحِبِّها “الرومانسي”، الذي أغْراها بكلامه المعسول، ووقعت في شرك حبه، أحسّت بنشوة وحلاوة لم تحسَّ بهما من قبلُ، وشعرت بروح الحياة تسري في عروقها، وطار الخوف والتردُّد من قلبها. وبذلك العناق/ الالتحام انبعثت روح الحياة في الأرض التي ران عليها الجمود والموات طوال الشتاء وقبله كذلك، فقامت من مَرْقدها حيّة جَذِلةً، مكسُوّة بالخُضرة وبصُنوف الزهر والورد، وحاضنةً للطير والحيوان المُقبليْن عليها بلهفة ونشوة. وبينما يعيش الربيعُ والأرض ذاك الوصل الجميل، بعدما اندمج روحاهما في بعضهما البعض، وسرى روح الحياة من الأول إلى الثانية، انتبهت الأرض إلى وجود عين ترْقبُهما، هي عين الشاعر الذي كان يراقب، من شرفة حجرته، ما يصنع الحبيبان في الخارج، فدعتْ عشيقها إلى أن يَنْأيا بعيداً عن ناظر ذلك الرقيب “المنحوس”، فتدخل الربيع ليشرح لها الوضع الذي يعيشه هذا الشاعر الكئيب مُذ أمدٍ، وليبيّن لها دواعي مراقبته ما يفعلانه؛ وهو “شُهود بعثها بعد أن غطى عليها الشتاء”، وما طرأ على حالها من تغير عجيب. ولا شك في أن الذي شدّ انتباهه إلى منظر الأرض والربيع المتحابّيْن أنه شكّل “معادلا موضوعياً” له. فهو يعيش ما كانت تعيشه الأرض، قبْلاً، ويؤمن بأن الفاعل في نقلها من الجمود إلى الحيوية كفيلٌ بأنْ يطرد عنه شقوته ومعاناته النفسية ويأسَه.
وقرّر الحبيبان أخيراً الابتعادَ والانصراف حتى يغيبا عن عيني الرقيب الذي وصفته الأرض بـ”الشرّ”؛ مما أثر فيه نفسياً، وجعله يتساءل عن إمكانية تحوُّله مثلما تحوَّلت تلك الحبيبة! ولم يلبثِ الشاعرُ في حاله تلك، حتى لمح أمامَه الربيع، وهو يجري في الحقول والروابي منطلِقاً جَذِلاً، معبِّراً عن فرحته الغامرة بعد أنْ حقق مُنيته، وقضى وَطَرَه. ودعا الطبيعة، بشقيها الصامت والحي، إلى أن تشاركه فرحته وسعادته، وتُبارك له اقترانه بالأرض “زوجِه”!
وأطلّ الشاعر، في آخر مشاهد المسرحية، من شرفته ليرى جَمْعاً من الفِتيان قد بَكَرُوا إلى الحقول للّعب والمَرَح والاستمتاع بمَقْدَم الربيع الذي حوّل وجه الطبيعة رأساً على عقب، وفكر في الخروج من وحدته القاتلة والالتحاق بهم، إلا أنهم لم يلتفتوا إليه، وأقبلوا بحواسّهم وألبابهم على الحقول والروابي لقضاء حق الربيع وحق الصّبا؛ مما أثر فيه، وأشْعَرَه بالبُؤس والتذمُّر والحسرة، وضاعَف معاناته النفسية، وذكّرهم بأنه كان ذات يوم مثلَهم، ولم يُخلق كما هو الآن، وأمَّلهم واسترحمهم وطلب مساعدتهم ليستعيد أيامَه الجميلة الخوالي لما كان في سنّهم. جاء في نص المسرحية على لسان الشاعر يخاطب جمْعَ الفتيان:
“آهٍ لا تَتْرُكوني وتَمْضُوا بدُونِي
كُنْتُ يَوْماً فَتىً مِثلَكُمْ فَارْحَمُوني
اِجْمَـعُوا مِنْ فُضـولِ صِـباكُمْ قَلـيلاً قَليلاَ
فَاخْلَعُوهُ عَلَيَّ لألْبَسَ ذاكَ الرِّداءَ الجَميلاَ”[36].
