
بنية المجاز المرسل والعقلي ووظائفهما الفنية في شعر العَزَازيِّ
Structure of transmitted and mental metaphor and their technical functions in Azzazi poetry.
رحاب الحسن. طالبة ماجستير في جامعة البعث، قسم النقد والبلاغة. سوريا
Rihab Alhassan- Master student at Al-Baath University- Department of Criticism and eloquence- Syria.
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 58 الصفحة 111 .
Abstract:
This research has touched on the study of an obscure poet despite the abundance of his poems.
The subject was chosen because the poet is immersed, and to study the poetry of this poet rhetorically, and to demonstrate his artistic ability to produce rhetorical images, especially (Structure of transmitted and mental metaphor and their technical functions) in his poetry, through applicating analytical and descriptive method that uses rhetoric and critic efforts in their books in studying (structure of metaphor) and subjects of novel critic studying.
And poet employed metaphor by using its kinds and mechanisms to enforce expressional abilities in his poetry that shown variety of technical functions which raised by metaphorical images from overrunning sensory analog between beings and connecting it together with feeling and poet experience and achieving psychic uniformity.
Azzazi’s metaphor images was created through displacement from standard, as it is two axial transformation process: semantic substitution and syntactic synthesis which contribute in achieving technical and poetical functions.
Keywords:
Technical structure- transmitting metaphor- mental metaphor- technical function- metaphor rhetoric- transformation and substitution.
الملخص:
تطرَّق هذا البحث لدراسة شاعر مغمور رغم غزارة أشعاره.
وقد تمَّ اختيار هذا الموضوع لكون الشاعر مغموراً، ولدراسة شعرهِ من الناحية البلاغية، وبيان مقدرته الفنية في إنتاج الصور لا سيَّما (بنية المجاز المرسل والعقلي ووظائفهما) في شعرهِ؛ من خلال تطبيق المنهج الوصفي التحليلي، الذي يستفيد من جهود البلاغيين والنقاد في كتبهم في دراسة “بنية المجاز” ومن معطيات الدرس النقدي الحديث.
وقد وظَّف الشاعر المجاز بأنواعه وآلياته لتقوية القدرات التعبيرية في شعرهِ ممَّا أظهر تنوع الوظائف الفنية، التي نهضت بها الصور المجازية من تجاوز التشابه الحسِّي بين الموجودات، وربطها بالمشاعر وبتجربة الشاعر، وتحقيق الوحدة النفسية لديه.
وتشكَّلت صور المجاز لدى العزازي من خلال الانزياح عن المعيار، فهي عملية تحويل، وتغيير على المحورين: الاستبدالي الدلالي، والمحور التأليفي التركيبي اللذين يساهمان في تحقيق الوظيفة الشعرية والفنية.
الكلمات المفتاحية:
البنية الفنية- المجاز المرسل- المجاز العقلي- الوظيفة الفنية- بلاغة المجاز- التحويل والتغيير.
توطئة:
قد تعودنا من كثير من الدارسين والنقاد اتهامهم للشعر في عصر الدول المتتابعة بالبعد عن الأصالة، وضعف روح الابتكار في المعاني والصور، وهذ ما ألصق بشعر هذه المرحلة صفة الضعف والركاكة، ولكن الإنصاف يقتضي ألَّا نأخذ بهذا التعميم، الذي فيه شيء من الظلم للشعراء فهم ليسوا سواءً ولا يجوز عليهم هنا الحكم البعيد عن الموضوعية، والنظرة المنصفة.
مقدمة:
أ- لمحة عن العَزَازيِّ:
هو الإمام العالم الفاضل شهاب الدِّين أحمد بن الخطيب عبد الملك بن عبد المنعم بن عبد العزيز بن جامع أبو العباس شهاب الدِّين العزازي.
والعَزَازَيُّ نسبة إلى بلدة اعزاز الواقعة غرب حلب في سوريا، وقد وُلِدَ سنة 633ه، وتوفي سنة 710ه عن عمر يناهز ستاً وسبعين سنةً، رحمه الله وغفر له.
وقد ترك العزازيُّ ديواناً مؤلفاً من قسمين الأول شعره، والثاني موشحاته([1])، الذي فُقد أغلبه.
وحقق هذا الديوان، وقدَّم له: د. رضا رجب، رحمه الله.
وقد عاش هذا الشاعر في العصر المملوكي.
ب- عمله وتنقلاته: كان العزازي تاجراً يبيع القماش بقيسارية جهاركس بالقاهرة([2]). وقد سمي البزاز نسبة لهذه التجارة، وكانت مصدر رزقه إلى جانب العطايا التي تجزل له مكافأة على شعره، وقد قدم من الشام إلى مصر، واتَّخذ القاهرة وطناً له، ولأعماله([3])، ويستشف من شعره تنقله الدائم بين مصر والشام وإقامته في (حماة) في سورية.
ج- ثقافته: تبين بعد دراسة شعر العزازي اطِّلاعه على التاريخ العربي، وأعلامه، وعلى هذا فإنَّ محصوله الشعري كان نتاج شخصي في تحصيل العلم والثقافة([4]).
وإنَّ الكثير من المصادر التي ترجمت للعزازي أظهرت بعضاً من ملامح شخصيته، فقد كان شاعراً ظريفاً، وتتصف شخصيته بالرقة واللطف([5]).
د- وفاته: توفي العزازي بالقاهرة يوم الأحد في التاسع والعشرين من محرم سنة (710ه) وعمرهُ يناهز ستاً وسبعين سنةً، ودُفن بسفح المقطم([6]).
و- شعره: إنَّ الكثير من الشعراء والأدباء الذين عايشوا العزازي أشادوا به وبشعره، وسيتضح لنا من خلال دراسة شعرهِ، أنَّه شاعرٌ مطبوع، وهذا ما أتى على ذكره الصفدي قائلاً: “كان مطبوعاً ظريفاً جيد النظم في الشعر والموشحات”([7]).
– إضاءة على عصر الشاعر:
إنَّ الاضطرابات والتقلبات التي عاشها العصر المملوكي من المظاهر السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، لم تكن حائلاً دون الاهتمام بالحركة العلمية والفكرية عموماً، وهذا الاهتمام امتد من العصر الأيوبي إلى العصر المملوكي، فقد تنافس المماليك في إنشاء المدارس والمكتبات، وبناء المساجد، وتشجيع أهل العلم؛ من خلال إجزال العطايا للكتَّاب والمؤلفين([8])، وكان لهذا الاهتمام بالحركة الفكرية والعلمية انعكاساته في تكوين رؤية العزازي التراثية والثقافية، وهذا ما يظهر في شعره، الذي كان زاخراً بالتراث على المستويين المضموني والفني.
