تجديد الخطاب الديني… بين الاعتصام بالأصول والتحريف( دراسة مقارنة)، د. أبكر عبد البنات آدم- أستاذ/ مشارك – قسم مقارنة الأديان كلية الآداب- جامعة بحري- السودان، نشر في العدد الرابع من مجلة جيل الدراسات المقارنة الصادر بشهر أبريل 2017، ص 23. (حمل من هنا مجلة جيل الدراسات المقارنة العدد ).
ملخص
تناولت الدراسة تجديد الخطاب الديني، وهو من المصطلحات التي أصبحت تؤرق التيارات الإسلامية منذ أزمنة طويلة. وما أن بدأ الاستعمار الغربي توطيد جذوره في أنحاء الوطن العربي، إلا وسعى في تغيير ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، بحجة جعل الإسلام ملائماً مع الحضارة الغربية. وقد هدفت الدراسة إلى بلورة مفهوم التجديد بصبغة إسلامية، من خلال تحديث الوسائل والأساليب والآليات والضوابط التي على ضوئها يبين حكم الإسلام في النوازل، والعمل على تثبيت مفهوم الاجتهاد في المعاني الشرعية،هذا بالإضافة إلى إحياءُ ما اندثر من الحاضر الإسلامي. استخدم الباحث المنهج الوصفي والتحليلي، وأحياناً المقارن لمعرفة دور الأديان السماوية في إيلاء فكرة تجديد الخطاب الديني.
Abstract:
The Study takes rerewal of religious letter, that from terminologies which become bored Auxioty to Islamic currents since it has long time ,whenever the western colonization which stablized its roots in Arabic Area.They work in changing the polar of islamic religion and its origins, devoloped argumentative let Islamo to be isutable with western civilization .So the study aims to reflect the rerewal concept wiyh Islamic formula ,through styles ,and modernizem of mass media (to modernze means of mass mediatools and rules which reflect light to explain the rule of Islamic in misfortune .it works on consistent concept of motivation in legal meaning ;this in addition to vitalize which hidden in Islamic current .The researcher use analyitical descriptive methods butsometimes he used contrastive method in order to know the role of religions heaven due to rerewal of religious letter.
مقدمة
تحتل قضية الخطاب الديني أهمية كبري في العصر الحاضر نظرا لارتبط هذا الخطاب من تباين في الاهداف والغايات الأمر الذي أخرجه أحيانا عن جادة الصواب خاصة من قبل بعض العابثين الذين استغلوا قضية التجديد كوسيلة للتشويه بأصول الإسلام وثوابته.فهؤلاء استغلوا أصول الإسلام مجالا لتجربة المناهج الغربية التي بنيت على الفلسفة الاستشراقية الحديثة، بزعم أن مقتضى عصر الحكمة يحتاج إلى تفسير عصري أو تأويل حديث أو قراءة عصرية لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي الذي يصاحب العالم اليوم.
وفي المقابل هنالك فريق آخر يرى أن أي محاولة لتجديد الخطاب الديني تعد نوعاً من التعصب والتطرف والغلو والعصبية.لذلك يرى البعض أنّ قضية تجديد الخطاب الديني اليوم يشكل جزء من أزمة التخلف الحضاري والثقافي الذي يعيشه المسلمون اليوم; إذ إنه لا يمكن إنتاج خطاب إسلامي حديث يوافق مع روح العصر بمعزل عن الإصلاح الشامل في جميع الميادين السياسية والثقافية والاجتماعية، لأنها جميعا مرتبطة ببعضها، فالأزمة هي أزمة خطاب عام وشامل في جميع ميادين الحياة المختلفة.
ولا شك أن مسألة تجديد الخطاب الديني ليست من أسئلة عصر النهضة الحديثة الذي اشتدت فيه الحاجة إلى فعل التجديد، حيث ارتفعت فيه أصوات المفكرين والمصلحين الاجتماعيين إلى ضرورة الاهتمام بالتجديد بوصفه وسيلة فعالة للتخلص من مشكلات الجهل والتخلف والجمود والتقليد التي أصابت الأمة العربية والإسلامية.
و كثيراً ما دعا مفكرو الإسلام قديماً وحديثاً بمقتضى شمولية الإسلام في تحقق مقاصد التشريع الإسلامي، من خلال استيعاب أسئلة الواقع المتجدد. والنظرة الواقعية إلى المشكلات الحضارية والثقافية التي تحاك بالأمة، وذلك لأن الإسلام في عمقه هو حوار بين النصوص الدينية الثابتة من جهة والحياة الواقعية المتغيرة من جهة أخرى، أو جدل دائم بين ثابت أزلي متعال، ومتغير متجدد.
وبمقتضى هذه القراءة فإن قضية تجديد الخطاب الديني من القضايا الأساسية في النظام الإسلامي الذي يجمع بين الرغبة في الإصلاح، وإشاعة الثقافة الكونية المبنية على أسس شرعية وعقلية.ومن خلال تلك المعطيات فإن قضية تجديد الخطاب الديني قد تطور للتطور الهائل الذي شهدته مناهج العلوم الإنسانية والنظم الوضعية التي تري ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية في أحسن صورة، وفي هذا السياق الشامل يحاول الخطاب النهضوي الإسلامي يقيم الأدلة والبراهين العقلية والنقلية لتأكيد عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وكيف تستطيع نصوص الوحي المنزل بفضل ما تزخر به من قيم كونية، ومبادئ إنسانية سامية لنظام واقعي أفضل، يستطيع كل شخص في محيطه المجتمعي أن يحتفظ بقدرتها على التكيف مع مختلف التحولات الإيجابية التي تحاول النظم الوضعية المعاصرة أن تصل إليها.
تناولت الدراسة قضية تجديد الخطاب الديني من خلال مجموعة عناصر تشكل الأطر النظرية للقضية، حيث اشتملت على طبيعة التجديد، والمصطلحات المستخدمة في هذا المجال بالإضافة إلي منهج التجديد، وأهم التحديات أو المشكلات التي تواجه عملية التجديد سواء أكانت هذه المشكلات داخلية أم خارجية.
