
العتبات النصية الداخلية في الخطاب الروائي الجزائري ثلاثية أحلام مستغانمي أنموذجا
د.شريط رابح ـ الجامعة : المركز الجامعي عبد الله مرسلي “تيبازة “الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 33 ص 23.
ملخص البحث:يتناول هذا البحث العتبات النصية في ثلاثية أحلام مستغانمي باعتبارها علامات دلالية تفتح أبواب النص أمام المتلقي/ القارئ وتشحنه من أجل الولوج إلى أعماق النص الأدبي والغوص في عوالمه بكل أشكاله ، فهي معان وشفرات لها علاقة مباشرة بالنص ،تنير دروب المتلقي ، كما أنها تبرز جانبا أساسيا من العناصر المؤطرة لبناء الحكاية ،وهي قاعدة تواصلية تمكن النص من الانفتاح على أبعاد دلالية متعددة ، وتتنوع هذه العتبتات بين عتبات خارجية وعتبات داخلية، وارتأينا أن نتاول العتبات النصية الداخلية لثلاثية أحلام مستغانمي .
الكلمات المفتاحية: العتبات النصية – ثلاثية أحلام مستغانمي – النص الروائي – الحكاية .
العتبات النصية في خطاب الثلاثية: يقصد بالعتبات النصية (Le Paratexte) الملحقات التي تحيط بالنص من الناحيتين الداخلية والخارجية، فهي عبارة عن شروح وتفاسير لدخول النص،وقد بدأ الاهتمام بها «منذ أن طرح “رولان بارت” تساؤله الشخصي التأسيسي من أين نبدأ؟ حتى جعله الدارسون السؤال المفتاحي لدراسة العتبات النصية، لكونه الإشارة الأولى التي ستملأ بحضور النص»([1])
وتكمن أهمية العتبات النصية، في كونها أول ما يشد انتباه القارئ لكونها العتبة الأولى للقراءة، فتـوجه المتلقي لفهم النـص فهما أوليا فهي« كل ما يجعل من النـص كتابا يقدم إلى قرائه أو بشكل أعم إلى الجمـهور، وهو بذلك أكثر من مجرد حد أو حاجز …إنه عتبة»([2])،فهي التي تمكن القارئ من ولوج النص وفهمه،و التي تمنحه فـكرة أولية وفـرصته للتعرف عليه، فهي أول تواصل بين القارئ والمؤلف وأول لقاء يجمـعهما لأنها «مجموع غير متجانس…عناوين، عناوين فرعية، مقدمات، تعليقات…»([3]) تأتي مقدمة للنص وفاتحة له.
وأردنا تسليط الضوء في هذا البحث على العتبات الداخلية لكونها أشكالا تناصية تساهم في فضاء النص وهي عناصر دلالية لا يمكن تجاهلها أثناء دراستنا لفضاء النص لأنها جزء من الدلالة وعنصر مكمل للمعنى، ولم نأت على كل مصنفة “جيرار جيت “ بل انتقينا ما كان مهما مثل العنوان الغلاف، الإهداء وهلم جرا…
العتبات النصية الداخلية: وهي عتبات داخلية أطلق عليها الناقد “جيرارجنيت “النص الموازي (prétexte) والذي يرتبط بـ« العنوان، العنوان الفرعي، العنوان الداخلي، التمهيــدات التذييلات التنبيهات، التصدير، الحواشي الجانبية، الحواشي السفلية، الحواشي المذيلة للعمل، العبارات التوجيهية، الزخرفة، أشرطة التزيين، الرسوم، نوع الغلاف وأنواع أخرى من أشارات أساسها الملاحق والمخطوطات الشخصية ومخطوطات الغير، التي تزود النص بحواش مختلفة وأحيانا بتعليق رسمي أو غير رسمي بحيث لا يستطيع القارئ الحصيف، والأقل اضطرارا للتنقيب خارج النص، التصرف دائما بالسهولة التي يظنها» ([4])
وارتأينا في عملنا هذا أن نتناول العتبات النصية الداخلية في ثلاثية أحلام مستغانمي وهي:
أ-العناوين: يعد العنوان «مفتاح تأويلي أساسي لفك دلالات النص» ([5])، وهذا ما يظهر في الدراسات الحديثة بكونه نصا مختزلا يساعد القارئ على تحديد المعنى كونه العتبة الأولى التي تشد انتباه القارئ، ويعرفه الباحث ” أندري دال لنقو” بأنه «نقطة نصية تبدأ من العتبة المفضية إلى التخييل، وتنتهي بحدوث أولى قطيعة مهمة في مستوى النص فهي موضـع استراتيجـي في النص»([6]).
