التلقي بين النقد العربي القديم ونظرية التلقي، مقارنة بين الآمدي وياوس
The reception between ancient Arab criticism and the reception theory, a comparison between Al-Amadi and Jauss
د ــ عمار أيت عيسى / جامعة عبد الرحمان ميرة ـــ بجاية ـــ الجزائر
Dr Ammar Ait Aissa / University of Abdel Rahman Mira – Bejaia – Algeria
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 70 الصفحة 51.
ملخص:تسعى هذه الدراسة إلى إماطة اللثام عن قضية نقدية غاية في الأهمية، وتتمثّل في قضية تلقي النص الأدبي، إذ ستعمل على إقامة مقارنة بين موقف النقد العربي القديم وموقف نظرية التلقي من أثر النص الأدبي في المتلقي، فتتخذ “الآمدي” أنموذجا يمثّل النقد العربي القديم في حين تتخذ “ياوس” ممثلا لنظرية التلقي. وعلى هذا الأساس سنعتمد على المقارنة آلية، نعمل من خلالها على رصد موقف كلا الطرفين من أثر النص الأدبي في متلقيه، ووصولا إلى اكتشاف معيار جودة النص عند كلا الطرفين.
الكلمات المفتاحية: التلقي، النقد العربي القديم، نظرية التلقي، المقارنة، أثر النص، الجودة الأدبية.
Abstract:
This study seeks to reveal an important critical question, which consists in the reception of literary text, it is therefore a question of comparing between the point of view of the ancient Arabic criticism and that of the reception theory towards the impact of literary text on the receiver. And for that we take “EL AMADI” as a model of the ancient Arab critic, and “JAUSS” as a representative of the reception theory as a contemporary critical theory.
On this basis, we will rely on comparison as a mechanism, following the position of each of them in relation to the effect of literary text on the receiver. And discover at the end the standard of quality of literary text in both.
Keywords: Reception, ancient Arabic criticism, reception theory, comparison, Text effect, literary quality.
ـــ تمهيد:
ارتبط الحديث عن التلقي في النقد الأدبي في العصر الحديث بمدرسة كونستانس الألمانية، وبالضبط بنظرية التلقي التي انبثقت عنها في ستينيات القرن العشرين، لكن هذه الحقيقة لم تمنع النقاد العرب من السير قدما نحو البحث عن جذور لهذه النظرية في التراث العربي النقدي، وذلك بدافع الأنفة في غالب الأحيان، فراحوا ينقبون في مواقف وآراء النقاد العرب القدامى، وبصفة خاصة في المدونة النقدية التي ترجع إلى القرن الرابع للهجرة، لما فيها من مواقف نقدية تنم عن نضج نقدي مبكر، وذلك في محاولات تأصيلية لنظرية التلقي وسعيا نحو التعريف بجهود القدماء وسبقهم.
فيا ترى، هل يمكن الفصل في هذه القضية، بحيث يمكننا أن ننصف التراث العربي النقدي، ونضبطه بالمصطلحات النقدية التي تعبّر حقيقة عن مكانة التلقي والمتلقي في هذه المرحلة المتقدمة زمنيا مقارنة بما طورته نظرية التلقي في العصر الحديث؟
إنّ المتتبع لحركة النقد العربي القديم، يجدها قد بلغت أوجها في القرن الرابع للهجرة، مسايِرة بذلك الازدهار والتقدم اللذين بلغهما المسلمون في شتى المجالات آنذاك، لذلك سنتخذ من الآمدي أنموذجا للناقد العربي التراثي الذي اهتم بقضية التلقي، وذلك بالتركيز على مواقفه وآرائه تجاه قضايا نقدية برزت في تلك المرحلة، وبصفة خاصة قضية عمود الشعر التي أولاها اهتماما بالغا، لما كانت دافعا أساسا للخصومة بين القدماء والمحدثين، والتي كانت بدورها دافعا للآمادي لتأليف كتابه “الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري”، إذ تبرز في هذا المؤلَف الأخير قضية تلقي الشعر بصفة جلية.
