النزعة التاريخانية: نشوء الشموليّة في الفكر الاجتماعي و النظم السياسيّة
L’Historicisme : la genèse du totalitarisme social et politique
لوصيّف رحومة:أستاذ جامعي في مادّة الفلسفة/جامعة المنستير، تونس
Loussaief Rhouma/ docteur chercheur en philosophie/ Université de Monastir/ Tunisie
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 96 الصفحة 35.
Résumé:
La conception de la Cité, ou la République idéale de Platon repose sur la théorie platonicienne des Formes. Cette théorie des Formes est fondée sur la loi de Devenir qui détermine l’existence des êtres et des objets.
La loi du Devenir est liée au constat de la corruption et la décadence des êtres à travers leur évolution organique et historique ; l’histoire des êtres est, alors, un processus évolutif de dégénérescence et de décadence, de la perfection à l’imperfection.
La pensée platonicienne, qui repose sur un principe historiciste, a influé les courants philosophiques et les sciences sociales de l’âge moderne ; Ce principe de l’historicisme consiste dans l’allégation que le devenir est une fatalité irrévocable qui détermine l’histoire de l’humanité.
Néanmoins, d’après cette doctrine historiciste, l’histoire des sociétés et civilisations humaines est régie par un déterminisme, économique et spirituel, et par une téléologie historique ou divine.
L’historicisme a contribué à la genèse des théories sociales et des doctrines politiques dont, malgré l’antinomie des thèses défendues, les adeptes de ces doctrines soutiennent que leurs allégations sont déduites de l’étude objective de l’homme et de l’histoire. Et chaque théorie justifie ses allégations par des argumentations déterministes et historicistes.
La tendance historiciste a contribué à la formation des régimes politiques totalitaristes et despotiques et à la persistance de la vision subjective réductionniste et sélective du monde.
Mots clés : Historicisme, Déterminisme, Téléologie, Devenir, Transformation, Causalité Dégénérescence, Essences, Totalitarisme, Socialisme, Communisme.
ملخّص:
لقد ظهرت النزعة التاريخانيّة، كما يبيّن ذلك كارل بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” بداية، مع أفلاطون، لتتواصل في العصر الحديث ليتشكّل على أساسها الفكر الاجتماعي عموما والفكر السياسي، من أوغست كونت إلى هيغل ومن ثمّة ماركس.
يقرّ معتنقي هذه النزعة بحقيقة التغيّر و الصيرورة اللّذان يحكمان العالم، ولكن يربطون هذه الصيرورة بحتميّة إلهية وبغائيّة تاريخيّة. لقد أسّست هذه النزعة لمذاهب سياسيّة ونظريّات اجتماعية مختلفة. ولكن وعلى اختلاف هذه المذاهب، فهي تجتمع على الادعاء بأنّها ضروريّة وملزمة بحجّة أنّها تقوم على استقراء التاريخ وعلى أنّها تمثّل الحتميّة التاريخيّة و تعبّر عن روح العصر. لقد ساهمت النزعة التاريخانيّة في نشوء نظم سياسيّة شموليّة و إستبداديّة على امتداد القرن العشرين، وفي ترسيخ رؤية اختزالية و اقصائيّة للعالم وللتاريخ.
الكلمات المفتاحية : التاريخانيّة، الحتميّة التاريخيّة، الغائيّة، التغيّر، الصيرورة، السيرورة، التفسّخ، العقل المطلق، الجواهر، الشموليّة، السببيّة والعليّة، الشيوعيّة.
مقدمة :
في خضّم محاولة فهم الظواهر الاجتماعية و إيجاد الحلول العمليّة للمشاكل التي تطرأ عل المجتمع في مختلف المجالات، يسعى الفكر الاجتماعي و السياسي و الفكر الفلسفي عموما إلى استكشاف القوانين والمبادئ التي تتغيّر وفقها المجتمعات الإنسانية، وكذلك معرفة الغاية و الهدف الذي يتجه نحوه المسار التاريخي.
لقد ساد الاعتقاد، منذ أفلاطون، أن التطور التاريخي للمجتمعات و الشعوب الإنسانية يخضع لقوانين ثابتة و يمرّ عبر مراحل محددّة من أن أجل الوصول إلى غاية أو هدف نهائي.
تتمثّل التّاريخانيّة في الاعتقاد المبدئي بأن التاريخ الإنساني يتطور ضمن مسار تاريخي محدّد، وأن المسار التاريخي يتحرّك في اتجاه حالة أو وضعيّة تفرضها غاية تاريخية، وهو ما يؤدّي حسب هذه النزعة التاريخانية إل الاعتقاد تطوّر المجتمعات والحضارات الإنسانية تحكمه حتميّة تاريخية صارمة، وبأنّ كل مرحلة تاريخيّة هي ناتجة عن مرحلة سابقة وهي ضروريّة لمرحلة قامة في اتجاه الغاية النهائيّة التي يتجه نحوها التاريخ.
لقد أدّعى أفلاطون بأنّ التاريخ يحكمه التغيّر، ولكن هذا التغيّر يسير من الكمال إلى النقصان، ومن الفضيلة إلى الرذيلة. وبالتّالي وجب إيقاف هذا التغيّر من أجل تحقيق المدينة الفاضلة و دوام الخير و العدل.
أما هيغل، فقد أدّعى بأنّ تاريخ الحضارات و الشعوب هو تجسيد للصيرورة التاريخية التّي تنتهي بتحقّق الكمال الحقيقة والجمال وبتجسّد العقل المطلق.
تظهر مخاطر وانعكاسات المثاليّة الهيغليّة عندما تمتزج بالقوميّة الجرمانيّة وبالنزعة الشموليّة في الفكر السياسي، على اعتبار أن الفلسفة الهيغليّة تنتهي إلى اعتبار أنّ الدولة في عصره تمثّل نهاية التاريخ وبأنّها تمثّل التجسّد الفعلي للحقيقة والخير وللحريّة والجمال.
تأتي بعد ذلك تاريخانيّة معاكسة متمثّلة في الفلسفة الماركسيّة التّي تدّعي بدورها أنّ التاريخ الإنساني تحكمه حتميّة تاريخيّة تمرّ بمقتضاها المجتمعات الإنسانية من مرحلة المشاعيّة إلى المرحلة الإقطاعيّة وصولا إلى المرحلة الشيّوعيّة.