وعلى هذا: فإنَّ العصر المملوكي كان يعاني الانقسامات والاضطرابات داخلياً، وخارجياً، وتعددت شرائح المجتمع، وكانت الحالة الاقتصادية مستقرة، يرافق ذلك الازدهار العلمي والفكري آنذاك.
القسم الأول: بنية المجاز المرسل وعلاقاته الفنية:
تمهيد:
في هذا القسم سندرس المجاز المرسل، الذي يُعرَّف بأنَّهُ “الكلمة المستعملة قصداً في غير معناها الأصلي، لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي”([9]).
وقد تكون العلاقة في المجاز المرسل: غائية، وتنقسم إلى السببية والمسببية، والكمِّية وتنقسم إلى الكلِّية والجزئية، والزمانية تتشكل من: اعتبار ما كان، واعتبار ما سيكون، والمكانية تتشكل من الحالية والمحلِّية، إضافة إلى الآلية، والمجاورة.
وإنَّ العلاقات الفنية السابقة سنقوم بتطبيقها تحليلياً على شعر العزازي، كما سيتضح لاحقاً، وتبيان قيمتها الفنية، ووظائفها في شعرهِ؛ إذْ إنَّ المجاز المرسل أسلوب من أساليب العربية في التعبير الفني عن المعنى، وهو يستند على جملةٍ من “العلاقات العقلية، التي ترتد إلى المنطق الطبيعي المادي”([10]).
1- العلاقة الغائية: تعني “إطلاق اسم السبب على المسبب، وبالعكس”([11])، فهي تتشكل من علاقتين هما: السببية، والمسببية، وقد كثر العزازي على توظيفهما في شعره، وخاصة السببية، وهذا مردُّهُ إلى طبيعة الوظيفة التي تحددها هذه العلاقة، وهي الترغيب، والمدح، والإشادة بمناقب المُناط بهم المدح ومكارمهم، وإنَّ كثيراً من صور العلاقة السببية قد وردت في شعر المدح لدى العزازي؛ يقول مادحاً الرسول صلى الله عليه وسلم([12]):
وشادَ رُكْناً أَثيلاً مِنْ نبوَّتِهِ | والكفرُ واهٍ وعرشُ الشِّركِ مَثْلولُ([13]). |
لقد تقصَّد الشاعر تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي كان سبباً في بناء عماد الدين، والنهوض بالأمة الإسلامية؛ إذ إنَّهُ ذكر السبب، وأراد المسبب عنه، وهو النهوض بالرسالة الإسلامية، وفنيتها تبرز من خلال مقارعة النبي صلى الله عليه وسلم المشركين، وهدم صروح الكفر والإشراك بوحدانية الله. وجاء المعنى مبطناً بالعلاقة السببية ليتوصل المتلقي إلى المسبب المراد بعد التفكير والتأمل.
إنَّ بعض البلاغيين يرى، أنَّ المجاز المرسل هو “ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه، وما وضع له ملابسة ومناسبة غير المشابهة، كاليد إذا استُعملت في النعمة، وبواسطتها تصل إلى المقصود بها، ويجب أن يكون في الكلام دلالة على ربِّ تلك النعمة، ومصدرها بنسبتها إليهِ”([14]).
ولقد تكررت في شعر العزازي الكثير من علاقات المجاز المستند إلى السببية([15])، وخاصة استخدام لفظ “اليد”، أو ما في معناها سبباً للعطايا، أو الإحسان، يقول الشاعر([16]):
فتىً لهُ راحةٌ كمْ حقَّقتْ أملاً | واستنقذتْ مِنْ يدِ الإملاقِ صُعلوكَا. |
إنَّ الفتى بكفه الخيِّرة قد أعادت الأمل لكثير من الناس الفقراء، كما أنقذت الكثير من الشباب من داء التصعلك والفقر، فذكر السبب، وأراد المسبب إنقاذ الناس من الفقر، والبؤس، والتشرد. وهذا تأتى بعد إضاءة الدلالات المتنوعة للفظ “اليد” في ذهن المتلقي، ليختار الدلالة المعنوية التي تشير إلى المعنى الموجود في البيت السابق.
قد أتى العزازي على استخدام المجاز بعلاقتهِ المسببية، والتي تعني (أن نذكر المسبب ونريد السبب)، ومن صوره قوله([17]):
وترنَّحتْ أعطافُنا حتَّى لقدْ | خِلْنا بأنَّا قدْ شربْنا المُسكِرَا. |
لم يُصرِّح الشاعر، بأنَّهم قد شربوا الخمر؛ لكنَّهُ أعطى النتيجة أي المسبب (المسكرا) أي الناتج عن شرب الخمر، وما يحدثه من تخدير لأطراف الجسد، فبدؤوا يتحركون من دون وعيٍ مطلق، فاستدل من خلال المسبب على السبب، وهذه الأمور من وظائف المجاز اللغوي؛ الذي يُوظِّف في الشعر للنقل، أو التغيير، وقد استخدمه الشاعر لتقوية القدرات التعبيرية للصورة المجازية في ذهن المتلقي.
2- العلاقة الكمية: وتعني هذه العلاقة (إطلاق اسم الكل على الجزء، وبالعكس)([18]).
هذه العلاقة كسابقتها تتشكل من علاقتين هما: الكليَّة والجزئية.
وسأبدأ بالأكثر استخداماً في شعر العزازي، وهي الجزئية، وتكون علاقة المجاز المرسل جزئية إذا كان اللفظ المستعمل جزءاً من المعنى المراد؛ أي أن يذكر الشاعر الجزء، ويريد الكل؛ وذلك كقول الشاعر([19]):
ثُمَّ أقامَ الأذانَ في بِيَعٍ | دُقَّتْ نَواقيسُهم بهَا زَمَنَا. |
أراد الشاعر إظهار قدرة ممدوحهِ على نشر الدِّين الإسلامي، من خلال الحض على الصلاة، وإزالة مظاهر الشرك؛ وذلك بانحرافهِ عن اللفظ الأصلي بلفظ هو جزء منه؛ إذْ إنَّه أطلق لفظ (الأذان) وهو الدعوة إلى الصلاة؛ أي جزء من المعنى الكلِّي. وفي هذا النظم المجازي يتابع العزازي إظهار ثقافته الإسلامية في وصف المعارك راسماً صورةً لشجاعة ممدوحيه، يقول([20]):
ما أصبحتْ منهُ الصَّوارمُ رُكَّعاً | إلَّا رأيتَ لَهَا الجماجمَ سُجَّدا. |
القيمة الحقيقية لهذه الصورة المجازية هي في مستواها الفني، الذي أدخل الأريحية في نفس المتلقي من خلال الصياغة، وما تحمله من “ارتباط عضوي بين المعاني الحقيقية، أو النحوية، وبين المعاني المجازية”([21])، فقد استخدم أسلوب الشرط الجازم من خلال التزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معاً؛ إذ إنَّ صورة انحناء السيوف، أو ركوعها أمام الممدوح؛ أظهرت قدرة الممدوح وجيشه على التعامل مع السيوف بسلاسةٍ وإقدام إذا ما انحنت راكعةً للقتال.