مشكلة الدراسة: رغم الاعتراف الصريح والواضح من جمهور علماء المسلمين بحاجة خطابنا الديني إلى التجديد لمواكبة مستجدات العصرنة، إلا هنالك من يرى أن في ذلك نوع من البدع والخرافات وتقليد للحضارة الغربية.
أهمية الدراسة: إن تدهور الخطاب الديني من أخطر القضايا التي تؤرق المسلمين اليوم؛ وذلك لأن شيوع الأمية الدينية، والغزو الثقافي الهادف، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، وانتشار الفتن الصارفة جعل المسلم المعاصر يبتعد عن ينابيع الإسلام الصافية، ولم يبق له من صلة بحقائق الدين إلا الخُطب المنبرية، أو من وسائل الإعلام.
أهداف الدراسة: تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
- معرفة مفهوم تجديد الخطاب الديني
- الكشف عن الوسائل والأساليب التي يمكن صياغتها لتجديد الخطاب الديني.
- بيان أثر التجديد على المسلمين في دينهم ودنياهم.
- معرفة مستقبل الدعوة الإسلامية من خلال انتشار ثقافة التغريب والاستلاب العقلي.
أسئلة الدراسة
- ماذا يُعني بالتجديد؟
- ما موقف المسلمين من التجديد والتحريف؟
- لماذا يتحدث الغرب عن التجديد أكثر من التحريف؟
- ما دور علماء المسلمين في تفشي ثقافة تجديد الخطاب الديني؟
منهج الدراسة:استخدم الباحث المنهج الوصفي والتحليلي والمقارن للوصول إلى نتائج واقعية وموضوعية.
مدلول لفظ التجديد
التجديد لغةً: التجديد في أصله اللُّغوي: مأخوذ من جدَّد الشيءَ، وتجدَّد الشيءُ، إذا صيَّره جديداً أو صار جديداً. والتجديد فيه طلب واستدعاء، إذ التاء للطلب، فيكون تجديد الشيءِ يعني طلب جِدَّتِه بالسعي والتوسّل. والجديد نقيض الخَلَق والبِلى، وضدّ القديم بمعنييه. القديم زماناً، والقديم بقاءً، وهو التقادم، فيُقال: بلي بيت فلان ثمّ أجَدَّ بيتاً مِنْ شَعْر.. ويُقال لليل والنهار: الجديدان، لأنهما لا يبليان أبداً[1].ومن معاني التجديد في أصل اللُّغة: التعظيم والإجلال، ومنه قوله تعالى:{وَأَنَّه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً}[2]، أي عظمته وجلاله وغناه. ومن معانيه كذلك الوسطية، ويقولون: جادّة الطريق أي سواء الطريق ووسطه. ويقول ابن فارس:” جد: الجيم والدال أصول ثلاثة الأول العظمة، والثاني الحظ، والثالث القطع، وقولهم ثوب جديد راجـع إلى المعنى الثالث كأن ناسجه أي قطعه، وسمي الليل والنهار جديدين، لأن كل واحد منهما إذا جاء فهو جديد”[3].
التجديد اصطلاحا: يقول العلقمي أنّ التجديد هو” إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُّنَّة والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات”[4].لذلك فإنّ إطلاق لفظ التجديد في مجال القضايا الدينية عموما يدل إلى إحياء جانب من الجوانب الاعتقادية والعبادية وإماتة البدعة، أو تطبيق مقاصد التشريع الإسلاميز كما ينصرف لفظ التجديد في مجال الفقهي إلى نبذ التقليد والجمود والدعوة إلى الاجتهاد، إما عقدياً يتجه نحو محاربة التخلف والجهل والانحطاط العقدي، والرجوع بالمعتقد إلى الينابيع الأولى في أسلوب يحقق مبدأ وحدانية المخلوق.
وما قاله أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ:” إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا”[5] غير دليل، وهنا يظهر صدق وحرص النبوة في إصلاح الذات، وتزكية النفس من رواسب التطرف والغلو في الدين، وتقوية الرابط الإيماني، وهذا من مقتضيات الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[6]. لقوله صلى الله عليه وسلم: “جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ” قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ:” أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ”[7]. وكما وقد أخبر الله عزّ وجلّ أهل الكتاب في قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}[8]. ولعل المراد هنا وجود طائفة يدعو إلى الحق والاستمساك بعروة الدِّين الوثقى، وإبقاء شعائره صافية نقية دون تغيير لحديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:” لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ… الخ”[9].وعلى ما ذكر فإن التجديد يعني تحقيق الغايات التالية:
* إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية.
* مساهمة الأمة الإسلامية في تطوير الحضارة الإنسانية.
* إظهار الشرائع التي خفيت في المجالات الشرعية المختلفة بفعل الجهل الذي خيّم على كثير من مجتمعاتنا الإسلامية.
* إزالة كل التصورات الخاطئة التي وقعت في سلوك بعض الناس، أو أقوالهم، أو عقائدهم، وردُّ الأمر إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
* الأمر بمقتضى الكتاب والسُّنَّة، والاستمساك بمقتضاهما.
* تبيين السُّنَّة وتمييزها عن البدعة والتحريف.
* إماتة ما ظهر من البدع والمحدثات في الدين.
* إحياء معالم الدِّين، والتخلص من الهجمة الغربية الشرسة.
* ربط الدعوة إلى التجديد بمناهج ووسائل ووسائط تعبدية وخُلقية.
* علاج بعض الأمراض الاجتماعية.
أما المجدد: فهو العالم أو المفكر أو المصلح الذي يحمل مشروعاً فكرياً ويعمل جاهداً على نشره بين الناس، وتطبيقه على أرض الواقع انطلاقاً من اقتناع المتلقي بأهمية الدعوة إلى التجديد والإصلاح في كلٍ، امتثالاً لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلـم:” إن الله يَبْعَثُ لهَذه الأُمة عَلَى رَأْس كُل مائَة سَنَة مَنْ يُجَددُ لَهَا دينَهَا”[10]. وعلى هذا الأساس اعتبر عمر بن عبد العزيز المجدد الأول على رأس المائة الأولى، لأن مشروعه الإصلاحي ينبني على مبادئ أصول الدين، لأن كان يستهدف إصلاح أحوال الناس والحكم، وهذا يمثل قمة في المسؤولية الذاتية لأن أي تجديد لا يلامس حياة الناس ومستقبلهم يظل بدون معنى، لذلك فالذين ربطوا بين مسألة التجديد وسياسة الحكم كانوا يذكرون العلماء إلى جانب الحكام باعتبارهم جميعاً مجددين.
