الإسلاميون وحكم دولة الحديثة: العوائق والتحديات
Islamists, and the rule of modern state: obstacles and challenges
الدكتورة: فوزية طلحا . المغرب، دكتوراه في الفلسفة والفكر
Fouzia Talha (Morocco)
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 25 الصفحة 11.
Abstract:
The position of the Islamic currents was characterized by contradiction and confusion. It did not take a single form for different political orientations and religious doctrines. It did not establish a clear and precise theory of the state it sought, nor did it present a convincing and consistent project for the state that wanted to govern it. This study seeks to address the obstacles and challenges facing the Islamists in general in the rule of the modern state, in order to raise awareness of the magnitude of the difficulties they face, especially that revolutions of the so-called Arab Spring has given way to the participation of Islamists in governance, as in Tunisia and Morocco.
Keywords in English
Modern State: A modern political entity that brings together a number of people who are considered citizens, based on modernist foundations, and a specific geographical area, in which the sovereignty of the state.
–Islamic movements: are groups that adopt the Islamic authority and seek to comply with Islamic law in its purposes and provisions.
ملخص:
تميزت مواقف التيارات الإسلامية اتجاه الدولة الحديثة بالتناقض والاضطراب، ولم تتخذ شكلا واحدا لاختلاف التوجهات السياسية والمذاهب الدينية، كما أنها لم تؤسس لنظرية واضحة ودقيقة للدولة التي تنشدها، ولم تقدم مشروعا مقنعا ومنسجما للدولة التي تريد حكمها. وتسعى هذه الدراسة لمقاربة العوائق والتحديات التي تواجه الإسلاميين عموما في حكم الدولة الحديثة، وذلك للتوعية بحجم الصعوبات التي تعترضهم، خاصة أن ثورات ما يسمى بالربيع العربي قد أفسحت الطريق لمشاركة الإسلاميين في الحكم، كما هو الشأن في تونس والمغرب.
الكلمات المفتاحية
الدولة الحديثة: كيان سياسي حديث يجمع عددا من الناس يعتبرون مواطنين، ترتكز على أسس حداثية، ورقعة جغرافية محددة، وتكون فيها السيادة للدولة.
الحركات الإسلامية : هي جماعات تتبنى المرجعية الإسلامية وتسعى للتوافق مع الشريعة الإسلامية في مقاصدها وأحكامها .
تقديم
تميزت مواقف الحركات الإسلامية من الدولة الحديثة بالتناقض والاضطراب، ولم تتخذ شكلا واحدا لاختلاف فلسفتها ورؤيتها للدين، كما أنها لم تؤسس لنظرية واضحة ودقيقة للدولة التي تنشدها، ولم تقدم مشروعا مقنعا ومنسجما للدولة التي تريد حكمها، غير أن تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي، واعتلاءهم هرم السلطة في العديد من الدول العربية يقتضي توضيحا للمواقف وحسما للقضايا العالقة لتحقيق المزيد من الإقناع، والحد من الاختباء وراء الشعارات الرنانة، لتجنب متاهة التأويلات، وارتباك الأفعال والسلوكيات السياسية. خاصة وأن الحركات الإسلامية تواجه اليوم بعدة معيقات داخلية وخارجية، الأمر الذي يفرض عليها مواجهة عدة تحديات داخل دولة طالما انتقدتها وحاربتها زمنا طويلا، قبل أن تتصالح معها نسبيا، وتتاح لها إمكانية المشاركة السياسية داخلها.
- تحديات حكم الدولة الحديثة
من أهم التحديات التي تواجه الإسلاميين الراغبين في حكم الدولة الحديثة هو إشكال اختلاف المرجعية، فالدولة الحديثة تقوم على أسس ومبادئ، تختلف جوهريا عما نظر له الإسلاميون وعلماؤهم زمنا طويلا، حيث نجد أن الحركات الإسلامية تتبنى بمختلف مشاربها مرجعية إسلامية، وتوصي أدبياتها السياسية بالانطلاق من مبادئ الإسلام، والعمل على تحقيق قيمه ومثله العليا، ونشر دعوته السامية، كما أنها تتمثل في مخيلتها نموذج الحكم الإسلامي التاريخي، الذي تميز في فترات من تاريخه بالعدل والمساواة، خاصة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين من بعده، هذا إلى جانب اعتبارها مرحلة الخلافة الوراثية أو ما يسمى بالملك العضد، مرحلة مشرقة في الكثير من محطاتها، رغم ما اعتراها من فتن وضعف واستبداد، لأنها حافظت على وحدة المسلمين وقوتهم زمنا طويلا.
لهذا يعتبر قبول الإسلاميين بنموذج الدولة الحديثة المعاصرة “تخليا عن مفاهيم سياسية إسلامية تبناها نموذج دار الإسلام خلال أربعة عشر قرنا من الزمان، والتي اعتبرت جزءا من مبادئ الإسلام السياسية، والقبول بالتنازل عن هذه المفاهيم بحد ذاته يثير تحديا بين الإسلاميين أنفسهم، خاصة الذين يعتبرون نموذج دار الإسلام والأصول التي قامت عليها جزءا من الدين، ومن نسيج الشريعة الإسلامية”[1]، الأمر الذي حدا ببعض الدارسين إلى نفي إمكانية تأسيس الإسلاميين لدولة حديثة إسلامية، واعتبار الأمر ضربا من المستحيل لأن “الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية، فإن الذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينا كبيرا، الأمر الذي يولد نوعين مختلفين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم”[2].
ينطلق هذا الموقف من اعتبار الحكم الإسلامي هدفا للحركات الإسلامية، الحكم الذي يستند على الأسس الأخلاقية والقيم المثلى في كل المجالات الحيوية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية…، على اعتبار أن الأخلاق هي محور الدين الإسلامي، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. لهذا يرى وائل حلاق أن صعوبة التوافق مع الدولة الحديثة يكمن في كون الدولة المنشودة لدى الإسلاميين هي دولة أخلاقية، وهذا النوع من الدول ذات الأساس الأخلاقي “لا يمكن دعمه حتى نظريا، ويعتبر فشل نظرية هيغل الخاصة بالدولة الأخلاقية ونسيانها من جانب علماء السياسة وأغلب الفلاسفة مثالا على ذلك…فالدولة الحديثة لا يمكن أن تقام على أسس أخلاقية، كما لا يمكن أن تعمل وجوديا ككيان أخلاقي”[3].