وعندما يتذكر الشاعر بلاده، ويحنُّ إليها لا يقتصر على وصف المكان بل يتعداه إلى وصف مشاعره الوجدانية الكامنة في حنايا روحه، فعبَّر بالجزء، وهو (القلب) عن الجسد كلِّهِ، ليبرهن للمتلقي عن حبِّهِ الصادق للشَّام، فالقلبُ هو جوهر الجسد وآلته وهو شريان الحياة.
وتقدِّم الصورة المجازية نزعة إنسانية تجعل المتلقي متأثراً مشاهداً للقصيدة، يقول([22]):
و “بالفُسْطاطِ” لي جسَدٌ مُقيمٌ | وقَلْبي في “حماةِ الشَّامِ” عانِ([23]). |
وأمَّا العلاقة المقابلة للجزئية، فهي الكليَّة، وقد أُريدَ منها المبالغة وخلق التعبيرات الرشيقة ذات الدلالات المتعددة، التي تُحدثُ تمويهاً مثيراً للدهشة، والتساؤل، والاستغراب لدى المتلقي؛ وذلك بأن يذكر الشاعر الكل، ويريد الجزء؛ ممَّا يشعر بلذَّةِ الكشف، ومتعة المواجهة لتمويهات المبدع، أو الشاعر من خلال لغته المبنية على المجاز بكلِّ ضروبه وعلاقاتهِ.
وقد تنتقل العبارة المجازية من معناها الحرفي إلى معنى مستلزم، فالجرجاني يرى “أنَّ العبارة في دلالتها الاستلزامية أبلغ من أن تجري على الظاهر…”([24])، وهذا ما يُعرف في الجانب التداولي بالقوة الإنجازية الحرفية، والقوة الإنجازية المستلزمة التي تُفهم من المعنى السياقي للموقف الشعوري أو التجربة التي يتعرض الشاعر لها، وفي ذلك يقول العزازي([25]):
زرْتَ “مصراً” فأشرقتْ بكَ “مِصْرٌ” | واكتستْ رونقَ الزَّمانِ الخصيبِ. |
ذكر الشاعر، أنَّ ممدوحه قد زار مصر، بصورة كلِّية، وأطلق لفظ “مصر” ككل، وقصد الجزء منها، وهو العاصمة، فانتقلت الدلالة من معناها الحرفي إلى معنى مستلزم، للمتلقي يستدلُّ عليهِ بعد التأويل وإزالة حواجز التمويه والانحراف عن المعنى الأصلي من خلال لفظ المجاز (مصر).
هذا وإنَّ المجاز يتشكل من ألغاز، التي هي مجازات بصور متعددة تحتاج إلى التأويل، والكشف، والتفسير، وهذه الألغاز مرتبطة بالمعنى فالمجازات ما هي إلَّا ألغاز مقنعة، وبهذا نعرف مقدار نجاح نقل المعنى، وينبغي أن يكون المجاز منتزعاً من الأمور الجميلة ([26]).
3- العلاقة المكانية: وتعني هذه العلاقة (إطلاق اسم المحل على الحال، وبالعكس)([27])، وأُريدَ من جميع صورها المبالغة في التعبير، وهذا ما يشكل الطاقة المولِّدة في العمل الإبداعي، وتجعل من أسلوب الشاعر أكثر إقناعاً للمتلقين، فكلما تضمنت العبارة معاني، ازدادت روعة، مثل أن تكون الألفاظ مجازية، وهي من صيغ المبالغة الأشد إمتاعاً للمتلقي من خلال التغييرات التي تحدثها ([28]).
وهذه العلاقة تتشكل من علاقتين هما: المحلية، والحالية، وأول صور هذه العلاقة هي المحلية، التي تتكون بإطلاق لفظ المحل، وإرادة الحال، أو شيئاً من موجوداته.
وقد كان العزازي يلجأ بصورة دائمة، ومكررة في شعره إلى وصف الخمرة، والإغراق في تفاصيلها، كعادة سابقيه من الشعراء بصورة غير مباشرة اتكأ فيها على المجاز المرسل بعلاقته المحلية([29]).
فلم يكنْ يُصرِّح بالخمر، وإنَّما يذكر المحل أو المكان الذي استقر الخمر فيه وهو الكأس، ومن نماذجه تلك قوله([30]):
طافتْ بكأسٍ مثْلِ لونِ خَدِّهَا | وطعْمِ فيها وصَفاءِ وُدِّها. |
أشاع الشاعر لفظ (كأس) دون ذكر المحتوى؛ إذ أطلق العنان لذهن المتلقي ليُبحر في فضاء رحب متعدد التأويلات ليستكشف الدلالة الحسيَّة للمجاز بعلاقته المحلية.
وأمَّا صور العلاقة الأخرى، أي (الحالية)، فأريد منها “إطلاق لفظ الحال من المكان أو المحل، وإرادة المحل”([31])، ووظيفتها الفنية كسائر أخواتها من عناصر العلاقات المجازية المبالغة، والإمتاع، التي تُدهش المتلقي بالحيل، والتمويهات الفنية، من خلال إثارة الخيال.
وقد اعتمد العزازي عليها علاقة فنية لبناء مجازاته في ميدان الرثاء عارضاً قدرته على التغيير، وهو الخروج على المألوف في التركيب والنظم من خلال الصياغة الفنية، ومن التغييرات المجازية “الإفراطات في الأقاويل، والغلو فيها”([32])، يقول الشاعر راثياً الملك الأفضل([33]):
سموتِ بما أوتيتِ أيُّتَها الأرضُ | فقدْ حَلَّ فيكِ المجدُ والكرمُ المَحْضُ. |
حاول الشاعر ربط المجاز السابق بالتخييل، وهذا مرتبط بالمتلقي من حيث الاستفزاز، والدهشة، واللذة التي تصيبه نتيجة انغماسه مع العمل الفني، فالشاعر لم يصرِّح، بأنَّ الأرضَ قد احتضنت جسد المرثي، فهو لم يُرد مُعاملة هذا الملك شخصاً عادياً، فهو من ملوك حماة الأيوبيين؛ لذلك استخدم الصفات المعنوية التي اشتهر الملك بها مُخلِّداً ذكره في أذهان المتلقين، كالجود… والعطاء، والعزَّة…، فأتى الشاعر على ذكر الحال، أي حال وطبيعة المرثي بما امتلك من سجايا حسنة، وأفعال حميدة في حياته، وأراد المحل، وهو ضريح، أو قبر المرثي الذي حلَّ في الأرض.
