
تشكّل المعنى بين دلالات النّص وتأويل القارئ عند “إمبرتو إيكو” أ. الميلود حاجي، جامعة سوسة ـ تونس. مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 33 ص 61.
تلخيص:
تحظى مسألة المعنى باهتمام كبير داخل الدّراسات النقديّة الأدبيّة منها وحتى الفلسفيّة. وقد حقّق “إمبرتو إيكو” (Umberto Eco) في هذا الموضوع تقدّما لا يُنكر تنظيرا وتفسيرا وتأويلا. فقد باشر نصوصا سرديّة عديدة من قصص وروايات بالنقد والتأويل. وتحدّث “إيكو” في كتابه “القارئ في الحكاية” (Lector in fabula)عن بنيات متعدّدة في النّص تشكّل مسالك مختلفة لاحتمالات المعنى وممكناته. وهذه البنيات تستوجب، حسب إيكو، انخراط القارئ في النّص سمّاه قارئا نموذجيّا، ذلك أنّ كلّ نص يفترض المشاركة التفسيرية لقارئه النموذجي.
إنّ من سمات القارئ النموذجي أنّه لايباشر النّص وهو خاوي الذّهن بل يباشره وهو يحمل استراتيجيّة قرائيّة يواجه بها مسكوت النّص وغموضه، موظّفا كفاءات لسانيّة وغير لسانيّة تساعده على استنطاق النّص واستخراج ما لم يقله صراحة. وينتج عن هذا أنّ معنى النّص حدث ديناميّ يتولّد بمساهمة القارئ عبر فعل القراءة. ولكن “إيكو” اشترط في فعل القراءة أن يكون للتأويل سند نصيّ يحميه من الخطإ واللامنطق. وهذا كلّه ما سنسعى إلى تفصيل القول فيه في هذا المقال.
الكلمات المفتاحيّة: المعنى- العوالم الممكنة- العوالم المتخيّلة- القارئ النموذجي- السياق – التأويل- العالم الواقعي – الموسوعة.
1) مدخل إلى مسألة المعنى:
لا شكّ في أن ّكل ملفوظ أو منطوق به هو تصوّر لمعنى أو بعض المعنى. ولعلّ هذا ما جعل من قضيّة المعنى قضيّة مركبة شغلت المفكرين والنقاد وشكّلت موضوع بحث بالغ الأهميّة ليس في حقل اللسانيات وحسب بل في حقول معرفيّة أخرى، من نحو الفلسفة والمنطق والأدب والنقد. وقد انبرى نفر من المفكرين في تحديد ماهيّة المعنى وذهبوا في شأنها مذاهب شتّى. ويعود هذا الاختلاف إلى طابع موضوع المعنى الإشكالي من ناحية وارتباط مفهوم المعنى بمفاهيم أخرى قريبة منها على غرار مفاهيم الدلالة (signification) والمدلول(signifié) والقيمة إلى(valeur) والتصوّر(concept)ومفهوم القصد (intention) ونحوها من ناحية أخرى[1].
لذلك انصبّ اهتمام النقاد في السنوات الأخيرة على توطيد العلاقة بين الفلسفة والنقد بغرض توسيع أفق التفكير النقدي وتأسيس وعي جديد ما بعد حداثي ينبني على التساؤل ويتبنّى أساليب الشك والحوار ولا يحتكم إلى يقين ثابت، وإنّما يسلك طرائق الممكن والمحتمل. وهو ما تعكسه نتائج المناهج المعاصرة ومن بينها المنهج التأويلي الذي انتزع مصداقيته بفضل ما يوفره من آليات وإجراءات من جهة وبفضل انفتاحه على حقول معرفية متنوعة من جهة أخرى، جعلته يتخلّى عن مفهوم المعنى المطلق ويتبنّى مشروع تعدّد المعنى. يقول “إيكو”: “ما من وجود لعمل منغلق على الإطلاق. ذلك أنّ كلّ عمل فني يعبّر في حقيقة الأمر عن سلسلة غير منتهية من القراءات”[2]. وهذا يعني أنّ النّص معين لا ينضب من الاحتمالات والإمكانات المفتوحة على كلّ التأويلات والمعاني.
ولعلّ من أهمّ الإشكالات التي طرحتها “نظريات المعنى” موطن المعنى. فهل يتجلّى المعنى في اللفظ أم في الجملة أم في النّص أم في القضيّة؟. وهل يمكن للمعنى أن يكون في العلامة خارج اللغة أم في الذهن أم في العالم المشترك بين المتكلّمين؟
ذهبت الواقعية المرجعيّة[3] إلى القول إنّ معنى العبارة هو ما تشير إليه في الواقع. والمرجع هو “الشيء أو جملة الأشياء ممّا تشير إليه عبارة ما”[4]. وما نتبينّه من هذا الرأي هو أن اللفظة أو العبارة لا معنى لها إن لم تشر إلى شيء له حضور في الواقع المادي. ولكن إذا كان المعنى هو المشار إليه في الواقع المادّي ذاته فإلام تشير لفظة “الغول” على سبيل التمثيل؟. من هنا يجوز التساؤل إن لم يكن المعنى هو المشار إليه فماذا يكون؟ أيكون في اللغة ذاتها من خلال خلق عوالم خياليّة ممكنة لا مرجع لها إلاّ في إطار الخطاب اللغوي من نحو الملاحم والأساطير أم يكون المعنى في ذهن المتكلّم ويُنقل إلى المخاطب بواسطة اللغة؟
إنّ الإشكال الذي يثيره هذا التصوّر هو أنّ هناك مفردات لها صورة ذهنيّة مبهمة قد يختلف الناس فيها اختلافا كبيرا من نحو العنقاء مثلا. ثمّ إن عوامل عدّة تسهم في تشكيل الأفكار من نحو المشاعر والخيال والتمثّلات الذّاتية والإيدولوجيا. فصورة القدس الشريف مثلا في ذهن الفلسطنيين غير صورته في ذهن اليهود وصورة جمال عبد الناصر عند المصريين غير صورته عند السعوديين. يُضاف إلى ذلك إذا كانت المعاني هي الصور التي تستدعيها التراكيب اللغوية فإنّ هناك عبارات لا صور لها في الذهن من نحو عبارات “مهما يكن” و”على أية حال” و”كيف”. فهل معنى ذلك أنّ عبارة “مهما يكن” مثلا ليس لها معنى ؟ أم أنّ معنى ملفوظ ما يتجلّى في الأثر الذي تحدثه العبارة في ذات المتلقي كالاقتناع أو الغضب أو الضحك والسرور.