إلى جانب تحدي البعد الأخلاقي الذي يتأسس عليه الحكم الإسلامي، هناك تحدي السيادة الذي يعتبر حسب وائل حلاق حقا مخولا للدولة الحديثة دون غيرها، في حين يعتمد الحكم الإسلامي على السيادة الإلهية أو ما يعبر عنه لدى الإسلاميين بالحاكمية لله تعالى، فكما لا يمكن أن يستغني الإسلام عن نظام أخلاقي- قانوني “لا يمكن أن يكون هذا النظام خارج السيادة الإلهية، في حين أنه لا يمكن أن تكون دولة حديثة دون إرادة سيادية خاصة بها، هذه الخاصية التي لا يمكن أن تستغني عنها هذه الأخيرة إلا إذا سميت باسم آخر، فإن الدولة الحديثة لا تستطيع أن تكون إسلامية إلا بقدر ما يستطيع الإسلام امتلاك دولة حديثة”[4].
لهذا يعتبر المزج بين كيان الدولة الحديثة والإسلام أمرا صعب التحقق حسب وائل حلاق، لأن لكل واحد منهما خصوصياته المرتبطة بالزمان والمكان، ومن تم وجب على المسلمين أن يواجهوا خيارين:” إما أن يستسلموا للدولة الحديثة والعالم الذي أنتجها وإما أن تعترف الدولة الحديثة والعالم الذي أنتجها بشرعية الحكم الإسلامي، أي بنظرة المسلمين إلى الكيان السياسي، والقانون، إضافة إلى ما هو أكثر من ذلك، أي الأخلاق ومتطلباتها السياسية والاقتصادية المندرجة تحتها”[5]، بمعنى أن الإسلاميين إذا أرادوا تأسيس دولة حديثة يجب أن يتنازلوا كليا عن الحلم بالحكم الإسلامي، ومبادئه القائمة على السيادة الإلهية، والنظم الأخلاقية، ويتوافقوا مع سيادة الدولة الحديثة التي تفصل بين الأخلاق والسياسة، أو تغير الدولة الحديثة نفسها وتقبل بقيم الإسلام.
ولعل الحركات الإسلامية الحالمة بحكم الدولة الحديثة، ترتكز في مشروعها السياسي على هذا الخيار الأخير، المتمثل في ترويض الدولة الحديثة لتصبح إسلامية، وهو ما يسمى بمشروع أسلمة الدولة الحديثة. الأمر الذي يسقط الإسلاميين في تناقض كبير وتحد أكبر، لأن العالمين مختلفان بل يمثل أحدها نقيضا للآخر، فالدولة الحديثة تأسست ضد حكم الدين بالصورة التي كان يمارس بها في الغرب، والإسلاميون يتمثلون دولة قائمة على أساس الدين– بشكل مختلف عن التجربة الغربية – وهو ما يشكل نقطة الاختلاف الكبرى بينهم وبين التيارات الأخرى العلمانية واليسارية.
لقد تميز موقف الحركات الإسلامية من الدولة الحديثة بقبول الشكل دون الجوهر، حيث تم “استيراد الشكل مفرغا من محتواه ومضمونه وبقية آلياته، وتطبيقه كان فوقيا مع الإبقاء على المضامين غير متناغمة معه، مما أفرز أزمات عميقة. فالدولة الحديثة لا تعني فقط إجراء انتخابات، وتأسيس وزارات، وإقامة برلمان، وإنتاج إعلام محلي، بل تعني قبل ذلك كله، سيادة حكم القانون على بقية الأحكام الأخرى، وسيادة حكم الشعب حقا، والتساوي في التمتع بالثروة الوطنية والوصول إلى المعلومات، كما تعني اجتماعيا ترسيخ حرية فردية شبه مطلقة، ليس فقط حرية سياسية، بل اجتماعية ومسلكية، وتقديم للفردية على الجماعية”[6]، فهل الإسلاميون واعون تماما بهذه الحقيقة؟ هل يعترفون بمضمون الدول الحديثة الحداثي، الذي يشترط القبول بالتعددية، والقيم الحداثية، واحترام الحريات الفردية، حتى لو كانت معارضة للدين، كما يشترط “الولاء الأول للدولة بكونها مصدر تعريف الفرد، الذي أصبح تعريفه ك (مواطن) هو التعريف الأساس الذي يسبق بقية التعريفات، وبعده تتحدد حقوقه القانونية وكذلك واجباته. وأن دستور الدولة هو الذي يفسر طبيعة العلاقة بين الفرد والدولة، وهو المرجعية الوحيدة التي يعود إليها الطرفان عند الاختلاف”[7] بعيدا عن المرجعية الدينية التي تشكل أساس وجود الحركات الإسلامية.
أمام هذه الحقيقة الجوهرية للدولة الحديثة، نتساءل عن الشعارات الأساسية التي رفعتها الحركات الإسلامية، دستورنا القرآن؟ وشعار الولاء للدين قبل الدولة؟ وشعار التوافق مع الشريعة أو على الأقل مع مقاصدها؟
سيصبح لزاما إذن على الإسلاميين بعد تولي الحكم داخل الدولة الحديثة، الإجابة عن الأسئلة المطروحة لدى الشعوب التي انتخبتهم. ومن أهم هذه الأسئلة، كيف ستتم الموازنة بين خطاب مشحون بالقيم الأخلاقية الدينية، وبين الممارسة التي تتطلب منطقا آخر تفرضه طبيعة الدولة الحديثة، يتناقض مع هذا الخطاب؟ وغياب الجواب المقنع والدقيق قد يؤدي إلى فقد الحركات الإسلامية لمصداقيتها، وانسجامها مع ذاتها، ومرجعيتها الإسلامية التي انطلقت منها، واهتزاز الثقة بوعودها ومبادئها، وحينها ستكون الخسارة قاسية.
إلى جانب مواجهة الإسلاميين لتحديات الاختلاف بين المرجعية وطبيعة الدولة الحديثة، فإن صعوبات وعراقيل كثيرة تعترض سبيلهم داخل هذا الكيان السياسي، وتتنوع بين عوائق داخلية وخارجية.
- عوائق ذاتية وداخلية
يعتبر ضعف الخطاب لدى الحركات الإسلامية من العوائق الذاتية التي تواجه مشروعها في حكم الدولة الحديثة، حيث تميز هذا الخطاب طيلة تاريخه بطغيان الشحنة العاطفية والأخلاقية، والإغراق في العمومية، مع البعد عن الإجرائية والعملية. كما أنه لم يفصل طريقة حكم هذه الدولة التي طالما انتقدت في أدبيات الإسلاميين، وعارضوها في بداية نشأتهم، وحاربوا قيمها ومبادئها الحداثية الغربية، وسعوا جاهدين لتكسير حدودها الجغرافية التي شكلت عائقا أمام وحدة الأمة الإسلامية.