وهكذا وظَّف المجاز المرسل بعلاقته الحالية في شعره، للتعبير عن دلالاتٍ متنوعةٍ يقتضيها السياق، أو التركيب الفني([34]).
4- العلاقة الزمنية: وتعني هذه العلاقة: “تسمية الشيء باسم ما مضى، أو باسم ما سيكون عليه”([35]).
ويتفرع عنها علاقتان هما: اعتبار ما كان، واعتبار ما سيكون، وهي قليلة الحضور في شعر العزازي، فمن صور العلاقة الثانية (اعتبار ما سيكون)، والتي نعني بها: تسمية الشيء بما سيكون عليه في المستقبل لا بما هو عليه الآن، قول العزازي([36]):
بِتُّ مِنها مَيْتاً، وأصبحْتُ حَيَّاً | فَدَعاني أموتُ مَوْتاً ثاني. | |
فإِذا ما قَضيْتُ بالصَّحْبِ نَحْبي | غَسِّلاني من صِرْفِ ما تَمْزُجانِ. | |
ثُمَّ قولا: قَضَى صريعَ الأباريـ | ـقِ… شهيدَ الجُنُوكِ والعِيْدانِ([37]). |
يُجنِّحُ العزازي بتخيلاته، وهو في مجلس شربٍ، فتتداعى له الصور المجازية، ليكوِّن مشهَداً مرئياً نابضاً بالحركة، والإثارة، فبعدَ أن شرب الخمر حتى ثَمِلَ شعر بتأثير السُّكر عليهِ، ودبَّ في مفاصله خَدرَ السُّم، الذي تجرَّعهُ فاسترخى، وأطلق العِنان لخياله؛ إذْ إنَّهُ تمثَّل نفسه ميتاً مُعبِّراً بالعلاقة المجازية المستقبلية (اعتبار ما سيكون) عن ذلك، ولزيادة التفخيم في المعنى ذكر ثنائية التضاد، وهي الموت ومقابلها الحياة، وهذا التضاد خلق حيوية في المقطع الشعري على مستوى البناء الفني، ومن انصهار العلاقات المجازية واللغوية معاً أخرج صوراً بديعةً.
يُوصي الشاعر نديميه في البيت الثاني بتغسيله من آثار الشراب.
ويصل الشاعر في البيت الثالث إلى التأبين، فقد استحضر كلمةً تُقال في ساعة دفنهِ المجازية ومضمونها: هذا الذي قضى صريع الكؤوس، والشراب، والمعازف.
نسج في صياغته الفنية التركيب (شهيد الجنوكِ) على اعتبار ما سيكون، أو ما سيؤول إليه حاله.
ويتابع مقطعه الشعري المتنامي في وحدة مجازية زمنية مستخدماً في أبياته اللاحقة العلاقة الزمنية (اعتبار ما كان)، والتي تعني: تسمية الشيء الحالي بما كان عليه، يقول العزازي([38]):
ادْرجاني في نَسْجِ ما صَنعَ الكَرْ | مُ إِذَا ما أردْتُمَا تُكرِماني. | |
واحمِلاني على رؤوسِ النَّدامى | وبأرجاءِ كرْمِهَا فَادفِناني. |
إنَّ عنصر المبالغة الممزوج بالخيال قد تحقق في البيتين السابقين بصورة واضحة، فابتكار الصور المجازية يحتاج إلى صفاء الخيال، ودقة الشاعر في إدراك العلاقة بين الأشياء، وإحساس مرهف نفَّاذ إلى أعماق الموجودات، وهذا ما نلمسه عند العزازي، الذي استطاع التعبير عن الخمر فيما كان عليه في الماضي، فقد أوصى نديميه بتكفينه بأوراق العنب، هذا العنب الذي عُصر الخمر منها؛ معتمداً على العلاقة الماضية (اعتبار ما كان)، بقوله: (ما صنع الكرمُ)؛ أي ما كان عليه الخمر قبل العصر.
ثم يلتمس من نديميهِ أن يشيعاه بين الندامى، وأن يدفناه في بساتين العنب. أيضاً هنا استخدم علاقة (اعتبار ما كان) الخمر عليه قبل العصر.
وبهذا تكون الصورة المجازية كينونة سياقية، وليست جزئية، وعلى هذا حَسُنَ توجيه أبنية الأنساق المجازية في المقطع الشعري السابق للعزازي نحو مشهد كُلِّي للخمر بَيَّنَ، أنَّ: “سائر ضروب المجاز من مقتضيات النظم، وعنه يحدث، وبه يكون”([39]).
5- الآلية: وتعنى هذه العلاقة هي “كون الشيء واسطة لإيصال أثر شيء إلى آخر، وذلك فيما إذا ذُكر اسم الآلة، وأُريد الأثر الذي ينتج عنه”([40])؛ أي أن يُسمى الشيء باسم آلتهِ، ومن صور هذه العلاقة في شعر العزازي، قوله([41]):
ولم يَمُنُّ([42]) له شَخْصٌ على بَصَري | لَكِنْ أَحاديثُه مَرَّتْ على أُذُني. |
عبَّر العزازي عن عدم مشاهدته لهذا الشخص الآخر المتخيل في ذهنه، ولعلَّ كلامه قد مرَّ على سمعهِ فذكر آلة السمع، وهي “الأذن” على سبيل العلاقة المجازية الآلية.
6- المجاورة: وهذه العلاقة تعني “كون الشيء بدلاً من شيء آخر”([43]).
وقد ندرت صور هذه العلاقة في شعر العزازي، يقول([44]):
شَكَرْنَا أبا الفتحِ الجميلِ ثناؤُهُ | على أَنْعُمٍ في ظِلِّهِ نَستديْمُهَا. |
رسم الشاعر صورةً معبِّرةً عن شكره لإنجازات الملك الممدوح، الذي هيأ العيش الهانئ، والخير للعامة من خلال المجاز بعلاقته المجاورة، إذ إنَّهُ لم يُصرِّح بشخصِ الممدوح بل زاد المعنى إيحاءً في ذهن المتلقي من خلال ذكر المجاور، والملازم للممدوح، وهو ظلَّهُ.