لقد عزّز التقدّم العلمي في العصر الحديث هذه النزعة التّاريخايّة التي أصبح معتنقيها يستمدّون شرعيّتها من القوانين والمبادئ العلميّة لتي تأسّست عليها العلوم الطبيعيّة. لكن، في الوقت الذي كانت هذه النزعة التّاريخانيّة تؤسّس فيه لنظم سياسيّة شموليّة واستبدادية، و ترسّخ فيه لنظرة اختزالّية و ضيّقة للعالم و للإنسان، كانت العلوم الطبيعيّة الفيزيائيّة تتطوّر وتتقدّم بفضل مراجعة وتصحيح مبادئها و قوانينها.
أفلاطون يناهض التغيّر
تعتبر النزعة التاريخانيّة لدى أفلاطون، كما يبيّن ذلك بوبر، نتيجة لنظريّة المثل أو الصور التي أسّسها، ومن ثمة من منطلقات رؤيته للمدينة الفاضلة أو الكاملة. لقد ورث أفلاطون عن سابقيه من هيراقليطس إلي بارميندس وكذلك معاصريه من السفسطائيين مشاكل معرفيّة وأطروحات تجعل كل معرفة علمية وصحيحة مستحيلة، إضافة إلي أنها لا تخلو من مأزق أخلاقيّة وسياسيّة: إن بوبر يبين في الجزء الأول من “المجتمع المفتوح” كيف أصبح التغير مع هيراقليطس قانون يحكم العالم والموجودات وبالتالي كل المجتمعات الإنسانية. فكل الأشياء لا تثبت على حال وتستحيل بذلك كل معرفة واضحة وحقيقية خاصة وأن هذا التغير يشمل الإنسان مصدر هذه المعرفة، حتى بارميندس الذي يقول بالثبات، فهو ينفي حقيقة أن الموجودات محكومة بالتغير والصيرورة، بل ينفي كل معرفة يقينية تكون مصدرها تجربتنا الحياتية اليومية والظواهر الطبيعية الإنسانية”ولقد علم بارميندس، احد أسلاف أفلاطون الذين أثّروا عليه تأثيرا كبيرا، أن المعرفة الخالصة للعلّة، كمقابل للرأي الخداع الذي تأتي به التجربة يمكن أن يكون موضوعها الوحيد هو عالم لا يجري عليه التغير، وأن المعرفة الخالصة للعلّة إنما هي التي تميط اللثام حقيقة عن مثل هذا العالم. بيد أن عدم التغير وعدم انقسام الحقيقة التي اعتقد بارميندس أنّه اكتشفها خلف عالم الأشياء الفانية، كانا غير متعلقين تماما بهذا العالم الّذي نحيا ونموت فيه.[1] ” الموجودات لا تمدّنا بمعرفة يقينيّة، لكن خلف هذه الموجودات هناك الوجود الذي هو علّة وجودها، وهو يتميّز بالثبات والخلود ولذلك هو مصدر كل حقيقة.
لم تمكّن أطروحة بارميندس أفلاطون من إنقاذ المعرفة أو فهم وتفسير الظواهر الفيزيائية والاجتماعية، فهي تدعو في نهاية المطاف إلى تجاهل والتغاضي عن هذا العالم المتحرّك والمتدفق والمتجه إلى الفساد والتفسّخ بخطى حثيثة، ولكنها تترك المجال لأطروحة السفسطائيين القائلة بان المعرفة حسية بالأساس وبأنها نسبية. إذا فالتغيّر والصيرورة كقانون يحكم عالم الأشياء والناس موضع اتفاق كل من الفلاسفة السّابقين لسقراط والسفسطائيّين ولم يكن لأفلاطون أن ينكر ذلك، لاسيّما أنّه عاش الحروب والصراعات التي اشتدت بالمجتمعات اليونانيّة، ولكنه “داعبه الأمل في أن يكتشف وسائل إنقاذه متسلّحا بحقيقة وجود عالم ثابت وأزلي يكون أصل وعلّة وجود العالم المادي. ولقد استمد من أستاذه سقراط الذي اكتفي بأن يكون “عالما أخلاقيا أزعج كل أنواع الناس، وأرغمهم على التفكير وعلى التفسير، وعلى أن يعللوا أسباب أفعالهم ضرورة البحث عن القواعد الأخلاقية التي تكون علة لأفعالنا ومبررة لها، و كذلك البحث عن الفضيلة، الخير والعدل والسعادة ليس في أفعالنا وتصرّفات الناس المتعددة المتناقضة بل في أصلها وجوهرها. فلا يمكن أن نحكم على أفعالنا وميولاتنا إلاّ إذا كانت هناك جواهر أو تعريفات كليّة للخير أو للعدالة مثلا.[2]“
يمكن القول كما استنتج أرسطو أن سقراط حاول من جهته أن يبحث في العلل الأولى أو الوجود الحقيقي في مجال الأخلاق، الأحكام والتعريفات، وهذا يعني أن هناك اهتمام و انشغال بتبعات ومشاكل عملية وسياسية لمشكل المعرفة المتورطة مع فكرة بل حقيقة التغير، التحول والصراع، لكن سقراط لم يقدم في الحقيقة ما يمكن أن نسميها الجواهر أو المعاني الثابتة التي يمكن الرجوع إليها لكي نحكم على أفعالنا أو نستطيع توجيهها، لقد دعي الناس بان يعرفوا أنفسهم بأنفسهم، بان يبحثوا عن علل أفعالهم وعن أصل الخير والفضيلة الكامن في كل إنسان: فالأفعال والتشريعات والحكومات يمكن أن تتغير وتتبدل ،،لكنها تكون خيرة إذا كانت مستندة إلي أصل ثابت وتعريف كوني للخير وتكون على قدر من الفضيلة إذا كانت تبتعد أكثر ما يمكن من الرذيلة وتتما هي مع جوهر الفضيلة.