والتساؤل هنا عن الخطاب الجديد الذي يمكن أن يحقق المعادلة بين الأهداف والواقع، دون السقوط في التناقض، فإقناع الشعوب لم يعد مقتصرا على خطاب المشاعر والوجدان، بل إقناع العقل من خلال تقديم مشروع عملي يستجيب لحاجات المواطنين، إذ أن هؤلاء الإسلاميين مطالبون منذ لحظة وصولهم إلى السلطة “بتقديم منجزات تؤمن حقوق ومطالب وحوائج الناس الفردية والاجتماعية، فالدولة مؤسسة عملية وليست فكرة أو جهازا عقائديا، ولا يمكنها أن تكون مؤسسة وعظية أو يقتصر عملها على هذا الجانب، لأن ذلك لن يحل مشاكل الفقر والظلم والتخلف الاجتماعي والاقتصادي. وإلا ستجد الدولة نفسها في مواجهة الشعب ما لم تحقق ما يؤمن للناس العدل الاجتماعي والسياسي”[8].
فقد اكتشف الإسلاميون الذين قادتهم ثورات ما سمي ب”الربيع العربي” إلى السلطة، أن الأمر ليس هينا، وأن الخطاب شيء، والواقع شيء آخر، ولابد أن ينسجم الخطاب مع تحديات الواقع، لتحقيق ممارسة فعالة وإيجابية، وللمحافظة على الثقة والمصداقية. لقد اكتشفوا وهم في أعلى هرم السلطة أن “إدارة وممارسة السلطة من المسائل المعقدة التي لم يتهيؤوا لها بالكامل. وفي السياسة لا مكان للنيات الحسنة، كما أن الأفكار والاستراتيجيات ليست سوى بداية الطريق، الكلمة الفصل هي للإنجاز، وللممارسة، ومراكمة الخبرة، ومراجعة التجربة، واختبار القدرات، وتحقيق الأهداف والمنجزات وتوفير الإمكانات، واختيار الأولويات”[9]. وهو ما مثلته تجربة الإسلاميين في تركيا حيث ركزوا على الإنجاز، والنهوض بالبلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، فتسنى لهم النهوض بها دينيا، لأن إقناع الشعوب يكون عبر الممارسة والإنجاز، وتقديم خطاب منسجم. فقد سعا حزب “العدالة والتنمية” للنهوض بتركيا على جميع المستويات، واسترجاع هيبة الدولة ومكانتها داخليا وخارجيا، وإنقاذها من واقع اقتصادي متردي، ليضعها على ركب الرخاء والتقدم الاقتصادي، لتحتل بذلك مراتب متقدمة في العالم، بعد أن عاشت أزمة خانقة، حيث “استقبلت الدولة التركية الألفية الثالثة بوضع مأساوي بحق، وشهدت حالة فريدة من التردي أصابت كافة قطاعات الدولة، لا سيما بعدما انتهت الدورة البرلمانية 1999-2001م بصورة أقرب إلى الفوضى، نظرا لتوالي الفضائح وتفشي الفساد، فضلا عن وضع اقتصادي يداني الإفلاس، مما قاد إلى انهيار البورصة التركية، وحدوث أزمة اقتصادية طاحنة في فبراير 2001” [10]. فكان حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المرجعية، منقذا لتركيا من هاوية الإفلاس، محققا للمواطن التركي الرخاء المادي، الأمر الذي خول له الفوز بالمشروعية السياسية، والنجاح في إقناع الشعب.
ويمكن أن نضيف لأزمة الخطاب الإسلامي، عائقا آخر يعترض سبيل الإسلاميين، الراغبين في حكم الدولة الحديثة، والمتمثل في مناهضة التيارات اليسارية العلمانية المتطرفة للأحزاب الإسلامية بكل أشكالها، حيث حدثت قطيعة كبيرة بين التيارين العلماني والإسلامي منذ الاستقلال، فطبعت العلاقة بينهما بغياب الثقة والحوار بين الطرفين، ومحاولة كل واحد منهما تجريم الآخر وتخوينه، وهو ما وصفه طارق البشري بالخصام التاريخي مؤكدا أن “العلاقة بين التيارين تقوم في عشرات السنين الأخيرة، على الاستعباد وليس على الاستيعاب، ويتخذ الجدل في شأنها مظهرا حربيا وليس حواريا، وفي غالب فترات المرحلة التاريخية الأخيرة من حياتنا السياسية المعاصرة، بلغت العلاقة بين التيارين درجة القطيعة والخصام، بل تجاوزت حدود الخصام لتصل إلى حد العجز عن الفهم”[11].
وقد ساهم هذا الخصام والتنازع وتبادل الاتهامات في خلق جو مشحون بين الطرفين، وسيادة روح الإقصاء، وهو ما يمكن أن نسميه بالحرب الخفية، الأمر الذي لا يتوافق مع طبيعة الدولة الحديثة التي دافع عنها اليساريون والعلمانيون، وتصالح معها بعض الإسلاميين، لأن سياستها تقوم على التعددية الحزبية والتوافقات السياسية، والقبول بالآخر، حتى لو كان مختلفا، وإعطاء فرصة المشاركة في الشأن السياسي والاجتماعي دون تهميش أو تبخيس، فمن حق الإسلاميين “أن يأخذوا فرصتهم في ممارسة السلطة والحكم، ومن حق معارضيهم ممارسة قواعد اللعبة الديمقراطية، من دون تكفير أو تخوين، ولكن ضمن منظومة دستورية وقانونية صلبة تحفظ حقوق الأكثرية والأقلية”[12]، لأن المشاركة السياسية داخل “الدولة الحديثة” تقتضي التوافق بين الفرقاء السياسيين، سواء أكانوا يمينين أم يساريين، إسلاميين أم علمانيين، مادام وجودهم قويا داخل المجتمع.
وعلاج الموقف يكون حسب سمير أبو زيد بالحوار وليس بالاستبعاد “وباستثناء الحركات التي تعتمد على العنف المسلح لا يجوز اتخاذ موقف معادي أو استبعادي من هذه الحركات. وإنما الصحيح هو اعتماد أسلوب الحوار المجتمعي الشامل واحترام آراء الغالبية أيا كانت، وابتكار الوسائل والنظم التي تحقق الاستقرار المجتمعي المطلوب. إذ أن هناك نماذج حققت بدرجة أو بأخرى قدرا من النجاح كدولة حديثة لها غالبية إسلامية. ولم يكن ذلك إلا باعتبار الحركات الإسلامية جزءا من الدولة والنظام، وفي إطار عام لدولة حديثة. فالفشل في الحقيقة هو في إدارة الحوار مع هذه الحركات وفي إدراك الصورة الصحيحة لنظام الدولة في ظل وجود هذه الحركات”[13]. الأمر الذي يرجح إمكانية نجاح الإسلاميين في إدارة دولة حديثة، ولكن في جو من الحوار والاحترام بين مختلف التيارات السياسية، واستيعاب بعضها لبعض، بعيدا عن التنافر والخصام، لخدمة مصالح الشعوب.