وحين لم يستجب الجمعُ لندائه وتوسُّله، ارتدّ مغموماً إلى داخل حجرته، يجترّ ألمه، ويبكي صِباه وشبابه اللذيْن انصرما مُخلِّفيْن له المعاناة والكُلُوم. ولم يكد يمضي وقتٌ طويل حتى ظهر له الربيع، كَرَّةً أخرى، سائلاً إياه عن سبب قُعوده وتخلفه عن اللَّحاق بالفتيان المُقبلين على الطبيعة يستمتعون بمناظرها البهيّة، واستغرب من تصرفه ذاك، لاسيما وأن الكون كلَّه يحتفل بـ”انبعاث الصبا وانبثاق الأمل”! ولم يكن بمُسْتطاع الربيع، والحالُ هذه، أن يظل مع الشاعر في حجرته الضيقة الكئيبة مدةً أطولَ من تلك التي قضاها رفقته، لذا انطلق، هو الآخر، لينظر “آية الله” على الأرض، ويستمتع بالأجواء الجديدة على غرار جمْع الفتيان. وإثر ذلك، توجّه الشاعرُ إلى شرفة حجرته متأمِّلاً ما يحصل في الطبيعة أمام ناظِره، واستيقظت في نفسه النشوة والشوق للالتحاق بهم جميعاً، ودبّ بين ضلوعه إحساسٌ جميل بعودة الصبا والشبيبة إليه بعد طول يأس وشقوة، فعبّر عن سعادته بذلك تعبيراً ممزوجاً بعبارات التكبير؛ حيث قال:
“هذا فُـؤادِي الذي تَبَلَّـدْ بيْنَ الضُّلُوعِ انْتَشَى وعَرْبَدْ
وذا شَـبابي الذي تَـوَلّى قدْ عَـادَ، أهْـلاً به وسَـــهْلاَ
اللهُ أكْــبَر اللهُ أكْــبَر”[37].
وبينما هو يعيش ذلك الشعور، مرّ به سرْبٌ من الفتيات اللائي لبَّيْن نداء الربيع، فخرجْنَ للاستمتاع بما جاء به، وتحية عيد الربيع، وهنّ منتشياتٌ فَرِحاتٌ، فرجاهنّ الشاعر لينتظرْنه، ويلتحق بهن هو الآخر، وطلب وصالهنّ، ولكنهن تضاحكْنَ منه، وقابلْن استعطافه بالهُزء واللامبالاة. إلا أن ذلك لم يُثنِهِ، ولم يُثبِّط عزيمته، بل واصل تودُّده إليهن، وتغزُّله بهن عَلَّه يستميلهن، فيرفقْنَه معهن إلى الحقول والروابي التي كساها الربيع حلة قشيبة تسُرّ الناظرين. ولم يطل تجاهلهن كثيراً؛ لأنهن سَرْعان ما انتبهْنَ إلى أن المُستعطِف شاعرٌ رهيفُ الحس، يَخرج الشعر من بين شفتيه كالحلاوة، فرحّبْن به فرداً داخل سِرْبهنّ؛ مما خلّف ارتياحاً عميقاً لدى الشاعر، جعله يشكر الخالق مبدِّلَ الأحوال، وشعر بأن كل ما فات قد عاد إليه: الشباب، والحب، والوصل، والشعر… إلخ، واندمج معهن في الطبيعة اندماجاً سريعاً ورائعاً عكسَه النشيدُ الذي اختُتمت به المسرحية، والذي أنشده الشاعر وسرْبُ الفتيات يردِّدْنَ لازمته “هيّا بنا هيّا”. وبذلك، حصل للشاعر مثل الذي وقع للأرض الغبراء، فتحوَّل من الكآبة والأسى والعُزلة إلى الانشراح والسعادة والاندماج مع الآخرين ومشاركتهم بهجةَ الاحتفال بمقدم الربيع الذي أحدث تغييراً عميقاً في الأرض. وقد كان لهذا العامل الزمني دور حاسم، كما لاحظنا، في إحداث ذلك التحول المفصلي في الأرض وحياة الشاعر اللتيْن ينسحب عليهما سيناريو واحد؛ لتشابُه مساريْهما!
إن لباكثير، كما قلنا سابقاً، إسهامات بارزة في مضمار الأدب الإسلامي عموماً، ولاسيما في مسرحه الشعري الذي يتمثل، في أكثر نصوصه، مقوّمات ذلك الأدب تصوُّراً وصياغةً. مع ملاحظة أن البُعد الإسلامي يحضر تارة بقوة في أعماله، ويكون حضوره فيها، تارة أخرى، خافتاً وخفياً؛ مثلما هو الشأن في “التمثيلية الشعرية” التي بين أيدينا الآن. فهي تتوخى زرْع الأمل وروح التفاؤل في النفوس، وطرْد اليأس والتذمر، موظفةً، لأجل ذلك، معجماً لغوياً تتردد فيه كلمات وعبارات تعكس ذلك البُعد؛ مِنْ مثل: سبحانك اللهم يا ربي – الله خالقها وواهبها معاً – يقضي بها في الخَلق حيث يشاء – عز وجل – الله أكبر الله أكبر – واللهِ – تبارَك القادر.