ولكن الأثر في السامع مرتهن أحيانا باعتقاد السامع صدق المتكلّم في الواقع التجريبي. هذا بالإضافة إلى أنّ هذا الرأي لا يصدق إلاّ مع الجمل الخبريّة التي تحتمل الصدق والكذب. وبذلك فهذا التصوّر لا يصلح إلاّ مع صنف معيّن من الجمل. ولسدّ هذه الثلمة رأت النظرية السياقية[5] أنّه لا معنى للكلمات خارج السياق. فالكلمة يتحدّد معناها من خلال السياق الذي ترد فيه. ذلك أنّ للكلمة عدّة استعمالات سياقية وكلّ سياق يظهر أو يحدّد أحد هذه المعاني أو وجها منها. ومن ثمّ، “يكون من المستحيل تأويل الملفوظ إذا اقتصر السامع على الجملة وظلّ جاهلا بالمقام الذي فيه نشأت”[6]. وهذا يعني أنّ الخطاب مهما كان نوعه لا يمكن أن يتحدّد معناه إلاّ من خلال السياق. فهو إطار منهجي يجب تطبيقه على الأفعال اللغوية وفي هذا الصدد يقول”فيرث”(Firth): “إنّ المعنى علاقات موقفيّة في سياق الموقف”[7]. ويرى الفيلسوف الألماني “فتجنشتين”(Wittgenstein) أنّ معنى الكلمة يكمن في استعمالها في اللغة. يقول: “لا تسأل عن المعنى ولكن سل عن الاستعمال”[8]. وبذلك فالمعنى المعجمي ليس كلّ شيء في إدراك معنى الكلام. فهناك عناصر ذات دخل كبير في تحديد المعنى بل هي جزء من أجزاء الكلام كشخصية المتكلم والمخاطب وما بينهما من علاقات وما يحيط بـالكلام من مناسبات وظروف. فلا يتحدّد المعنى المقصود تنصيصا للمفردة الكلامية إلاّ عن طريـق سـياق النص وما يحيط به من ظروف ووقائع. فدلالة مفردة “جذر” على سبيل التمثيل عند الفلاح تختلف عن دلالتها عند اللغوي.
وعلى هذا الأساس فإنّ علاقة الكلمة بمدلولها ليست رهينة قاعدة مضبوطة ونهائيّة بل رهينة السياق أو المقام الذي أُدرجت فيه. والسياقات والمقامات متنوعة وغير متناهيّة. ولعلّ هذا ما يجعلنا نقرّ أنّ المعاني لا تكون إلاّ إمكانا يبحث عن سبب القول ويعبّر عن تعدّد وجهات النظر إلى الموضوع الواحد وأنّ وجود معنى واحد هو مجرّد افتراض.
وقد اتجهت استراتيجية التفكيك لخلخلة كلّ فكر يدّعي امتلاك المعنى واعتبرت المعنى منتشرا في النّص مبعثرا فيه كالبذور المنثورة في كلّ الاتجاهات. وحاول “دريدا” (Derrida) من خلال آلية التفكيك مساءلة أنواع من النصوص متقصيّا كيفيّة امتلاك النّص للمعنى. ولهذا الغرض قام “دريدا” بتفكيك نصوص عديدة أدبية من نحو كتابات”انتوني آرتو” و”موريس بلانشو” وفلسفيّة على غرار نصوص “نيتشة. ولم يكن مشروع “دريدا” التأويلي يهدف إلى استكشاف معنى بعينه بالمعنى الذي كانت تهدف إليه البنيوية ممثّلا في أنّ النّص يمتلك معنى مخصوص بل كان مسعاه تبيين كون النّص متوالية لا نهائيّة من الاختلافات تنسجها العلامات الخطّية.يقول “دريدا” إنّ”النـص آلة تنتج سلسلة من الاحتمالات اللامتناهية”[9]. وبذلك فـالنص يمكن أن ينفتح على قراءات متعدّدة. وكلّ تأويل هو حتما سوء تأويل. وكل فهم هو سوء فهم. فإذا أمكن فهم نص مرة، فبالإمكان فهمه مرات من قراءة آخرين وفي ظروف مختلفة. فـاختلاف القراءات هو الطريقة أو الأسلوب الذي يتمّ فيه إطلاق طاقة النّص على صنع المعنى. وبهذا “انتقل مؤوّلو النّص من البحث عن الحقيقة وعن المعنى القارّ الوحيد إلى البحث عن المحتمل والممكن وعن المعاني المتعدّدة”[10].
وعليه، يقوم النّص بتوليد متدفّق للمعاني حينما ينتج الدّال العلامة الخطّية لعبة متواصلة لا نهائيّة من دون منح مدلول مّا فرصة فرض حضوره بشكل متعال. فلا مجال إذن لإقامة حدود تحصر المعنى أو بتعبير “بارت” (Barthes)”العلامة كسر لا ينفتح أبدا إلاّ على وجه علامة أخرى”[11]. وبهذا فالمعنى ما هو إلاّ مجموعة من
الإمكانات القرائيّة القابعة في فجوات النّص وثناياه.ولعلّ المطلّع على مؤلفات “إيكو” يدرك أنّه حرّر النّص المتخيّل، بوصفه خطابا، من المعنى الواحد وفتحه على حركيّة دلالية تمضي بكلّ إحالة إلى أقصى الحدود الممكنة في إنتاج الدلالات الممكنة للنّص. فـ”ما هو أساسيّ حسب “إيكو” في سيرورة القراءة ليس الوصول إلى معنى مّا أو الوقوف عند حدّ بعينه، فلا غاية هناك سوى الانتقال من معنى إلى آخر ضمن توالد سرطاني لا متناهي [كذا]”[12].
وقد استأنس “إيكو” في مسألة بناء المعنى في التخييل السردي بنظرية العوالم الممكنة[13]، كما أرساها “ليبنيز”(Leibnitz) على أساس أنّ ثمّة عوالم لا نهائية إلى جانب واقعنا الفعلي. ولكن”إيكو”اختلف في تصوّره للعوالم الممكنة عن التصوّر الفلسفي. وهذا الاختلاف يعود إلى أنّ العوالم الممكنة في المجال الفلسفي هي عوالم فارغة بينما يشير مجال السيميائيات إلـى عـوالم ممتلئـة أو مؤثّثـة بمجموعة من المعطيات الثّقافية التي يختزنها القارئ في موسوعته[14]. وفي هذا الصدد يقول إيكو: “هناك اختلاف حاسم بين مجاميع فارغة من عوالم، كتلك التي
يستخدمها المنطق الجهـوي وبـين العـوالم الفرديـة المؤثّثة”[15]التي يتوقّع بها القارئ النّص أثناء سيرورة القراءة. فخلال عملية القراءة يتدخّل القارئ إزاء أيّ نصّ حكائيّ بتوقعاته وتخميناته حول مسار الحكاية ويؤثّث عالما حكائيا استنادا لما توفّره له الموسوعة من توقعات قد تحدث في الحكاية.