ولن ينجح هذا الحوار إلا بتجاوز كل الإشكالات، وأهمها الإشكال الفكري الذي يطبع كلا الطرفين، والمتمثل في عدم فهم الدولة الحديثة من طرف الإسلاميين من جهة، وعدم تجاوز الرؤية الخاطئة للدين من طرف العلمانيين، وهو ما عبر عنه بعض الباحثين بقوله: “لعل الإسلامي سيدرك أنه لم يفهم جيدا مفهوم الدولة الحديثة، والدولة القائمة في عالمنا التي عادة ما تسمى “وطنية” أو “قومية”، ولعل العلماني سيدرك جيدا أن الإسلامي بذل جهدا كبيرا وقدم ألوانا مختلفة من التجديد ليتواءم مع فكرة الدولة الحديثة، ولكن العلماني لم يتجاوز بعد مأزقه الخاص مع الدين، مع القبول بحق الإسلامي في العمل السياسي، كل على شاكلته”[14].
- عوائق خارجية
وتتمثل في توجس العالم الغربي المتحكم في الدولة العربية القومية، كلما أتيحت فرصة لفوز حزب إسلامي، إذ يعلن موقفا عدائيا يتخذ شكلا علنيا أو ضمنيا، كلما اختارت الشعوب تيارا إسلاميا، حيث يستشعر خطر ضياع مكتسباته في هذه الدول العربية الحديثة التي يفرض عليها شكلا من الوصاية.
فقد بنى الغرب نموذج الدولة الحديثة “ليضمن استقرار قيادة الغرب لبقية العالم بشكل تبدو فيه الأمم مستقلة ذات سيادة كاملة في قراراتها وعلى أراضيها، لكنه قيدها بأنظمة معرفية واقتصادية ومالية وأنماط من المعيشة وشبكات تواصل ونظم معلومات وقوانين ومعاهدات دولية، ولا تستطيع أي دولة نمطية تحت أي شكل من أشكال الإيديولوجية أن تتحرر من هذا القيد “[15].
والإسلاميون حسب حكام الغرب يشكلون خطرا على هذا القيد، لأن أدبياتهم الفكرية والسياسية تتعارض كليا مع هذه الأنظمة المعرفية والاقتصادية والمالية والاجتماعية التي قيدوا بها الدولة الحديثة، لهذا يرون فيهم تهديدا لهذا الكيان الغربي، المتحكم بقوانينه الدولية، وأنظمته الفكرية والثقافية. فقد أكد نوح فيلدمان أن قادة الغرب يبدون انزعاجا من الحكم الإسلامي بما يكفي ليجده الخصوم، بما في ذلك المستعدون لاستخدام القوة، سندا خارجيا فعلا لتقويض الإسلاميين الموجودين في السلطة. مؤكدا أنه لغاية تدوين سطور كتابه، لا توجد أي حالة وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة بوسائل سلمية وسمح لهم بالحكم بطريقة سلمية. فالحرب على الإسلاميين، وعدم السماح لهم بخوض تجربة الحكم بسلام، لا تزيد هذا التيار إلا جاذبية، لأنه لم تثبت أمثلة حسب نوح فيلدمان تؤكد بلوغ الإسلاميين إلى السلطة في ظروف سلمية أساسا، وتخفق في الحكم، وما داموا لم يوضعوا في محك التجربة، فيتوقع من الناس أن يستمروا في التصويت لهم، لأن دعوتهم تقوم على القيم والمثل، وتحث على نظام عدالة شرعي، بحيث لن يكون الناس راضين إلا أن تكون لهم الفرصة ليروا ما إذا كان بإمكان الإسلاميين فعلا تطبيقه[16].
فالتجربة في الحكم إذن هي محك الإسلاميين لاختبار قدراتهم، وامتحان نجاعة مشاريعهم خاصة أمام الشعوب التي تنتخبهم في كل استحقاق ديمقراطي نزيه، لأنها ترى في برامجهم وخطابهم انسجاما مع هويتها الدينية والثقافية، ولكن هل تصلح هذه البرامج للتحقق في الدولة الحديثة؟ هذا هو السؤال الذي لن نعرف جوابه، إلا بعد منحهم الفرصة، لتقييم أدائهم، فإدماج الأحزاب الإسلامية في المجال العام وفي الحياة السياسية الديمقراطية هو المدخل الصحيح ليتطور معها الفكر السياسي عموما، والإسلامي خصوصا ولتصبح المنافسة قائمة على البرامج والمصالح والمنافع العمومية، وليس على النيات والشعارات والمظاهر الشكلية. كما أن فرضية الدمج بدل الإقصاء هي فرضية أثبتت صحتها عمليا في تجارب سياسية عديدة، فالحركات الإسلامية في النهاية كغيرها من التعبيرات السياسية المحافظة، يمكن إخراجها من سياقها الإيديولوجي المغلق، وترشيد سلوكها السياسي في ظل أنظمة ديمقراطية تقبل بإدماج المعارضة في صميم بنيتها[17].
إن التحديات والمعيقات التي تواجه الحركات الإسلامية الراغبة في حكم الدولة الحديثة، ستدفعهم حتما لإعادة النظر في مواقفهم، وستفرض عليهم تجديد خطابهم، لتنزل به من المثالية إلى الواقعية، ومن العمومية إلى الدقة والوضوح، كما سيتطلب منهم الأمر الإجابة على الأسئلة العالقة، منها تحديد موقفهم من ركائز الدولة الحديثة وفي مقدمتها تحديد موقفهم من مبدأ العلمانية في مقابل شعار الحاكمية وتطبيق الشريعة.