إن نظريّة المثل هي نتيجة لمحاولة أفلاطون إنقاذ المعرفة بالبحث عن جوهر كل شيء مادي متغيّر وكذلك جوهر أو تعريف[3] لكل ممارسة أو حكم كالخير والعدالة والسعادة أو العفاف والشجاعة: “إن الصور أو المثل الكاملة والخيرّة تسبق في الوجود نسخها، الأشياء الحسية، وهي شيء ما يشبه الأسلاف أو نقاط البدء لكلّ التغيرات في عالم التدفّق . “[4]
إن العالم الفيزيائي يحكمه التغيّر والفساد، وهذا العالم يشمل الإنسان والمجتمعات والدول والتشريعات. أما عالم المثل فهو ثابت، خيّر، وهو بمثابة النماذج أو الأصول للعالم الذي يحتوي علي مجرد نسخ: فالثبات خير والتغيّر شر، لأنّ الكامل لا يتغيّر ويفقد كماله كلّما خضع للتغيّرات الخارجيّة : ” أو ليس، يقول سقراط مخاطبا أدمينيتس، أفضل الأشياء في الوجود أقلّها قبولا للتغيّر بتأثير خارجي.[5] ” إذا كانت المجتمعات والدول في تغيّر مستمّر من خلال الحروب والصراعات الداخلية والانقلابات، فإنّ هذه المجتمعات تتّجه بإطّراد نحو التفسّخ والانحلال لأنهّا تفقد في كل حالة تغير نسبة أكبر من التماثل والتشابه مع المجتمع المثالي أو الصورة الحقيقيّة للدولة أو المدينة الحقيقية. فالدولة المثالية الكاملة هي الصورة والمثال الحقيقي لكل الدول والمجتمعات المتغيّرة و هي نقطة البدء لها مما يعني أن الدولة المتأخرة زمنيّا هي الأقلّ تشابها مع الدولة المثاليّة، وبالتالي الأكثر انحلالا وتفسّخا لأنها تعيش تطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية و تحكمها صراعات طبقيّة سياسية داخلية وحروب مع غيرها من الدول.
إنّ هذا العالم الذي تكوّنت صورته منذ هوميروس وهزيود إلي بروتاغوراس وهيراقليطس وبارميندس على أنّه مسرح للصراع والتصارع بين الأضداد والتغيّر المستمر من خلال التفاعل بين العناصر المادية في ما بينها ومن خلال الصراع بين الأفراد والمجتمعات الإنسانية. ولكن، تكونت فكرة التغيّر كفساد وانحطاط، لأنه بسبب التغيّر يكتسب الشيء ما ليس له وما لا يتوافق مع طبيعته وبالتالي، يستحيل أي قول ثابت وحقيقي بشأنه، وكذلك لأنّ كل تغيّر يكون متبوعا حتما بحالة تغيّر أخري: يقول بوبر أن كل الأطروحات والأفكار التي ترّوجها الأقاصيص والملاحم وفلسفة أفلاطون تعبر كلّها عن حالة القلق والتوتّر والريبة التي كانت نتيجة للصراعات والحروب المتواصلة بين المجتمعات اليونانية، والصراعات الطبقية. لم يكن أي شيء يدعوا إلي الطمأنينة والاستقرار، فالتحالفات تتغيّر والأعداء تغدوا أصحاب والأصحاب أعداء والأنظمة السياسية تتغيّر بسرعة والحرب مستمرة وهو ما تشهد به الحرب التي قامت بين اسبرطة وأثينا، و التي يتعمّق في تحليلها بوبر في الجزء الأول من ” المجتمع المفتوح وأعداؤه” (الفصل العاشر، ص.169).
لقد كان فعلا شعور بفقدان الوحدة وإحساس بالضياع وبدا وكأنّ الطبيعة والآلهة قد تخلّت عن الإنسان في العالم ليواجه مصيره ويتحمّل مسؤوليّة أفعاله وقراراته وظهر الحنين إلي عهد الأسلاف والأجداد – وهو شعور تعيشه الناس في كل مرحلة توتّر وتغيّر اجتماعي وسياسي- ونظرية المثل في فلسفة أفلاطون لم تكن إلا حل جريء ومغري لمشكل المعرفة ولمشكل سياسي معا، وكانت نتيجتها المذهب التّاريخاني الذي يمثّله بوبر في الدعوة إلي العودة إلي “المجتمع القبلي” وإلي الأرستقراطية البدائية لأنّ هذا المجتمع هو الممثّل الأقرب إلي المجتمع المثالي والكامل: إن التاريخ الإنساني عند أفلاطون هو مسار للتحوّل من الأكمل إلي الأنقص ومن الخير إلي الشر ومن الأقل فسادا إلي الانحلال والانحطاط الكلي، والحل العملي هو إيقاف هذا التغير. إن هذا الحل هو الإجراء الأولي الضروري في كل الأحوال، ذلك أن المدينة الفاضلة التي ينحتها لم يقرر أنها قد وجدت أو أنها ستوجد يوما ما، لكنها في النهاية هي الأنموذج للدولة الثابتة أو كما يصفها بوبر بالمجتمع المغلق الذي يصمد أمام كل تغير وكل تطور: وليس من المهم تحليل نقد بوبر لنظرية أفلاطون السياسية بقدر ما هو هام وعاجل أيضا توضيح كيف أن التاريخانيّة كانت المذهب الذي أدّي بأفلاطون إلي تكوين “مدينته الفاضلة” وتفسيره للعدالة وللنظام السياسي الأفضل الذي يمثّله الفلاسفة. وبالتالي فهذا المذهب التاريخاني المتشائم يدعوا ويؤسس لنظام شمولي استبدادي وإلي مجتمع مغلق.
إن الفلسفة السياسية الأفلاطونية تقوم على مسلّمة:أن الدولة يجب أن تكون فوق كل الأفراد والطبقات، أن النظام السياسي الخادم للدولة تكون سلطته كلية وشاملة ولا يترك المجال للقرارات الفردية والشخصية وذلك لمنع كل تغير اجتماعي. فالدولة لا يمكن أن تستمر ولا يمكن أن تكون صالحة ،في نظر أفلاطون، إلا إذا حافظت على الثبات والاستقرار و” الطبقية الاجتماعية”: وما شيوعية الأطفال والنساء للحكام والمحاربين ومنعهم من التملك إلا من اجل الحفاظ على استقرار النظام السياسي، الذي يكون مهدد بالتداعي والانشقاق جرّاء صراع الحكام من أجل النفوذ الاقتصادي أو خضوعهم لميولات وإملاءات أصحاب النفوذ الاقتصادي….على الدولة أن تمنع كذلك كل تغير يمكن أن يطال الأفراد في ثقافتهم ووضعيتهم الاجتماعية والاقتصادية فلا يمكن أن يرتقي الاسكافي مثلا إلي تاجر أو يتحوّل التاجر إلي بحّار: إن التغير والفوضى في المجتمع هو نتيجة للتغير في الأفراد والطبقات والعلاقات الإنسانية. إذا كان التغير والانحطاط هو قانون التاريخ والأشياء فعلي الدولة أن تقاوم كل تغير في نظامها السياسي والاقتصادي أولا، ثم تقف أمام كل تغير آخر ممكن، وهذا يتطلب طبعا ولزوما سلطة استبدادية وشمولية ورقابة مشددة على الأفراد من خلال اختيار وفرض كل ما يتعلق بالحياة الخاصة لديهم من نظم تعليمية وتربوية وحتى النمط الفني والموسيقي.