إنّ الناظر في مؤلفات “إيكو” يدرك أنّه بنى مشروعه النقدي على اعتبار أنّ كلّ قراءة لنصّ روائي لا تعدو
في النهاية أن تكون تأويلا يحتمل بانفتاحه تأويلات عدّة تتنوّع بتنوّع قرّائه. فالنّص ليس فعالية ثابتة وإنّما هو فعالية متحركة ديناميكية محتملة. وهو يمتلك أكثر من ذاكرة وإذا ظهرت على قارئ فليس بالضرورة أن تظهر على آخر. والنّص كما هو متعدد المعاني هو متعدّد القراءات أيضا. إنّه مفتوح ولا معنى نهائي له ولا يحيل إلى فكرة محدّدة بريئة. فكلّ قراءة تنتج فيه معاني جديدة. والقارئ هو مبدع جديد يشارك في صنع معاني النّص وتكوين معانيه المحتملة. ولعلّ هذا ما جعل “إيكو” يسمّي أحد كتبه “النّص المفتوح” للتدليل على ضرورة فتح إمكانات التأويل التي قد لا تعرف الحدود.
ومن هذه الزاوية يرى “إيكو” أنّ النّص منفتح على معان متجدّدة متلبّسة بظروف مقاميّة خاصّة بكلّ فعل قراءة. وقد أوكل”إيكو” أمر صناعة العوالم الممكنة في النصّ التخييلي إلى القارئ الأنموذجي[16] أثناء تفاعله مع النص المفتوح لإعادة بنائه من جديد من خلال فرضيات وأنشطة توقّعية.واعتبر “إيكو” القارئ هو الصانع الحقيقي للمعنى. وهو قارئ لا يمتلك فقط معارف لغوية وغير لغوية بل موسوعة قرائية تسمح له بتفكيك بنيات النّص المعقدة والقيام بنشاط سميولوجي متعدّد الأطراف. فما هي خصائص القارئ الأنموذجي الذي أوكل إليه “إيكو” صناعة العوالم الممكنة؟
2) القارئ الأنموذجي عند “أيكو” (Lecteur modèle):
لقد استأنس “إيكو” في مختلف مؤلفاته بفلسفة “بيرس” ويتجلّى ذلك خاصّة في ما يخصّ المؤوّل”L’interprétant” في كتابه” signe histoire et analyse d’un concept”. والمؤوّل هو تلك الصورة التي ترتسم في ذهن المرسل إليه لما يرسل إليه من دليل ما والذي يعتبر هو نفسه مؤوّلا لدليل آخر
وهكذا إلى نهاية السلسة التأويلية. هذا بالإضافة إلى أنّ “إيكو” قد اعتمد في تصوّره للقارئ الأنموذجي على النظرية التواصليّة ووظّف كثيرا من مصطلحاتها من نحو المرسل والمرسل إليه والرسالة وانتقدها معتبرا العملية التواصليّة نشاطا تتكامل فيه مجموعة من العلامات والعوامل اللسانية وغير اللسانيّة.
وقد اهتم “أيكو” بالنص السردي المكتوب وحلّل الروايات والقصص القصيرة خاصة في كتابه .”Lector in fabula” وقد افترض لنصّه السردي المكتوب قارئا نموذجيا. ذلك أنّ النّص عند إيكو عبارة عن آلة كسـولة (Une machine parsseuse) تحتـاج إلـى قـارئ نمـوذجي “قادر أن يتحرّك تأويليّا كما تحرّك المؤلّف توليديّا”[17] بواسطة قدراته الخاصّة وامتلاكه لسنن (codes) النّص. وهذا يعني أنّ النّص يدور في فضاء يجب أن يحسن القارئ تمثّله حتى يسهم في بناء المعنى لأنّ المعنى لا يمكن له أن يصبح مرئيّا وقابلا للإدراك إلاّ إذا تمّ الكشف عن ّ النسق المولّد له. فلا وجود لدلالة معطاة بشكل كلّي وتامّ ونهائي قبل تـدخل الـذّات القارئـة التـي تقـوم بإعـادة بناء القصديات الضمنية المتحكمة في العلاقات غير المرئية من خلال التجلّي المباشر للنّص.
ومن هذا المنطلق يرى إيكو أنّ القوانين الداخلية للنّص وإن كانت تفتح إمكانية التأويل، إلا أنّها لا تفتحها بصورة لا نهائية. مثلما أنّ التأويلات المقترحة ليست مفروضة من طرف القارئ ولكنّها ناتجة عن التعاون الذي يحدث بين النّص والقارئ في إطار ما يسميه إيكوبـ”التشارك النصيّ” (Coopération textuelle)، أي لحظة التفاعل بين النص والقارئ وتحديدا بين النّص وقارئه النموذجي. فــ”النّص يفترض قارئه كشرط حتمي لقدرته التواصلية الملموسة ولكن أيضا بقوته الدلالية الخاصّة. وبعبارة أخرى إنّه منتج لواحد قادر على تحيينه – وحتى إذا كنّا لا نأمل أو لا نريد أن يكون هذا الواحد موجودا ماديا أو تجريبيا”[18].
وعلى هذا الأساس اعتبر “إيكو” النّص نسيجا من الفضاءات يملؤها القارئ. ذلك أنّ كلّ نصّ في متصوّر “إيكو” يتنبّأ بقارئ أنموذجي جدير بتفعيله، ناهيك أنّ النّص فضاء يفعّله القرّاء الذين يتفاعلون بدورهم معه، فيحقّقون بذلك انفتاحا لمقروئيته. ومن هذا المنطلق يتوفّر كلّ نصّ على قارئ أنموذجي، بوصفه استراتيجيّة نصيّة، مثلما يحتوي على مؤلّف أنموذجي باعتباره فرضيّة تاويليّة. ومن هنا فعلى القارئ أنّ يتخيّل “أنّ كلّ سطر يخفي دلالة ضمنيّة يمكن أن تفتح النّص على احتمالات ممكنة وعوالم متعدّدة”[19]. وهذا يعني أنّ بناء المعنى ناتج عن تدخّل القارئ للكشف عن العالم الممكن الذي تخيّله الكاتب في النّص.ههنا تأخذ القراءة شكلها الجوهري بما هي حوار مع فراغات النّص وثغراته وعملية جدلية مع مسكوته وما ينطوي عليه من إيحاء ودلالات ذاتية. إنّ تحقيق النص وتحيينه (concrétisation) عبر فعل القراءة “يدلّ على أنّ العمل الأدبي لا يحمل في ذاته دلالة جاهزة وثابتة ونهائية بل يكتسب دلالة جديدة لدى كلّ قراءة جديدة. فبالقراءة […] يتشكّل معنى النّص.