- تحديات التوافق مع الشريعة في الدولة الحديثة
لطالما نادت الحركات الإسلامية بضرورة تطبيق أحكام الإسلام، والعودة إلى قيمه النبيلة التي ترقى بالإنسان والمجتمعات، معتبرة أن واقع الدولة القطرية الحديثة، قد حال دون تحقيق هذه الغاية، بل ساهم في فرقة المسلمين، وانهيار قيمهم ومثلهم الأخلاقية، بسبب التبعية للغرب في كل ما يتعلق بالقشور والشكليات، دون أن يمتد هذا التأثير ليلمس الجوانب العلمية والتكنولوجية والفكرية. فرفعت شعارا تكرر كثيرا في أدبياتها السياسية، هو شعار “الإسلام هو الحل” كبديل للطرح العلماني المتطرف الذي دمر القيم والأخلاق حسب هذه الحركات الإسلامية، التي اتسمت نظرتها للدولة الحديثة بالسطحية، ورأت فيها كيانا مرنا يستطيع التكيف مع خصوصيات الدول، وليس نمطا واحدا جاهزا للنقل والاتباع، بل حتى أسسه السياسية يمكن تكييفها مع قيم الإسلام. لهذا تحدثت أدبياتها عن ديمقراطية إسلامية، ومواطنة إسلامية، ودولة مدنية في ظل مقاصد الشريعة…
فعدم وعي الإسلاميين بعمق وحقيقة الدولة الحديثة، جعلهم يغضون الطرف عن كيفية تنزيل وتحقيق المشروع الإسلامي، وتطبيق شعارهم في ظل وجود الدولة الحديثة، التي تفرض منطقها وسيادتها، والملتزمة باتفاقياتها ومعاهداتها اتجاه المجتمع الدولي. فمشروع الإسلاميين يواجه بصعوبة التوافق بين الشريعة والدولة الحديثة، لأن الإسلام حسب بعض الدارسين “وحدة سياسية ودينية، ومن المستحيل أن يندمج ذلك مع الحضارة الغربية بما هي عليه في العصر الحالي، لأن الفصل بين الدولة والدين، بالنسبة إلى للتجربة الغربية، يعد أمرا أساسيا[18]، ولا يمكن أن يتحقق التوافق بين قوانين الشريعة والدولة، حسب فهد الحمودي، إلا في الدولة الإسلامية التي تمنح لعلماء الدين حق المشاركة في العملية السياسية، في حين تتميز الدولة الحديثة بإلغاء وجود الله وأحكام الفقهاء، وانتقال زمام السلطة من علماء الشريعة التقليديين إلى الدولة القومية الحديثة، مما يعد صلب المعضلة، والمبرر الحقيقي للأزمات السياسية والقانونية في الوقت الراهن[19].
إلى جانب تحدي تحقيق التوافق بين مبادئ الشريعة الإسلامية، ومنطق الدولة الحديثة، يضاف تحدي آخر لا يقل أهمية، وهو المجتمع الغربي الذي يحول دون سهولة مهمتهم إذا أرادوا تطبيق الشريعة حسب إسماعيل الشطي لأن العالم الغربي يعلن باستمرار قلقه كلما أقدمت حكومة إسلامية على التفكير بتطبيق الشريعة، لأن اختيار منظومة تشريعية من أعمال السيادة فلذا لا تظهر المعارضة أو التحفظات الغربية صادمة مباشرة، إنما تصاغ بأطر القانون والمعاهدات والاتفاقيات الدولية[20].
لهذا ستواجه الجهات الغربية تطبيق الشريعة بالمطالبة بالتزام القوانين والمعاهدات الدولية، وأي حكومة إسلامية تسعى لتطبيق الشريعة في ظل الدولة الحديثة سوف تعجز عن تطبيق مفاهيم وأحكام الجزء الخاص بالعلاقات الدولية من الشريعة الإسلامية، طالما التزمت بالقانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بالفكرة السائدة عن استمرارية الجهاد وارتباط هذه الفكرة ببيضة المسلمين، لأن الانضواء تحت مظلة الأمم المتحدة يعني[21]:
- أولا: القبول بضوابط الحرب والسلام كما وردت في المواثيق والمعاهدات الدولية.
- ثانيا: احترام الشؤون السيادية للدول الأعضاء الأخرى وعدم التدخل بشؤونها الداخلية بدعوى الانتصار للجاليات الإسلامية إلا بما تسمح به القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
- ثالثا: الالتزام بمفهومي الوطن والمواطنة ومعاملة رعايا الدول كمواطنين متساوين بالحقوق والواجبات دون أي اعتبار للدين والمذهب أو الطائفة أو العرق أو الجهة.
ورغم خضوع الدولة الإسلامية لمقتضيات القوانين والمعاهدات الدولية ذات الطبيعة الإلزامية، ستستمر الضغوط الغربية حول قضايا حقوق الإنسان الموثقة هي أيضا في معاهدات واتفاقيات دولية، قد تتعارض بعض بنودها مع الشريعة الإسلامية. مما سيدفع بالإسلاميين إلى تقديم عدة تنازلات، والقيام بعملية انتقائية لأحكام الشريعة لاختيار ما يتوافق ولا يتعارض مع القانون الدولي.
أما داخليا فسيجابه تحدي تطبيق الشريعة الإسلامية بالرأي العام الداخلي، حيث ستشكل النخب السياسية المثقفة ذات التوجه اليساري العلماني عائقا لتحقيق هذه الغاية، وستكون مقاومته شديدة لكل الأحكام الشرعية التي تتصادم مع قيم الحداثة التي يؤمن بها. مما سيضطر الإسلاميين للتوافق مع ما يناسب جميع الأطراف السياسية، مراعاة لمبدأ الاختلاف والتعددية الحزبية، الذي تفرضه طبيعة الدولة الحديثة الديمقراطية.
علمانية التيارات اليسارية لن تكون العائق الوحيد أمام الإسلاميين للتوافق مع مبادئ الشريعة، بل ستكون مصاحبة بتحدي أسلمة المجتمع، الذي اخترقته موجة التغريب، وغيرت قيمه ومبادئه، وجعلته يتبنى النموذج الغربي في كل تفاصيل حياته، وأضحى من الصعب إقناعه بإلزامية أحكام الشريعة أو فرضها عليه، علما أن هذه الأخيرة لا تفرض بل يتم الاقتناع بجدواها، فالشريعة “لا تحكم حقا إلا إذا كان المجتمع الذي تطبق فيه يراها باعتبارها عملية تحرير وكإشباع لتطلعات الأمة، ينحو فيها كل فرد نحو تحقيق الذات والنمو الأخلاقي. وبهذا المفهوم فإن الشريعة لا يمكن أن تفرض لأنها لو فرضت لا تكون شريعة، فحينها لا يكون للشريعة سند سوى القهر، فإنها تصبح نفاقا ليس إلا”[22].