يظهر الاهتمام بالمتلقي في الموازنة التي قام بها الآمدي، لهذا ستكون جهوده في هذا المؤلَّف محور المقارنة التي سنقيمها بينه وبين هانس روبرت ياوس الرائد الأوّل لنظرية التلقي، وسنحاول أن نقارن بين مواقفهما تجاه قضية التلقي، سعيا إلى الوصول في الأخير إلى نتيجة نرصد فيها نقاط التشابه والخلاف بين الناقدين، ومحاولين في الوقت نفسه الفصل في الإشكالية التي عرضنا لها سابقا، إذ سنحاول أن نعمم الحكم على المدونة النقدية التراثية، مجيبين عن سؤال التالي، هل عرف العرب نظرية في التلقي؟
1ـــ المتلقي عند الآمدي وعند ياوس:
يقرّ العديد من النقاد أنّ نظرية التلقي الألمانية هي صاحبة الريادة في تناول موضوع التلقي، إذ جعلت المتلقي عماد العملية النقدية، وهذا ما يفسّر غياب أي «مفهوم لمصطلح التلقي بمفهومه الجمالي في المعاجم العربية ولا في الموسوعات الفرنسية ولا في الأنجلو أمريكية، لكن نجده في المعاجم الألمانية الحديثة المتداولة بشكل واسع»([1])، هذا ما يؤكّد أسبقية المدرسة النقدية الألمانية إلى الخوض في التلقي، إذ جعلته موضوعا نقديا له مفهوم جمالي.
إنّ هذه الريادة في الاهتمام بالتلقي التي نسبها النقاد إلى مدرسة كونستانس الألمانية، لم تمنع من بروز آراء ومواقف نقدية في التراث العربي النقدي تتناول قضية التلقي، والتي اهتمت بالتالي بالمتلقي، بغض النظر عن حجم هذه الأهمية التي أولتها للقضية.
يعتبر الآمدي أحد النقاد التراثيين الذين اهتموا بقضية التلقي، إذ يتفطن المتتبع لمواقفه النقدية إلى أنّه تناول قضية التلقي في ظل مؤلفاته، ولقد أتى حديثه عن المتلقي بصفة خاصة بطريقة غير مباشرة، إذ أدرجه في الموازنة التي أقامها بين شعر أبي تمام والبحتري، والتي احتواها كتابه “الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري”، وهذا الكتاب رائد في مجال الموازنات النقدية.
نلمس اهتمام الآمدي بعنصر المتلقي في أول خطوة له نحو تأليف هذا الكتاب، فلقد كان المتلقي نفسه سببا في تأليفه، إذ إنّ الفكرة خطرت في بال الكاتب انطلاقا من تلك الخصومة التي دارت بين الناس (متلقي الشعر) في القرن الرابع للهجرة حول مذهب كل من أبي تمام والبحتري، وذلك نظرا «لاختلاف أذواقهم الشعرية ومناحيهم الفكرية، فبعضهم كان يستحب في الشعر حلاوة اللفظ وصحة التعبير ووضوح المعنى، بينما كان يستحب آخرون دقة المعاني وغموضها»([2])، في هذه البداية خطوة مهمة أو تلميح صريح إلى مكانة المتلقي، على أساس أنّ هذا الأخير هو العنصر الذي يستقبل العمل الأدبي ويتأثّر بخصوصياته، فهو الذي يحكم في نهاية المطاف على هذا العمل، انطلاقا من تجاربه السابقة وخلفيته المعرفية، التي تكون عاملا أساسا في صنع ذوقه الشعري، إذ يبقى هذا الأخير متحكما في الحكم الذي يصدره المتلقي في حق النص.
كما يتجلى اهتمام الآمدي بالمتلقي في إطار حديثه عن المنهج الذي سيعتمده في الموازنة التي سيقيمها بين أبي تمام والبحتري، إذ يجعل منه العنصر الذي يعود إليه الكلام الأخير في الحكم على تقدم أحدهما على الآخر، بصفته صاحب الذوق، «…فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكنّي أوازن بين قصيدة وقصيدة من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، ثم أقول أيّهما أشعر في تلك القصيدة وفي ذلك المعنى. ثم احكم أنت حينئذ إن شئت على جملة ما لكل واحد منهما»([3])، هنا نجد الآمدي يمنح المتلقي أهمية كبيرة، إذ في البداية ينصّب نفسه متلقيا أوليا متمكّنا، يمكنه أن يُخضع أشعار الشاعرين إلى موازنة منصفة، والخلاص في النهاية إلى حكم فاصل في أيّهما أشعر في القصيدة الواحدة، ثم يمنح المتلقي العادي مجموع تلك الأحكام التي أطلقها على القصائد التي وازن بينها، ليحكم هذا الأخير على الشاعرين في نهاية المطاف، أي يترك له مهمة إصدار الحكم النهائي في أي الشاعرين أشعر.