ولا ريب في أن “الصراع الدرامي” يعد من العناصر الجوهرية في المسرحية، أيّاً كان نوعها، يرمي إلى تجسيد مواقف المُتحاورين المتنافرة، وإضْفاء الدينامية عليها في المحلّ الأول. ويظهر الصراع في نص مسرحية “الشاعر والربيع” من خلال علاقة الربيع بالأرض في أول الأمر؛ ذلك بأن الطرف الأول من “العالم العُلوي” قدِم من السماء، كما جاء على لسان الأرض في المسرحية، ويرمز إلى البعث والإحياء، على حين أن الطرف الثاني من “العالم السُّفلي”، يظهر في وضعية هُمُود وجمود وموت بسبب الشتاء الذي ران عليه. وقد حاول الربيع، مراراً، التقرب من الأرض “المحبوبة”، والالتحام بها ليخلع عليها من روحه وحيويته، ولكنها قابَلت ذلك بالنفور والتمنُّع. بيد أن الربيع، الذي أبْدى إصراراً وعزماً كبيريْن، أفلح في إغواء الأرض واستمالتها وتحقيق مُنيته، وهي “تقارب روحَيْهما”؛ مما مكّنه من تمرير نُسْغ الحياة، ونقل روحها، إلى شرايين الأرض التي أحست بحلاوة تلك الروح، وبمفعولها السحري. إذ جاء على لسانها مخاطبةً حبيبَها/ الربيع:
“ما كُنْتُ أحْسِبُ أنّ ثغْرَكَ هَكذا حُلْـوٌ، وأنّـكَ للكُـلُومِ شِــفاءُ
أجْـرَيْتَ في دَمـي الحَــياة…”[38]
وبذلك تحوّلتِ العلاقة بين الطرفين المتحاوريْن من الصراع والتباعُد إلى التلاحم والتقارُب، فكانت نتيجة ذلك إيجابية جدّاً للأرض التي، بفضل ذلك، تنصّلت من جمودها وكآبتها، واستحالت حيّة نَشِطَةجَذِلة!
5- دراسة الخطاب المسرحي: المكوّنات ووظائفها.
إننا نضع مصطلح “الخطاب”، هنا، في مقابل اصطلاح “المتن الحكائي”، جرْياً على ما دَرَج عليه البنيويون منذ عقود. وإذا كان اللفظ الثاني ينصرف مفهومُه إلى مجموع أحداث النص السردي الرئيسة والثانوية، والعلاقات الرابطة بينها، المشكِّلة لحبْكتها، سواء أكانت زمنية أم منطقية، وإلى محتواه الفكري ومعانيه كلها، فإن الأول يُقصَد به مجموعُ العناصر اللغوية والأسلوبية والتقنية التي يوظفها الكاتب للتعبير عن ذلك المتن، وإبْلاغه إلى المتلقي. بمعنى أننا، في الحالة الأولى، نجيب عن سؤال “ماذا؟”، على حين نَشْغَل أنفسنا، في الحالة الثانية، بالإجابة عن سؤال “كيف؟” ولا يجب أن نفهم من هذه القِسْمة، التي يُلجَأ إليها، نقدياً، لغرض منهاجي ليس إلاّ، بأنّ جانبيِ النص السردي آنفي الذكر مستقلان عن بعضهما البعض استقلالاً كلياً، بل إنهما متكاملان ومتلازمان تلازماً جدَلياً يجعلهما أشْبَه بوجْهي العملة الواحدة! وعلى هذا الأساس، فإنّا سنعمِد، في هذا المبحث الخاتِم، إلى مقاربة مسرحية باكثير قيدَ القراءة من الزاوية الفنية والتقنية أساساً، من خلال دراسة شخصياتها، وفضائها، وبنائها العام، ولغتها، وأسلوبها، وإرشاداتها. وإن هذه العناصر متكاملة فيما بينها من وجهة، وبينها وبين مقوّمات المتن الحكائي للمسرحية من وجهة أخرى.
مسرحية “الشاعر والربيع” عمل فني متكامل متناسق الأجزاء والمكونات، يقع في فصل واحد، من ستة مشاهد؛ مما يدل على أنه نموذج مسرحي حديث على مستوى بنائه العامّ. ذلك بأن المسرحية الكلاسيكية، في العهد اليوناني والعهود القديمة التي تلتْها، كانت تحْكمها جملة من الضوابط التي أُلزِمَ المبدع الدرامي باحترامها في هذا الإطار؛ منها تقسيمها إلى فصول منسّقة يصل عددها إلى أربعة أو خمسة في أقصى الحالات، مع التقيُّد بالوَحْدات الأرسطية الثلاث المعروفة في حقل الدراما (وحدة الموضوع – وحدة الزمان – وحدة المكان). وقد استمرّ هذا التقليد الفني بين المسرحيين الغربيين حتى العهد الرومانسي، حيث شُرع في إبداع مسرحيات بفصول أقلّ من ذلك، وأخضع مؤلفو مسرح “البولـﭭار” الفرنسي، في أوائل القرن العشرين، المسرحية إلى ثلاثة فصول، وأصبح، هذا التقسيم، منذئذٍ، تقليداً معروفاً[39].