فرغم أن المجتمعات العربية مسلمة في غالبيتها، إلا أن وسائل آلية الإعلام التي تسخرها الدولة الحديثة قد طبعت هؤلاء المسلمين بما وصفه عبد الوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة التي اكتسحت المجتمع العربي الإسلامي، معتبرا أن “بعض المنتجات الحضارية التي تبدو بريئة تماما تؤثر في وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ أن أولئك الذين يشاهدون أطفالهم توم وجيري، ويشاهدون الأفلام الأمريكية، ويتابعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كما هائلا من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة- يجدون أنفسهم يسلكون سلوكا ذا توجه علماني شامل، ويستبطنون –عن غير وعي- مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة.. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة”[23].
لهذا سيواجه حلم أسلمة الدولة الحديثة بعدة تعقيدات، فالأمر لا يقتصر على سن تشريعات إسلامية، وما يعرف لدى الإسلاميين بتقنين الشريعة، بل “إن إعادة إنتاج نظام معرفي إسلامي، وإعادة تشكيل أنماط المعيشة والعلاقات الاجتماعية بما يتوافق مع قيم الإسلام، وابتكار آليات للسوق وأدوات مالية توافق مبادئ الإسلام، يحتاج إلى تعبئة فكرية شاملة وقادرة على دمج قيم ومبادئ ومقتضيات الإسلام مع مقتضيات القانون الدولي واتفاقيات ومعاهدات الأمم المتحدة والحفاظ على الانفتاح العالمي والتواصل الأممي”[24].
وهكذا يحتاج مشروع الحركات الإسلامية التي تنشد أسلمة المجتمع من خلال المشاركة السياسية، والتمكن من السلطة داخل الدولة الحديثة، إلى الوعي بكل هذه التحديات واستيعابها لتجاوزها، والحفاظ في الآن نفسه على مصداقيتها أمام الشعوب التي اختارتها، ولن يتأتى لها ذلك إلا بتجديد خطابها، وتحويله من عالمه المثالي النظري إلى مشروع عملي قابل للتطبيق، ولعل تحويل شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في ظل الدولة الحديثة إلى مشروع عملي يعتبر بحد ذاته تحديا حقيقيا، حسب إسماعيل الشطي “بغض النظر عن قبول الآخرين له، فلم يعد أمام الإسلاميين مجالا للتهرب من هذه المسؤولية وهم على أعتاب الحكم، إنهم مطالبون أن يبينوا للناس ماذا يقصدون بالشريعة بشكل صحيح وكيف سيطبقونها في ظل الظروف الراهنة؟ نقول ذلك لأننا نعلم أن الشروع عمليا بهذا الأمر يضع الإسلاميين أمام التحديات الفعلية. إذ أن رافعي شعار تطبيق الشريعة الإسلامية ما زالوا يلبدون خلفه حتى لا ينكشف الغطاء عن الأزمة الحقيقية وراء تطبيق الشريعة الإسلامية، فبمجرد الانتقال من الشعار إلى المشروع سينكشف حجم الخلاف حول تحديد مفهوم الشريعة وكيفية تطبيقها، حيث لا اتفاق موحد حول مفهوم الشريعة؟ هل هي فهم بشري ثابت لأحكام الدين؟ أم فهم متغير؟ وما الثابت فيها وما المتغير؟ وما المقدس فيها وما اللا مقدس؟”[25].
فالأمر يحتاج لوقفة مع الذات عميقة، واجتهادات علمية عملية لتحديد المقصود بحكم الشريعة و”حاكمية” الله، الذي ظل لزمن طويل شعارا عاما غامضا، يحتاج إلى تفصيل وتوضيح لإقناع الشركاء السياسيين والشعوب الناخبة بأهمية تنزيله، إذ يرى نوح فيلدمان أن الإسلاميين يقعون في صعوبات عندما يحاولون شرح كيف ينبغي أن يحكم الشرع الإسلامي “فطيلة أغلب القرن الماضي، تحاشت الكتابات الإسلامية أساسا تناول المسألة وهي تقدم الشرع الإسلامي باعتباره مصدرا واعدا للخلاص الاجتماعي من دون أن تكون هناك أي محاولة للتفسير دستوريا أو دينيا ما الذي يبرر اعتماده وتنفيذه. وبما أن الإسلاميين نادرا ما وصلوا إلى السلطة في العالم السني، فقد قلص ذلك عنهم عبء شرح من أين تأتي صيغتهم للشريعة مثلما جعلت من غير الضروري لهم اعتماد مقترحات ملموسة للسياسات في مجالات أخرى من السياسة العادية”[26].
وهكذا يكون الهدف الذي بنت عليه الحركات الإسلامية وجودها، وشكل أساس نشأتها، هو أسلمة الدولة الحديثة، من خلال إعادة روح الدين داخله، ومراعاة مقاصد الشريعة، وإن تنازلت نسبيا عن التطبيق الحرفي لأحكامها، غير أن طبيعة الدولة الحديثة المتأسسة على روح العلمانية، وسيادة الدولة والقوانين الوضعية، تتعارض مع هذا المشروع، وتعيق تحققه، وهو ما جعل عزت هبة رؤوف تعتبر مشروع أسلمة الدولة الحديثة مغالطة كبيرة وقع فيها الإسلاميون، وأنه أم الكوارث، لأن الأمر لا يرجع إلى غياب نظرية في السلطة والسياسة الشرعية، بل لأن المأزق يكمن في “أن أية صيغة سياسية للحكم تحقق مقاصد الإسلام من عدل ومساواة وتبادل لكرسي الحكم ومساءلة وشفافية ومواطنة لا يمكن أن تكون عبر هذه الدولة القطرية القومية الحديثة تحديدا بأي حال من الأحوال، لأن خريطتها الجينية ابتداء كانت ضد مرجعية الدين، وأركانها تأسست على غير دعائمه، وهذا ليس رأيا إيديولوجيا بل حقيقة وواقعا تاريخيا، وبالتالي الجدل الأكثر جدوى ينبغي أن يكون حول المخرج من ذلك المأزق وليس التنازع حول الأصل من عدمه”[27]. فدولة الحداثة والاستعمار ثم التبعية كجهاز ومنطق مؤسسي لا يمكن أسلمتها حسب هبة رؤوف “وأن علينا واجب الاجتهاد في كيفية “الانتقال” إلى السلطة والإدارة السياسية التي نريد، من دون دفع ثمن سقوط أنقاض هذه الدولة فوق رؤوسنا”[28].