3) القارئ النموذجي والعالم الممكن:
إنّ مفهوم العالم الممكن كما بيّن ذلك “إيكو” في كتابه “القارئ في الحكاية” ضروري للحديث عن تخمينات القارئ وتوقعاته. فحينما يشرع القارئ في معاشرة النّص يبني مجموعة من المرجعيات الممكنة التي قد تتطابق مع إمكانات النّص. ومن ثمّ، فالنشاط النّصي هو الذي يحدّد هذه العوالم الممكنة في علاقة تامّة بأبنيتها النّصية. مثلما تتحدّد العوالم الممكنة من خلال تصوّرات المتلقي وتجاربه ورؤاه ومعتقداته وطريقة بنائه للعوالم السيميائية التي تطرحها النّصوص المتخيّلة. ولكلّ قارئ الحق في بلورة هذه العلاقات وتصوّرها حسب إدراكه الخاص. وهذا ما يمنح النّص سلسلة غير منتهية من القراءات يخلقها القارئ الأنموذجي أثناء تأويله للنّصوص الأدبيّة معتمدا بالأساس على موسوعته الثقافية ومعرفته الخلفية وما قد خزنته ذاكرته من إحالات ومستنسخات تناصّية. وفي هذا السياق يقول “إيكو”: “إنّ كلّ قراءة تعيد الحياة للنّص وفق منظور معيّن أو ذوق أو إنجاز شخصي(personnelle Exécution)”[20]. وعليه، فعملية القراءة البنّاءة هي عملية استكشاف وتحاور وتعارف وتحريك للإنتاجية والإبداع من خلال التفاعل التوليدي بين إمكانات النّص وقدرات القارئ ومعارفه. فالنّص ولادة مستمرّة من خلال علاقات داخلية تتوالد باستمرار.
وينظر “إيكو” إلى العالم الممكن من زاويتين، زاوية المؤلّف وزاوية القارئ. فمن الزاوية الأولى يعمل المؤلف على بناء عالم ممكن لنصّه الحكائي من خلال استراتيجية أسلوبية يعتمدها في وصف مسار الأحداث تستهدف إثارة تأويلات من طرف القارئ الأنموذجي. وهذا يعني أنّ المؤلف يختار لنصّه سلسة من العلامات المنبهات تتلوها استجابات تتحوّل هي الأخرى إلى منبهات في حركة ديناميّة بهدف تحقيق غرض معيّن. فالمؤلف،بهذا الشكل، ليس وسيطا إجرائيا بين اللغة والنّص فقط بل هو سفير محمّل بثقافة ورؤية وتاريخ ودلالة. أمّا من الزاوية الثانية فـ”القارئ النموذجي لا يأتي إلى النّص خالي الذهن يبحث عن معنى مودع في النّص في استقلال عن محافل التلقي. فالمعنى يُبنى انطلاقا من تجميع للوحدات الدلالية والكشف عن سياقاتها الجديدة وتفاعلاتها مع الذات القارئة”[21]. وبذلك تتوالد المعاني بداخله. وكلّما تمّ الكشف عن معنى ما فإنّ هذا المعنى سيحيل إلى معنى آخر ضمن حركة تصاعدية موجهة نحو سرّ لا نهائي. وعلى هذا الأساس يبقى النّص مجالا للتأويلات الممكنة التي تتجدّد باستمرار اعتمادا على موسوعة القارئ النموذجي.
وقد أسهب “إيكو” في الحديث عن العوالم الممكنة من خلال علاقتها بالاستعارة. ذلك أنّ الاستعارة تنفتح على سلسلة من التأويلات المختلفة. و”تتعدّد تأويلات الاستعارة بتعدّد السياقات الواردة فيها، إذ يتمّ فيها مراعاة الشروط الثقافيّة والنفسيّة والمقاصد والأهداف. وبهذا ينبثق تأويل الاستعارة من التفاعل بين المؤوّل والنّص، حيث تكون فيه الموسوعة حاضرة بشكلّ إلزامي وهو ما يجعل التأويل يختلف باختلاف الثقافات”[22] وباختلاف التصوّرات. ومن هنا تصبح الاستعارة علامة سيمائية قابلة للتأويل ومؤسّسة إمكانات دلالية عديدة.
وبذلك فإنّ”كلّ استعارة من شأنها أن تمثّل بناء عالم ممكن”[23] يكتسب فيه الطّرف الثّاني للاسـتعارة (المستعار له) بعض خاصيات الطّرف الأوّل(المستعار منه) فيتحقّق المعنى الاستعاري. وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة الاحتمال يمكن أن تنشأ من أي عبارة من عبارات النّص التخييلي. فبمجرد أن تؤوّل الاستعارة ويتمّ إسقاط مضمونها على عالم ممكن تفرض على القارئ النظر إلى العالم بطريقة جديدة. فالاستعارة بهذا المعنى، بوصفها تعبيرا مجازيا، تثير التأويلات والقارئ النموذجي يعمل على إثارة إمكانات تأويلية هائلة. ولكن “نجاح تأويل الاستعارة يتوقف على الحجم الاجتماعي الثقافي لموسوعة المؤوّلين. ونتيجة الاستعارة تفرضها دائما طبيعة النّص وطبيعة الإطار العامّ للمعارف الموسوعيّة والتجريبيّة لثقافة ما”[24]. فهناك استعارات تمكننا من رؤية بعض مظاهر واقع وليد الاستعارة نفسها. ولا غرابة في هذا فالعالم هو العالم الموصوف بطريقة مخصوصة والمنظور إليه من زاوية معيّنة. وعلى هذا الأساس يُمكن التساؤل عن العلاقة الموجودة بين العوالم الممكنة والعوالم الواقعية على صعيد الإحالة والمرجعية.