يقوم صَرْحُ مسرحية باكثير المدروسة على ثلاث وحداتٍ رئيسة؛ أولاها الاستهلال، وفيها يتراءى لنا شاعرٌ مهموم، حُرم من النوم، يحاور خادمه الذي أراد معرفة سبب معاناته النفسية الظاهرة آثارُها على مُحيّاه. وآخرُها الخاتمة التي يظهر فيها شاعرنا شخصاً آخرَ، سعيداً نشيطاً، مُقبلاً على الحياة، منطلِقاً في الطبيعة للاستمتاع بالربيع. فالمحطتان معاً كافيتان لتلمُّس التطور البارز الذي طرأ على الشخصية الرئيسة في المسرحية نفسياً، بحيث انتقلت من وضع إلى آخر نقيض تماماً! وبين لحظتي البدْء والختْم تنامت أحداثٌ وحواراتٌ مشكّلة وسط المسرحية وعقدتها وجسدها، ومبرزةً سيناريو انتقال الشاعر من شخص كئيب متذمر، لانصرام أيام شبيبته الجميلة، إلى شخص سعيد استعاد حيويته ونشاطه بمقدم فصل الربيع.
ويشكل هذا الشاعرُ الشخصية الرئيسة في مسرحيتنا قيد التحليل، يستأثر بأكثر تدخلات شخصياتها، ويحضر في جل مشاهدها الدرامية. فهو، إلى جانب ما ذُكر من صفاته النفسية، متقدم في السن؛ مما يرجّح لدينا أن تكون هذه المسرحية من المسرحيات التي كتبها باكثير في أواخر حياته، ولطيفٌ وظريفٌ وخفيفُ الروح ورهيفُ الإحساس؛ كما وصفته جملة من الفتيات في آخر المَشاهِد. وهو شخصية نامية، لا ثابتة، في النص؛ لأنه لم يلزَم حالة واحدة قارّة من بداية المسرحية إلى نهايتها، كما رأينا سابقاً، وكان للربيع أبلغُ الأثر في إحداث تلك النقلة على مستوى نفسية الشاعر. كما أنه “الأستاذ الأجلّ” للربيع، كما جاء على لسانه في النص؛ إذ هو الذي علّمه فنون الهوى والغزل.
ويأتي بعد الشاعر، من حيث الأهمية ودرجة الحضور، “شخصية” الربيع الذي يظهر، في المسرحية، في صورة فتى جميل مليء بالحيوية ذكّر الشاعرَ بهيأته حين كان صغيراً، بل إنه عَدَّ نفسَه نسخة منه، بل هو الشاعر عَيْنُه في صباه، وجعل نفسه، كذلك، روح الحياة، ورمز الانبعاث، وتبدو قوته “السحرية” تلك في التأثير الذي أحْدثه على الأرض الغبراء؛ حبيبتِه السمراء التي هام بها عشقاً، وأكثر التغزُّل بها؛ إذِ استطاع أن يبثّ روحَه في عروقها، ويَخلع عليها السعادة والحياة بعد شتاءٍ قاسٍ كانت خلاله هامدة راقدة ميّتة. وقد أوْحى للشاعر، بذكر قصته مع الأرض، بإمكانياته الخارقة في تبديل حياته رأساً على عقب، وفي قلْب معاناته حُبوراً وانتشاءً إنْ هو استمع إليه، وعمل بما يُمْليه من مقترَحاتٍ!
وتحتلّ “شخصية” الأرض المنزلة الثالثة بعد الشاعر والربيع. ويقدمها النص المسرحي في صورة فتاة سمراء عذراء حسناء قامت من رُقادها للتوّ، جميلة التكوين، ذات بُتولة وحياء، غيرِ سهلة الانقياد؛ إذ إنها لم تنقدْ للربيع؛ فتاها الجميل، إلا بعد تمنُّع طويل، وتوسُّل متواصل من مُحبِّها. وحين انقادت له، بعد أن طمْأنها ومَنّاها، وعانقها، أحسّت بحلاوة الالتحام بالربيع، وبروحه تسْري في عُروقها فتنقلها من أرض غبراء ران عليها شتاء قاس إلى أرض أخرى مَلأى بالزهور المزركشة وبمظاهر الاخضرار، وإلى مَرْتع للطير المغرّد فرَحاً بالربيع فاعل تلك النقلة، وللصبايا اللواتي قصدْنَها احتفاءً بعيد الربيع، ورغبة في الاستمتاع بمناظرها البهية… وتنضاف إلى هذه الشخصيات الثلاث أخرى ثانوية أو عابرة لم يكن لها دور بارز في المسرحية، لذا لن نقف عندها؛ وهي شخصية الخادم، و”الصوت” الهاتف بمقدم الربيع، وجمْع الفتيان، والفتيات.