وإذا كان الفرد النّاقص عرضة للتغير والتفسخ لاسيما في ملكاته وأخلاقه- ذلك أن الفرد الكامل هو الأقل عرضة للتغير، والكامل من الناس قلة قليلة -فعلى الدولة أن تحاول جاهدا منع هذا التغير فيه (إلا إذا كان تغيّر نحو الأفضل). إن الدولة العادلة، الخيرة والحكيمة هي التي لا يطال المجتمع فيها أي تطور أو تغير وإن الدولة الفاضلة هي التي حكامها حكماء وفلاسفة ،ولكن فلاسفة أفلاطونيين وليس مصلحين كبرقليس أو ديمقريطس أو سقراط. سقراط الذي دعى إلي أن يغيّر كل فرد نفسه نحو الأفضل ونحو الخير، وأن يحاول جاهدا أن يكون مسئولا عن أفعاله وأقواله تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
وعموما، فقانون التغيّر(نحو الانحطاط) الذي يحكم التاريخ في نظر أفلاطون، – وكما يقول سقراط مخاطبا أدميندتس في الكتاب الثاني من الجمهورية: “فكلّ ما هو في حال حسنة باعتبار الطبيعة، أو باعتبار الفن،أو باعتبار كليهما، هو أقل تعرضا للتغيّر بتأثير غيره فيه.[6]“- هو قانون كوني وضروري وبالتالي فإنّ الاستبداد والظلم والتسلّط ضروريين ولازمين للحكام وللأجهزة الحكومية من أجل إيقاف هذا التغير. هكذا يظهر جليا أن التاريخانيّة (الأفلاطونية) لا تؤدي سوى إلي الانغلاق والشموليّة والاستبداد، الذي لن يحقق الثبات والاستقرار، ولكن لن يكون سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة.
هيقل و العقل المطلق
يقارن بوبر في الجزء الثاني من كتاب “المجتمع المفتوح وأعداؤه” بين التاريخانيّة الأفلاطونية والتاريخانيّة الهيغلية، الذي يعتبرها امتدادا للفكر الأرسطي: فهيغل يجعل من الصور أو الجواهر محايثة أو مجسّدة في الموجودات الطبيعيّة، وبالتالي تصبح الأشياء الماديّة المتغيرة والمتصارعة مجسدة لمراحل تطور الفكرة أو الجوهر الذي يخصّها ،الذي بدوره أكثر يكون حضورا وتجسيدا في مرحلته الأخيرة من التطور[7]. خلافا لأفلاطون، يبّين هيغل أن حركة الموجودات وتغيّرها لا يمثل ابتعادا عن كمالها واتجاها نحو الانحطاط أو التفسخ الكلي بل هي حركة نحو التقدّم و الكمال وهذا العالم المادي يحكمه قانون الصيرورة والتغير لأنه يمثل التقدّم المطرد لظهور وتجلي العقل المطلق عبر التاريخ: وكل مرحلة تمثل سابقتها وتتضمن المرحلة الآتية. كما يبين بوبر، فان هيغل مثل أرسطو يقول بوجود علة غائية لكل فكرة، وتحقق كل فكرة علتها من خلال ظهورها في العالم المادي عبر مراحل تاريخية مختلفة وتجسدها في أجسام مادية متناظرة: لا يمكن لنا مثلا أن نفهم جوهر الفن أو جوهر الفلسفة إلا بتأمل تاريخ ظهور كل جوهر من البداية ،لأنّ التاريخ هو مسرح تطوره وظهوره أو تجليه: فالعقل المطلق الذي يحكم الكون يمرّ بمرحلة الطفولة التي يمثّلها الشرق ومرحلة المراهقة المتمثّلة في الحضارة اليونانية ومرحلة الكهولة التي يمثّلها الرومان ثم مرحلة الشيخوخة أو مرحلة التجلّي المطلق التي يمثلها الغرب الحديث (أوروبا الغربية).
كذلك ندرك جوهر الفن أو جوهر الفلسفة عبر مراحل تطورهما التاريخي الذي يماثل تطوّر العقل المطلق، كذلك يتطلب معرفة حقيقة الدولة معرفة جوهرها الموجود في تاريخ كل أمّة وكل مجتمع بصراعاته وحروبه وكفاحه من أجل البقاء أو السيطرة، ذلك أن الدولة هي تجسيدا للروح المطلق للشعب الذي تمثّله، وبالتالي فإن إرادة الدولة واختياراتها ومصيرها هي إرادة الشعب واختياراته ومصيره: إن المجتمع بدون دولة أو النظام السياسي الذي يحكمه لا يساوي شيئا لأنّ الدولة هي العقل المطلق الخاص بالمجتمع المتعيّن.
وبطبيعة الحال يمكن التماس تبعات خطيرة لمثل هذا الفكر مثل أن يضحي كل رفض أو نقد لقرارات وتوجهات الدولة أمر غير ممكن وغير منطقي لا سيّما وأنّ هيغل يقول أن الدستور هو الحرية والعدالة متجسدتّان، وهما النتيجة والغاية النهائية له [8]. وإن الدولة الحرة والقويّة هي التي تفرض سلطتها على الدول الأخرى بعد أن تنتزع منها الاعتراف: فجدليّة السيّد والعبد لا تشمل العلاقة بين الأفراد وبين الطبقات فحسب، بل تشمل أيضا العلاقة بين الدول و المجتمعات.
وإذا كان التاريخ هو مسار تجسّد العقل المطلق، فإنّ الدولة والحضارة المهيمنة عالميّا هي التي تجسّد آخر تجليات هذا العقل في العالم، وإذا كان العقل هو الذي يتحكم في التاريخ الطبيعي والإنساني فإنّ ما يحصل هنا والآن، أي ما هو واقع، هو التشكيل المادي للعقل والمتضمن لجوهره.