وفي ضوء هذا التصوّر يعالج “إيكو” العوالم الافتراضية الممكنة باعتبارها أبنية ثقافيّة في إشارة إلى الصلات المحتملة بين العوالم الممكنة والعوالم الواقعيّة. يقول “إيكو”: “إنّ أي عالم حكائي لا يسعه أن يكون مستقلاّ استقلالا تامّا عن العالم الواقعي. فهما يتداخلان ويأخذان المعنى الخاص بكلّ منهما من الخزّان الثقافيّ للمتلقي لأنّ الواقع نفسه بنيان ثقافي. ويصبح أمر التداخل بينهما ممكنا”(1). فهل يمكن الحديث عن وجود تطابق بين العناصر التي تؤثث عالم التجربة الواقعية وبين العناصر التي يعجّ بها عالم الممكنات ؟ وبعبارة أخرى هل سيقودنا هذا التداخل بين العالمين إلى القول بمبدأ التطابق، أم إنّ الأمر يتعلق بعملية قائمة على التشابه ؟
4) علاقة العالم الممكن بالعالم الواقعي:
لا ريب في أنّ العالم المعطى من قبل النّصوص الأدبيّة هو عالم مبني من قبل المنتج. وإذا كان هذا العالم المبني تجسيدا استعاريا لفكرة يعمل المنتج على إبلاغها للمتلقي فإنّه يقبل أن يستعير مادته الدّلالية إمّا من الواقع المادّي الفيزيائي أو من الواقع الافتراضي المحتمل، سواء في الماضي نظير الأسطورة أو في المستقبل مثل رواية الخيال العلمي. وما هو ممكن يقاس بقدرته على الانتظام داخل العالم الواقعي لا كفعل حقيقي قابل للمعاينة بل كفعل يدخل ضمن مسار ممكن للأحداث أو حالة ممكنة للأشياء. فحتى الحكايات الموغلة في العجائبية لا تستطيع التخلّص من الروابط التي تجعل من هذا الكون الخيالي يدرك انطلاقا من القوانين المفسرة للأفعال الواقعية. يقول “إيكو”: “عندما أروي قصة “Le Petit Chaperon rouge” فإنّني سأقوم بتأثيث عالمي السرديّ بعدد محدود من الكائنات (الصبية والأم والجدة والذئب والصياد وكوخان وغابة وبندقية وسلة ) المالكة لعدد محدود من الخصائص الواقعيّة”[25].وهذا يدلّ على وجود تفاعل جدلي بين ما هو مميّز داخل التجربة الواقعية وبين ما هو مميّز داخل التجربة المخيالية وذلك وفق وجود سنن للتعرّف.
وقد أجمل “إيكو” هذه الإشكالية في عبارة “سنن التعرّف” (code dereconnaissance). يقول “إيكو”: ” لا يمكن الحديث عن إدراك ضمن عالم العلامات الأيقونية إلاّ انطلاقا من وجود معرفة سابقة تمكّننا من تأويل هذا العنصر أو ذاك وفق انتمائه لهذه الدائرة الثقافيّة أو تلك. فهناك سنن أيقوني يقيم علاقة دلالية بين علامة طباعية وبين مدلول إدراكي مسنن بشكل سابق: هناك علاقة بين الوحدة المميّزة داخل السنن الطباعي وبين الوحدة المميّزة داخل سنن معنمي(code sémique) تابع لعملية تسنين سابقة لتجربة مدركة”[26].
وبذلك فإمكانية التخلّص من مكونات العالم الواقعي عند تشييد العالم الممكن مسألة لا يمكن تصوّرها. فلا يمكن الإمساك بالعالم الممكن إلا انطلاقا من العالم الواقعي. يقول “إيكو”: ” إنّه لمن الصحيح أنّنا نحكم، على جري عادتنا، على عالم الحكاية انطلاقا من عالمنا المرجعي بيد أنّنا نادرا ما نفعل العكس”[27]. وعلى هذا الأساس فإنّ الكون النّصي لا يمكن أن يدرك وأن تفكّ رموزه إلاّ من خلال وجود تشابه بين التجربة المؤسسة فنّيا وبين التجربة الفعلية المحسوسة.
وفي هذه الحالة يكون تأويل النّصوص الأدبية مستندا إلى العناصر السّياقية الخارجية. ويعمل السياق الخارجي على إعطاء النّص امتدادا في ما يتصوّر القارئ أنّه هو الواقع. وبذلك فعلاقة المماثلة بين النّص والواقع تتمّ، في حقيقة الأمر، بين النّص وما يحمله القارئ من تصوّرات عن الواقع.وكلّ قارئ سيؤوّل النّص وفق موسوعته الخاصّة ووفق ما يراه ممكنا.بهذا المعنى “يصبح العالم الواقعي،بدوره، عالما ممكنا من بين العديد من العوالم الأخرى”[28].
ويشير “إيكو” إلى أنّ كلّ من العالم الممكن والعالم الواقعي تبنيهما الثقافة. فـالعوالم سواء أكانت متخيّلة أم واقعية فهي عبارة عن بناء ثقافي قائم على الموسوعة. إذ لا يوجد عالم واقعي فيزيائي محض كما لا يوجد عالم متخيّل مطلق مفارق للّغة والأنظمة السيميائيّة. فـــ”العالم الممكن يستعير خاصياته من العالم الواقعي”[29]. لذلك يمكن القول إنّ “العالم الممكن يستمدّ مضامينه من التجربة الواقعيّة وممّا تأتي به عوالم المتخيّل”[30] الخاصّة بالقارئ. فالقارئ لا ينفكّ وهو يقرأ يؤوّل وينتج المعنى بما يتلاءم وظروفه الخاصّة والعامّة. وهذا كلّه يجيز القراءات الممكنة وتعدّدية المعاني.
وهكذا يبدو الأثر الأدبي مجالا خصبا لفعل القراءة يتيح للمؤوّل تقديم رؤيته الخاصّة ونموذجه التأويلي ضمن حدود ما يجعل النّص يتوالد ويتناسل نصوصا وتأويلات تمنحه انفتاحا أكثر شرط أنّ “لا يُقوّل النّص بما ليس فيه”[31]. ومن هنا يضبط “إيكو” للتأويل حدودا.
5) ضوابط التأويل عند إيكو:
قد تشبث “إيكو” بضرورة إقصاء التأويلات التي لا صدى لها في النّص حتى يعصم النّصوص من التأويلات الخاطئة من جهة ويردّ على دعاوى اللاّمعنى واللاّحقيقة التي تقول بها استراتيجيّة التفكيك من جهة ثانية. ففتح إمكانيّة التأويل حسب “إيكو” ليست وسيلة لتحقيق أغراض القارئ ومقاصده التي تكون في معظمها هواجس وتصوّرات مسقطة على النّص بل هي فضاء يلتقي فيه أفق القارئ وأفق النّص تساؤلا وتفاعلا وحوارا.