القسم الثاني: المجاز العقلي
“هو المجاز، الذي يجري في الإسناد، بمعنى أن يكون الإسناد إلى غير ما هو له، نحو: شَفى الطبيب المريض، فإنَّ الشفاء من الله تعالى، فإسناده إلى الطبيب مجاز”([45]).
وقد سُمِّي عقليَّاً، لأنَّ التجوز فهم من العقل، لا من اللغة كما في المجاز اللغوي.
أمَّا السكاكي، فالمجاز العقلي عنده هو: “الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأويل إفادة للخلاف، لا بواسطة وضع”([46]).
وهكذا يُعتبر المجاز العقلي “ضرباً من التوسع في أساليب اللغة، وفناً من فنون الإيجاز في القول”([47]).
وقد اتفق المنظور المحدث مع المنظور القديم للبلاغة في نظرته للمجاز العقلي؛ إذ إنَّه: “إسناد الفعل، أو ما في معناه إلى غير صاحبه لعلاقة مع قرينة تمنع أن يكون الإسناد حقيقياً”([48]).
وقد رأى البلاغيون بعضهم؛ “أنَّ الاختلاف بين المجاز العقلي، واللغوي أساسه أنَّ المجاز اللغوي في الكلمة، والمجاز العقلي في الإسناد، إلَّا أنَّهما يتفقان في حاجتهما إلى العلاقة، والقرينة”([49]). والعلاقات في المجاز العقلي بين الفعل، أو ما هو في معناه، وبين الفاعل غير الحقيقي أنواع منها: “السببية، الفاعلية، المفعولية، الزمانية، المكانية، المصدرية…”([50])
وسنتعرف كل علاقة منها، ووظائفها فنياً، من خلال تطبيقها على شعر العزازي.
1- العلاقة السببية:
وظَّف العزازي المجاز العقلي بعلاقاته المختلفة في تشكيل بنية صوره البلاغية في غير موضع في شعرهِ، وسنبدأ بأول علاقات المجاز العقلي، وهي العلاقة السببية، والتي تعني “إسناد الفعل إلى غير فاعله، لوجود علاقة نسميها السببية”([51]). وقد صاغ الشاعر صوراً منها، يقول([52]):
شادَ “ابنُ تقيِّ الدِّين” عُلاً | ينحَطُّ لهَا شرَفُ الحَمَلِ([53]). |
ويقول([54]):
بنَى “عليُّ” لقومهِ رُتَباً | ذاتَ عُلوٍّ وذاتَ تَشْييدِ. |
أسند فعل (شاد) و(بنى) إلى غير فاعلها الحقيقي، فقد أسندها في البيتين إلى سبب تأسيس صروح المجد، والعزَّة، والنصر، والسمو للدولة الأيوبية حتَّى طاولت كواكب السماء بهاءً وهيبةً وجعلها في مصاف الدول المتقدمة في تلك الحقبة. وقد أناط الشاعر بالفاعل أحداثاً في الواقع لا يستطيع القيام بها مفرداً، ولكنها أتت من باب المجاز السببي الذي يعطي القيمة المطلقة للشخص الممدوح.
2- العلاقة الفاعلية:
وتعني “أن نطلق لفظ اسم المفعول، ونريد اسم الفاعل”([55]).
وقد أنشأ العزازي مجازاته مستخدماً هذه العلاقة، ومنها قوله([56]):
لم يبقَ لي منْ رَغائبِ “ابنِ تقيِّ الـ | ـدِّينِ” في العالمينَ مرغوبُ. | |
فابقَوا فللَّهِ في “عَلِيِّكُمُ” | سرٌّ عنِ العالمينَ محجوبُ. |
نجد في الألفاظ السابقة (مرغوب، محجوب) مجازاً عقليَّاً، فقد اُستخدمت هذه الألفاظ بمعنى اسم الفاعل (راغب، حاجب)؛ وما سوَّغ إسنادها إلى ما قبلها علاقة نُسميها الفاعلية؛ إذ أطلق الشاعر اسم المفعول، وأراد اسم الفاعل؛ وذلك للدلالة على وصف من قام بالفعل أو اتصف به معنى الحدوث.
3- العلاقة المفعولية: وتعني أن “نطلق اسم الفاعل، ونريد به اسم المفعول”([57]).
فهذه العلاقة على عكس أختها الفاعلية، وقد اعتمد العزازي في صياغاته الفنية عليها، والتي وردت في شعرهِ، كقوله([58]):
يصبو إلى الدَّارِ حيثُ الدَّار عامرةٌ | ويذكرُ الرَّبعَ حيثُ الرَّبعُ مأهولُ. |
وقوله([59]):
شُجاعٌ يَخوضُ الحربَ والنَّقعُ ثائِرٌ | وقَدْ وَطِئَتْ هامَ الكُمَاةِ السَّنابِكُ([60]). |
اعتمد الشاعر في سياقاتهِ التعبيرية السابقة عن أفكاره المدحية على ألوانٍ بلاغية يأتي في مقدمتها المجاز العقلي عبر علاقة مجازية تتمثل في استخدام أسماء الفاعل (عامرة، ثائر)، والمراد إيصاله إلى المتلقي أسماء المفعول (معمورة، مُثار)؛ إذ إنَّ الدَّار، يُعمَّرها أهلها، والغبار في المعارك يُثار بحوافر الخيل.
وظَّف العزازيُّ دلالة اسم المفعول في الأمثلة السابقة ليصوِّر الحدث ماثلاً أمام فكر المتلقي وخياله.
4- العلاقة الزمانية: وتعني “إسناد الفعل إلى غير فاعله الحقيقي بسبب مسوَّغٌ عقلي قرينته الزمانية”([61]).
إنَّ العزازي في استعمالاته المجازية لم يعتمد مجازات بعيدة المنال تُجهد مخيِّلة المتلقي في البحث عنها، وهذا ما نلحظه في صور المجاز بعلاقته الزمانية العقلية المُتممة للدلالة الفنية في شعره ومنها قوله([62]):
تظلَّلْناهُ للأيَّامِ رُكْناً | فكانَ لسعدِنا حِصْناً حصيناً. | |
أَلَنَّا قسوةَ الأيَّامِ قسراً | وقُدْنا بَعدهَا الدَّهرَ الحَرونا([63]). |
أرادَ الشاعر التعبير عن ممدوحه الحاكم؛ بأنَّه الأمل في نفوس الرعية، فكان بالفعل السند الحقيقي لحوادث الزَّمان، وغدر أيَّامه، ففي قوله: (تظلَّلناهُ للأيَّام، وألنَّا قسوة الأيام، وقُدْنا الدَّهر الحَرونا…)، هناك إسناد غير حقيقي، وسوَّغ هذا الإسناد عقلي قرينته الزمانية، فالذي تظلَّلهُ الرعية في ظلِّ حاكمهم هو حوادث الأيَّام المريرة، لا الأيَّام ذاتها، كما أنَّهم قد تجاوزوا من قسوة الأيَّام بعض الأمور العارضة، التي احتضنها زمان الأيَّام، إضافةً إلى أنَّ الممدوح في أثناء حكمه استطاع ترويض الأمور العارضة، والصعبة في الزمان، وليس الزمان نفسه. أمَّا الدَّهر والأيَّام فهي تجري بمشيئة الله.