ويعد تشكيل العنوان من أصعب الأمور الإبداعية شأنه في ذلك شأن تأسيس النص وتكوينه فـ «سؤال العنوان مواجهة ليست أقل صعوبة من مواجهته لسؤال الإبداع ذاتها وهي تعانده وتراوغه قبل أن تسمح بولوج بعض منافذه في لحظة سديمية غامضة”([7]).
ذاكرة الجسد: إن المتلقي لعنوان “ذاكرة الجسد” يجد نفسه في حيرة وقلق وارتباك لأن العنوان مؤلف من لفظتين متنافرتين يصعب الجمع بينهما، فالذاكرة متعلقة بالذهن، أما الجسد فهو كائن مادي معروف مما يولد التساؤل في ذهن القارئ:
كيف يكون للجسد ذاكرة؟
هل يمكننا أن نتذكر بأجسادنا؟
إلى غيرها من الأسئلة التي تحير القارئ، فقد حولت الرواية الذاكرة من العقل إلى الجسد من خلال الحديث عن تلك الترسبات التي بقيت عالقة في الذاكرة جراء الإصابات التي مست الجسد «…كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكن ذلك يتطلب أي تفسير» ([8]) فذاكرة البطل مرسومة على جسده الذي يميزه بتر ذراعه الأيسر.
يتمثل الخرق الدلالي في عنوان ذاكرة الجـسد في ذلك التنـاقض الذي يربط بين المفردتين المتنافرتين، فالجملة الاسمية “ذاكرة الجسد”، مكونة من “ذاكرة” و “جسد” مما يجعل العلاقة التكوينية لهذا العنوان «وفق هاتين الكلمتين لا تمت الواحدة منها للأخرى بصلة، ذلك أن الذاكرة لا يمكن حصرها في الجسد، باعتبارها كائن عضــوي لأنها محصـورة في الحيز النفساني» ([9]).
فقد يتحقق الربط بين الكلمتين ذاكرة، الجسد من خلال الدلالة الاستعارية ومن خلال إسناد وظيفة التذكير للجسد، وتجسد ذلك من خلال هذا المقطع السـردي «أكانت الذاكرة عقدتك؟… إن أصعب شيء على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع متنـاقض لها… كان جسدي ينتصب ذاكرة أمامه…ولكنه لم يقرآني …يحدث للوطـن أن يصبح أميا… » ([10]).
فالروائية صورة الجسد على أنه ذهن لديه ذاكرة ويمكنه استحضار الماضي «فالمعروف عن العنوان أنه يطرح دائما تساؤلا لا يفك تشفيره إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية» ([11]).
ويمكن للقارئ أن يستنطق ما سكت عنه العــنوان، فالكلمة الأولى “ذاكرة” تحمل دلالة الماضي الممزوج في غالب الأحيان بالألم، في حين ترتبط الكلمة الثانية بالجسد وبتلك الإصابات التي ألمت به والتي ولدت الألم والمرارة في الذاكرة باعتباره «يخفي أكثر مما يظهر، وأن يسكت أكثر مما يصرح، ليعمل أفق المتلقي على استحضار الغائب أو المسكوت عنه»([12]).