وعرّف أبي الأعلى المودودي أنَّ المجدِّد هو:”كل من أحيا معالم الدِّين بعد طموسها، وجدَّد حبله بعد انتقاضه” أو هو:” إعادة أمر الدين كما كان عليه، يوم جاء من عند الله لم تعكره البدع والأهواء”[11]وقد أراد بالطموس معالم الدين في جوانبه كلها. كما أنه رحمه الله لم يُلصِقْ الانتقاض بالدين، بل ألصقه بحبل الدِّين، وحبل الدِّين وسيلة التمسك به من شعائر، ومشاعر، ونُسُك، وارتباط الوجدان بالمشاهدة، والمراقبة، والصدق، والتوكل، واستمساك العروة الوثقى، توجهاً بالنفس، وتوجيهاً بالدعوة.
وانطلاقاً من هذه القاعدة يظل الحق حقاً في ذاته لا تؤثر فيها تعدد المصادر وتنوعها، سواء عبرت عنه لغة الوحي المنزل، أم أبانت عنه لغة الفلسفة الواقعية أو المعرفية. أم كشف عنه العلم باختراعاته الحديثة التي لا تخالف مقاصد التشريع الإسلامية، وهذه ما ذهب إليه أبو الوليد ابن رشد الحفيد (تـ595هـ) في كتابه” فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” ومن قبله كتابه” الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ” وكلاهما عبارة عن دراسة منهجية نقدية مستقلة لطرق المعرفة الدينية الذي سعى فيهما في تقريب قضايا العقيدة، بصورة علمية وخُلقية ظلت غائبة عند طائفة من علماء الكلام. فقد اعتمد على المنهج المعرفي الذي يؤسس على المنطق الشرعي والعقلي المتميز التي تبتعد عن القضايا اليقينية، وعن المقولات التجريدية مثل مقولتي الجوهر والعرض ووجود الخالق ووحدانيته… وغيرها[12].
أيضاً اعتمد علماء آخرون على فكرة التجديد أيضاً من موقع اهتمامهم بقضايا الإتباع والابتداع. أو الثبات والاستقرار الذي تطالب به النظم الإسلامية من جهة، والتجديد والتطوير المتصل بواقع الإنسانية من جهة أخرى. ومن أشهر هؤلاء الأعلام الذين بهذا المنحى الإمام الشاطبي في كتابه” الاعتصام” الذي يشكل رؤية شرعية لمدلولي الإتباع والابتداع… والذي حدد مفهوم البدعة بأنها:” طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يُقصدُ بالسلوك ما يُقصد بالطريقة الشرعية”[13]. وقد أخذت فكرة التجديد في جانبها التشريعي والأخلاقي طابعاً منهجياً عند الإمام الشاطبي عند اكتشافه الرائع لنظرية المقاصد التي عمل على صياغتها صياغـة فلسفيـة في كتابه القيـم الموسوم” بالموافقات” الذي يعد بحق الإطار المنهجي لقضية تجديد الخطاب الديني تشريعياً وأخلاقياً، من خلال آلية الاجتهاد بوصفها من الآليات المهمة التي يسعى المرسل بها والمؤهل لممارستها، له القدرة في البحث عن النوازل في صورة تساير روح العصر، والتي تجعل من بين أهدافها الأساسية تحقيق مقاصده التشريع الإسلامي.
وقد ألّف جلال الدين السيوطي كتابا أسماه ” التنبئة فمن يبعثه الله على رأس المائة ” كما صنف ابن حجر العسقلاني كتاباً بعنوان: ” الفوائد الجَمة في من يجدد الدين لهذه الأمة ” مثلما ألف المراغي كتاباً أطلق عليه اسم:” بُغية المقتدين ومنحة المجددين. ولم يقتصرا على هذا الأمر بل بحثا في متون علمية تؤرخ لفكرة التجديد. وعلى هذا الأساس يعد الاجتهاد والتجديد عنصرين متلازمين وجوداً وعدماً. وكذلك تبلورت الفكرة باسم الإصلاح الديني على يد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده والتي امتد إشعاعها إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي، حيث تعالت صيحات المفكرين والمصلحين هنا وهناك تنادي كلها بضرورة تحرير العقل المسلم من قيود التقليد التي أصبحت ثقافة متفشية في أوساط من ينتسبون إلى العلم الشرعي الذين ركنوا إلى نتاج معرفي كان جديدا في فترة من فترات التاريخ البشري.
وقد ظهر في هذه الفترة مالك بن نبي بكتابه” الظاهرة القرآنية”، الذي استطاع أن يؤسس مشروع الحضارة باعتبارها من أهم القضايا التي ظلت تشغل بال الجميع. أيضاً ظهر في تلك الاثناء محمد عبد الله دراز( تـ1377هـ) بكتابه” الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”، الذي يعد إضافة حقيقية في مجال دراسة الأديان. كما ظهر مصطفى عبد الرزاق بكتابه” تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” الذي عمد إلى طرح منهج جديد في تناول الفلسفة الإسلامية من خلال الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي.
وانطلاقاً من تلك المعطيات فإن التيارات الفكرية المعاصرة تنظر إلى التجديد كل حسب منهجيته الفلسفية،لذلك فهم لا ينادون بالتجديد للأسباب التالية:
1 ـ التجديد عندهم هو إنكار السنة كلياً أو جزئياً، ولأنه يعارض مقاصد التشريع الإسلامي بزعمهم.
2 ـ التجديد عندهم الإزدراء بفقه السلف الصالح، وبمناهجهم وأصولهم،وأن التجديد أنألا يفي بضروريات العصر.
3 ـ التجديد عندهم القطيعة التامة بين الماضي والحاضر.
4 ـ التجديد عند المعاصرين هو بمثابة تمجيد للفرق المبتدعة، من المعتزلة والاشاعرة والشيعة.