هكذا يتضح لنا أنّ الآمدي قد وضع نصب عينيه المتلقي في مرحلة متقدمة، ولو كان ذلك بصيغة غير مباشرة، وذلك حين جعله الطرف الذي يحكم على قيمة الأعمال الأدبية، فما استحسنه الناس حسن وما استهجنوه سيء، ليظهر عنده أنّ شعر الشاعر «مقترن بمقدار سيرورته بين الناس، فمن قبل الناس شعره دون شك هو الأفضل»([4])، ما يعني أنّ الشاعر إن أراد الريادة، فما عليه إلا «أن يتفق شعره وذوق المتلقين»([5])، ليبقى هذا المتلقي الذي قصده الآمدي خاضعا على الدوام للذوق الذي اكتسبه وترسّخ عنده، بحيث يحكم على أساسه بالجودة أو بالرداءة على القصائد الشعرية، وهو ما يمكّنه من تفضيل شاعر على آخر.
أما المتلقي عند هانس روبرت ياوس، فإنّه لم يكن كما كان عند الآمدي طرفا مستقبلا ينحصر دوره في مرحلة ما بعد النص، أي يحكم بالجودة أو الرداءة على الأعمال الشعرية انطلاقا من ذوقه الخاص الذي صقلته التجارب السالفة فقط، بل إنّ المتلقي كان عماد نظرية ياوس، إذ لم يعد المتلقي مع هذا الأخير عنصرا سلبيا تناط به مهام الاستقبال فحسب، لكن أصبح وجوده جزءا من وجود العمل الأدبي نفسه، إذ إنّ تحقيق العمل الأدبي مرتبط بتلقيه، فيصبح المعنى على هذا الأساس «نتاج تفاعل نشط بين النص والقارئ وليست موضوعات مختبئة في النصوص»([6])، ما يعني أنّ وجود الأدب في حد ذاته مقترن بعملية تلقيه، أي بوجود المتلقي الذي يحقق هذه الأعمال الأدبية ويبث فيها الروح انطلاقا من تلقيها، أي من تلك العلاقة التي تنشأ بين النص الأدبي والمتلقي في لحظة تاريخية معينة.
لقد جاء تركيز ياوس على المتلقي لأنه العنصر الذي ظلّ منسيا في الدراسات النقدية التي سبقت نظرية التلقي، فحتى وإن تمّ ذكره من قبل إلا أنّ ذلك لم يتجاوز اعتباره عنصرا مستقبلا أو مرسلا إليه، إذ جاء الحديث عنه دائما في إطار الحديث عن المؤلف أو النص. ولقد كان توجّه ياوس نحو بناء نظرية قوامها المتلقي بداية بدافع النقص الذي اعترى النظريات التي سبقته، وذلك حين انتبه إلى أنّ هذه الأخيرة لم تستطع التوصّل إلى «السر الذي يجعل الأثر الأدبي مستمرا وحيا حتى بعد أن تفنى الظروف التاريخية والاجتماعية التي أدت إليه، بل لم تستطع تلك النظريات أن تجد أسبابا مقنعة للتمييز بين النص الأدبي وغيره من حيث القيمة»([7])، ولقد فسّر ياوس عجز النظريات النقدية السابقة عن الإجابة عن هذا السؤال الذي يبقى في نظره غاية في الأهمية، بإهمالها للمتلقي والتركيز إما على المؤلف وعلى الظروف السياقية المحيطة بالنص نفسه في مرحلة أولى، ثم التركيز على النص نفسه في مرحلة ثانية ظنا أنه يحقق اكتفاءه الذاتي انطلاقا من العناصر التي تشكّل بنيته والعلاقات التي تربط بينها.