إن كل ما يجري في هذا العالم من تغيّرات، حروب وكوارث إنسانية وطبيعية هي ضروريّة من أجل التحقّق الكامل للعقل المجرد أي التطوّر نحو الكمال والخير الاسمي والعدالة الإلهية، وما الكائنات البشرية والمجتمعات سوى عناصر مادية وأدوات من أجل تحقيق الحكمة والعدل الكوني، هي التجسد المادي المتطور للفكر وأداة عمل الجدلية عبر المراحل التاريخية المتعاقبة.
يقول بوبر أن فلسفة هيغل تمثل تاريخانيّة غير أصليّة وغير شريفة خاصة وإنها تقوم على فكرة وحدة الأضداد التي قال بها هيراقليطس، وكما يقول بوبر، فإنّ وحدة الأضداد هذه هي أساس الجدل الهيغلي: فالأضداد المتصارعة هي واحدة لأنها تنشأ عن مصدر واحد نتيجة التغير الذي يلحق به حسب الفكر الهيغلي، فهي تتصارع لتنشئ عنها وحدة أكثر تقدّما من الوحدة السابقة، هي بمثابة تأليف أو تركيب يستبق ظهور صراع جديد بينه وبين نقيضه.
يقول بوبر مشيرا إلي الجدل الثلاثي أو المثلّث (أطروحة- النقيض- التأليف) ونظرية الوحدة الهيغليّة:” إنها متاهة ترقص فيها فلسفات كل من هيراقليطس، أفلاطون، أرسطو، وكذلك فلسفة روسو وكانط ،وذلك من أجل إغواء الجمهور الغير متعلّم.[9]“
إذا كان فكر هيراقليطس يعجز أو لا يتجرّأ على فهم معني هذا التغير والصراع اللذّان يحكمان العالم فلأنّه ربما كان نمى وتشكّل داخل مناخ تتعدد فيه الآلهة وتتصارع مثلما هو الحال بين الناس، فإنّ الفلسفة الهيغليّة ( التي ليست أكثر من مجرّد دمج ومزج لفلسفات سابقيه اليونانيين مع التراث الفلسفي الغربي (سبينوزا، ليبنتز، روسو، كانط….) وليس إلاّ إعطاء الفكر بعده المادي والتاريخي الواقعي) كان يحكمها الفكر الكنسي المسيحي ecclésiastique بدأ فعلا في فقدان السلطة التي كانت تمثلها الكنيسة ليتمركز ويحتمي بلواء القوى الاجتماعية السياسية الجديدة، ويمكن أن نتساءل هنا هل نجح الفكر الفلسفي والعلمي في تعزيز والإبقاء على النظام الإقطاعي في ألمانيا)على الأقل في عصر هيغل ( ومواجهة الليبرالية البرجوازية التي تطمح للتوسّع.
يقول بوبر أن هيغل كان من بين المؤسّسين للقومية الألمانية التي كانت قد ظهرت لمحاربة الأفكار الامبريالية والمساواتيّة التي كانت تمثّلها فرنسا في عهد نابليون في أوائل القرن التاسع عشر . كانت ألمانيا إلى ذلك الوقت خليط من العرق ألسلافي والعرق الجرماني، ولكن الفكر القومي الصاعد في وجه الاحتلال الفرنسي أعاد تشكيل ألمانيا على أسس عرقيّة ولغويّة جرمانيّة وأصبحت القوميّة الجديدة تقوم على فكرة أن الأمّة أو القوم هو بمثابة شخص أو عائلة كبيرة تجمعها عادات و تقاليد و قيم مشتركة و ضمن حدود جغرافية .
إن القوميّة هي بالأساس نتيجة للدفاع عن حقوق وحريّة الشعب وهي تعبير عن إرادة الاستقلال والانعتاق من ظلم وسيطرة المحتلّ وتترجم الذود عن الهويّة الثقافية والتاريخيّة للمجتمع. لكن، لا يمكن تبعا لذلك اختزال شعب أو مجتمع ما في الدولة، في عرق، دين ، أو لغة معيّنة. ، وكما يقول بوبر: ” إنّه من الخطير أن تتأسّس نظرية سياسيّة على تصور أو على أسطورة[10].”
ومع ظهور القوميون الجدد المطالبون بإصلاحات ديمقراطية ، ولما كانوا ذات قوة تهدد السلطة الملكيّة البروسيّة لقوة إيمانهم بالحرية و بالمبادئ التي عبرت عنها فلسفة الأنوار ، وربما تهدّد أيضا الدولة التي لم تنتهي بعد من إعادة التشكل، يقوم هيغل بالردّ عليهم في “فلسفة الحق” بالقول بأنّ سيادة الشعب وحريته تتجسد في السيادة المطلقة للملك، وبأنّ الشعب بدون دولة قوية نافذة لا يمكن أن يكون سوى كتلة بشرية غير منسجمة ومجموعة قوى عمياء ومتضاربة. إن جوهر الشعب هو الدولة أو السلطة السياسية الكائنة وهي التحقّق الفعلي والمادي له، ولذلك يجب على كل القوى والأحزاب أن تعضد هذه الدولة لأنها لا يمكن أن يكون لها وجود حقيقي خارج سلطتها.
إن هذا الشعب قد حقّق جوهره عبر التاريخ، وهذا الجوهر تمثّله الدولة في سلطة الملك، وهي نتاج للصيرورة التاريخية ولمسار ثقافي وحضاري طويل مرّ بها جوهر أو العقل المطلق للأمّة أو القوم: وبالتالي تفقد الأمة و جودها الحقيقي و معناها خارج الدولة، و تتناقض مع ذاتها عندما تحاول أن تحد من سلطة الدولة أو تغير في دستورها.