ولقد كان الجرجاني يُطلق على المجاز العقلي المجاز الحكمي، أو المجاز في الإسناد، وقد اهتم به في كتابيهِ (دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة)، وينظرُ إليه، بأنَّهُ: “كلُّ جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل، لضرب من التأويل، ويرى أنَّه لا يجوز الحكم على الجملة بأنَّها مجاز إلا بأحد أمرين: إمَّا أن يكون الشيء، الذي أثبت له العقل ممَّا يصح أن يكون له تأثير في وجود المعنى، وإمَّا أن يكون قد عُلِمَ من اعتقاد المتكلم أنَّهُ لا يثبت الفعل إلَّا لله”([64]).
وهذا المنظور قد لمحناه في الأبيات السابقة.
5- العلاقة المكانية:
وتعني “إسناد الفعل إلى المكان”([65]).
إنَّ من وظائف المجاز تحرير المعنى، وإطلاق سراحه من قيد المواضعة، فهو يصعد بالمعاني، ويرتقي بها، فهو المجاوزة والاتساع المحض، ولا يمكن حصول ذلك الاتساع، والإطلاق إلَّا إذا تجاوزنا “الحكم الوضعي إلى حكم اللفظة بقوانين الاستعمال، فالشعراء يتجاوزون الوضع اللغوي تبعاً لتلبية مقاصدهم، وأغراضهم الدلالية متوسِّلين بالمجاز”([66]). وهكذا كان إسناد الفعل إلى المكان؛ تلبيةً لمقاصد الشاعر، وإثراء الدلالة الشعرية؛ بمعانٍ مستلزمة، ومن توظيف العزازي للعلاقة المكانية، قوله([67]):
حتَّى إذَا “العاصي” أضاءَ تهلَّلتْ | فَرحاً وألقتْ زادَهَا وعَصاهَا([68]). |
يسرد الشاعر في هذا البيت قصة القوم، الذين رحلوا براحلاتهم قاصدين العطاء، والراحة، والكرم، فلم يجدوا مكاناً يتوجهون إليه، كمدينة حماة؛ لأنَّ فيها الملك المنصور، وعند اقترابهم من المدينة تراءى لهم نهر العاصي، وهو من أهم معالم مدينة حماه، فاستقروا فيها من عناء السفر.
ففي قول الشاعر: (العاصي أضاء) مجاز عقلي؛ لأنَّه قد نسب الفعل أضاء إلى نهر العاصي باعتبار الإضافة إلى المكان، والبيت السابق من جميل إلماحاتهِ الناتجة عن التعالق؛ إذ تعالق مع بيت مَعْقِر البارقي([69])، إذ يقول([70]):
وَأَلْقَتْ عَصاهَا واسْتَقَرَّتْ بها النَّوى | كَمَا قرَّ عيناً بالإياب المُسَافِرُ. |
كلا الشاعرين يتحدَّث عن استقرار الراحلة، وراكبيها بعد السفر والتعب، وقد اختلفا في النسيج الفني، إذ إنَّ العزازي استخدم المجاز العقلي المكاني، بينما مّعْقِر البارقي استخدم التشبيه التمثيلي.
ومن صور حنينه، التي تعبِّر عن عاطفة وطنية صادقة اشتياقه إلى الشام، وأهلها؛ وذلك من خلال لفظ (تدنو دار نزوح)، والمقصود أهل الدار، وليست الدار نفسها، يقول([71]):
أَتُرى نلتقي ويجتمعُ الشَّمـ | ـلُ، وتدنو “بالشَّامِ” دارٌ نزوحُ. |
لقد تقصد الشاعر إطلاق لفظ (دارُ) للتعبير عن ساكنيها وكلمة (دار) لها ظلالها المعنوية في نفس كل متلقٍ ووفق كل قراءةٍ وتأويلٍ لها فهي تصوِّر البعد، والوصل، والفراق، والحزن، وهذه التضادات النفسية ترسم في ذهن القارئ المعاني الدلالية للتصوير المجازي.
6- العلاقة المصدرية: وتعني: “إسناد الفعل إلى مصدره”([72])؛ أي إلى غير فاعله الحقيقي.
ومثاله قول العزازي([73]):
فشدَّ عليهَا شَدَّةً “ظاهريَّةً” | فولَّتْ على الأعقابِ تَدمَى كُلومُها. |
أسند الفعل (شدَّ) إلى مصدره (شدَّةً)، وهو ليس بفاعله الأصلي، بل الفاعل الحقيقي الذي يُظهره السياق هو (الظاهر بيبرس)، وإسناد الفعل إلى مصدره يأتي من قبيل المجاز العقلي، وعلاقته مصدريَّة، فالمصدر جاء على سبيل الفاعل المجازي، وهذا مبالغة في وصف الممدوح، وهجاء العدو.
وقد أشار محقق ديوان العزازي (د. رضا رجب) رحمهُ الله؛ إلى أنَّ البيت السابق في غايَة الهجاء؛ لتصوير فرار الأعداء، وهو عكس قول الشاعر([74]):
فَلَسْنَا على الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا | ولَكِنْ على أَقْدامِنا تَقْطُرُ الدِّمَا. |
الظاهر، أنَّ العزازي وعى البيت، وأعاد توظيفَ معناه بصورة فنية تخدم غرضه، وقد عززها الشاعر بتوظيفه المجاز العقلي المصدري.
خاتمة:
وعلى هذا، وظَّف العزازي الموروث التاريخي، والأدبي، والديني في تشكيل صوره المجازية، وقد ابتعد في أغلبها عن العامية المبتذلة، وهي تدلّ بوضوح على ثقافة الشاعر وسعه اطِّلاعه ما أهّله ليؤدي دوراً إعلامياً، وذلك من خلال تصوير الحروب في تلك المرحلة.
وذلك في معرض الترويج لبطولات سلاطين المماليك، وخاصة ملوك حماة الأيوبيين.
هذا وقد لوَّن الشاعر تصويره المجازي بوصفه قوالب نفسية صاغها بحسب ما تمليه أغراضه الشعرية المتنوعة عليه، وتتسم بالاعتدال في المضامين والتناول.