فالأمر يحتاج إذن إلى تمحيص ومراجعة خاصة من لدن الحركات الإسلامية التي تستهدف المشاركة السياسية داخل هذا الكيان السياسي، لأن الإطار المرجعي للإسلاميين يناقض روح الدولة الحديثة التي تستبطن في أحشائها الأساس العلماني العقلاني، ولا يمكن أن تقبل هذه الأخيرة بالإسلاميين، إلا إذا قبلوا بتغيير توجهاتهم لتتسق مع طبيعة هذه الدولة. أو تغير الدولة طبيعتها لتتحول إلى نوع جديد من الدول ينسجم مع مرجعية الإسلاميين. وهذا النوع الجديد من الدول يحتاج إلى بناء فكري أصيل، أكثر واقعية، ومسايرة لروح العصر، حتى يكون قابلا للتطبيق.
وقد وعت بعض الحركات الإسلامية والأحزاب المنبثقة عنها بهذه الحقيقة المميزة لطبيعة الدولة الحديثة، فحاولت التراجع النسبي عن مشروع أسلمتها، ويعد هذا الأمر أحد أكبر التحولات التي عرفها فكر إسلاميي حركة “التوحيد والإصلاح” وحركة “النهضة”، حيث شكل هذا المشروع في الثمانينات أحد أهداف المشاركة السياسية داخل هذه الدولة، وهو ما عبرت عنه بشكل مباشر أدبياتهم السياسية، والتي استهدفت إقامة الدين على مستوى المجتمع ومؤسسات الدولة، كما توخت أسلمة مبادئ الدولة الحديثة، من خلال نزع جوهرها العلماني، وترشيد هذه المبادئ الحداثية للتوافق مع الدين الإسلامي، من خلال المناداة بديمقراطية أخلاقية، ودولة مدنية تتوافق مع الشريعة، وحريات مشروطة بعدم الخروج عن الشرع…
أهداف بقيت رهينة سطور أدبيات حركة “التوحيد والإصلاح” وحركة “النهضة”، ولم يتم إدراجها في البرامج السياسية للأحزاب المنبثقة عنهما، والتي تجردت من الشروط الدينية الملزمة. وحافظت على الدعوة لتخليق الحياة السياسية والعامة، ورفع شعار محاربة الفساد، شأنهم في ذلك شأن العديد من الأحزاب الوطنية. كما عبرت البرامج السياسية لهذه الأحزاب الإسلامية عن انفتاح كبير على أسس الحداثة، والتصالح مع قيمها الكونية، الأمر الذي أكده اعتماد المصطلحات الحداثية بشكل قوي، دون وضع شروط أو قيود دينية.
أما مشروع التوافق مع مقاصد الشريعة الذي أكده خطاب الحركتين الإسلاميتين فقد بدا باهتا، لا يكاد يذكر، إلا فيما يتعلق بالتأكيد على ما نص عليه الدستور من إسلامية الدولة، وضرورة مراعاة المبادئ العامة التي تتوافق مع هذا الإطار. ويؤكد هذا الاختلاف بين المشروع الذي طرحته أدبيات الحركتين الإسلاميتين، وبين البرامج السياسية للأحزاب المنبثقة عنهما، الوعي بخصوصية الدول القطرية الحديثة والتحديات التي تطرحها، سواء داخليا أو خارجيا، والتي تحول دون الحرص على التوافق مع الشريعة، بالشكل الذي رسمته أدبيات الحركة.
وانسجاما مع طبيعة الدولة الحديثة وأسسها، تصالح رواد حركة “التوحيد والإصلاح” وحركة “النهضة” مع أحد أكبر مبادئ الدولة الحديثة، بعد معاداته زمنا طويلا، ويتعلق الأمر بمبدأ العلمانية، خاصة في صيغته المعتدلة، لا المتطرفة، حيث تحولوا من رسم صورة قاتمة عن هذا المبدأ الحداثي، إلى الدفاع عنه، واعتباره ضحية سوء الفهم، بل والإشادة بأفضاله في حماية الدين من تسلط الدولة.
فقد خلص راشد الغنوشي إلى ضرورة تحرير الدين من قبضة الدولة في العالم العربي الإسلامي، لا تحرير الدولة من الدين كما طرح في المجتمع الغربي، إذ الإشكال حسب الغنوشي يكمن في “كيفية تحرير الدين من الدول ومنعها من التسلط عليه، وأن يظل هذا الأخير شأنا مجتمعيا متاحا لكل المسلمين بأن يقرؤوا القرآن ويفهموا ما شاؤوا”[29]. كما أن تحرير الدين من تسلط الدولة يحقق حسب الغنوشي ضمانا لاستقلال مؤسساته، ومساجده ومدارسه واسترداد أوقافه لتؤول ملكيتها إلى المجتمع لا إلى الدولة، بحيث تديرها هيئات شعبية منتخبة، كما أنها تحد من تغول الدولة وتمددها… أما ما سينفذ من الدين عبر أجهزة الدولة فهو ما ينضج في قاع المجتمع من قناعات وبرامج[30]. وهنا نجد تراجعا كبيرا عما أدرجه الغنوشي في كتاباته السابقة حول مسؤولية الدولة عن حراسة الدين وحمايته[31]، وقلبا كليا للقناعات السابقة.
أما رواد حركة “التوحيد والإصلاح” فلم يكتفوا بالتنظير لأفضال التمايز بين الديني والسياسي، بل طبقوه على المستوى الواقعي من خلال الفصل بين مؤسستين، مؤسسة حركة “التوحيد والإصلاح” المتخصصة في العمل التربوي والدعوي، ومؤسسة حزب “العدالة والتنمية” المتخصصة في المجال السياسي، وقد تم ذلك منذ بداية الانخراط في العمل السياسي. وعيا منهم بطبيعة الممارسة السياسية داخل دولة حديثة تفرض وضع حدود بين السياسي والديني لتجنب المعيقات والصعوبات التي تفرضها طبيعة هذه الدولة، التي لا تؤمن إلا بالإنجاز والعطاء، وتحقيق أكبر قدر من المصالح للمواطنين، بعيدا عن أية إيديولوجيا دينية. لهذا تعتبر خطوة الفصل بين الدعوي والسياسي لدى الحركة والحزب، ضمانا لنوع من الاستمرارية في المشاركة السياسية، لأنها ترفع عن هؤلاء الإسلاميين نسبيا تهمة معارضيهم باستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية، أو الطموح لإنشاء دولة دينية.
وقد أدرك هذه الحقيقة الأخيرة، حزب “النهضة” ولو بشكل متأخر زمنيا عن حزب “العدالة والتنمية” المغربي، فتخلى بشكل كلي عن العمل الدعوي والديني، الذي تركه للمجتمع المدني، مكتفيا بالتخصص في العمل السياسي، معلنا نفسه حزبا سياسيا وطنيا ديمقراطيا، همه الأساس إنشاء برامج تنموية اقتصادية واجتماعية، تنهض بالدولة، وتحقق للمواطنين نوعا من الاستقرار المادي.