- التجديد هو عبارة عن تغيير لحقائق الدين ومبادئه القطعية الثابتة ليوافق مع مبادئ الحضارة الغربية المعاصرة.
7ـ التجديد عندهم تحقيق المصلحة التي اقتضتها الضغوط الواقعية والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
8ـ فتح باب الاجتهاد على مصرعيه يلج فيه كل الناس، ويتساوى فيه العالم المجتهد والجاهل.
الغاية من التجديد
إن الغرض من التجديد هو بيان شمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة، والتجديد في ربط الإطار الأخلاقي والقيم بالعقيدة والعبادة، وفهم الإسلام باعتباره ديناً ودولة وحضارية تعتمد على الإيمان والبذل والجهد. فالحديث عن رحمة الله الذى خلق الإنسان فى أحسن تقويم وفضله وكرمه خير دليل على عظمة المولى عزّ وجلّ قال تعالى:{قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِين َأَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[14]، وقال تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }[15]، وقال تعالى:{الَّذِين يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْد رَبِّهِم و يُؤْمِنُون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[16]، فتغيير أسلوب الخطابة من النهج التقليدي الذي يعتمد على تلقين المستمع لتعاليم الدين دون إشراكه في قضايا الدين المختلفة والوقوف على أبعاده الفكرية، لو تحول الخطاب الديني إلى خطاب تحاوري لكان من السهولة واليسر تخريج أجيال من الناس يفهمون الدين ومبادئه عن قناعة دون إرغام، وعن حب دون قهر، وعن إقبال دون إدبار،وسوف يفهم الناس مبادىء دينهم بشكل صحيح إذا تعلموا إعمال عقولهم وفهموا أسلوبأ يسيرا للتفكر والتدبر في كل أمر يهمهم من أمور الدين والحياة في كل شأن من شئون حياتهم اليومية.
لذلك من الضرورة أن يركز الخطاب الديني على رحمة الله لعباده، وعلى حقوق الإنسان ويجعل الوصول للعدل والسلام الإجتماعي من أهم غاياته ويركز على دعوات الرحمة بين الأفراد والشعوب والتسامح وإحترام الآخر وعدم تنصيب الإنسان من نفسه قاضيأ وجلادأ لكل من خالفه الرأي والفكر والدين، وعدم إصدار الفتاوى والأحكام العشوائية بتكفير الناس ثم إهدار دمائهم تحت مسميات غريبة ما أنزل الله بها من سلطان نريد خطابأ دينيأ يحترم عقل الإنسان وآدميته وكرامته ولا يصبحه ويمسيه بالعذاب والجحيم كلما غدا أو جاء ليس في حياته سوى الرعب من النار وجهنم وعذاب القبر حتى مل ولم يعد يتأثر بالوعظ المكرر والكلمات التقليدية الباهتة البائتة التي لم يعد لها في نفسه أي صدى أو أثر يذكر نريد خطابأ دينيأ يكون فيه المستمع مشاركأ برأيه وإجتهاده وأن يحترم هذا الرأي وذاك الإجتهاد ولا يحتقر ولا يلقى به في سلة المهملات ولا يتهم صاحبه بالكفر والضلال والخروج من الملة مهما كان هذا الإجتهاد وحتى لو كان مختلفا مع بعض ثوابت الدين، فعلى المثقفين والواعين والمستنبطين لحقائق الدين التعامل برفق مع الإجتهاد دون زجر أو قدح أو شتم أو توبيخ أو تكفير لصاحبه ولكن إيضاح للحقائق مع حوار هادف بناء وليس حوارأ للهدم والسيطرة وتدمير الأفكار وتسفيه العقول لا تشترطوا على الناس أن يكونوا من خريجي أي مؤسسة دينية لأن المؤسسة االدينية المعترف بها من قبل الله تعالى هى المؤسسة التي تعلم فيها جميع الأنبياء والمرسلين وآخرهم محمد وهى مؤسسة الكتاب السماوي وآخرها القرآن الكريم تلك المؤسسة التي لا يأتيها الباطل من يديها ولا من خلفها وليس لها رجال مخصصون ومعينون من قبل الدولة ولكنها تفتح أبوابها على مصاريعها لكل مجتهد ولكل صالح يبحث عن سبل التقوى فى آيات مولاه العظيم لا تردوا المجتهدين بحجة أنهم ليسوا رجال دين فكل الرجال وكل النساء مؤهلون لأن يكونوا أحباب الله والدين كل بقدر علمه وجهده وإجتهاده فلا تمنعوا المفكرين من طرح أقكارهم حتى لو بدت غريبة ومناقضة لكم فليس هذا هو المهم لأن المهم ألا تتناقض مع نور الرحمن وليس مع الآراء والأفكار.
التجديد والتأصيل
الأديان السماوية هو مجموعة من المباديء والقيم النبيلة والمثل العليا التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي، وأمرهم بإبلاغ رسالته للناس، والدعوة إلى المحبة والسماحة والتعايش السلمي …. وباستيعاب الناس لمفردات الدين وتعاليمه وشرائعه وشعائره آمنوا به، واستقرت عقولهم وأفئدتهم وتحولت سلوكهم إلى أفعال حميدة وتصرفات مسئولة ومعاملات إنسانية…. وهذا يؤكد بأنهم متدينون أي متمسكون بدينهم لأن الدين هو مبادىء وقيم ومثل وخلق. فلا يوجد إنسان بدون نزعة التدين، فالفطرة الطبيعية متأصلة وعلى ضوئها يستطيع التحكم فى أيديولوجياته من حيث التبديل والتغيير والإضافة والحذف، فالدين السماوي ملك لله وحده وهو المتصرف فيه كيفما يشاء، ولكن من حق هذا الإنسان ان يجدد مفرداته إذا رأى تعارضاً بين التفسير والتأويل[17].