كما اشتمل العنوان على بعدين: بعد معنوي وبعد مادي، فالذاكرة شيء معنوي أضيف له شيء مادي، وهو الجسد،فقد جاء العنوان في خدمة النص، باعتبار أن الرواية بأكملها عبارة عن ذاكرة خالد على جسده، فقد اقترن حضور الجسد بحضور الذاكرة.
وتكمن التعالقات النصية بين ذاكرة الجسد ورصيـف الأزهار من خلال الأمكنة المشتركة بين الروايتن مثل فضاء الجبال وثانوية قسنطينة والمنزل القسطـيني العائلي ،دون أن نهمل الأزمنة التي وجدت في الروايتين ،فكلاهما تناول الزمن الاستعماري وخصوصا أحداث 8 ماي 1945 ومرحلة اندلاع الثورة التحريرية المجيدة،أما الشخصيات فقد استعارة ” أحلام مستغانمي ” شخصية خالد البطل الذي وُظف في رواية ” رصيف الأزهار ” مع تغير وظيفـته في رواية “ذاكرة الجسد” حتى لا يكون العمل الروائي عند أحلام مجرد نسخ،فخالد في رواية ” رصيف الأزهار ” كان كاتبا صحفيا مغمورا في حين نجده في ذاكرة الجسد رسام مشهور وسط الأوساط الفنية الباريسية ، وقد عمدت الروائية على ذكر شخصيات تاريخية بارزة في الحركة الفكرية الثقافية تيمننا ” بمالك حداد ” في روايته ” رصيف الأزهار ” والتي تحدث فيها عن العلامة عبد الحمـيد بن باديس ،فالروايتين قام بتوظيف شخصية محورية وهي شخصية خالد وتميزت هذه الشخصية في كلتا الرواتين بمبـادئها الثابتة ،ففـي ذاكرة الجسد رفضت الارتباط بالمجتمع الذي أسس على الظلم والتعسف والجهوية،أما في ” رواية رصيف الأزهار” فقد رفض الخيانة التي مست المبادئ التي آمن بها.
فوضى الحواس: يحيلنا عنوان الرواية الثانية “فوضى الحواس”إلى الفوضى العارمة التي تعيشها بطلة الرواية والتي تشتت بين عاطفة الأبوة وعاطفة الحب اتجاه حبيبها الضابط وعاطــفة الألم،جراء معاناة الوطن من أبنائه المغرر بهم –وعكس هذا العـنوان نص الرواية ومدلولاتها حيث وضحت الرواية ذلك من خلال عدة مقاطع نذكر منها «وكنت أنثى القلق، أنثى الورق الأبيض، والأسرة غير المرتبة والأحلام التي تتضح على نار خافتة، وفوضى الحواس لحظة الخلق»([13]).
ويظهر ذلك التعالق بين عنوان الرواية ومتنها من خلال مجموعة من المقاطع السردية أهمها «وأذكر أن ديرو الذي وضع سلما شبه أخلاقي للحواس، وصنف النـظر سطحيـة والسمع بالحاسة الأكثر غرورا، والمذاق بالأكثر تطيرا واللمس بالأكثر عمقا، وعندما وصل إلى الشم جعله حاسة الرغبة أي حاسة لا يمكن تصنيفها. لأنها حاسة يحكمها اللاشعور وليس المنطق المخيف مع هذا الرجل أنه يجعلني أكتشف حواسي أو الأصح، خوفي النسائي من هذه الحواس،بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواس أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق»([14]) .
وكثيرًا ما يتفنن الأدباء والكتاب في وضع ذات إيقـاعات موسيقيـة جذابة أو صور مختالة لمخادعة القارئ المستهلك»([15]). كما نجد أن المتن الروائي تناص مع العنوان في كثير من المقاطع نذكر منها:
«هي لم تقل شيئا بعد… وهو يتحدث إليها كأنه يراها بتداخل الحـواس… صوته يختـزل المسافة بين حاسة وأخرى يعيد تنقيط الجمل… كيف أشرح لها أن الإنسان لا بد أن يعيش بملء رئتيه بملء حواسه»([16]).