وقد أجْرى الكاتب بين هذه الشخصيات الحوارَ، ومرّر على ألسنتها رسالة نصِّه وفكرته المحورية ومختلِف مقاصِدها وأبعادها. وبهذا الأسلوب الحكائي، أساساً، استطاع الكاتب إبْلاغَ ما يريد قوله. يقول الناقد المصري الراحل عبد القادر القطّ مؤكداً مَركزيةَ الحوار في الفن المسرحي: “إن أول ما نلاحظه على المسرحية، باعتبارها شكلا أدبياً، أنها تقوم على الحوار. فليس هناك مؤلِّف أو “راوٍ” يقصّ علينا الأحداث، ويعرّفنا بالشخصيات وطبائعها وعلاقات بعضها ببعض كما هو الأمر في الرواية مثلاً، وإنما تكشف الشخصيات عن نفسها بنفسها، وتتحاوَر فيما بينها لينموَ الحدث من خلال ذلك الحِوار والمواقف التي يجري فيها.”[40] والملاحَظ على الحوار في المسرحية المدروسة ككل أنه متعدد الأطراف، دار بين أكثر من شخصيتيْن، وأنه مباشر وأفقي وخارجي في أكثر المشاهد. واضطلع بتأدية أكثر من وظيفة، لعل أهمها عرْض مواقف المتحاورين ووجْهات نظرهم، وتجسيد الصراع الدرامي في المسرحية، والإسهام في تنامي الحدث وتطويره.
وقد احتضن حوارَ الشخصيات في مسرحية باكثير فضاءٌ أساس يتجلى في حجرة الشاعر الضيقة المتوفرة على جملة أشياء، أبرزها مكتب الشاعر الذي جلس على كرسيّه يتأمل ويجترّ مرارة معاناته قبل انقلاب حياته على نحْو ما أوْضَحْنا من ذي قبلُ. ولهذه الحجرة شرفة يطلّ منها الشاعر على فضاءٍ أرْحَبَ جرَتْ فيه مجموعة أخرى من ماجريات المسرحية وأحداثها، وهو الأرض التي تتراءى له قبالتها بما فيها من حقول ورَوابٍ لبست أبْهى حلة بمَقدم الربيع. وبذلك، تجسدت في فضاء المسرحية المكاني ثنائية المُغلق والمفتوح.
واعتمد باكثير، في كتابة مسرحيته هذه، لغة واضحة تقرُب من لغة الحياة المتداوَلة في أغلب الأحيان، ما عدا ألفاظ تمتح من قاموس العربية القديم؛ مثل: تغوّرت – الكَرى – هَميم جائشة – نثيث أكْمام – حسيس أصداء – ذوى زهر الغزل – رؤوم – بُرَحاء – الغُلَواء – الرَّواء – الطُّغَراء – الكُلوم – الوطر – النبت الخَضِل – عاج. وقد رام من وراء استعمال لغة مفهومة تحقيق التواصل مع متلقّي نصِّه، وضمان وصول رسالته إليهم على اختلاف مستوياتهم في الإدراك والفهم. وهذا شأنُ باكثير في أكثر إبداعاته، بما فيها أشعاره. وزاوَج، أسلوبياً، بين الخبر والإنشاء بشقيْه الطلبي وغير الطلبي، مع غلبةٍ واضحة للإنشاءات في النص، والتي تحققت بعدة صِيَغ أسلوبية (النداء – الأمر – النهي – الاستفهام – التحضيض – النُّدْبة – التعجب)، أسهمت جميعُها في إيصال مغزى المسرحية إلى المتلقين، وفي تجسيد مواقف الشخصيات وعلاقاتها بعضها ببعض. ونلاحظ ضمن أخبار النص أساليبَ عدة؛ من مثل التوكيد والاعتراض والتَّكرار. وإلى جانب تقريرات النص، نُلْفي بين ثنايا حوارات شخصياته جملة من التعابير الإيحائية والصور البلاغية؛ كالتشبيهات (في السماء حِسانٌ كالشموس وضاء…)، والاستعارات (ثوب الصِّبا لا يُعار…) التي كانت لها وظيفة مزدوجة في النص؛ شقُّها الأول تعبيري من حيث إنها قناة لغوية لنقل المواقف، والتعبير عن معاني المسرحية. على حين أن شقها الثاني ذو طابع فني من حيث إنها تُضفي على النص بُعْداً جمالياً يستثير المتلقي ويُمْتِعه، ويدفع به إلى أن يشارك في إنتاج دلالته.
