
لقد اعتمدت منظمة الأمم المتحدة سلسلة متكاملة من الآليات التي تساعد في محاربة التمييز ضد المرأة على أكثر من صعيد وفي أكثر من بلد، فوضعت كماً هائلاً من الاتفاقيات الدولية الملزمة من أجل تحسين أوضاع المرأة وتحريرها من القيود المفروضة عليها وتتمثل هذه الإتفاقيات في: اتفاقية حظر البغاء واستغلاله، سنة 1949؛ اتفاقية الحقوق السياسية للمرأة، سنة 1952؛ اتفاقية جنسية المرأة المتزوجة وحقها بالاحتفاظ بجنسيتها الأصلية، سنة 1957؛ اتفاقية اليونسكو ضد التمييز في التعليم، سنة 1960؛ اتفاقية القبول الطوعي بالزواج والسن الدنيا للزواج وتسجيله، سنة 1962.
وفي العام 1979 وضعت هذه المنظمة اتفاقية عامة تعني بكل حقوق المرأة، وهي اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو-CEDAW)، ومن الغريب أنه لم يرد مصطلح “العنف” في هذه الوثيقة، ما دفع باللجنة المنبثقة عن هذه الإتفاقية، إلى وضع التوصية رقم (19) لعام 1992م، التي وسعت من مفهوم التمييز ضد المرأة ليشمل حتى العنف الموجه ضد ها.
ثم جاء مؤتمر نيروبي في عام 1985م ليطالب الدول الأطراف بالقيام بخطوات قانونية تمنع ما أطلقت عليه “العنف المبني على الجندر”، بل واعتبرته أهم المعوقات ضد السلام والتنمية والمساواة. وفي عام 1993 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان بشأن القضاء على العنف ضد المرأة، وبتاريخ 4 آذار/مارس 1994، قررت لجنة حقوق الإنسان في قراراها رقم 1994/4، تعيين مقررا خاصا يُعنى بمسألة العنف ضد المرأة وأسبابه وعواقبه. وجاء مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة عام 1994 ليدين في الوثيقة الختامية الصادرة عنه، ما أطلق عليه: العنف الموجه ضد المرأة وبشكل خاص العنف الجنسي بشتى أنواعه.
والواقع أن المؤتمر الدولي الرابع للمرأة ببكين سنة 1995، كان متميزاً في تمثيله (إذ حضره ممثلون عن كل دول العالم)، وفي مضامينه (إذا أثار معظم القضايا التي تهم المرأة حتى القضايا الإشكالية منها ووافق المشاركون فيه على معظمها)، فلقد اعتبر “العنف ضد المرأة من مجالات الإهتمام الحاسمة واعتبر أن انتهاك الحقوق الإنسانية للمرأة هو انتهاك لحقوق الإنسان تحاسب الدول على ارتكابه”.
وانطلاقا من كل هذه الصكوك الدولية التي اهتمت تدريجيا بالعنف ضد النساء نتسأل، ما هو المقصود بالعنف ضد المرأة لاسيما في إطار الأسرة، وماهي التدابير التي يجب أن تتخذها الدول للقضاء عليه؟
- 1. مفهوم العنف ضد النساء في اطار الأسرة:
انطلاقا من كل الصكوك التي سبق لنا ذكرها، نكون أمام حالة عنف ضد المرأة لما:
- يكون مبني على نحو جائر على الجندر أو النوع/ الجنس: أي العنف الموجه ضد المرأة بسبب كونها امرأة؛
- يكون يشمل أعمال تلحق ضررا أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة جسدية أو عقلية أو نفسية أو جنسية، وحتى مجرد التهديد بهذه الأعمال؛
- الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء وقع ذلك في محيط الحياة العامة أو الخاصة؛
- مجرد خرق إحدى أحكام من اتفاقية السيداو بصرف النظر عما اذا كانت تلك الأحكام ذكرت العنف صراحة أم لم تذكره، أو حتى الاعتراض أو التحفظ عليها؛