إذأ فالذين اجتهدوا وتفكروا فى الدين لا يمكن بحال أن يكونوا سندأ أبديأ للفكر الدينى على مر التاريخ وإلى يوم القيامة ذلك لأنهم عاشوا عصورأ تختلف عن عصرنا وظروفا مغايرة لظروفنا، وأفكارا وطموحات لا تمت لعصرنا بصلة ..فهم قد اجتهدوا لزمانهم ولظروف حياتهم بما يتفق واجتهاداتهم. فالمفكر الحق هو الذى يعلم أن إجتهاده إجتهاد بشرى قابل للأخذ او الرد والخطأ والنسيان. فالواجب على كل ذى دين أن يجتهد لعصره الراهن بما يتلاءم مع مستحدثات العصر.. لذلك فإن زماننا يحتاج إلى فقهاء وعقلاء يلائمون ويسايرون روح العصر للمحافظة على الأسس والقيم التى تقوم عليها الأديان وترتفع بها الأمم والأوطان.
فالكتب السماوية مفتوحة على مصراعيها أمام الجميع وليست حكرأ لأحد، فالمفكر المجتهد يسعى للوصول بالبشرية إلى بر الأمان، فعلى المفكرين أن يحركوا عقولهم إجتهادأ فى الحياة والدين وإبتغاءأ لفقه النوازل حتى يلائم روح العصر الذى نعيشه، ويحافظ على ثوابت الدين والعقيدة والمثل العليا والقيم النبيلة الراقية. فالدعوة لسلامة الأديان من الإرهاب والعنف والقتل العشوائى وإغتصاب بلاد الغير لهو من أهم المطالب. وما نراه اليوم يختلف عن الأمس فالمستشرقون ليس لهم هم سوى التهجم على الإسلام والمسلمون يقرؤن القرآن والأحاديث ليس رغبة فى الفهم أو التعلم أو سعيأ وراء الإيمان به، ولكن لغرض واحد ألا وهو الخروج بالآيات القرآنية من سياقها ليثبتوا لأنفسهم أن الإسلام دين سىء ولا يمت لله عزّ وجلّ بصلة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من ألف القرآن الكريم، وأنّ الإسلام دين قتل ودم وسيف، ويسوقون لذلك الأدلة والبراهين ليؤكدوا حجتهم ويثبتوا وجهة نظرهم. فنرى أصحاب الدين الواحد قد تفرقوا شيعأ وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، وكل فريق ينشىء لنفسه فرقة، ويحاول أهل كل فرقة أن يثبتوا للآخرين أنهم هم الناجون من النار .
فالإنسان كما صوره القرآن الكريم له قوة في الفكر والابداع الابتكار والتقدم بلا حدود، وقد ميزه المولى عزّ وجلّ بالقدرة العقلية والمعرفية فأصبح من أفضل مخلوقاته.وعندما ركد الفكر الديني في الإسلام خلال القرون الخمسة الأخيرة، ظهر في العالم الإسلامي من يدعو إلي رفض الجانب العقلي والمادي في الحضارة الأوروبية مع أن هذه الثقافة الأوروبية القائمة علي إعلاء قيمة العقل وتحكيمه في كل الأمور ليست إلا ازدهارا لبعض الجوانب المهمة في ثقافة الإسلام.،ولم يتقدم الغرب إلا عندما أطلق الحرية لممارسة تجديد الأفكار والنظريات لأنها عمل بشري وليست وحيا إلهيا، ولا عصمة لأحد من البشر أي أن القرآن الكريم يدعو للمحبة فلا يمكن أن تجد فيه آية تدعو للبغض والكراهية والحقد، ولكن توجد آيات تأمر بصد الإعتداء والإنتصار لحرية الإنسان حتى لا يصير الدين الربانى ملكأ لأحد من العباد بل يصير الدين كله لله، أي بمعنى أن يترك أمر التدين للواحد القهار.وكثيراً ما يقع سوء الفهمبين لفظي التجديد والتأصيل في مجال العلوم الاجتماعية والإسلامية. فإذا كان لفظ التجديد ينصرف إلى بعث عن قضايا الاعتقاد ومحاولة الرجوع بالمعتقد إلى العصور الأولى للإسلام، فالتجديد في أصول الدين يعني تجديدفي الأفكار والتصورات التي تخالف فعالية ظاهرة نزعة التدين في النفوس، على أساس أن الدعوة إلى التدين في صورتها الشرعية هي دعوة متجددة على الاستمرار ما عاشت الانسانية على هذه البسيطة.
أمّا لفظ التأصيل يعني الانتقال من حال إلى حال، ويختلف هذا الإطلاق من علم إلى أخرى. فالتأصيل في الفقه الاسلامي يعني إرجاع القول والفعل إلى أصل وأساس يقوم ويبنى عليه[18]. ومع أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما أصل العلوم وأساسها، فالتأصيل هو بيان الأصل من كتاب الله عزّ وجلّ أو من سنة النبي الله صلى الله عليه وسلم من خلال مناقشة مفاهيم العلم بناءاً على التصور الإسلامي.
ويرى بعض المفكرين المعاصرين المهتمين بقضايا التجديد ضرورة التمييز بين لفظي التجديد والتطوير، فالثاني يفيد البعث والإيقاظ والإثارة، في حين يحيل التجديد على إعادة لطور جديد من أطوار التاريخ استجابة لمتطلبات الحياة العصرية.وانطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية الموضوعية فإن نتائج تجديد الخطاب الديني ينهض ويسهم في تحصين حاضر الأمة الإسلامية ومستقبلها كلما كان المجددون يمتكلون الأمانة العلمية الحقة، في تناول ما يحيط بها من أحداث جسام، وما تواجهه من تحديات حضارية، وما يطرأ عليها من شبهات.
ومن هنا يجب على المتجدد تحديد الرغبة في تحقيق مجد الأمة، وفق ما يزخر به تراثها الحضاري من نظريات كونية عظيمة. ومعرفة ما ينتظرها من تحديات على المستويين الداخلي والخارجي، كل ذلك يعتمد على قوة النزعة الدينية للمتجدد.وليس غريباً أن يصبح الخطاب الديني مادة أساسية في الحوارات الثقافية، فالأزمة بين مضامين الخطاب الديني والتطلعات البشرية لم تكن وليدة المرحلة، ولا مقصورة على الدين الإسلامي، فإذا نظرنا إلى تاريخ المسيحية الأولى نجد أن رجال الدين الذين عاشوا في القرون الوسطى قد عانوا من ويلات تجديد الخطاب الديني(المجامع المكسونية)، الأمر الذي أغرق أوروبا بأكملها في صراعات فكرية متوالية مما أفقدت الجميعم وازين إعمار الأرض وتنميتها.