أسْلفْنا القول بأن مسرحية باكثير، التي نحن بصدد مقاربتها مضمونياً وفنياً، “تمثيلية شعرية”، كتبها المؤلف بالشعر سواء العَمودي أو المرسَل، مع تنويع قوافيها وأحرف رويّها في أغلب مشاهدها. إذ نظَم أبيات المشهد الأول على نَوْل بحر الكامل، وهو بحر خليليّ صافٍ يقوم على تفعيلة واحدة تتردد بين أشطار أبياته (متفاعلن)، ويعد من الأوزان الفخمة التي أكثر شعراؤنا القدامى من النظْم على هَدْيِها. إلا أن الملاحَظ أن بعض تلك الأبيات منظوم على وزن الكامل التام (ست تفاعيل) ذي العَروض والضرْب المعتلتيْن بعلة الحَذذ (إسقاط الوتد المجموع برمته من آخر التفعيلة)، على حين نظم الباقي على مجزوء الكامل (أربع تفاعيل فقط). وإذا كان شعر المشهد السابق قائماً على نظام البيت ذي الشطرين المتساوييْن، فإن الشعر الذي ألِّف وفقه المشهدان الثاني والثالث مِمّا يسمى، الآن، الشعر الحُرّ، وهو على تفعيلة المتدارَك (فاعلن) التي استُخدمت فيهما ببعض زحافاتها المعروفة، ولاسيما الخَبْن (حذف الثاني الساكن). والملاحَظ، بوضوح، أن أسطر المشهدين متفاوتة فيما بينها طولاً وقِصَراً تَبَعاً لحالة مبدعهما النفسية والشعورية غداة كتابتهما. كما أنهما وظفا لعبة البياض والسواد بكيفية غير ثابتة؛ إذ نجد الكاتب، مرة، يبدأ السطر ببياض يعْقبُه سواد، ثم بياض، وأحياناً يستهلُّ السطر الشعري بسواد (كتابة) يليه بياض (فراغ). وركِب باكثير، في المشهد الرابع، بحر الكامل سُداسيَّ الأجزاء في شعره الكلاسيكي كله، مع ملاحظة أنه كان يوزع البيت الواحد، أحياناً، على مستوى الحوار، بين متحاورَيْن اثنيْن؛ بحيث يبدأ أحدهما ببعض البيت ليُتِمَّه مباشرةً مخاطَبَه. وبخلاف مشاهد المسرحية الأخرى التي نوّعت جميعها القوافي وأحرف الروي كما هو ملحوظ، فإن المؤلف في هذا المشهد التزم بوحدة القافية والروي معاً؛ إذ إن قافيته جاءت على زِنَة “فَعْلُنْ”، مطلَقة، مُرْدَفة بالألف، موصولة بالواو. ورويُّ شعر المشهد هو الهمزة التي مَجْراها الضمة. وعاد باكثير إلى استعمال وزن المتدارك في المشهد الخامس من مسرحيته، ولكنْ بطريقة غير مألوفة لدى القدماء؛ بحيث إنه جعل في كل شطر من أشطر أبيات هذا المشهد القصير تفعيلتيْن اثنتين فقط. ويعد المشهد الأخير أغنى مشاهدها إيقاعاً؛ إذ تعددت قوافيه وروياته، مثلما تعددت أوزانه العروضية وأنماطه الشعرية. ففيه أبياتٌ كلاسيكية البناء وأسطُرٌ هي الغالبة عليه، على أن أبياته تلك منظومة على أبْحُر مخلَّع البسيط (مستفعلن فاعلن فعولن × 2)، والمجتثّ (مستفع لن فاعلاتن × 2)، ومجزوء المتدارك، ومجزوء الكامل الذي لحق عروضه وضربه الحذذ. على حين أن أسطر المشهد منظومة على تفعيلة المتدارك تحديداً. إن هذه الطريقة، في الكتابة الشعرية، في ذلك الوقت المبكِّر، لَدَليلٌ على أن باكثير واحدٌ من أوائل المجدّدين في القصيدة العربية الحديثة، والخارجين عن أعرافها المتّبعة منذ أقدم أعْصُرها. وقد أقرّ له بهذه الريادة كثيرون كما رأيْنا سابقاً.
ومما لا ريب فيه أن ثمة عناصرَ بعيْنها تميّز الكتابة المسرحية من غيرها من ضُروب الكتابة الأدبية، وفي مقدمتها ما يُطلق عليه، في النقد المسرحي الحديث، اصطلاح “الإرشادات المسرحية” أو “التوجيهات المسرحية” أو “الإرشادات الإخراجية” أو “ملاحظات الكاتب” أو “النص المُرافِق”… وهي كلها مُسَمِّياتٌ اصطلاحية لمُسَمّىً واحد يعبَّر عنه، في اللغة الفرنسية، بلفظ “Didascalies”. ويراد به تلك الكلمات أو العبارات أو النصوص التي يعمِد المؤلف المسرحي إلى وضعها بين هلالين (كما في النصوص الدّرامية العربية)، أو كتابتها بخط مُغاير لذاك الذي يُكتَب به الحوار المسرحي (كما في النصوص الغربية)، سواء في فاتحة مسرحيته أو بين حناياها أو في خاتمتها. ولها، دون شك، وظائفُ تؤديها في النص الذي ترد فيه، أبرزها الإرشاد والتوجيه والمساعدة على الفهم وعلى نقل المسرحية من شكلها الخطي إلى عَرْض يقدَّم على الرُّكْح ليُشاهده النّظّارة. وإذا عُدنا إلى تاريخ الأدب