هكذا إذن سار ياوس نحو التأسيس لنظرية نقدية قوامها المتلقي، فجعل عمل النقاد مرتبط برصد تلك التأويلات التي حظيت بها الأعمال الأدبية على مرّ الزمن، ليؤسس لتاريخ أدبي جديد مبني على أساس تلك القراءات التي تصدر من المتلقين، متجاوزا بذلك النزعة الوضعية التي طغت على النظرية النقدية في مرحلة الحداثة، إذ كانت هذه الأخيرة تنظر إلى «الأعمال الأدبية كما لو كانت هذه الأعمال نتائج لأسباب يمكن التأكّد من صحتها ويمكن تحديدها»([8])، في مسعى حثيث منها إلى إخضاع الأدب لذلك الحزم الذي يرتبط بالعلوم الوضعية، متناسية أنّ الأدب لا يخضع لأي نظام منطقي.
لقد ربط ياوس المتلقي بعنصر التاريخ، فكانت نظريته مبنية على أساس هذين العنصرين، فجعل تحقيق الأعمال الأدبية المنوط بالمتلقي مرتبط هو الآخر بعنصر الزمن، لذلك سعى إلى التأسيس لتأويل قائم على كتابة تاريخ أدبي للتلقيات التي حظيت بها الأعمال الأدبية على مرّ العصور، متجاوزا بذلك النظر إلى التاريخ الأدبي على أنه تاريخ للمؤلفين أو تاريخا للمؤلفات كما كان سائدا من قبل.
هكذا يتضح لنا أنّ المتلقي اكتسى أهمية بالغة عند كل من الآمدي وياوس ، إلا أن نظرة الآمدي إلى المتلقي بقيت مقتصرة على أنه المرسل إليه الذي يحكم على جودة الأعمال الأدبية من عدمها انطلاقا من ذوقه الذي اكتسبه من تمرّسه، في حين كان المتلقي عند ياوس قواما لنظريته، وذلك حين جعله العامل المحقق للأعمال الأدبية، فلا مجال عنده للحديث عن الأدب في ظل غياب المتلقي، مؤسسا بذلك لنظرية نقدية معاصرة تعيد الاعتبار للمتلقي، على أساس أنّ هذا الأخير هو مركز العملية النقدية.
2 ـــ معيار الجودة الأدبية عند الآمدي وعند ياوس:
إنّ الحديث عن الجودة الأدبية يعني التطرق إلى تلك المعايير التي يعتمدها الناقد لتصنيف الأعمال الأدبية في خانة الجيد أو الرديء، وهذه المعايير هي التي تخوّل الناقد عقد موازنات أو مقارنات من أجل المفاضلة بين الأعمال الأدبية أو الأدباء في حد ذاتهم.
إنّ الرغبة في استيضاح معايير الجودة الأدبية عند الآمدي، يستدعى منّا التمعّن في الموازنة التي أقامها بين شعر أبي تمام وشعر البحتري، أو على الأقل النظر في ذلك المنهج الذي اعتمده في هذه الموازنة، لنكتشف على أي أساس قدّم هذه القصيدة على تلك وعلى أي أساس قدّم هذا الشاعر على ذاك، إذ حينها يمكننا القول إننا قد أدركنا منطلقات الآمدي في نقده.
ارتبط حكم الآمدي على جودة الأعمال الأدبية من عدمها بالمتلقي، وهي نقطة أخرى تؤكّد المكانة التي يحظى بها المتلقي عنده، على أساس أنّ هذا الأخير هو الذي سيصدر الحكم النقدي، إلا أنّ الآمدي اشترط أن تتوفر في هذا المتلقي مجموعة من الآليات التي ستخوّله الحكم بدون أن تزلّ قدماه، وهذا ما جعل الآمدي يقف في الموازنة وقفة الناقد البصير الذي يمنح المتلقي مجموع هذه الأدوات الأساسية التي تمكّنه من إصدار الحكم النهائي، بحيث يقدّم أحد الشاعرين على الآخر، إذ نراه «يترك الحكم النهائي في التفضيل بين الشاعرين للقارئ العادي، بعد أن يسلّمه أدوات المفاضلة والقياس، فهو يكتفي بالحكم على كل غرض من الأغراض الشعرية منفردا، ليترك القارئ أمام عملية شبه إحصائية لأحكامه المفردة لقضية محسومة النتائج بالنسبة له»([9])، وهذا الإجراء الذي اعتمده يجعل المتلقي العادي الذي تُرك له حق إصدار الحكم النهائي، يصل إلى النتيجة التي أرادها الآمدي نفسه، ما يعني أنّ هذا الأخير حكم في القضية وأنهى الجدل فيها، إلا أنّه لم يشأ أن يظهر بمظهر الناقد المتسلط الذي يجبر المتلقي العادي على تبني أفكاره، لذلك كان يرشده إلى تبني الحكم الذي تبناه بطريقة غير مباشرة.