ونجد أن حواس حياة خانتها في بحثها عن الرجـل الذي تعلقـت به أثناء بحثـها عن قرطها الضائع في السينما، كيف لا وهو الذي ساعدها وأضاء لها المكان بولاعته، غير أنها لم تتعرف عليه وإنما اعتمدت على حواسها في البحث عنه من خلال عطره والمفردتين اللتان خطبها بهما وهما: قطعاً – حتماً، -ولكن حواسها قادتها إلى غيره- إنه خالد بن طوبال الذي يضع العطر نفسه، ولما اكتشفت أنها أخطأت في الرجل الذي تبحث عنه، شـقّت طريقـها في البحث عن “عبد الحق” الشخص الذي أحبته دون أن تتعرف على ملامح وجهه، ولكـن الصدمة كانت كبيرة حين اكتشفت أنه قتل على يد الإرهابيين، فحواس حياة عاشت حالة من الفوضى واللااستقرار.
عابر سرير: نجد أن العنوان يتناقض مع المتن الروائي من خلال حـديث السـارد عن حياة “خالد بن طوبال” الرسام، والتي تمثلها بسرير عابر بقوله: «ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بها خوفا عليه كان يحتاج إلى الحقيقة، فأعفاني بموته من مزيد من الكذب قـرر العبور إلى سريره الأخير، بينما كنت أشغل سريره الأول»([17]).
فكلمة عابر تدل على المرور، ومرور خالد بن طوبال إلى سريره الأخير يعني به القبر كما أن العبور من سرير إلى سرير آخر تميز اللاإستقرار الذي طبع الرواية، والعبور يكـون من سرير الطفولة (المهد) إلى سرير المقابر وكأن الحياة كلها هي ما بين سرير الطفولة وسرير القبر.
«قصدت مكتب الممرضات في الطابق، أسألعن مريض رقم 19، كنت أثناء ذلك أهدئ من روعي، فقد يكونون قد اصطحبوه لإجراء فحوصات أو التصوير الإشعاعي، أو ربما غيروا غرفته ليس أكثر، ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من اسبوعين “قد لا تجدني في هذه الغرفة قد أنقل إلى جناح آخر” قبل أن يعلق مازحا “أنا هنا عابر سرير»([18]).
يتناص عنوان ” عابر سرير ” مع المقولة المـشهورة للكاتب الفـرنسي إيمـيل زولا “Emile Zola ” “عابر سبيل ” ،فقد ربطت الروائية بين العنوان والمقولة الخالدة على مـستوى اللفظ والمعنى،فكلاهما لا يعرف الاستقرار ،فقد شبه الأديب الفرنسي الحقيقة بعابر سبيل لا يستطيع أي شخص الوقوف أمامها،فـ »عابرة سبيل هي الحقيقة ، ولا شيء يستطـيع أن يعترض سبيلها [19]« ، كما أن رواية عابر سرير كانت تصـور واقعا مظلـما عاشه الشعب الجزائري خلف جراحات ومآسي لم تندمل ، »كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها ربمـا لأن لها مخـزونا عـاطفيا في ذاكرتي منذ كنـت أزورها في مواكب الـفرح الطلابي في السبعينات مع قوافل الحافلات الجامعية للاحتفال بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبا بحضـور رسمي لرئيـس الدولة ضمن مشروع ألف قرية اشتـراكية كان لي دائما إحــساس بأنني قد عرفتهم فردا فردا لذا عز علي أن أصور موتهم البائس مكومين أمامي جثثا في أكياس من النايلون [20]«
هذه حقيقة مُرة عاشها المجتمع الجزائري ولا يمكن لأحد أن يخفي هول ما يحدث فرواية “عابر سرير” نص لا يمكن حجبه ولا إخفاءه كونه نص يتعرض لواقع معاش ولحقبة زمنية من تاريخ الجزائر المستقلة.