وقد يعود السر في تأخر خطوة الفصل بين الدعوي والسياسي لدى حركة النهضة، مقارنة مع تجربة حركة “التوحيد والإصلاح” المغربية وحزب “العدالة والتنمية” التي استفاد منها إلى تأخر الممارسة السياسية لحزب “النهضة”، الذي لم يختبر واقع الحكم داخل دولة حديثة إلا في بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، في حين شارك حزب “العدالة والتنمية” المغربي في المؤسسات السياسية، منذ 1997م، وتميزت هذه المشاركة بخط تصاعدي، حتى حصل على أعلى نسبة من الأصوات الانتخابية سنة 2011م، مما خول له رئاسة الحكومة المغربية.
خاتمة
إن التراجع النسبي عن مشروع أسلمة الدولة الحديثة، والتصالح مع أهم مبادئها الحداثية المتمثلة في الديمقراطية والعلمانية المعتدلة، ومدنية الدولة، والمواطنة، وقيم حقوق الإنسان…، يعكس بشكل جلي دور التجربة السياسية في تغيير تمثلات الإسلاميين عن الدولة والحكم، إذ منحتهم الممارسة فرصة اختبار مواقفهم على أرض الواقع -واقع الدولة الحديثة- فتبين لهم أن شعاراتهم التي رفعوها في خطابهم قبل الممارسة السياسية، والتي يتمحور أغلبها حول الإسلام، وضرورة التوافق مع أحكام الشريعة، لا مجال لتحقيقه داخل دولة تفرض الإيمان بالتعددية السياسية، ومن تم التوافق مع مختلف المرجعيات التي تمثلها الأحزاب المشكلة للمشهد السياسي، وكذا التكيف مع البرامج التي تطرحها، الأمر الذي يصعب معه تحقيق التوافق بين الشريعة والدولة الحديثة، بالشكل الذي رسمته أدبيات الخطاب الإسلامي.
فقد اصطدمت الأحزاب الإسلامية، الحاملة لفكر حركاتها الحالمة بأسلمة الدولة الحديثة، من خلال التوافق مع الشريعة، بواقع دولة لا تملك قراراها المستقل، بل هي تابعة في سياساتها المتنوعة، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية، أو المالية لمؤسسات دولية تفرض وصايتها عليها، من خلال إلزامها بعدة معاهدات واتفاقيات، تحد من حريتها، سواء تعلق الأمر بالهيئات الدولية المتحكمة عن بعد في شؤونها، أو صندوق النقد الدولي الذي يرهق كاهل هذه الدولة العربية الحديثة بديون تجد نفسها مضطرة لتقديم العديد من التنازلات قصد التوافق مع برامجها وضغوطاتها، مما يصعب معه التوافق مع مقاصد الشريعة التي نادى بها الإسلاميون المنفتحون، من أمثال حزب “النهضة” وحزب “العدالة والتنمية”. الأمر الذي بدا واضحا في عجزهم عن تطبيق أحلامهم المنسوجة في أدبياتهم، والداعية إلى تخليق المؤسسات، وتوجيهها وفق مقاصد الدين الإسلامي وقيمه، متخذين شعار الإصلاح ومحاربة الفساد مطية لتحقيق هذه الأهداف.
[1]– اسماعيل الشطي، الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى، 2013م، ص 69.
[2]– وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، أكتوبر 2014م، ص25.
[3]– نفس المرجع، ص 181.
[4]– نفس المرجع، ص111.
[5]– نفس المرجع، ص 284.
[6]– نواف القديمي، الإسلاميون: سجال الهوية والنهضة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة2، 2011م، ص96.
[7]– نفس المرجع، ص96.
[8]– عماد عبد الغني، الإسلاميون بين الثورة والدولة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة 1، 2013م، ص 277.
[9]– نفس المرجع، ص 139.
[10]– ميشال نوفل، عودة تركيا إلى الشرق، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى، 2010، ص 65.
[11]– طارق البشري، “حول العروبة والإسلام“، ورقة قدمت إلى: الحوار القومي- الديني: أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت: المركز،1989.
[12]– عماد عبد الغني، الإسلاميون بين الثورة والدولة، مرجع سابق، ص 125.
[13]– سمير أبو زيد، الثورات الشعبية العربية وتحديات إنشاء الدولة الحديثة، مكتبة مذبولي، القاهرة، 2013م، ص15.
[14]– معتز الخطيب، مأزق الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين، جسور للترجمة والنشر، الطبعة1، بيروت 2016، ص8
[15]– إسماعيل الشطي، الإسلاميون والدولة الحديثة، مرجع سابق، ص61.
[16]– نوح فيلدمان، سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها ، ترجمة الطاهر بوساحية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2014م، ص178.
[17]– عماد عبد الغني، الإسلاميون بين الثورة والدولة، مرجع سابق، ص ص17- 24.
[18]– Erwin. I. J. Rosenthal, PoliticalThought in Medieval Islam : an IntroductoryOutline(Cambridge University Press,1962),chapter6 pp270-281.
[19]– فهد الحمودي، الشريعة الإسلامية والدولة الحديثة: تعارض أم توافق، مقالات في السياسة الشرعية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة1، بيروت 2014، ص244.
[20]– إسماعيل الشطي، الإسلاميون والدولة الحديثة، مرجع سابق، ص ص 66- 67 .
[21]– نفس المرجع، ص ص 66- 67 .
[22]– عبد الوهاب الأفندي، لمن تقوم الشريعة الإسلامية، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 2011م، ص221.
[23]– عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الأول، دار الشروق، القاهرة، الطبعة1، 2002م، ص29.
[24]– إسماعيل الشطي، الإسلاميون والدولة الحديثة، مرجع سابق، ص61.
[25]– نفس المرجع، ص69-74.
[26]– نوح فيلدمان، سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها، مرجع سابق، ص151
[27]– عزت هبة رؤوف، نحو عمران جديد، سلسلة الفقه الاستراتيجي” محور السلسلة: أحمد عبد الجواد زايدة”، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة 1، بيروت، 2015م، ص111.
[28]– نفس المرجع، ص 191.
[29]– راشد الغنوشي، “الدين والدولة في الأصول الإسلامية والاجتهاد المعاصر” ورقة قدمت بحوث الدين والدولة في الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013،ص 29. نقلا عن عماد عبد الغني، الإسلاميون بين الثورة والدولة، مرجع سابقـ، ص 76
[30]– راشد الغنوشي، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام ، الدار العربية للعلوم والنشر، مركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2012م، ص55.
[31]– راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،1993م، ص93.