ونلمح في صوره المجازية غلبة الصدق الفني على حساب الحوافز الخالصة مما زادها جمالاً، وتنوعاً، وإقناعاً للمتلقين.
وبذلك نكون قد تناولنا مقتطفات متنوعة من شعر العزازي بصورة عامة، وقمنا بدراسة بنية المجاز المرسل والعقلي ووظائفهما في شعرهِ، ويبدو المجاز حاضراً في شعرهِ أكثر من حضور الألوان البلاغية الأخرى من تشبيه أو استعاره وغيرها…
ولعلّ هذا عائدٌ لما ينطوي المجاز عليه من إثراء الدلالة، وإشاعة التحفيز في ذهن المتلقي من خلال التأويل والكشف عن المعنى.
- المصادر والمراجع:
- أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني (ت: 471ه)، علق حواشيه: أحمد مصطفى مراغي، مطبعة الاستقامة- القاهرة- الطبعة الأولى، 1367ه- 1948م.
- الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة: محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: د. عبد القادر حسين، مكتبة الآداب، القاهرة، 1997م.
- أعيان العصر وأعوان النصر: الصفدي (ت: 764ه)، تحقيق: فالح أحمد البكور، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1414ه، 1998م.
- البلاغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني، وابن سنان الخفاجي: علي علام عبد العاطي غريب، دار الجيل، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1993م.
- البلاغة فنونها وأفنانها (علم البيان والبديع): د. فضل حسن عباس، دار الفرقان للنشر والتوزيع، الطبعة التاسعة، عمَّان، الأردن، 2004م.
- تاج العروس: المرتضى الزبيدي (ت: 1205ه)، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج- مطبعة حكومة الكويت- الكويت- 1965م- د.ط.
- تلخيص الخطابة: الوليد ابن رشد، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، 1959م.
- جواهر البلاغة: أحمد الهاشمي، إشراف: صدقي محمد جميل، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران، الطبعة الثانية.
- الحماسة البصرية: صدر الدين علي البصري (ت: 659ه)، تحقيق: مختار الدين أحمد، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403ه- 1983م.
- الخطابة: أرسطو طاليس، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت ودار القلم، بيروت، 1979م.
- دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: الشيخ محمد عبده، محمد رشيد رضا، محمد الشنقيطي، الطبعة الثانية، مطبعة المنار، دار المعرفة، بيروت.
- ديوان شهاب الدين العزازي، تحقيق: د. رضا رجب، دار الينابيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2004م.
- الشعر والشعراء: ابن قتيبة (ت: 276ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1423ه- 2003م.
- الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني: د. أحمد دهمان، وزارة الثقافة، دمشق، 2000م.
- علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع: أحمد مصطفى المراغي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان، 1993م.
- لسان العرب: ابن منظور (ت: 711ه)، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1993م.
- المجاز المرسل والكناية: يوسف أبو العدوس، الأهلية للنشر، عمَّان، الأردن، الطبعة الأولى، 1998م.
- المجاز وقوانين اللغة: علي محمد علي سلمان، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 2000م.
- مدخل إلى البلاغة العربية (علم المعاني- علم البيان- علم البديع): يوسف أبو العدوس، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى، عمَّان، الأردن، 2007م.
- معجم البلدان: ياقوت الحموي (ت: 626ه)، تحقيق: فريد الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410ه- 1990م.
- معجم الشعراء: المرزباني (ت: 384ه)، تحقيق: د. فاروق اسليم، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1425ه- 2005م.
- مفتاح العلوم: السكاكي، ضبطه وعلق عليه: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.
- الوافي بالوفيات: الصفدي (ت: 764ه)، تحقيق: أحمد الأرناؤوط، تركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1422ه-2001م.
- الدوريات:
- التداولية والمجاز دراسة ابستيمولوجية: حسين عودة الهاشم، مجلة آداب ذي قار، جامعة البصرة، كلية التربية، قسم اللغة العربية، العدد 5، المجلد 2، البصرة، 2012م.
([1]) يُنظر الوافي بالوفيات: الصفدي (ت: 764ه) تحقيق: أحمد الأرناؤوط، تركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م، ج7/ص:102.
([2]( يُنظر: الوافي بالوفيات: الصفدي، ج7/ص:99.
([3]( يُنظر: أعيان العصر وأعوان النصر: الصفدي (ت: 764ه)، تحقيق: فالح أحمد البكور، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419ه، 1998م، ج1/ص:157.
([4]( يُنظر: ديوان العزازي: تحقيق: د. رضا رجب، دار الينابيع، دمشق، ط1، 2004م، ص:345.
([5]( ينظر: أعيان العصر وأعوان النصر، ج1/ص:157.
([6]( يُنظر: المصدر السابق، ج1/ص:157.
([7]( الوافي بالوفيات: الصفدي (ت: 764ه)، ج7/ص:99-100-101.
([9]) المجاز وقوانين اللغة: علي محمد سلمان، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، لبنان، 2000، ص: 232.
([10]) المجاز المرسل والكناية: يوسف أبو العدوس، الأهلية للنشر، عمَّان، الأردن، ط1، 1998م، ص: 43.
([11]) الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة: محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: د. عبد القادر حسين، مكتبة الآداب، القاهرة، 1997م، ص: 209- 210.
([12]) ديوان العزازي، تحقيق: د. رضا رجب، ص:32.
([13]) أثيل: رفيع متين. مثْلولُ: متهدِّم.
([14]) علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع: أحمد مصطفى المراغي، دار الكتب العلمية، ط3، بيروت، لبنان، 1993م، ص:210.
([15]) يُنظر في ذلك ديوان العزازي في القصائد التالية: ق6/38-41، ص: 49، ق18/20، ص: 68، ق23/2، ص: 82، ق27/14-16، ص: 88، ق37/18، ص: 104، ق39/10-11، ص: 106، ق46/5، ص: 118، ق50/10-11، ص: 123، ق54/11-94، ص: 135، ق55/4، ص: 143، ق56/15-32، ص: 147، ق70/16، ص: 192، ق71/6، ص: 193، ق72/46، ص: 199، ق79/27-29، ص: 214، ق174/1-2، ص: 336.
([18]) الإشارات والتنبيهات: محمد بن علي الجرجاني، ص: 210.
([21]) الصورة البلاغية عند القاهر الجرجاني: د. أحمد دهمان، وزارة الثقافة، دمشق، 2000م، ص: 193.