هذا هو الإطار الذي حاول “إيكو”، فيما نعتقد، رسمه لوضع حدود للتأويل وضوابط تجعل العمليّة التأويلية أبعد عن الذّاتية المفرطة التي قد تسيء فهم النّص وأحيانا تشوّهه. وبذلك يدعو “إيكو” إلى الاهتمام بالنّص في كلّيته، أي بما هو وحدة دلالية آخذ بعضها برقاب بعض. وكلّ علامة من علامات النّص تكتسي دلالتها من خلال علاقاتها بمثيلاتها داخل النّص. وهذا التلاحم بين علامات النّص هو الذي يضمن انسجامه الدلالي. وحتى تبقى دلالات النّص متجدّدة على الدوام ربط “إيكو” عملية التأويل بما أسماه “قصدية النّص” بوصفه مكمن الدلالة خلافا للرأي القائل بكون الدلالة مرتبطة بـ”قصدية المؤلّف” أو تلك التي ربطها بعض التفكيكيين البراغماتيين بـ”قصدية القارئ”. يقول “إيكو”: “إنّ التأويل اللائق هو الذي يحظى بتأييد من علامات النّص”[32]. وبذلك فقصدية القارئ النموذجي رهن مجموع النّص بما هو كلّ عضوي. فالنّص بهذا المعنى براعة تهدف إلى إنتاج قارئها الخاصّ النموذجي الذي يظنّ ويخمّن ولا يقوّل النّص ما لم يقله. وعلى هذا الأساس فالنّص يُعدّ بمثابة الرقيب على ظنون القارئ وتخميناته.
ومن هنا يتبنّى “إيكو” في مقابل التأويل التفكيكي، اللامتناهي، موقفا نظريا فلسفيا ينظر إلى التأويل على أنّه نشاط سيميائي تحكمه قواعد ومعايير. فـ”ليس من المعقول أن يُترك النّص لعنف القارئ المزهو بقدرته والمسكون بنزواته والمهووس بغرائزه ولذّاته[33]. ذلك أنّ المغالاة في جعل القراءة تأويلا فرديّا ليس غير يُغيّب تماما كلّ حضور لسلطة النّص وعلاماته المختلفة. فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال، حسب أيكو، إهمال المعنى الحرفي الأوّلي لأنّه البداية التي تقود عبر الإيحاء إلى المعنى الممكن. ومن هذا المنطلق يمثّل النصّ قيدا تأويليا يجعل القارئ لا يخرج عن مقصديّته. ولكن هذا لا يعني أنّ معنى النص هو المعنى الجاهز والمختبئ فيه، بل المعنى ينشأ نتيجة التفاعل بين النص والقارئ، أي بوصف النّص أثرا يمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس موضوعا يمكن تحديده والتقيّد به.وما دام إنتاج المعنى رهن العلاقة الموجودة بين النّص والقارئ فإنّ الاعتراف بوجود هذه العلاقة يقرّ ضمنيّا بوجود معنى أولي في النّص تنطلق منه الذّات المؤولة. وهذا المعنى الأولي يحدّ من فوضى التأويل و”يجعلنا لا نؤّول ما بداخلنا ولكنّنا نقوم، عكس ذلك، بوضع معرفتنا (موسوعتنا على حد تعبير إيكو) في خدمة مادة مضمونية يحتوي عليها النّص وتُعدّ منطلقا للتأويل وأصلا له”[34].
وبذلك فإنّ التأويل الممكن يستمدّ مشروعيته بالضرورة من موادّ النّص ومن علامته الأسلوبية. ولكن هذا لا يعني أنّ موضوعة النّص هي المحور الأساس في إنتاج المعنى النهائي بل وظيفة هذه الموضوعة هي العلامة التي يبني عليها القارئ تخميناته وفرضياته وتصوراته الأولية للمعنى. ويعرّف “إيكو” التخمين بكونه “فرضية مرتبطة بالقارئ الذي يقوم بصياغتها بطريقة بسيطة على شكل أسئلة من نوع ماذا يريد النّص قوله؟ لتترجم في أجوبة من نوع ربما يتعلّق الأمر بالقضيّة الفلانية”[35].
لكن السؤال المطروح إذا كانت البنية النصيّة هي الموجّهة لسلوك القارئ وردود فعله ألا يعني هذا أنّ النّص هو المالك الحقيقي لإنتاج المعنى؟ وعندما يتمسّك “إيكو” بفكرة المعنى القبلي الكامن في بنية النّص ويعتبره منطلقا لجميع القراءات الممكنة ألاّ يحدّ هذا من حرية القارئ ويجعل المعنى مقيّدا بقصدية النّص.فيغدو بذلك القارئ لا يقرأ كما يريد هو بل يقرأ كما يريد له النّص أن يقرأه. يقول “أيكو” بعد كتابة روايتي “اسم الوردة” (Nom de la rose) و” رقاص فوكو” (Pendule de foucault ): ” أنا بحاجة إلى قارئ يكون قد مرّ بنفس التجارب التي مررت بها في القراءة أو تقريبا[36]“. وهذا، في تقديرنا، يدعو إلى التساؤل عن طبيعة القارئ النموذجي الذي “هو نموذجي في فهمه مقاصد المؤلف جرّاء ما يتحلّى به من معرفة موسوعيّة ومؤهلات لسانية وقدرات تواصليّة تمكّنه جميعها من فهم النّص وتأويله. إنّه متلق مثاليّ ينشده الراوي”[37] وينشئه النّص.
وعليه، يظلّ قارئ “إيكو” مجرد حدس وتخمين لا يتماشى والمعطيات الواقعيّة بل لعلّه قارئ ممكن لا يوجد إلاّ في العوالم الممكنة. فليس من الضرورة أن يقرأ كلّ قارئ نصّا بالطريقة التي يشترطها “إيكو”. فهناك مستويات للقراءة وليس كلّ القرّاء نقّادا محترفين. وهذا ربما يوحي بأنّ قارئ “إيكو” النموذجي هو قناع للكاتب نفسه. ثمّ إذا كان “لابدّ لكلّ كاتب من أن ينظّم استراتيجية الإنشاء وفق كفاءة القارئ وأفق انتظاره فما الذي يفسّر أنّنا نقبل على قراءة آثار فذّة قديمة من عيون الأدب القديم والحال أنّ ثقافتنا اللغوية وكيفايتنا السيميائيّة عموما لا صلة تجمعها بثقافة الأقدمين وكفايتهم؟”(1).