المسرحي فإننا لا نجد للإرشادات المسرحية حضوراً واضحاً فيه، منذ العهد الإغريقي، ولم تتسلّلْ إلى النص المسرحي إلا حديثاً بعد منتصف القرن التاسع عشر، مع بروز نجم المسرح الطبيعي في أوربا؛ حيث صِرْنا نراها في نصوص المسرحيات؛ إما في صدارتها، وإما بعد أفعال القول فيها، وإما مباشرة عقب إثبات أسماء الشخصيات، وإما داخل الحوارات نفسها. ولم يلتفت نقاد الدراما إلى الحُفُول بموضوع الإرشادات إلا في وقت متأخر، ولعل رومان إنگاردن (R. Ingarden) أوّل مَنْ طَرَق هذا المجال، حين ميّز داخل المسرحية المكتوبة بين النص الرئيس/ الحوارات (Dialogue) والنص الفرعي/ الإرشادات (Didascalies)، قائلاً: “إن الكلام الذي تنطِق به الشخصيات يشكل النص الرئيس لمسرحية ما، وتشكل الإرشادات المسرحية التي يعطيها المؤلف النص الثانوي. وهذه الإرشاداتُ تختفي عندما تُعرَض المسرحية، فهي لا تظهر إلا أثناءَ قراءة المسرحية حيث تمارس وظفة العَرْض.”[41]
لقد ضَمَّن باكثير مسرحيته “الشاعر والربيع” عدداً من الإرشادات المسرحية المُتبايِنَة طولا وقصراً، والواقعة خارج الحوار بصفة أساسية، والمنتشرة في أول النص وآخره وبين ثناياه جميعاً. واستهدف الكاتب، من خلال إثباتها في نصه المُحلَّل، وصف شخصياته خارجياً وداخلياً، وكذا حركاتها وتصرفاتها ووضعياتها وتصويتاتها، وتقديم توجيهات للاستئناس بها في أثناء تأثيث الفضاء الرُّكحي لدى إرداة تحويل النص من صورته اللغوية المكتوبة إلى كتابة مَشْهَديّة معروضة. وعليه، فإن هذه الإرشادات، التي تعمّد الكاتب المسرحي إدراجها في نصه الدرامي، موجَّهة إلى شخص المُخْرِج لتُسْعِفه على ذلك التحويل، وإلى السينوغراف لتساعده على إعداد الخشبة وتجهيزها وبناء ديكورها وأكسِسْواراتها، وإلى الممثلين الذين يُعْهَد إليهم بتقمُّص أدوار الشخصيات المسرحية، وإلى القارئ الذي يتعامل مع المسرحية مكتوبةً؛ إذ تُعينُه على تخيُّل مشاهدها وأفعال شخصياتها وصفاتها وغير ذلك.
على سبيل الختم:
لقد تأكَّد لنا مما تقدم كله أن علي أحمد باكثير واحدٌ من فرسان الأدب العربي الحديث، سجّل حضوراً، بأحرُف بارزة، في مجالات الرواية والقصيدة والمسرحية؛ كما تشهد على ذلك إنتاجاته الفكرية والأدبية التي بين أيدينا. ولكنّ تميُّزه، في حقيقة الأمر، كان في الحقل الدرامي، ولاسيما المسرح الشعري الذي كان أحد رُواده الأوائل المجدِّدين فيه شكلاً ومضموناً، و”تمثيليته الشعرية” التي حلّلناها، في هذه الدراسة، دليلٌ واضح على ذلك.
[1] . عبد الحميد حنورة: علي أحمد باكثير ظاهرة إبداعية، مجلة “الشعر”، اتحاد الإذاعة والتليفزيون بمصر، ع.42، أبريل 1986، ص 43.
[2] . عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، تق: عمر عبد العزيز، من منشورات مجلة “الرافد”، الشارقة، ع.6، يونيو 2010، ص 8.
[3] رابط هذا الموقع هو: www.bakatheer.com
[4] . مجلة “الأدب الإسلامي”، الرياض، ع.5، س.2، دجنبر 1994/ يناير – فبراير 1995، من ص 88 إلى ص 92.
[5] . للاستزادة فيما يخص هجرة الحضارمة إلى أندونيسيا وتاريخها وواقعها وتحدياتها ونحْو ذلك، يمكن الرجوع إلى بحث “الهجرة اليمنية الحَضْرَمية إلى أندونيسيا بين الهُوية والاندماج” لعبد الله سعيد الجعيدي، مجلة “ثقافات”، جامعة البحرين، ع.22، 2009، من ص 85 إلى ص 105.
[6] . وهي “مدرسة النهضة العلمية”، وكان أبوه واحداً من مؤسِّـسيها.
[7] . نقلاً من مقال “علي أحمد باكثير: النشأة الأدبية في حضرموت” لمحمد أبي بكر حميد، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.29، مج.8، 2001، ص 16.
[8] . توقفت هذه المجلة، عام 1931، دون أن تُكْمِل شهرها العاشر.
[9] . محمد أبو بكر حميد: علي أحمد باكثير رائد التنوير السلفي الإصلاحي في حضرموت، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.62، مج.16، ربيع 2009، ص 42.
[10] . عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، من منشورات مجلة “الرافد”، ع.6، يونيو 2010، ص 245.