لم يستطع الآمدي ـــ كونه متلق لشعر الطائيين ـــ أن يلتزم بذلك المنهج الذي سطّره لنفسه قبل أن يبدأ في الموازنة، حين ادعى أنّه سينصف القول في الشاعرين، وأنّه سيكون محايدا في عقد هذه الموازنة، لأنه في الحقيقة كان «طرفا من أطراف المعركة بين المحافظين والمجددين، بل كان عالما يوازن بين المناهج وشروط الإبداع وطبائع النصوص حسنا وجودة في ضوء مذاهب الشعراء»([10])، ولهذا السبب بالضبط «لم يرض الآمدي بموقف الوسط والحياد في موضع المساواة، بل سارع إلى نفي هذا الموقف، وأماط اللثام عن حججه التي تكشف عن خيوط الفصل التي تمنع المساواة وتلغيها»([11]).
إنّ الآمدي الذي ادعى بداية أنّه سيقف موقفا وسطا بين أبي تمام والبحتري وأنّه لن ينزاح إلى أحد طرفي النزاع، لم يستطع أن يبقى على هذا الحياد، إذ إنّه انزاح لصالح البحتري على حساب أبي تمام، وإن لم يصرّح بذلك بصيغة مباشرة. من هنا نتساءل عن السبب الذي دفع بالآمدي إلى تفضيل البحتري، وذلك رغبة في اكتشاف معايير الجودة التي تحققت في نظره في شعر البحتري، في حين غابت أو كانت أقل حضورا في شعر أبي تمام.
لقد كان الآمدي عارفا حق المعرفة بالشعر في عصره، لذلك كان تحيّزه للبحتري مبنيا على أسباب وعوامل اقتنع بها أولا قبل أن يسعى إلى إقناع المتلقي العادي بها، فنجده أحاط هذا الأخير بكل الحجج التي ستؤدي به في النهاية إلى تفضيل البحتري على حساب أبي تمام.
تتلمذ الآمدي على أشعار العرب من الجاهليين ومن تلاهم حتى صار يمتلك ذوقا صقلته هذه التجارب، لذلك فضّل البحتري، لِما رأى في طريقة نظمه للشعر من إتباع لنموذج القصيدة القديمة والموروثة، في حين أخّر أبا تمام في الترتيب نظرا لنزعة التجديد التي ميّزت شعره، إذ انزاح عن أساليب الشعراء القدامى في النظم، لذلك كان حكم الآمدي «ينبع من مدى التطابق بين أفق انتظار القارئ وأفق النص، بين المنتظر والمكتوب، بين جمالية النص، وما درج عليه الأسلاف من الشعراء السابقين»([12]).
إنّ أفق انتظار الآمدي ــــ الذي كان عاملا أساسا في الخصومة وتأليفها ـــ مبني على أساس الخصائص التي وسمت شعر الأسلاف، وهذه الخصائص تجتمع في العناصر السبعة التي تشكّل عمود الشعر، لهذا يصبح عمود الشعر هو الذي شكّل أفق انتظار الآمدي وأنصار لواء المحافظة في القرن الرابع للهجرة، إذ إنّ عمود الشعر أصبح في هذه المرحلة «سنة بين المبدعين والمتلقين، يدخل بها المبدع وعي القارئ من بوابة التوقع، أو النهج السابق الذي دخل إلى الذاكرة الإبداعية النقدية وأصبح قالبا ومعيارا ثابتا، ويلج بها القارئ عالم النص من البوابة ذاتها»([13])، وهذا ما يجعل المتلقي ينتظر أشعارا تتماشى مع ما يتطابق مع سابقاتها والتي تحتكم إلى معيار عمود الشعر بصفته مجموعة من الخصائص التي تؤطر شعر السلف من الجاهلية.