فالقصور في الخطاب الديني لا يعني قصورا في الدين، فهناك فرق بين الدين كوحي رباني يشكل نظرية حياة متكاملة، وبين إخفاق المسلمين في ترجمة النظرية إلى واقع ثقافي وحضاري. وهذا ما جعل الشعوب الأوروبية يخرجون عن ذلك الاخفاق وينظرون للنهضة العلمية بمعيار العالمية، وبالتالي انحصر دور رجال الدين في زوايا المعابد فقط.
أما على الصعيد الإسلامي فالخلل لايزال في مكانه للاختلافات العميقة التي نشاهدها بين التيارات الفكرية المعاصرة، الأمر الذي شكل عبئاً تنموياً على الفكر الإسلامي، وهذا ما نلحظه عند المفكرين الذين يمثلون دعاة التغيير والإصلاح في الشارع الإسلامي، فالتجديد في الخطاب الديني لا يعني إجراء التغيير في الأصول التي تتعلق بالدين وفروعه، بل التوافق مع تغيّرات قيم العصر ومعطياته ومنطلقاته التي تحتاج إلى العمق في التفكير.
وانطلاقاً من تلك القاعدة لابد من الاعتراف بأن الخطاب الديني قد ترنح أمام تحديات اجتماعية وسياسية كبرى توالت عليه منذ صدر الدولة الإسلامية الأولى عندما اختلطت الثقافة الإسلامية بالثقافات الوافدة كالفارسية كالرومية وغيرها، كما دخلت على المجتمع الإسلامي أنماط حياة وفكر لم تكن معهودة في عصر النبوة، وحتى في عصر الخلفاء الراشدين والتابعين كذلك، وعلى منوالها ظهرت في الساحة تحديات جسام اقتضت من الجميع أن تكون هنالك مرونة في تقبل الآخر، والإعتراف به،ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بتجديد الأفكار في سياق الدين الحنيف.فعدم الاعتراف بتجديد الخطاب الديني اليوم يرجع إلى عدم التعامل مع المفاهيم والمصطلحات بصورة واقعية.
ضوابط وآليات تجديد الخطاب الديني
إن تجديد الخطاب الديني لا يعني تغييره أو تبديله، وإنما يعني المحافظة عليه، ويخلص إلى أن التجديد عملية إصلاحية وليس تخريبية؛ إذن هو مطلب شرعي وواقع مقدر، حيث جاء تبليغه للناس كافة، وثمة آيات كثيرة تحث المسلمين على التمسك بالدين والعمل به، فضلا عن أحاديث نبوية تشير إلى حاجتنا إلى الفهم والعمل، فالحفظ من غير فهم أو عمل لا يفيد المرء مهما علا علمه، وظهر سطوته، لذا يحتاج المسلمون إلى نشر علوم الدين لا سيما وأن العلم ينقص بموت العلماء، مما يوقع العامة في الجهل والضلال وبالتالى يؤدي إلى المهلكات، والتي بدورها تؤدي إلى ظهور التيارات الفكرية المتباينة في الأفكار، والمتشددة في العمل والتطبيق والفهم الصحيح.ولتحقيق غاية تجديد الخطاب الديني يجب وضع ضوابط عملية يمنع التشكيك والدعاية والإشاعة بحيث يحقق ثوابت العقيدة الإسلامية، ومعرفة المعلوم من الدين بالضرورة، ومن أهم الآليات والضوابط هي:
* مراعاة الاختصاص في الدعوة إلى التجديد، يقول الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[19]، فالتجديدُ مهمةُ الراسخين في العلم، وأهلُ الحل والعقد في الأمة.
* الموضوعية والتجرد من الأهواء والانفعالات النفسية، فالمجددُ أن يكون باحثاً عن الحقيقة ومتمسكاً بالحق بعيداً عن المزاج، والتقليد الأعمى… وغيرها.
* الاعتصام بالأصول والثوابت الإسلامية.
* الاعتراف بمحدودية العقل البشري، لأن العقل البشري مهما بلغ في درجات الكمال، فالنقصان من لوازمه، فالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مقدمةٌ على العقل.
* أن يكون القصد من التجديد إصلاح الفكر الديني لدى الأمة، وشرح أحكام الدين بطريقةٍ صحيحةٍ بناءً على الأسس والثوابت.
* الالتزام بأساليب اللغة العربية وبأصول الفقه الإسلامي وقواعدها في تفسير النصوص الدينية وتأويلها،
* عدم إصدار الحُكم على أمرٍ قبل التمحيص والتفحيص، والدراسة المتأنية.
تحريف الدين باسم التجديد
من يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أن كثيراً من القضايا الفقهية وأحكامها في كتب الفقه، جاءت لعلاج بعض النوازل التي لم يكن لها وجود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا لا ينحصر على مجال بعينه، وإنما يشمل كل المجالات الدنيوية، والشرط هنا هو(العدل)، كما قال ابن القيم:”حيثما كان العدل فثم شرع الله”[20]. ولكن تغير الحال عندما اختلطت الثقافة الإسلامية بمفاهيم غربية جديدة تنادي بضرورة موائمة الثقافات حتى يعم التسامح بين الأديان. إضافة إلى أن بعض الفقهاء تساهلوا في المسائل التي سموها حصراً(ماعم به البلاء)، مما اضطر بعض المسلمين لأسباب غير موضوعية إلى الانجراف وراء الحضارة الغربية فظهرت ثقافة الاستلاب الفكري والعقلي التي ما برحت أن أثرت في العقلية المسلمة، فنتج عن ذلك تيارات فكرية تنادي بالغربنة والتغريب، الأمر أدي أخيراً إلى تفشي ثقافة التحريف والتبديل والتغيير، ممثلة في الآتي:
- الاحتكاك بالحضارة الغربية، ساعد في ظهور المشروع الغربي التي تدعو إلى التقريب بين الأديان وفق الفلسفة الغربية، وتقديم شروح لبعض الأمور الغيبية من منظور العلم التجريبي فقط.