وعليه فإن مصطلح العنف ضد المراة هو مصطلح واسع جدا، بل ويزداد اتساعًا عامًا بعد عام، إذ تضاف إليه في كل مناسبة ومع كل وثيقة جديدة تعريفات وتطبيقات مستحدثة. أما العنف الأسري، أو العنف الذي تتعرض له النساء داخل الأسرة فهو حسب الصكوك الدولية لحقوق الانسان، سالف الذكر هي:
– الزواج تحت سن الثامنة عشر: الذي تعتبره المادة 16 من اتفاقية السيداو زواج باطل، ثم جاءت وثيقة (عالم صالح -جدير- للأطفال 2002) لتصنفه ضمن الممارسات الضارة والتعسفية، حيث نصت على: “القضاء على الممارسات الضارة أو التعسفية التي تنتهك حقوق الأطفال والنساء مثل الزواج المبكر والقسري…”، ثم اعتبرته لجنة مركز المرأة عام 1999 ممارسات ضارة تهدد حق المرأة في الحياة؛
– الضوابط المفروضة على الحرية في الجسد: ومنها استنكار الحرص على العفة والعذرية، إلزام الحكومات بتوفير خدمات الصحة الإنجابية لكل الشرائح العمرية وإباحة الإجهاض، وأن خيار الإنجاب خاص بالزوجة فقط دون الزوج، كما أن يصبح اختيار الهوية الجندرية أي اختيار التوجه الجنسي من حقوق الإنسان؛
– مهر العروس: تعتبر الوثائق الدولية المهر ثمنًا للعروس، ومن ثم يعدَّ عنفا ضد الفتاة، بل واعتبره تقرير اليونيسيف للعنف المنزلي عام 2000، واحدًا من أربعة وثلاثين عاملاً من عوامل ارتكاب العنف المنزلي؛
– عمل الفتاة في بيت أهلها: اعتبر تقرير لجنة الخبراء الصادر عام 2007، أن عمل الفتاة دون الثامنة عشرة في منزل أهلها “أحد أسوأ أشكال عمالة الأطفال”، وطالب من منظمة العمل الدولية بإدراجه ضمن أسوأ أشكال عمالة الأطفال، وبالتالي تجريمه دوليًا واعتباره عنفًا ضد الطفلة.
– عدم التساوي بين الرجل والمرأة في الميراث: اعتبر تقرير لجنة الخبراء سالف الذكر، أن القوانين في البلدان غير الغربية تؤدي إلى “الحد من قدرة المرأة على التطوير الاقتصادي”، وذكر مثالاً لذلك قوانين الميراث في الدول الإسلامية، حيث اعتبره تمييزًا ضد الفتاة، وطالب بالمساواة التامة فيها بين النساء والرجال.
– الولاية على الأبناء: اعتبر التقرير الإقليمى للمنطقة العربية الصادر عن الأمين العام للأمم المتحدة والمعنون: “العنف في المواقع المختلفة”: أن تهذيب الوالدين للأبناء أو توبيخهم أو اتباع أى سياسة عقابية “عنفًا ضد الأطفال داخل الأسرة يجب توقيفه على الفور”. كما تعتبر لجنة مركز المرأة الدولية أن اختصاص الفتاة بمبدأ الولاية في الزواج، يعد تمييزًا ضدها يجب القضاء عليه؛ لتحقيق المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى، وذلك وفقًا لنص المادة (16) من اتفاقية السيداو سالفة الذكر.
– الأدوار الفطرية لكل من الرجل والمرأة داخل الأسرة: اعتبرت منظمة الأمم المتحدة هذا التقسيم تكريسًا للعنف ضد المرأة، ومن ثم عقدت مؤتمرات تلو المؤتمرات، وأصدرت وثائق عدة بهدف القضاء على ذلك التقسيم، والعمل على تبادل الأدوار “النمطية/التقليدية/ الجندرية”، أو على أقل تقدير توحيد الأدوار بحيث يمكن اقتسامها بالتساوي بين الجنسين.
– قوامة الرجل في الأسرة: طالب تقرير لجنة الخبراء الصادرة عن قسم الارتقاء بالمرأة (DAW)، في الفقرة (50) بإلغاء القوامة ووصفها بـ «الهياكل الطبقية في إدارة البيت، وبأنها تمنح الحقوق والقوة للرجل أكثر من المرأة، واعتبر أن ذلك يجعل النساء والفتيات ذليلات تابعات للرجال.