ولهذا نختلف مع “إيكو” في وجود القارئ النموذجي الذي يفهم مقاصد النّص ويعي المعنى من وراء الإنتاج الأدبي. فلكلّ قارئ أهدافه واستراتجياته من القراءة وكلّ متلق يقرأ ما يريد وما يرغب فيه. هذا بالإضافة إلى أنّ القارئالأنموذجيّ أو المثاليّ يطرح إشكالا. ألا يعني القول بالقارئ الأنموذجيّ تسليما بسلطة النّصّ والكاتب ؟ ألا يتعارض مفهوم القارئ المثاليّ مع تعدّد القراءات وتنوّعها وتغيّرها من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى؟
الخاتمة:
اتّضح ممّا سبق ذكره أنّ مسألة المعنى يتبناها القارئ الأنموذجي من خلال استنطاقه لعلامات النّص بالتخمين والتأويل. وإنّ القارئ يبني مجموعة من العوالم الممكنة انطلاقا من العوالم الممكنة التي صنعها المؤلّف، وكلّ قراءة جديدة هي ولادة لعالم ممكن جديد في تغيّر متواصل لانهائي. وكلّ تأويل هو حوار جدلي بين القارئ الأنموذجي والنّص محدّدا بما تسمح به تجليات النّص وسياقاته الأسلوبية والبلاغية. وبذلك تتشكّل دلالات النّص من خلال التفاعل الخلاّق بين عالم المبدع وعالم النّص وعالم القارئ. وهذا يعني أنّ المبدع يحمّل نصّه هواجسه الذّاتيّة والموضوعيّة ويرسلها إلى قارئ مفترض يتقبّل الرسالة ويفكّكها وفق موسوعته الثقافيّة ومرجعياته التاريخيّة وهواجسه الذاتيّة. وعلى هذا الأساس انتهى “إيكو” إلى اعتبار النّص حمّال دلالات وحاويا لعوالم ممكنة قد تكون أكثر اتّساعا من عالمنا الحقيقي. ومن ثمّ، ينبنبي المعنى ويتشكّل بالانفتاح على الاختلاف والتعدّد وعلى الاحتمال والاشتباه ويتعلّق باستراتيجية القارئ في استنطاق الدّال باستعاراته وكثافة طبقاته. ومن هنا فالمعنى يُؤسَّس من خلال تأويل القارئ لنظام العلامات والتقاط إيحاءاتها المجازية. وبذلك يمسي المعنى تشكيلات خطابية مختلفة باختلاف القرّاء والشروط التاريخيّة والنفسيّة والثقافيّة المسهمة في فعلي الإنتاج والقراءة. فلا وجود لمعنى ثابت بل توجد معان مختلفة ومتجدّدة بتجدّد القراءات.
[1] . Christian Touratier, La sémantique, Colin, HER ,Paris, 2000, pp.10-13
[2] . Umberto Eco, L’œuvre ouverte, Traduit de l’italien par Chantal Roux de Bezieux avec le concours d’André Boucourechliev, Editions du Seuil, 1965,p.17.
[3] . الواقعية المرجعية هي نظريّة لغويّة تنصّ على أنّ معنى كلمة أو عبارة مّا يكمن في ما تشير إليه هذه الكلمة أو العبارة في العالم المحيط. وفي مجال الأدب يشير مصطلح الواقعية المرجعية إلى “إحالة الأدب إلى مرجع كائن خارجه يولّده الوصف سواء امتدّ فتشكّل مقطعا أو تقلّص فكان مفردة. ويتنزّل الحديث عن الوهم المرجعي في صميم مسألة التمثيل أي مسالة العلاقة بين الكلمات والأشياء أو بين الأدب والواقع”.
– اُنظر معجم السرديات، عمل جماعي، إشراف محمد القاضي، دار محمد علي الحامي، تونس ودار الفارابي، لبنان ودار تالة، الجزائر ودار العين، مصر ودار الملتقى، المغرب، ط1، 2010، ص479.
[4] . تودوروف وآخرون، المرجع والدلالة في الفكر اللساني الحديث، ترجمة وتعليق عبد القادر قنيني، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص33.
[5] . تُعدّ نظرية السياق منهجا من مناهج دراسة المعنى في اللغة . فالدّلالة الصحيحة للمعنى بالنسبة إلى هذه النظريّة تُكتسب من السياق. فالسياق يجمع المعاني المراد فهمها ويوصلها إلى ذهن القارئ وفق قرائن لفظية. فالكلمة تكتسب دلالتها من خلال موقعها في السياق. فمكونات السياق وارتباط عناصر بعضها ببعض تزيد في دقة معنى الكلمة. وقد حاول “فيرث” ( Firth) أن يؤسّس نظرية لغوية متكاملة في موضوع السياق. فقد تقدّم فيرث في النصف الأوّل في القرن الماضي برؤية جديدة في مفهوم الدلالة في علم اللغة الحديث تبنته مدرسته التي عُرف بها “المدرسة الألسنية الاجتماعية”. فقد “نظر إلى المعنى على أنّه نتيجة علاقات متشابكة متداخلة. فهو ليس وليد لحظة معينة بما يصاحبها من صوت وصورة فحسب بل هو أيضاً حصيلة المواقف الحيّة التي يمارسها الأشخاص في المجتمع. فالجمل تكتسب دلالاتها في النهاية من خلال ملابسات الأحداث، أي من خلال سياق الحال”. ويرى “أنّ المعنى لا ينكشف إلاّ من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة”. وقد أكد فيرث “التوازي بين السياقات الداخلية والشكلية وبين السياقات الخارجية للموقف”. وبذلك فدراسة المعنى عند فيرث تعني تحليل السياقات والمواقف التي ترد فيها حتى ما كان منها غير لغوي”.
- اُنظر: يحيى أحمد، الاتجاه الوظيفي ودوره في تحليل اللغة، مجلة عالم الفكر، العدد الثالث، بيروت، ط3، 1998، ص82.
[6]. معجم السرديات، مرجع مذكور، ص256-257.
[7] . محمد محمد يونس علي، المعنى وظلال المعنى، دار المدار الإسلامي، بيروت، ط2، 2007، ص118.
[8] . Janet Dean Fodor, Semantics, Theories of Meaning in Generative Grammar, Crowell, New York,1977, p19.
[9] . Jacques Derrida ,Ecriture et la différence, éd Seuil, Paris, 1967, p.411
[10] . Roland Barthes, Plaisir du texte, éd, seuil, Paris, 1973, p100.
[11] . R. Barthes, Empire des signes, éd, Flammarion, Paris, 1970, p72
[12] . سعيد بنكراد، السرد الرّوائي وتجربة المعنى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2008، ص40.