- التغريب: التغريب هو حركة فكرية قامت على اتخاذ الغرب النصراني قدوة في كل مجالات الحياة المختلفة، وقد بدأ بالتقريب في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
- العصرانية: بدأت مع منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وتدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الشرعية، وإعادة تفسيرها، وفقا لمنجزات العصرنة العلمية والفكرية، ومن الأساليب المتبعة هذا الادعاء بأن العبرة بالقيمة والمضمون لا بالشكل والقالب، فهم ينادون بالحرية المطلقة للمرأة والخروج من عفتها، وكذلك العودة إلى النظام السياسي الإسلامي، واستحداث قواعد جديدة للفهم والاستنباط، والدعوة إلى التعددية الدينية.هذا إلى جانب الاستهداء بالنموذج الغربي في ممارسة الديموقراطية.
- العولمة : بعد انهيار المعسكر الشرقي، في نهاية ثمانينات القرن العشرين، انفردت أمريكا بقيادة العالم، وروجت لمصطلح “العولمة”، حيث أدخلت كل الشعوب في منظومتها الفكرية والثقافية والأخلاقية.
- فرض التجديد(التحريف) بالقوة: لجأ الصليبيون الغربيون إلى توفير الدعم السخي للمتعاونين معهم من حكومات البلدان الموالية لها، والدعوة إلى تجديد الخطاب الديني من خلال تطوير للمناهج الدراسية وفق النظم الغربية، وتوجيه الخطب المنبرية والاعلامية حسب المصوغات الغربية، وإباحة الربا في البنوك والمصارف.
- منعتعدد الزوجاتإلا بموافقة الزوجة الأولى، فحظروا ما أباحه الله تعالى.
- اعتبار حجابالمرأةمسألةَ حريةٍ شخصيةٍ، لا أمراً شرعياً، فالتقاليد والأعراف تحكم لباس المرأة وليس الشرع.
- إلغاء حكم قوامة الرجل على المرأة، علماً أن قوامة الرجل على المرأة جاء بهاالقرآن الكريمفي قوله تعالى:الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِم{(لنساء:34).
- إغراق المجتمع في الفسق والرذائل الأخلاقية، وتوسيع دائرة الانحلال الخلقي من خلال الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والإذاعية
- نشر المطبوعات الثقافية التي تطعن في الإسلام والمسلمين.
- تمكين الجمعيات والمؤسسات التبشيرية والتنصيرية من العمل في بلاد المسلمين، مع فرض الهيمنة الثقافية الغربية.
- عزل الإسلام عن الحياة وتكريس العلمانية في بلاد المسلمين، وربط ذلك التجاوب بالمعونات والمساعدات الغربية.
وعندما أصيب المسلمون بداء التطرف والإرهاب، بدأ العالم الغربي بإستحداث تقرير يتحدث عن مشروع يستهدف تطوير الخطاب الديني في العالم الإسلامي، والمشروع يعمل على تحويل الإسلام عن وجهته الثقافية والحضارية إلى أن يكون قريباً من الثقافة والحضارة الغربية… ويقترح المشروع تشكيل لجنة دينية عُليا من المسلمين والمسيحيين واليهود تهدف إلى تبصير كل شعوب العالم بالتقاء وجهات النظر بين الديانات التوحيدية الثلاثة، على أن تعقد هذه اللجنة أربعة اجتماعات سنوياً في القدس، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومقرها الفاتيكان. فالتجديد والتغيير أو التطوير عندهم يقوم على المقارنة تحت التفاسير التالية:
- إخضاع الدين الذي هو وضع إلهي سائق إلى هوى النفس؛ مما جعل الدين عرضة للتغيير والتبديل والتحريف، وهذا بدوره يؤدي مع مرور الزمن إلى ضياع الدين، كما حدث للأمم الذين من قبلنا كاليهود والنصارى، حينما عمد الأحبار والرهبان إلى تغيير بعض الأحكام التي أنزلها الله في كتبهم للمصلحة الذاتية، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[21]، أي جعلوا حلال الله حراماً، وحرام الله حلالاً؛ فهذه دعوة تحريفية تسعى إلى دمار مقاصد التشريع الإسلامي وإبعاد المسلمين عن هداية الله عزّ وجلّ.
- إفقاد الأمة الإسلامية من مصادر عزها وقوتها.
- السعي وراء إفساح المجال للجمعيات والمنظمات التنصيرية لاستغلال المسلمين في عقر دارهم.
- تحويل الأمة الإسلامية من أمة قانتة للحق إلى أمة ذليلة ضالة.
- احتلال بلاد المسلمين، وممارسة العمل التنصيري.
- النداء بمفاهيم جديدة كالقومية والشعوبية لخروج الأمة من ثقافة المحبة والتعايش والتفاهم.
إن طبيبعة الخطاب الديني عند اليهود يمتاز باللين حسب ما جاء في شريعة موسى عليه السلام (التوراة)، وقد أكد الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز هذه الطبيعة عندما خاطب موسى وهارون بقوله تعالى:{ اذْهَبْ أَنتَ وأَخُوكَ بِآيَاتِي ولا تَنِيَا فِي ذِكْرِي . اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى . فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[22]، لكن هذا الخطاب الديني قد انقلبت عن طبيعتها السمحة انقلاباً حادًا وشاملاً عندما تشعبت نفسية اليهود بالاضطهاد، وروح الانتقام، فشاعت في هذا الخطاب الديني النصوص التي تدعو إلى الحرب والإبادة، وإلى تدمير كل مظاهر الحياة عند الشعوب الأخرى، باعتبارهم مامورون من الرب، بل هم وحدهم شعب الله المختار، دون سائر خلق الله.. وأنهم شعب مقدس، دون جميع الشعوب، وفوق جميع الشعوب… غير أن الله تعالى نفى عن تلك المقولات العنصرية لقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}[23]. فالسؤال الذي ليس له إجابة هل فشل المسلمون من التمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم، فلا غرابة في أن الكثير من المسائل الدينية هي ثوابت بحكم الحلال والحرام، وما استجد من مفاهيم الاجتهاد القصد منها أن الدين يسر وليس عسر، والتفقه في الدين إنما هو من سبيل زيادة خير الدنيا والنجاح في الآخرة.