يبدوا أنّ هيقل كان يحاول بوعي مواجهة وصدّ موجة الليبرالية البرجوازية الداعية للحرية السياسيّة ، والحريات الفردية والمساواة – التي كانت في بريطانيا نموذجا متحقّقا- ولكن لم يكن ذلك إلاّ على حساب إصلاحات سياسيّة ممكنة ومطالب وخطابات ثقافية معرفية بدأت تظهر في ألمانيا وكما يبين بوبر فإنّ شوبنهاور[11] كان على حق عندما حذر من خطورة الخطاب الهيغلي الساحر على الأجيال القادمة : فإضافة إلى فكرة أن الدولة ممثّلة في الملكية البروسيّة هي روح القوم الجرماني(الألماني) فقد ترسّخت مسلّمة تقول بأنّ التاريخ الإنساني قد وصل إلى مرحلة الاكتمال التي يمثّلها العنصر الألماني والدولة القوميّة البروسيّة (Prusse)، يعزّز هيغل هذه التاريخانيّة بتمجيد الحرب باعتبارها المادّة التي يحقّق بها العقل المطلق تجسّده في قوم (الجرمان) وفي الحضارة (الغربية) كذلك باعتبارها الوسيلة الوحيدة الكفيلة بتحقيق سيطرة القوى على الضعيف من الدول وتجسيد قوة وهيمنة الحضارة .
لقد أسّست المثاليّة الهيغليّة لرؤية اختزاليّة للعالم و للإنسان و تولّدت عنها النزعة العرقيّة والنظم السياسيّة الشمولية والكليانية التي تقوم على العنصرية وتمجّد القوة والعنف، متشائمة تعتقد بأن التاريخ يحكمه الصراع والحرب وأن البقاء للأقوى. فمن الفلسفة الهيغليّة يمكن أن نستنتج أنّه لا يمكن للفرد أن يحقق ذاته إلا داخل المجموعة أو القوم الذي ينتمي إليه تاريخيا و ثقافيا، القوم لا يحقق وجوده واعتراف الآخرين به إلا من خلال الدولة التي تحكمه. الحرب هي أرقى ما يمكن أن يجسد قانون التغير والصيرورة الذي يحكم التاريخ، ومن الأجدر أن تكون الحرب مع الآخرين (النقيض) ، على أن تكون حرب أهلية داخل المجتمع ، وأخيرا، كل ما تستخدمه الدولة هو ايجابي وصالح وخير طالما كان الهدف هو تعزيز قوّتها وتوسيع سلطتها وانتصارها في الحروب ضد الدول الأخرى.
يقول بوبر أن فلسفة هيغل هي من بين الخطابات التي تأسّست عليها النزعات الشمولية والاستبدادية وأعطتها الإطار النظري المقنع والمؤثر لا سيّما بعد استثمار التقدّم العلمي والتكنولوجي، فهو يقول مثلا أن الشموليّة الحديثة كانت نتيجة لفشل الاشتراكية الديمقراطية[12]، وهو ما يعني أنها كذالك ردّة فعل ضد الليبرالية الاقتصادية التوسعية وضد الفردانيّة التي تهدد الهويّة الثقافية والاجتماعية والتاريخية للفرد وللمجتمع على السواء . فالفاشيّة مثلا أو النازيّة كانت نتيجة لمحاولة صدّ توسّع و هيمنة الامبريالية أو الرأسماليّة التوسعيّة، ولكنّها أصبحت بدورها شمولية واستبدادية ألغت كل توجّه سياسي متّزن وعقلاني يمكن أن يحقق الحريّة و العدالة و المساواة في أن واحد.
– ماركس والحتميّة التاريخيّة
يستهلّ بوبر تحليله للتاريخانيّة الماركسية ببيان الحتمية التاريخية التي تتأسس عليها الفلسفة الماركسيّة، و مدى التقارب الكبير بينها وبين الفكر التاريخاني لميل (MILL) وكونت (Auguste Comte). فهيغل وكونت يربطون تقدم المجتمع وتطوره بقوانين اجتماعية وتاريخية وبمراحل مترابطة تكون كل مرحلة تؤدي إلى الأخرى.
يمكن أن نقول أن الأطر العامة والمبادئ الأساسية للمنهج العلمي قد وضعت وتم العمل بها قبل مجيء الفكر الماركسي، فالتطور العلمي قد أتاح للفكر الاجتماعي منهج ومبادئ سيتقيّد بها الفكر الماركسي; فالحتميّة الاجتماعية وإن كانت تختلف المادّة أو الموضوع الذي تحكمه إلاّ أنها كانت حاضرة في كل فكر فلسفي واجتماعي للقرن التاسع عشر. تولّد الاعتقاد في الحتميّة عن مبدأ السببيّة أو العلّية التي تعتبر من المبادئ الأساسية للعلم الطبيعي.
تعيش المجتمعات الحاضرة، بالنسبة لكونت، في المرحلة الوضعية وهي المرحلة الثالثة التي تلي المرحلة الميتافيزيقية والتي تصبح فيها العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية أدوات فهم وتفسير العالم والمجتمع وأساس الممارسة السياسية، أما ميل فيقول بأنّ المجتمع يتقدم تبعا للطبيعة الفكرية أو الروحية للإنسان، وأنّ قوانين التطور التاريخي والاجتماعي يجب أن تفسر بالقوانين التي تحكم التطور الروحي [13] . المجتمع يتقدم لأنه من طبيعة الإنسان النفسية والروحية النزوع نحو التقدم والازدهار. وبالتّالي فإنّ المجتمعات الغربية في العصر الحديث تمثّل عصر التقدّم و الازدهار و الرّقي بفضل التقدّم العلمي والتكنولوجي.
يتأسّس الفكر الاجتماعي في الفلسفة الماركسيّة على حتميّة أخرى مخالفة للحتمية التاريخيّة الكونية لكونت ومخالفة للحتميّة النفسية الروحية لميل، وللحتميّة العقليّة و الروحيّة لهيغل . إنها حتمية ماديّة اقتصاديّة : فالمجتمعات تطوّر وتتقدّم وفقا لتطوّر اقتصادي مادّي يرتبط بتطوّر وسائل الإنتاج وكذلك بطبيعة العلاقة بين الأفراد وبين الطبقات الاجتماعية .