[13] . “استخدم السيميائيون في دراساتهم للبنى التخييليّة في السنوات الأخيرة نظاما مفهوميّا مستعارا من علم الدلالة المنطقي. وهو ما اتفق على تسميته بـ”نظرية العوالم الممكنة”. وقد تمكّن علماء منطق الدلالة من استخدام مفهوم العوالم الممكنة من أجل حل بعض المسائل المرجعيّة ولا سيما مسألة مقام المواضيع “التصوّرية” أو الممكنة. ويمكن أن تنشأ أحوال الشؤون الممكنة، مقابل الحقيقة، بواسطة الفرضيات والتعبير عن التمنّيات وبواسطة الأوامر التي تعكس موقفا مغايرا للموقف الموجود الآن. ولنلاحظ أنّ مصطلح العالم الممكن لا ينبغي أن نماثله مع أفكارنا البديهيّة عن عالمنا (نحن) وواقعنا بل ينبغي أن نعتبره بناء مجرّدا للنظرية السيمناطيقية بواسطة تجاربنا الذاتية. ومن هنا، فثمة ارتباط أي نموذج عقلي نظري). وذلك أن عالمنا الواقعي هو بالضبط عنصر واحد من مجموعة العوالم الممكنة، إذ العالم الممكن كما يشير إلى ذلك لفظ (الإمكان) هو أيضا ليس حالة صادقة بل حالة يجوز أن تصدق “
– اُنظر فان دايك، النّص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبد القادر قنيني، افريقيا الشرق، بيروت، 2000، ص52. ويعرّف “جميل حمداوي” العوالم الممكنة بقوله: “نعني بنظرية العوالم الممكنة (Les mondes possibles) تلك النظرية المنطقية الدلالية التي تبحث في العوالم التخييلية المقابلة للعالم الواقعي الذي نعيشه وثيق بين عملية التخييل والعالم الممكن.ومن ثم، فالهدف هو التثبت من صحة الملفوظات التخييلية وصدقها في ضوء الإحالة الماصدقية. كما يقصد بالعالم الممكن ذلك العالم المتوقع والممكن منطقيا.أي: إن العوالم الافتراضية والخيالية يمكن لها أن تكون متماثلة مع الواقع الحقيقي أو غير متماثلة.
– اُنظر: جميل حمداوي، الاتجاهات السيميوطيقيّة، التيارات والمدارس السيميوطيقيّة في الثقافة الغربية، شبكة الألوكة، ط1، 2015، ص367.
[14] . الموسوعة هي “الرصيد اللغوي والثقافي الضارب في السياق الاجتماعي، الذي يصطلح عليه إيزر( Izer) بالذخيرة أو السجل (le répertoire) الذي يفترضه النصويستحضره القارئ كي يستطيع المواجهة بين التمظهر الخطي لذلك النص وبين بنياته اللسانية، وبدون كفاءة “موسوعية” لايمكن التعاون مع النص أو مساعدته على إنجاز مبتغياته ولا يمكن للقارئ أن يكون هو ذلك المشارك Coopérant الفعال الذي يملأ الفراغات ويحمل التناقضات ويستخلص المقولات. فالموسوعة إذن مثلما يرى “إيكو” هي “مجموعة مدونة من التأويلات تُدرك موضوعيا كخزانة الخزانات يستحضرها القارئ لفهم النص وتأويله.
– اُنظر محمد خرماش، فعل القراءة وإشكالية التلقي، مجلة علامات، عدد 100، سنة 1998، ص 54.
[15] . أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، التّعاضد التّأويلي في النّصوص الحكائية، ترجمة أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1996، ص123.
[16] . القارئ النموذجي كائن مجرد يُستخلص استخلاصا من النّص. إنّه استراتيجية نصّية يتوسّل بها المؤلّف حتى يوفّر لأثره مقروئيّة ناجعة… والقارئ النموذجي هو نموذجيّ في فهمه مقاصد المؤلّف جرّاء ما يتحلّى به من معرفة موسوعيّة ومؤهّلات لسانيّة وقدرات تواصليّة تمكنه جميعها من فهم النّص وتأويله. إنّه متلق مثالي ينشده الراوي”.
– اُنظر معجم السرديات، مجموعة من المؤلفين، إشراف محمد القاضي، مرجع مذكور، ص318.
[17] . أمبرتو إيكو، العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثّقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص22.
[18] . رشيد بنحدو، قراءة في القراءة، مجلة الفكر العربي المعاصر، ط2، شباط 1988، ص 21.
[19] . Umberto Eco , Lector in Fabula , op, cit, p 64.
[20] . Umberto Eco , Lector in Fabula , op, cit, p 61
[21] . Umberto Eco, La structure absente, éd, Mercure de France, p66.
[22] . أمبرتو إيكو،اُنظر كتابه،”Le bruissement de la longue”، فصل ” Sur le lecture “، ص38.
استشهد به محمد بن عياد، مسالك التأويل السيميائي، التسفير الفني، صفاقس، ط1، 2009، ص30.
[23] . أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكيّة، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص160.
[24] . المرجع نفسه، ص454.
[25] . Umberto Eco, Lector in fabula , Le rôle du lecteur, op, cit, p167.
[26] . Umberto Eco, La structure absente,op, cit, p 181
[27] . أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، التّعاضد التّأويلي في النّصوص الحكائية، مرجع مذكور، ص218.
[28] . MEYER , Michel, Logique ,Langage et argumentation , Hachette , 1982, p88.
[29] . أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية، مرجع مذكور، ص172
[30] . أمرتو إيكو، آليات الكتابة السرديّة، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، دار الحوارللنشر والتوزيع، اللاذقيّة، ط1، 2009، ص07.
[31] . Umberto Eco, œuvre ouverte, Traduit de l’italien par Chantal Roux Bézieux avec le concours d’André Boucourechliev, Paris, Éditions du Seuil, 1965, Collection «Points Essais», 2003, p18
[32] . Umberto Eco, Les limites de l’interprétation, Grasset, Paris, 1992, p40.
[33] . أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية (التّعاضد التّأويلي في النّصوص الحكائية)، مرجع مذكور، ص148.
[34] . أمبرتو إيكو، القارئ في الحكاية (التّعاضد التّأويلي في النّصوص الحكائية)، مرجع مذكور، ص148.
[35] . Umberto Eco, Les limites de l’interprétation, op, cit, p133.
[36] . Umberto Eco, Les limites de l’interprétation, op, cit, p37.
[37] . سعيد بنكراد، السيميائيات والتأويل، مرجع مذكور، ص186.