الخاتمة
أكدت الدراسة أن الكثيرين ممن تحدثوا عن تجديد الخطاب الديني كانوا يفهمون المصطلح على الأساس الفكري والثقافي، وليس على الأساس اللغوي والأسلوبي، فالذين يقولون بأنها مفروضة من جانب القوى السياسية الحاكمة والقوى الدولية الكبرى المسيطرة على العالم(العولمة)، يريدون تشويه صورة الإسلام والمسلمين. فعلى المسلمين أن يكونوا أصحاب فكر ودراية، حتى تتكامل الأدوار في الدفاع عن الدين.وعلي الجانب الأخر، بما أن القوى الفكرية والسياسية قد انصب تفكيرها على تجديد الخطاب الديني الإسلامي فمن باب الأولى أن يشمل الرؤى والعقيدة والشريعة والقيم السلوكية حتى لا يكون المناداة نوع من اللعبة الخفية بين التيارات الفكرية المختلفة،ولا يكون مصطلح الخطاب الديني نفسه ضحية لنفس قوانين القوة العالمية التي تساندها وتحركها التيارات السياسية الحاكمة، والقوى الدولية صاحبة النفوذ في العالم العربي والإسلامي.
ومن خلال تلك المعطيات علينا كالمسلمين أن نبدأ أولاً بتقسيم الخطاب الديني إلى ثوابت التي لا يمكن مسها، ومتغيرات تدور مع مصلحة الإنسانية على هذه البسيطة. فإذا توصلنا إلى هذه الغاية، وميزنا بين الثابت والمتغير، نكون قد وضعنا أمر المسلمين على الطريق الصحيح، وبالتالي تفادينا خطورة طاعون العصر(التطرف والإرهاب والغلو في الدين).
المراجع
*أبادي، الفيروز(بدون تاريخ). القاموس المحيط، دار القلم،القاهرة،ط2.
* ابن القيم(بدون تاريخ).إغاثة اللهفان.تحقيق محمد حامد.دار المعرفة للكتب،بيروت،ط3.
*ابن فارس،أحمد بن زكريا(1411هـ).معجم مقاييس اللغة.تحقيق عبدالسلام هارون.دار الجيل بيروت،ط2. 1 / 406، مادة جد.
* ابن منظور،أبو الفضل محمد بن مكرم(1958م).لسان العرب.دار صادر،بيروت،ط3.
* أبي داؤود،سليمان بن الأشعس(بدون تاريخ). سنن أبي داؤود.تحقيق محمد محي الدين. دار الفكر بيروت،ط2.
*البغدادي،أحمد(1999م).تجديد الفكر الديني.دار الثقافة،دمشق،ط1.
* الخوري،أمين(بدون تاريخ).المجددون في الإسلام.دار العلم، الإسكندرية،ط1.
* الشاطبي،أبو أسحاق بن إبراهيم(1972م).الموافقات في أصول الشريعة.دار المعرفة،بيروت،ط2.
* الشاطبي،أبو اسحاق بن إبراهيم(1974م).الاعتصام.مكتبة التوحيد، القاهرة،ط2.
* الطبراني(1995م). المعجم الأوسط.تحقيق طارق بن عوض الله،ومحمد الحسيني.دار الحرمين.ط2ج2.
* العسقلاني(1407هـ). فتح الباري في شرح صحيح البخاري. دار الخير،ط2ج3.
*الفيومي،أحمد بن محمد(بدون تاريخ).المصباح المنير.المكتبة العلمية،بيروت،ط2.
* المودودي،أبو الأعلى(1981م).المصطلحات الأربعة.تعريب محمد كاظم.دار القلم الكويت،ط8.
* رجب،إبراهيم عبدالرحمن(1991م).المنهج العلمي للبحث من وجهة إسلامية.المعهد العالمي للفكر الإسلامي،القاهرة،ط1.
[1]– ابن منظور،أبو الفضل محمد بن مكرم(1958م).لسان العرب.دار صادر،بيروت،ط3،654.
– ابن فارس(1411هـ).معجم مقاييس اللغة.تحقيق عبدالسلام هارون.دار الجيل،بيروت،ط2.ج1 / 406، مادة جد..[3]
– أبي داؤود،سليمان بن الأشعس(بدون تاريخ).سنن أبي داؤود.تحقيق محمد محي الدين،دارالفكر،بيروت،ط2،ج2حديث رقم4291.[5]
[6]– سورة النساء:59.
[7]– الطبراني(1995م). المعجم الأوسط.تحقيق طارق بن عوض الله،ومحمد الحسيني.دار الحرمين.ط2،ج2ص1245.
[8]– سورة الحديد:16.
[9]– العسقلاني(1407هـ). فتح الباري في شرح صحيح البخاري.دار الخير،ج3/58:حديث رقم1920.
[10]– أبي داؤود،سليمان بن الأشعس(بدون تاريخ).سنن أبي داؤود.تحقيق محمد محي الدين،دارالفكر،بيروت،ط2،ج2حديث رقم4291
[11]– المودودي، أبو الأعلى(بدون تاريخ).المصطلحات الأربعة.تعريب محمد كاظم.دار القلم، الكويت،ط2ص156.
[12]– الشاطبي،أبو أسحاق بن إبراهيم(1972م).الموافقات في أصول الشريعة.دار المعرفة،بيروت،ط2ج4ص74.
[13]– الشاطبي،أبو اسحاق بن إبراهيم(1974م).الاعتصام.مكتبة التوحيد، القاهرة،ط2ص413.
[14]– سورة الزمر:53.
[15]– سورة النساء:48.
[16]– سورة غافر:7.
[17]– الخوري،أمين(بدون تاريخ).المجددون في الإسلام.دار العلم، الإسكندرية،ط1ص14.
[18]– رجب،إبراهيم عبدالرحمن(1991م).المنهج العلمي للبحث من وجهة إسلامية.المعهد العالمي للفكر الإسلامي،القاهرة،ط1ص12.
[19]– سورة الأنبياء:7.
[20]– ابن القيم(بدون تاريخ).إغاثة اللهفان.تحقيق محمد حامد.دار المعرفة للكتب،بيروت،ط3ص453.
[21]– سورة التوبة:31.
[22]– سورة طه:42-44.
[23]– سورة البقرة:79.