انتبه الآمدي إلى تطابق خصائص شعر البحتري مع خصائص شعر القدماء، أي أنه احترم عمود الشعر ولم يخرج عنه، لذلك نراه فضّله على أبي تمام، كما انتبه إلى أنّ هذا الأخير في العديد من قصائده الشعرية خرج عن عمود الشعر، أو بالأحرى خالف القدماء في النظم.
يمكن القول على هذا الأساس، إنّ الخصومة التي قامت حول مذهب أبي تمام ومذهب البحتري، كانت محتكمة إلى مدى التزام كل واحد منهما بمنهج السلف في نظم الشعر، فكان «معيار الخصومة بين الطائيين طريقة الأوائل، أو ما يسمى بعمود الشعر، فقد قدّم النقاد البحتري لأنّه ما فارق عمود الشعر المعروف، ورفضوا أبا تمام لأنّه عدل عن مذاهب العرب المألوفة»([14])، لذلك نرى الآمدي ومن وافقه من المتلقين استحبوا من الشعر ما يسير على نهج المألوف في حين استهجنوا النظم على غير منوال القدماء.
إلاّ أنّ اتخاذ الآمدي عمود الشعر معيارا للمفاضلة بين شعر الطائيين بصفة خاصة، ومعيارا للمفاضلة بين الشعراء بصفة عامة، كان عاملا لجمود الشعر العربي، إذ منعه من الاصطباغ بصبغات جديدة كان يمكن أن تنعكس عليه بالإيجاب.
لقد تحدث الآمدي إذن عما سيسميه ياوس لاحقا “أفق الانتظار”، لكن دون أن يضبط مجهوده بهذا المصطلح النقدي، ولقد رأينا كيف كان له الدور الحاسم في الحكم على جودة الأعمال الأدبية والمفاضلة بين الشعراء، كما سيكون أفق الانتظار هو الآخر عند ياوس العامل الحاسم في تحديد درجة الانزياح الجمالي أو “المسافة الجمالية” التي جعلها ياوس تعبّر عن الجودة الأدبية.
يقصد ياوس بــ “أفق الانتظار” مجموع الاستعدادات التي يتكئ عليها المتلقي لاستقبال العمل الأدبي الجديد، ذلك أنّ «كل عمل يذكّر القارئ بأعمال أخرى سبق له وأن قرأها ويكيّف استجابته العاطفية له ويخلق منذ البداية توقعا ما…وهو توقع يمكن ـــ كلما تقدمت القراءة ـــ أن يمتد أو يعدل أو يوجه وجهة أخرى أو يوقف بالسخرية، بحسب قواعد عمل كرستها شعرية الأجناس والأساليب الصريحة أو الضمنية»([15])، ما يعني أنّ لقاء أفق النص مع أفق المتلقي مفتوح على احتمالات ثلاث، أما الاحتمال الأول فهو أن يتطابق أفق النص مع أفق توقع المتلقي، وفي هذه الحالة يكون فيها النص الجديد موافقا لتلك النصوص التي تعوّد عليها المتلقي، في حين يتمثّل الاحتمال الثاني في حدوث صدام بين أفق النص وأفق توقع المتلقي، ويحدث هذا عندما يحمل النص الجديد بذور الانزياح على ما ألفه المتلقي، وهذا الاحتمال الثاني يمكن أن يولّد احتمالا ثالثا، فيصبح النص الأدبي الجديد الذي أحدث خيبة عند المتلقي مع مرور الوقت أفقا للتوقع عند المتلقي.
عندما يتحدث ياوس عن الجودة الأدبية يصطلح عليها بـمصطلح “المسافة الجمالية”، ويربطها بطريقة مباشرة بمصطلحه المركزي الذي يؤطر نظريته “أفق الانتظار”، ويقصد بالمسافة الجمالية «الفرق بين أفق التوقعات معطى ومظهر العمل الأدبي الجديد والذي قد يؤدي تلقيه إلى تغيّر في الأفق من خلال تجاهل الخبرات المألوفة أو من خلال رفع الخبرات الحديثة إلى مستوى الوعي»([16])، يظهر أنّ المسافة الجمالية عند ياوس هي كما عند الآمدي مرتبطة برد فعل الجمهور المتلقي تجاه العمل الأدبي الجديد، إلا أنّ الآمدي لم يضبط القضية بمصطلح نقدي كما فعل ياوس، بل اكتفى بالحديث عن الموضوع دون أن يسميه.