([23]) الفسطاط: في اللغة الخيمة من الشَّعر، وقيل ضرب من الأبنية، وهي المدينة التي بناها عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في مصر. يُنظر: معجم البلدان: ياقوت الحموي (ت: 626ه)، تحقيق: فريد الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ج4/ص: 297-302، 1410ه- 1990م.
([24]) يُنظر دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: الشيخ محمد عبده، محمد رشيد رضا، محمد الشنقيطي، ط2، مطبعة المنار، دار المعرفة، بيروت، ص: 65.
([26]) يُنظر: الخطابة: أرسطو طاليس، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت ودار القلم، بيروت، ص:190.
([27]) الإشارات والتنبيهات: محمد بن علي الجرجاني، ص: 214.
([28]) يُنظر: الخطابة: أرسطو، ص: 223- 224.
([29]) يُنظر في ذلك ديوان العزازي في القصائد الآتية: ق21/17، ص:78، ق29/1، ص: 92، ق66/5-6، ص: 179، ق72/12، ص: 197، ق74/1، ص: 204، ق100/2، ص: 244، ق171/56، ص: 332، ق186/1، ص: 353، ق142/1، ص: 288.
([31]) يُنظر: الإشارات والتنبيهات: محمد بن علي الجرجاني، ص: 214.
([32]) تلخيص الخطابة: ابن رشد، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، 1959م، ص: 301.
([34]) من هذه الدلالات التعبير عن جمال الطبيعة، أو الغزل، كما عبَّر الشاعر عن حاله من رفاهيةٍ، وجاهٍ، أو التعبير عن جيش العدو المهزوم، كما استعمل لفظ القوم كمجاز حالي دلَّ منه على المكان، كما دلَّ على اسم البلد بذكر أهله، يُنظر ديوان العزازي ق32/5، ص: 95، ق45/2، ص: 117، ق53/26-32، ص: 132، ق60/25، ص: 165، ق46/4، ص: 118، ق54/52-55، ص: 138، ق69/3، ص: 189، ق84/5، ص: 225.
([35]) يُنظر: الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة: محمد بن علي الجرجاني، ص: 215.
([37]) الجُنُوْك: جمع جَنْك، اسم مُعَرَّب، وهو آلة يُضْرَب بها كالعُوْد.
يُنظر: تاج العروس: الزبيدي (1205ه)، مادة (ج ن ك).
العيدان: جمع عُوْد، وهو آلة الغناء المعروفة.
([39]) دلائل الإعجاز: الجرجاني، ص: 393.
([40]) جواهر البلاغة: أحمد الهاشمي، إشراف: صدقي محمد جميل، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران، ط2، ص: 256.
([42]) كذا وردت في ديوان العزازي، ولعلَّها “يمرَّ”.
([43]) جواهر البلاغة: أحمد الهاشمي، ص: 257.
([45]) يُنظر: أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني، (ت:471ه)، علق حواشيه: أحمد مصطفى مراغي، مطبعة الاستقامة -القاهرة- ط1، 1367ه- 1948م، ص: 298، 367.
([46]) في قول السكاكي: (لضرب من التأويل)؛ ليحترز به عن الكذب، وفي قوله: (إفادة الخلاف، لا بواسطة وضع)؛ ليحترز به عن المجاز اللغوي.
يُنظر: مفتاح العلوم: السكاكي، ضبطه وعلق عليهِ: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م، ص: 399.
([47]) يُنظر: علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع: أحمد المراغي، ص: 291.
([48]) يُنظر: مدخل إلى البلاغة العربية (علم المعاني- علم البيان- علم البديع): يوسف أبو العدوس، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، ط1، عمَّان، الأردن، 2007م، ص: 171.
([49]) ففي المثال: (سال الوادي) قرينة معنوية؛ لأنَّ النهر لا يمكن أن يسيل، فالعلاقة مكانية؛ لأنَّ النهر مكان للماء. يُنظر: البلاغة فنونها وأفنانها (علم البيان والبديع): د. فضل حسن عباس، دار الفرقان للنشر والتوزيع، ط9، عمَّان، الأردن، 2004م، ص: 143.
([50]) جواهر البلاغة: أحمد الهاشمي، ص: 258-259.
([51]) يُنظر: مدخل إلى البلاغة العربية علم المعاني- علم البيان- علم البديع: يوسف أبو العدوس، ص: 171.
([53]) الحمل: البرج الأوَّل من البروج الاثني عشر.
([55]) يُنظر: مدخل إلى البلاغة العربية: علم المعاني- علم البيان- علم البديع: يوسف أبو العدوس، ص: 172.
([57]) البلاغة فنونها وأفنانها: علم البيان والبديع: د. فضل حسن عباس، ص: 146.
([61]) يُنظر: البلاغة فنونها، وأفنانها علم البيان والبديع: د. فضل حسن عباس، ص: 146.
([63]) الحرونا: المتمنِّع المعاند.
([64]) البلاغة العربية بين الناقدين الخالدين عبد القاهر الجرجاني، وابن سنان الخفاجي: علي علام عبد العاطي غريب، دار الجيل، بيروت- لبنان- ط1، 1993، ص: 239، 240.
([65]) جواهر البلاغة، أحمد الهاشمي، ص: 258.
([66]) يُنظر: التداولية والمجاز دراسة إبستيمولوجية: حسين عودة الهاشم، مجلة آداب ذي قار، جامعة البصرة، قسم اللغة العربية، العدد5، المجلد2، البصرة، 2012، ص: 264.
([69]) هو عمرو بن سفيان بن حمار بن الحارث البارقي الأزدي، شاعر يماني، من فرسان قومه في الجاهلية، وقيل: إنَّ اسمه سفيان بن أوس بن حمار، ثمَّ سُمِّيَ بـ (مَعْقِر) لورود أحد اشتقاقاته في بيت له.
يُنظر: معجم الشعراء: المرزباني، تحقيق: د. فاروق اسيلم، دار صادر، بيروت، ط1، 1425ه- 2005م، ص: 26.
([70]) البيت في الحماسة البصرية: صدر الدين علي البصري (ت: 695ه)، تحقيق: مختار الدين أحمد، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1983، ج1/ ص: 76.
([72]) يُنظر: مدخل إلى البلاغة العربية علم المعاني- علم البيان- علم البديع: يوسف أبو العدوس، ص: 172.
([74]) يُنظر: حاشية ديوان العزازي، ص: 132، وقد ورد البيت غير منسوب لقائله، وهو للشاعر الجاهلي المُقِل: حُصَيْن بن الحِمام المُرِيّ، أحد فرسان العرب، تُوفي قبل الإسلام.
يُنظر: الشعر والشعراء: ابن قتيبة (ت: 276ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1423ه-2003م، ج2/ص: 634.