[11] . أطلق باكثير على هذه الدار التي اشتراها في حضرموت “دار السلام”، وظل محتفظاً بمِلكيتها، حتى بعد مغادرته إياها، رغم العُروض التي قدِّمت له لبيعها. وبعد وفاته آلت تلك الدار إلى إخوانه الأشقاء في سورابايا الذين باعوها لإخوانهم غير الأشقاء في حضرموت. وقد بقيت الدار في مِلكِهم إلى أن عرضها، مؤخراً، مُلاّكُها للبيع في سوق العقار، فتدخل عددٌ من مُحبّي الراحل باكثير، في اليمن وخارجه، ورفعوا مُلتَمَساً للحكومة اليمنية مناشدينَها لشرائها لتحويلها إلى متحف ومركز أدبي يحمل اسم الأديب الكبير علي أحمد باكثير. وقد نجحت تلك المساعي التي كان لرجل الأعمال السعودي عبد الله بقشان دورٌ كبير فيها.
[12] . المرجع نفـسه، ص 123.
[13] . محمد أبو بكر حميد: “علي أحمد باكثير: النشأة الأدبية في حضرموت”، م.س، ص 19.
[14] . علي أحمد باكثير: إخناتون ونفرتيتي، تق: إبراهيم عبد القادر المازني، دار مصر للطباعة، ط.2، 1967، ص ص 5-6.
[15] . حسين جمعة: الرؤى الحضارية في أدب باكثير وحياته، مجلة “الموقف الأدبي”، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ع.471/472، س.40، يوليو/ أغسطس 2010، ص 9.
[16] . نجيب الكيلاني: حول المسرح الإسلامي، مؤسسة الرسالة، ط.2، 1987، ص47 .
[17] . من تقديم أحمد زكي لمسرحية أحمد شوقي “السِّتّ هُدى”، دار الكتاب العربي، بيروت، د.ت، ص 3.
[18] . فاضل سوداني: الشعر والمسرح، مجلة “طنجة الأدبية”، المغرب، ع.36، يوليوز/ غشت 2011، ص 11.
[19] . عبد الستار جواد: في المسرح الشعري، سلسلة “الموسوعة الصغيرة”، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، ع.49، 1979، ص 34، بتصرف.
[20] . نفســه، ص 43.
[21] . نقلاً عن كتاب “قصائد في الذاكرة: قراءات استِعادية لنصوص شعرية” لحاتم الصگر، من منشورات مجلة “دبي الثقافية”، كتاب 52، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دُبَي، ط.1، أغسطس 2011، ص 151.
[22] . عبد الستار جواد: في المسرح الشعري، ص 86.
[23] . عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، من منشورات مجلة “الرافد”، ع.6، يونيو 2010، ص ص 119- 120
[24] . من كلمة عبد القدّوس أبي صالح؛ رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في مؤتمر “علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية”، الذي عُقد بالقاهرة، بمشاركة عدد من الباحثين العرب، في يونيو 2010. (مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.67، مج.17، صيف 2010، ص ص 5-6)
[25] . نقلا عن مقال “ريادات باكثير” لعبد الحكيم الزبيدي، منشور في موقع www.bakatheer.com
[26] . محمد أبو بكر حميد: علي أحمد باكثير رائدُ قضية فلسطين في المسرح العربي، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.64، مج.16، خريف 2009، ص 25-28.
[27] . عبد الحكيم الزبيدي: علي أحمد باكثير، من منشورات مجلة “الرافد”، ع.6، يونيو 2010، ص ص 145-146.
[28] . اُنظر مقال الزبيدي “ريادات باكثير”، الذي أحَلْنا عليه سابقاً.
[29] . هذا نصُّ التعريف الذي تقدمه رابطة الأدب الإسلامي العالمية لمفهوم “الأدب الإسلامي”. (مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.22، مج.6، 1420 هـ، ص 26…)
[30] . حفناوي بلعلي: تجربة المسرح الإسلامي في الأدب الجزائري، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.45، مج.12، شتاء 2005، ص 39.
[31] . نُشر نص الحوار في مجلة “الجمهور”، بتاريخ 25/7/1968. وأعاد عبد الحكيم الزبيدي نشْرَه في الموقع الإلكتروني الذي أنشأه للتعريف بباكثير وأدبه.
[32] . قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تح: محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، ص 64، بتصرف.
[33] . ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الرشاد الحديثة، البيضاء، د.ت، 1/116.
[34] . محمد زنيبر: الربيع في الشعر العربي، مجلة “دعوة الحق”، وزارة الأوقاف المغربية، ع.7، س.4، أبريل 1961، ص 34 -37.
[35] . محمد مفتاح: دينامية النص (تنظير وإنجاز)، المركز الثقافي العربي، بيروت – البيضاء، ط.2، 1990، ص 60.
[36] . الشاعر والربيع، مجلة “الأدب الإسلامي”، ع.5، م.س، ص 91.
[37] . نفســه.
[38] . نفســه.
[39] . عبد الله شقرون: الثقافة المسرحية، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط 2006، ص 144.
[40] . عبد القادر القط: من فنون الأدب (المسرحية)، دار النهضة العربية، بيروت، ط 1978، ص 11.
[41] . نقلاً من كتاب “سيميوطيقا الصورة المسرحية (دراسات في المسرح)” لجميل حمداوي، دار نشر المعرفة، الرباط، ط.1، 2013، ص 81.