تتمثّل نقطة الخلاف بين الآمدي وياوس أساسا في المعيار الذي خصّصه كل واحد منهما لقياس هذه المسافة الجمالية، أما الآمدي فإنّه يصرّ على أنّ جودة العمل الأدبي مقترنة بمدى قدرة الشاعر على الاقتداء بمن سبقه من الأسلاف والنسج على منوالهم، ما يعني أنّ أفق النص ـــ في نظره ـــ يجب أن يتطابق في كل مرة مع أفق توقع المتلقي إذا ما أراد الشاعر أن يحقق النجاح ويسم عمله بالجودة، وهذا ما دفعه إلى التعصب للبحتري في الموازنة، وذلك لما رأى أنّ شعر هذا الأخير منسجم مع ما ألفته العرب من الشعر، في حين أخّر أبا تمام لأنّ أشعاره تخالف أسلوب السلف في النظم.
يقف ياوس ندا لموقف الآمدي، وذلك حين يقرّ أنّ المسافة الجمالية بالعكس مرتبطة بمدى انزياح العمل الأدبي الجديد عن الأعمال الأدبية السابقة، ما يعني أنّ المسافة الجمالية تتسع كلّما سار العمل الجديد نحو كسر أفق توقع المتلقي، في حين تتقلص هذه المسافة كلما سعى العمل الأدبي الجديد إلى مجاراة الأعمال الأدبية المألوفة، ففي هذه الحالة الأخيرة يصبح العمل الأدبي «أقرب من مجال كتب الطبخ أو التسلية منه إلى مجال كتب فن الأدب»([17])، وهنا بالضبط يظهر تشجيع ياوس على التجديد في الأدب على خلاف الآمدي الذي سعى بطريقة غير مباشرة إلى كبح طموح السير على سبل جديدة.
ـــ خاتمة:
يمكننا القول في الأخير من خلال المقارنة التي قدمناها، أنّ نظرية التلقي الألمانية هي أوّل نظرية نقدية أعادت الاعتبار للمتلقي وقامت على أساسه، بحيث كان هذا الأخير مركز اهتمامها، لكن هذا لم يمنع من وجود إرهاصات متقدمة في التراث العربي النقدي تحدث فيها أصحابها عن المتلقي، لكنّها لا ترقى إلى مستوى النظرية النقدية، بل هي عبارة عن إرهاصات وأفكار قيّمة تستحق الدراسة والبحث، ولقد كان الآمدي من بين النقاد القدامى الذين ظهرت عندهم مثل هذه الأفكار الرائدة التي تتلامس مع تلك التي طورتها نظرية التلقي.
لقد أفضت المقارنة بين الآمدي وياوس ــــ كون الأوّل ناقدا تراثيا رائدا له فضل السبق في الحديث عن قضايا نقدية مرتبطة بتلك التي ظهرت عند نظرية التلقي، وكون الثاني رائدا لنظرية التلقي ـــ إلى أنّ الاثنين ركّزا على المتلقي، لكن هذا الأخير بقي عند الآمدي مجرد مرسل إليه تنحصر مهمته في الحكم بالجودة أو الرداءة على الأعمال الأدبية، في حين كان المتلقي عند ياوس أساس العملية النقدية ومركزا لنظريته، وذلك حين جعل العملية التأويلية مبنية أساسا على تتبع تاريخ تلقيات الأعمال الأدبية والنظر في ردود فعل المتلقي تجاهها.