إنّ المراحل التاريخية (المشاعيّة، الإقطاعيّة، الرأسماليّة) هي حالات يمر بها المجتمع حتما للوصول للمرحلة الاشتراكية ثم الشيوعية: إذا كان المجتمع محكوم بقوانين (اقتصادية) ضرورية فلا يمكن تبعا لماركس أن نفهم الظواهر الاجتماعية ومختلف الأطر الثقافيّة و الدينيّة إلاّ بفهم الحالة الاقتصادية والمادية التي تحكمها، وتطور المجتمع يحركه الصراع الحتمي بين الطبقات الاجتماعية، وكل القوانين والمنتجات الثقافيّة والمنظومات الأخلاقيّة هي مجرّد بنى فوقيّة تؤسّسها الوضعية الاقتصادية للطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج. فكل البنى الثقافيّة والعقائديّة والسياسيّة هي مجموعة إيديولوجيات تستوجب إيديولوجيا مناقضة تناسب طبقة العمال من اجل المرور إلى مرحلة الاشتراكية. من أجل الوصول إلى مرحلة الاشتراكية ومن ثمّة إلى مرحلة الشيوعيّة لابد من نظرية ثورية تسهّل عملية التوليد التاريخي من خلال الصراع الطبقي.
لم يكن ماركس داعية من أجل الحرية والمساواة والعدالة فحسب ولكنه، كان نبيّا يدّعى أن الشيوعية هي حتميّة تاريخية، وهي المرحلة الأخيرة التي يقف عندها التطور الاجتماعي بعد مرحلة الاشتراكية التي يستولي فيها العمال على الحكم ، والشيوعية لا تتميّز بغياب الملكية فحسب، بل أيضا بغياب السلطة السياسية، وربما هذا يرجعنا إلى اعتقاد ماركس بأنّ كل حكم سياسي أو نظام سياسي هو من إفرازات الحالة الاقتصادية وهو نتيجة لوجود طبقة مهيمنة اقتصاديا، وهو ما يعني أن كل سلطة سياسية، كل القوانين والمعايير هي من اجل حفظ و تدعيم سيطرة الطبقة الاجتماعية الحاكمة .
لئن حاول ماركس أن يحرّر علم الاجتماع من التفسير النفسي والتفسير الدّيني لجعله علم مستقل كما يبيّن كارل بوبر،إلاّ أنّه سيحصره داخل العلّة المادية الاقتصادية، أي أن تصبح الوضعية الاقتصادية هي منطلق تحليل وفهم كل ظاهرة أو حالة اجتماعية، وتفسير الصراع الطبقي و مختلف أشكال الاستغلال والظلم. لكن، هل يمكن أن يكون الإنسان حرّا أو قادرا على تحقيق ذاته إذا كان فكره وأماله وإبداعاته وأخطاءه تصنعها وضعيته الاقتصادية و يوجّهها السعي الدائم للتملك والسيطرة[14].
يتطور المجتمع، حسب الفلسفة لماركسيّة وفقا لقانون طبيعي حتمي، وهو قانون يحكم مختلف المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، وهذا القانون الثابت هو قانون الصراع الطبقي، والمادية التاريخية عند ماركس تعني أن التاريخ ليس مسار تطور أو تقدم للوعي، للروح ( هيقل ) وليس نتيجة لنزوع الإنسان الطبيعي نحو الربح المادي والسعادة(النظرية الاقتصادية)[15]. بل إن التاريخ تحكمه جدليّة بين الإنسان والطبيعة يطور من خلالها الإنسان وسائل الإنتاج من أجل إحكام سيطرته سيطرته على الطبيعة وتطويعها لتحقيق رغباته وحاجيّاته، وما مرحلة الاشتراكية حسب الفكر الماركسي إلا فترة يتم فيها انتزاع وسائل الإنتاج من آلات ومعامل وكذلك السلطة السياسية من طبقة البرجوازيّة الرأسماليّة على يد طبقة العمال” البلوريتاريا، “.[16]
إن الإنسان هو تنظيم طبيعي يتطور، والوعي أو الفكر هو من إفرازات مرحلة متأخّرة من مراحل تطور هذه المادة [17] . وهذه الجدلية المادية ستبلغ درجة الاكتمال والانتهاء في مرحلة الشيوعية التي لا تعبر عن تحقق الحرية والعدالة بقدر ما تمثّل نهاية تطور وتقدم وعي الإنسان الناتج عن تطوره كمادة في علاقتها بالطبيعة وبالآخرين وبالتالي اكتماله وكماله[18]. فالبلوريتاريا لا يمكنها أن تستولي على السلطة السياسية إلا عندما تكون مهيأة و قادرة على الوعي بذاتها و عندما تبلغ من النضج والاكتمال ما يؤهّلها لبناء الأسس الماديّة والثقافيّة التي تطلّبها مرحلة الشيوعيّة.
يحتوي كل نظام اجتماعي وسياسي، لاسيّما النظام الرأسمالي، على تناقضات وثغرات تؤدي إلي مجاعات وعطالة وأزمات اقتصادية واجتماعية. ففي ظلّ كل نظام اجتماعي، تطوّر وسائل الإنتاج وتنشأ حالة من الوعي الطبقي وتتشكّل أهداف وتطلّعات جديدة لمختلف الطبقات الاجتماعيّة. وعندما يستوفي هذا النظام الاجتماعي شروط بقائه و تنتهي صلاحيّاته، تتولّد بذور الثورة ضد هذا النظام من طرف الطبقة العاملة لأنه أصبح غير قادر على استيعاب الأزمة، وعلى مسايرة التطور الفكري ومتطلبات الطبقة التي سوف تمثل النظام الاجتماعي المقبل.
يقر بوبر بأنّ ، الشخصيات الفاعلة في مجرى التاريخ ليست، بالنسبة للفلسفة الماركسية، سوى دمى تحرّكها خيوط الاقتصاد بقوى تاريخية تخرج على نطاق السيطرة[19]. فبوبر يدافع على المادية الماركسية ضد التفسيرات والتأويلات الشائعة بالقول بأّن هذه المادية لا تقوم على نفي أو استهجان ماركس للوعي والفكر الإنساني بل تقوم على حقيقة أن الوضعية المادية ( الطبقية ) هي التي تؤسس النظم الثقافية والأخلاقية والمعايير القانونية . إن الجدلية المادية هي قلب العلاقة التي أقامها هيغل بين الوعي والمادة، لتصبح تبعا لذلك النظم الاجتماعية والثقافيّة والسياسية عاكسة للعلاقة الجدليّة بين الإنسان والطبيعة وممثّلة للخلق والفعل الإنساني في الطبيعة، وتصبح بذلك الحضارة وليدة طبيعة العلاقة الجدليّة بين الإنسان والطبيعة ووليدة تطور وسائل الإنتاج.[20]
وتكون الحرية الحقيقية هي أولا الوعي بالضرورة التي تربطنا بالطبيعة ثم تقلص الارتباط بها إلى أن يصبح العمل إبداع لا تفرضه غايات خارجية أو ضرورة اقتصادية واجتماعية ويصبح هذا ممكن مع التطور العلمي والتكنولوجي الذي يمكّن الإنسان من السيطرة الشاملة على الطبيعة وعلى وسائل الإنتاج. فالعامل الذي هو مجرد وسيلة عمل وإنتاج في النظام الرأسمالي يصبح في مرحلة الاشتراكية واعيا بالعملية الإنتاجية التي يقوم بها، يكف عن كونه وسيلة إنتاج وأداة عمل لسلع غريبة عنه ولا يحتاجها ليكون منتجا لما تفرضه عليه العلاقة الجدلية بينه وبين الطبيعة فحسب.