فقد استفادت أحلام مستغانمي في بناءها لثلاثيتها من رواية ” زوربا اليوناني ” نيكوس كانتزاكيس ،هذه الشخصـية الراقصة والتي استهدفتها الروائية للدلالة على البؤس والخذلان العربي اتجاه القضايا التحررية وخاصة القضية الفلسطينية ،فقد اتصف ” زوربا ” بالرقص للرد عن المأسي التي تعترض سبيله» مشهد لو رآه ” زوربا ” لأجـهش راقصا لنـساء علقت رؤوسهن على أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية« [21]
فالروائية تحب شخصية ” زوربا ” فهي متأثرة بها تأثرا شديدا ،فحياة البطلة ومن ورائها أحلام مستغانمي معجبة بهذه الشخصية الفريدة من نوعها » …لذلك أحببت زوربا الذي راح يرقص عندما كان عليه أن يبكي [22]« ، فأحلام التي تواجه عمق المآسي تستدعي رقصة ” زوربا ” وكبريائه في أحلك الظروف التي تصادفها.
»وقف مـراد والسيجـارة في طرف فمه ، وهو يرقص كأنه يراقص نفسه على موسيقى الزندالي، رقصته لا تخلو من رصانة الرجولة وإغرائها يتحرك نصفه الأعلى بكتفين يهتـزان كأنهما مع كل حركة يضبطان إيقاع التحدي الذي يسكنه،بينما يتماوج ويسره ببطء يفضح مزاج شهواته والإيقاع السري لجسده [23]«
فزوربا كان رمزا للمآسي فهو الذي زج به السجن مرات ومرات ثم فر منه ،وهو الذي لم يفلح في زواجه ولا في أولاده لذلك استدعته الروائية إلى ثلاثيتها ليبين حالتها النفسية ومن ورائها حالة وراءها شخصياتها ،لقد كانت شخصية ” خالد ” طبق الأصل لشخصية ” زوربا “،فلما ألم به خبر وفاة أخيه الوحيد ،قابل هذه الفاجعة بالـرقص »ففي حضرة الجسور أجهـش خالد راقصا على إيقاع ” زوربا ” بذراعه الوحيدة يوم أخبروه باغتيال أخيه الوحيد [24]«
» وفي حضرة “زوربا”…خلع البحر نظارته السوداء وقميصه الأسود،جلس يتأمل حياة« [25] فهذه أهم السيمات التي تدل على تعالق الثلاثية مع رواية ” زوربا اليوناني”
ب- صورة الغلاف: حمل غلاف رواية ذاكرة الجسد بعدا إيحائيا ورمزيا، ففي صورة الغلاف لوحتين غير واضحتين ويجلس إلى جانبهما شخص لا تظهر أطرافه، إلى جانب ذلك وضعت مزهرية بشكل أفقي، والغلاف مرتبط بالمتن، كون الجسد يدل على إنسان قضى جل حياته في الرسم بين الألواح، فـ«ليست الصورة انفعالا فحسب، للصورة جوانب عدة منها هذا الجانب التذكيري الذي يحيل على الماضي بمعناه الذاكراتي مستوحيا من الحساسية الزمنية التي تدعم إمكانية عبور الصورة الزمني»([26]).
أما في فوضى الحواس فنجد على غلافها امرأة ترتدي لباسا وحذاء بكعب عالٍ، ومن خلال الألوان الغير متجانسة (أوراق كثيفة زرقاء…) يظهر تلك الفوضى العارمة التي تطبع صورة الغلاف وهي بذلك متناقضة مع متن الرواية من خلال الفوضى التي طبعت مشاعر وأحاسيس الشخصيات.
كما نجد أن اللوحة التجريدية موقعة باسم “صوفية”.