أما القضية الثانية التي يظهر أنّ كل من الآمدي وياوس تحدثا فيها واختلفا في الآن نفسه في تقديرها، فإنّها تتعلق بالجودة الأدبية ومعيار الحكم على الأعمال الأدبية، ففي الوقت الذي جعل فيه الآمدي النسج على منوال القدماء وإتباع طريقتهم في نظم الشعر سبيلا إلى تحقيق الجودة الأدبية، ما يعني أنّ جودة الأدب عنده مرتبطة بمدى تطابق أفق النص مع أفق توقع المتلقي، إذ على هذا الأساس فضّل البحتري على حساب أبي تمام، ذلك أنّ الأوّل لم يخرج عن عمود الشعر أي واكب السلف في النظم، في حين خرج الثاني عن عمود الشعر، كون هذا الأخير هو أفق توقع الآمدي والمتلقي عامة في القرن الرابع للهجرة، ذلك لأنّ عناصره تجمل ما لشعر العرب من أساليب وميزات منذ نشأته من الجاهلية. يرى ياوس غير هذا الذي ذهب إليه الآمدي، فيجعل الجودة الأدبية التي اصطلح عليها بــ “المسافة الجمالية” مقترنة بمدى قدرة النص الجديد على تخييب أفق توقع المتلقي، في حين تتقلص هذه المسافة كلّما تطابق أفق توقع المتلقي مع أفق النص، وتتجلى هذه الحالة عندما لا يحمل النص للمتلقي أي جديد مقارنة بما ألفه في الأعمال الأدبية السابقة.
ـــ مكتبة البحث:
المراجع بالعربية:
1ـــ أحمد بوحسن: نظرية التلقي في النقد العربي الحديث، ضمن كتاب نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط1، الرباط، المغرب، 1993.
2ـــ سامي إسماعيل: جماليات التلقي دراسة في نظرية التلقي عند هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2002.
3ــ عبد الكريم محمد حسين: عمود الشعر مواقعه ووظائفه وأبوابه، دار النمير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2003.
4ـــ عبد الناصر حسن محمد: نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، مصر، ط1، 1999.
5ـــ عثمان موافى: الخصومة بين القدماء والمحدثين في النقد العربي القديم تاريخ وقضايا، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، ط1، 2000.
6ـــ أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط4، 1992.
7ـــ مراد حسن فطوم: التلقي في النقد العربي في القرن الرابع هجري، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، سورية، ط1، 2013، ص91
8ـــ نادر كاظم: المقامات والتلقي بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمذاني في النقد العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2003.
9ـــ وحيد صبحي كبابة: الخصومة بين الطائيين وعمود الشعر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سورية، ط1، 1997.
المراجع المترجمة:
10ـــ روبرت هولب: نظرية التلقي مقدمة نقدية، ترجمة عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، مصر، ط1، 2000.
11ـــ هانس روبريت ياوس: جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة وتقديم رشيد بن حدو، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ط1، 2016.
([1]) : أحمد بوحسن: نظرية التلقي في النقد العربي الحديث، ضمن كتاب نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ط1، الرباط، المغرب، 1993، ص14.
([2]) : عثمان موافى: الخصومة بين القدماء والمحدثين في النقد العربي القديم تاريخ وقضايا، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، مصر، ط1، 2000، ص71.
([3]) : أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط4، 19992، ص06.
([4]) : وحيد صبحي كبابة: الخصومة بين الطائيين وعمود الشعر، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سورية، ط1، 1997، ص24.
([6]) : نادر كاظم: المقامات والتلقي بحث في أنماط التلقي لمقامات الهمذاني في النقد العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2003، ص24.
([7]) : عبد الناصر حسن محمد: نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، مصر، ط1، 1999، ص63.
([8]) : روبرت هولب: نظرية التلقي مقدمة نقدية، ترجمة عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، مصر، ط1، 2000، ص100.
([9]) : مراد حسن فطوم: التلقي في النقد العربي في القرن الرابع هجري، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، سورية، ط1، 2013، ص91.
([10]) : عبد الكريم محمد حسين: عمود الشعر مواقعه ووظائفه وأبوابه، دار النمير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2003، ص76.
([12]) : مراد حسن فطوم: التلقي في النقد العربي في القرن الرابع هجري، ص100.
([14]) : وحيد صبحي كبابة: الخصومة بين الطائييين وعمود الشعر، ص51.
([15]) : هانس روبريت ياوس: جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة وتقديم رشيد بن حدو، منشورات ضفاف، بيروت، لبنان، ط1، 2016، ص56.
([16]) : سامي إسماعيل: جماليات التلقي دراسة في نظرية التلقي عند هانز روبرت ياوس وفولفجانج إيزر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2002، ص95.
([17]) : هانس روبريت ياوس: جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، ترجمة وتقديم رشيد بن حدو، ص59.