– الطلاق بإرادة الزوج المنفردة: تعتبر الصكوك الدولية الصورة التي يتم بها الطلاق في الشريعة الإسلامية عنفًا ضد المرأة، ومن ثم تلح في المطالبة بإلغاء أي فوارق في الحقوق والمسئوليات بين الرجل والمرأة عند فسخ الزواج، ومن ذلك ما نصت عليه المادة (16/ج).
– تعدد الزوجات: اعتبرت منظمة الأمم المتحدة من خلال مختلف الصكوك التي أصدرتها، التعدد من أبعد أشكال التمييز والعنف ضد المرأة، ومن ثم عملت على نزع الشرعية عنه ؛ تمهيدًا لمنعه وتجريمه.
- 2. التدابير التي يجب أن تتخذها الدول للقضاء على العنف الأسري (التطبيق لبنان):
يعتبر القانون أكثر الأدوات تعبيراً عن سياسات الحكومات، فهو الذي يعكس موقف الدول من بعض حقوق المرأة. وعلى هذا الأساس ألزمت مختلف الصكوك الخاصة بالمرأة وعلى رأسهم إتفاقية السيداو، ألزمت الدول الأطراف فيها بتعديل تشريعاتها الوطنية التمييزية وجعلها متطابقة مع أحكامها وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة، من أجل تحقيق المساواة الكاملة بين النساء والرجال، ومن ثم القضاء على العنف ضد المرأة.
لبنان من الدول القليلة المشاركة في تأسيس منظمة الامم المتحدة، بل وكانت من بين الدول العربية القليلة التي شاركت في وضع أول صك دولي خاص بحقوق الإنسان عام 1948، أي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما كانت لها مشاركات لافتة في كل المؤتمرات الدولية حول المرأة، ولفد انظمت إلى اتفاقية السيداو في عام 1997 ولكن مع تحفظ لاسيما على المادة 16 من اتفاقية السيداو الخاصة بالأحوال الشخصية.
ومن هذا المنطلق عملت مجموعة من التجمعات والهيئات النسوية العلمانية أسمت نفسها “التحالف الوطني لتشريع حماية النساء من العنف الأسري”، من أجل وضع مشروع قانون”المرسوم رقم 4116″، أصبح الآن في أدراج لجنة نيابية فرعية في البرلمان اللبناني من أجل إقراره.
ومن أخطر ما ورد في هذا المشروع القانون:
- أنه يدعو في جوهره إلى تفكيك الأسرة وذلك بتحريم أمور مباحة شرعًا كالجماع، واعتباره إغتصابا يعاقب عليه الزوج بالسجن إلى غاية ثلاث سنوات (المادة 3/أبند 3 و4)، وإباحة أمور محرّمة شرعًا كالمساكنة والفجور والتشجيع عليهما؛
- إحداث خلل في الصورة المرجعية الوالدية للطفل عبر تدخل سلطة الدولة لحبس الأب المُعنِف أو عزله، وحتى بتعديل قواعد الولاية والوصاية (المادة 3بند 9و10)،
- حماية الأطفال قانونا مما قد يشجعهم على عقوق الوالدين؛
- فتح الباب على مصراعيه أمام كل من يريد الشكوى حتى وإن كان غير ذي صفة مما يمس بخصوصية الأسرة (المادة 15).
- تشتت المرجعية الأسرية بين المحاكم المدنية والمحاكم المذهبية.
وفي الأخير يجب التذكير بالجهة الممولة لهذا المشروع، وهو الاتحاد الأوروبي، الذي وضع في أواخر عام 2011 إتفاقية تناهض العنف داخل الأسرة ولم تدخل بعد هذه الاتفاقية حيز التنفيذ لعدم حصولها على موافقة الدول الأعضاء في هذا الإتحاد، مع أن هذه المنظمة الإقليمية قد استطاعت توحيد أكثر من 27 دولة على الإقتصاد والسياسة والمواطنة، وعجزت في تنظيم الأسرة الأروبية.
مداخلة ألقيت خلال الملتقى الذي نظمته جامعة الجنان/ طرابلس لبنان يوم 8 آذار 2012 بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، تحت عنوان: “العنف الأسري وسبل القضاء عليه”