أما عابر سرير فكانت صورة غلافها أكثر إيضاحا من سابقيها وتجسد ذلك من خلال السرير الأزرق المرسوم على الغلاف والذي يدل على السرير المستخدم في المستشفيات،وهو ما تأكد من خلال الصحفي الذي كان عابر سرير …..من السرير الزوجي إلى سرير “فندق مزفران”.
نلاحظ أن هناك علاقة وطيدة بين صورة الغلاف والعنوان في ثلاثية أحلام مستغانمي ووجودهما يكشف دلالات النص ويوجه القارئ إلى فهم النص و«الصورة بهذا الفهم هي صنـعة ليـس بوسـع أيً كان استعمـالها بالسهـولة المتصـورة حتى وإن رغب في ذلك»[27]
ج- الإهداء: يتنوع الإهداء في غالب الأحيان إلى ثلاثة مواضيع وهي:
1– الإهداء الخاص: ويكون للأشخاص المقربين من الكاتب، مثل أفراد أسرته وأصدقائه وأحبته.
2– الإهداء العام: وهم الأشخاص ذوي العلاقات العامة والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية التي يتشارك معها الكاتب في وجهة النظر، أو يكنّ لهم الاحترام والتقدير.
3– الإهداء الذاتي: وهو أن يهدي الكاتب عمله إلى ذاته، وهو عند “جنيت” إهداء حميمي وخاص ونادر الوجود»([28]).
وقد جاء إهداء أحلام مستغانمي في روايتها “ذاكرة الجسد” عاما وخاص، حيث كان الإهداء لـ”مالك حداد” الروائي الجزائري المشهور بقولها:
«إلى مالك حداد …
إلى ابن قسنطينة الذي أقسم بعد الاستقلال ألاّ يكتب بلغة ليست لغته…»([29]).
أما من حيث أنه جاء خاصا فيظهر من خلال إهداء عملها إلى والدها بقولها:
«إلى أبي … عساه يجد هناك من يتقن العربية، فيقرأ له أخيرا هذا الكتاب كتابه»([30]).
وإذا أردنا أن نفسر الإهداء العام والذي يبدو في مجمله سطحيا بسيطا للروائي “مالك حداد”، غير أن الروائية أرادت من وراء ذلك أبعاد دلالة عميقة يمكن تفسيرها كالتالي:
العلاقة التي تربط أحلام مستغانمي بمالك حداد علاقة وطيدة وتظهر من خلال تأثر الروائية بأعمال الروائي “مالك حداد”، فقد استعارت اسم شخصيتها “خالد بن طوبال” من روايته “سأهبك غزالة”، كما أن الروائي كتب كل روايته باللغة الفرنسية ولما استقلت الجزائر توقف عن الكتابة باللغة الفرنسية وفاءً للوطن، لأنها لغة الأعداء، فتوقف إبداعه لأنه لا يتقن اللغة العربية، فمات صمتا، ومنه اقتبست الإهداء.
أما الإهداء الخاص والذي وجهته للوالد فكان بهدف رد الجميل، فالروائية من الرعيل الذي لم يعايش الثورة، فكان الوالد بمثابة الذاكرة الثورية التي رسمت للروائية تلك المشاهد التي عاشها الشعب الجزائري إبان الثورة التحريرية.
أما إهداء رواية “فوضى الحواس” فقد زاوج الإهداء العام والخاص بقولها:
«إلى محمد بوضياف… رئيسا وشهيدا
وإلى سليمان عميرات، الذي مات بسكتة قلبية
وهو يقرأ الفاتحة على روحه، فأهدوا إليه قبرا جواره
وإلى ذلك الذي لم يقاوم شهوة الانضمام إليها، فذهب
ذات أول نوفمبر، بتلك الدقة المذهلة في اختيار
موته لينام على مقربة من خيبتها
من وقتها وأنا إلى أحدهم أواصل الكتابة
إلى أبي … مرة أخرة أواصل الكتابة»([31])
رغم تعدد المهدى لهم، إلا أنهم يتفقون في حب الوطن، فالإهداء داخل الهرم العام للنص»([32]).
ويظهر ذلك الحب الشديد الذي تكنه الروائية للكُتاب والقراء مثلهم مثل الولد في حين نجد إهداء الرواية الثالثة ” عابر سرير” إهداء عام وخاص، شأنها الروائيين السابقين بقولها :
«إهداء…..
إلى أبي دوما
وإلى شرفاء هذه الأمة ورجالها الرائعين الذين يعبرون بأقدارهم دون ، متشبثين بأحلام الخاسرين
وإليك في فتنة عبورك الشامخ، عبورك الجامع، يوم تعثر بك قدري …. كي تقيم»[33].
الإهداء في هذه الرواية موجه إلى والدها وكل شرفاء هذه الأمة والذين يضحون بأنفسهم من أجل الحرية وراحت الآخرين
فالإهداء في الروايات الثلاث لم يأتي منفصلا عن متون الروائية بل جاء خدمة للموضع، فهو ذو قيمة متعالية .
يتعالق إهداء ذاكرة الجسد مع رواية ” رصيف الأزهار لم يعد يجيب ” فمن خلال الإهداء اكتشفنا ذلك التناص الموجود بين النصين ،فالتعالق النصي كما جاء به “جيرار جينت ” هو كل نص ينشأ من نص سابق عن طريق تحويل بسيط أو تحويل غير مباشر ،فنص أحلام مستغانمي ” نص لاحق لنص ” مالك حداد ” ،فأحلام مستغانمي أعادة بناء نصها وإهداءها اعتمادا على نص “مالك حداد “،فقد تناص النصان في كثير من المراحل.
لقد تناص إهداء الثلاثية مع رواية ” رصيف الأزهار لا يجيب ” للروائي الجزائري مالك حداد، فقد حاولت الروائية إهداء ثلاثيتها إلى ذلك الرجل الرمز الذي مات بسرطان صمته على حد تعبيرها ، فرغم أنه كان يتقن اللغة الفرنسية إلا أنه قرر التوقف عن الإبداع والكتابة بهذه اللغة نكاية في المستعمر الغاشم ، ووفاءا لوطنه، لأنه كان يرى هذه اللغة لغة المستعمر الغاشم ، لغة الأعداء فعاهد نفسه بأن لا يكتب بها مجددا ، شأنه في ذلك شأن والدها الذي عمل كان مجاهدا فذا ومحمد بوضياف المجاهد شهيد الحق .
فقد صرحت الروائية »بأن علاقتها بمالك حداد لم تتأسس بعد وفاته كما يظن البعض ولكنها تأسست في حياته وذلك في فترة السبعينات ،حين كان على رأس اتحاد الكتاب الجزائريين وكانت علاقة إعجاب بين الطرفين« [34]
نكتفي بهذه المتعـاليات النـصية والتي نراها مهمة في توجه القارئ باعتبارها جزءا من الدلالة وعنصرا مكملا في أي متن أدبي وخلصنا في الأخير إلى أن العناوين الثلاثة في ثلاثية أحلام مستغانمي جاءت مطابقة للمضمون بنسب كبيرة ، فقد جاءت العناوين بمثابة مرآة عاكسة للنسيج النصي في المتون الروائية الثلاثة .
فالعناوين الثلاثة تفتح أفق انتظار القارئ لكي يمارس قراءة جديدة باعتبارها بطاقة تعريف النص، وهويته كي تشكل وجوده اختزلت ثلاثية أحلام مستغانمي مراحل هامة في تاريخ الجزائر .
دون أن نهمل الدور الذي لعبته صورة الغلاف في تشكيل المعنى ودلالته ، وأما الإهداء فقد كان مقصودا من أجل ضمان قـراءة جيدة فقد شكلت هذه العتبات علامات مضيئة بين العمل الإبداعي والقارئ ، فهي همزة وصل بينهما.
[1]– جليلة طريطر، في شعرية الفاتحة النصية، مجلة علامات في النقد ج1 مج 29، مطبعة الفلاح للنشر والتوزيع- بيروت- سبتمبر 1998، ص145.
[2]–Chiristian Achour et SunonRezzoug. Convergence critique/ interoduction a la lecture du l’itteraire- O.P.U Alger. 1995 p 28.
[3]– حسين حمزي، نظرية النص، من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، منشورات الاختلاف ط1 الجزائر 2007، ص110.
4-Gerard Gentte palimpsestes la littérature au degre edition du seuil paris 1982 p 10
[5]– صدوق نور الدين، البداية في النص الأدبي، البنية والدلالة، دار الإنماء الحصاري،1994، ص71.
[6]– عبد الحق بلعابد، شعرية الفاتحة النصية في رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة،ط1، تقديم سعيد يقطين، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008، ص33.
[7]– رشيد يحياوي، الشعر العربي في النجز النصي، إفريقيا الشرق، المغرب، 1998، ص107.
[8]– أحلام مستغانمي،ذاكرة الجسد، ص72.
[9]– سليم بركان، مقالة في كتاب الملتقى الدولي التاسع للرواية(عبد الحميد بن هدوقة) مديرية الثقافة لولاية برج بوعريريج الجزائر، ص138
[10]– المصدر السابق، 134،135.
[11]– سليم بركان، مقالة في كتاب الملتقى الدولي التاسع للرواية (عبد الجميد بن هدوقة) ص138.
[12]-حسينة فلاح، الخطاب الواصف في ثلاثية أحلام مستغانمي مذكرة لنيل شهادة الماجستير، الجزائر 2009، ص42.
[13]– أحلام مستغانمي،فوضى الحواس، ص: 124.
[14]– المصدر نفسه،ص: 219.
[15]– ينظر: وحيد بن العزيز، حدود التأويل- قراءة في مشروع أمبرتكو إيكلو النقدي منشورات الاختلاف- الجزائر-ط1، 28، ص: 15.
[16]– أحلام مستغانمي ،عابر سرير، ص: 158.
[17]– أحلام مستغانمي ،فوضى الحواس ، ص 233.
[18] – المصدر نفسه، ص 231.
[19] – أحلام مستغانمي،عابر سرير ، ص:07.
– أحلام مستغانمي،ذاكرة الجسد،ص:18.[21]
– أحلام مستغانمي ، فوضى الحواس ، ص:35.[22]
[23] – ، أحلام مستغانمي ، فوضى الحواس ص:129.
[25] -المصدر نفسه ،ص:287.
[26]– محمد صابر عبيد، حساسية الصورة السير الذاتية بين الكتابي والفوتوغرافي، كلية التربية، جامعة تكريت، العراق، يناير 2008، ص 35.
27 – محمد بن يوب، آلية قراءة الصورة البصرية – دراسات وإبداعات، الملتقى الدولي الثامن للرواية عند عبد الحميد بن هدوقة، الجزائر، 2005، ص 78.
[28] – ينظر: عبد الحق بلعابد، عتبات (جيرار جينيت من النص إلى التناص)، تقديم: سعيد يقطين، منشورات الاختلاف، الجزائر، ص 97-98.
[29]– أحلام مستغانمي،ذاكرة الجسد، ص 06.
[30]– المصدر نفسه، ص 01.
[31]– أحلام مستغانمي،فوضى الحواس، ص 05.
[32]– أحمد يوسف، سيميائية العتبات النصية – مقاربة في خطاب الإهداء (شعر اليتم في الجزائر أنموذجا) اللغة العربية، مجلة أكاديمية علمية يصدرها قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، العدد 15، 2001، ص 171.
[33] أحلام مستغانمي،عابر سرير ص:05
[34] – فتيحة شفيري، فضاء المدينة، في رواية ” ذاكرة الجسد “شعرية التناص ، العدد الثامن عشر ، جوان ،2013، ص:78.