تتطابق الوضعيّة الاجتماعيّة و التطّور المعرفي و الثقافي في المجتمع مع ظروف الإنتاج الاقتصادي التي تشكّل بدورها طبيعة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية وتحدّد ملامح النظم السياسية : فإذا كان تاريخ الإنسانية هو تاريخ تطور العلاقة بين الإنسان والطبيعة ( المادة )، فمن خلال هذه العلاقة تتطّور وسائل الإنتاج إلى أن ينشأ اغتراب الإنسان في مرحلة البرجوازية عندما يصبح بدوره وسيلة إنتاج ومادة استهلاكية، فيصبح العامل مجرد قوة منتجة و الرأسمالي هو المسيطر على وسائل الإنتاج وهو المتحكّم في الثروة العلميّة والثقافيّة يوجّهها لما تقتضيه مصلحته الذاتيّة.
يقول ماركس إن تاريخ كل المجتمع هو تاريخ صراع بين الطبقات الاجتماعية ، ووفق هذه التاريخانية الاقتصادية فإنّ مسار التطور و النمو الحضاري مرهون بصراع طبقي يؤدي إلى انتقال السلطة والنفوذ من الطبقة الحاكمة إلى الطبقة الجديدة التي استوفت شروط تشكّلها وعيها بذاتها، فماركس يرهن عملية الانتقال إلى الاشتراكية بانتصار طبقة العمال أو ” البلوريتاريا” على طبقة البرجوازية وانتزاع وسائل الإنتاج والسلطة السياسية منها. يستوجب هذا بطبيعة الحال قدرة معرفية وأخلاقية وتطور الوعي يعكس إرادة الإنعتاق من الاغتراب والعبودية داخل العملية الإنتاجية .
يتطّور المجتمع متجها نحو الشيوعيّة، وما الاشتراكيّة إلا مرحلة تكون فيها الطبقة الحاكمة والمسيطرة سياسيّا واقتصاديّا وإيديولوجيّا تضم وتستقطب اغلب الفئات الاجتماعية والمثقفين والسياسيين، ولكن تستلزم هذه المرحلة أن يكون العمال على قدر من الكفاءة والوعي بإخفاقات النظام الرأسمالي وبالمهام المطالبون بانجازها وأن يكونوا جديرين بتولّي السلطة السياسية، ولكن كل هذا يتطلب أيضا ،عقود من الحروب الأهلية المتواصلة والصراعات بين الأمم [21].
لقد أغوت هذه النزعة التاريخانية في الفلسفة الماركسيّة جيل من المثقفين و أوقدت شعلة الأمل في أن تتحقّق يوما ما العدالة و يعم الخير والرخاء، و لكنها لم تنفك تقوّي الإيمان بصلابة و رجاحة عقيدة الاشتراكية الماركسية، لقد تحوّل الإيمان بالكفاح ضد الظلم والاستغلال إلى الإيمان المطلق بصلاحيّة المذهب الماركسي و إلزامية تطبيقه، حتى أصبح تعصّب و تشدّد معتنقي هذا المذهب يضاهي التعصّب الدّيني و العرقي.
خاتمة:
إذا كان تاريخ المجتمعات والشعوب، مثله مثل تاريخ الطبيعة والكواكب، يحكمه التغيّر، فذلك لا يعني أنّه بالإمكان التنبؤّ بالوجهة التّي تسير إليها هذه المجتمعات، كما أنّه لا يمكن أن نقرّ بوجود حتميّة تاريخيّة أو غاية يتّجه إليها التاريخ.
من الأكيد أنّ قانون التغيّر والصيرورة هو قانون ثابت يحكم العالم الفيزيائي والطبيعي، لكن هناك دائما ما هو ثابت في خضمّ هذه الصيرورة و هذا التغيّر الدائم الذي يطرأ على أحوال الناس والمجتمعات.
يوجد مثلا ما هو ثابت من الأخلاق والقيم الإنسانيّة ومن مبادئ الخير والحق والعدل. كما أنّه من الثابت أنّ المستقبل تحددّه أفعالنا وسلوكيّاتنا ودرجة الوعي والمسؤوليّة التّي يتحلّى بها الناس. إنّ الوعي وروح الانفتاح والمسؤوليّة لازمان من أجل ترسيخ و تدعيم قيم التسامح والإخاء والمحبّة ومن أجل مناهضة الانغلاق التعصّب التطرّف.
قائمة المراجع :
- كارل بوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه،ج1 ، ترجمة السيد نفادي، دار التنوير للطباعة والنشر بيروت، لبنان، 1998.
- أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثاني، ترجمة حنّا خباز، مؤسّسة هنداوي، 2017.
- ر.بودون وف.بورّيلو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حدّاد، ديوان المطبوعات الجامعيّة، الطبعة الأولى، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، الجزائر، 1986.
- Balibar. E, Cinq études du Matérialisme historique, F.Maspero, Paris.1979.
- Bouveresse .R, Karl Marx ou le rationalisme critique, J.Vrin, Paris.1978.
- K. Popper, Société ouverte et ses ennemis Tome.2, Hegel et Marx, Édition de seuil, Paris.1979
- K .Popper, La misère de l’historicisme, Librairie Plon, Paris.1955.
- Sève. L, Marxisme et théorie de la personnalité, Terrains, Éditions Sociales, Paris. 1969.
- Schopenhauer. A, Le monde comme volonté et comme représentation, Librairie Félix. Alcan, Paris.1912, Traduit en français par Auguste Burdeau.
[1] كارل بوبر،المجتمع المفتوح وأعداؤه،ج.1، ترجمة السيد نفادي، دار التنوير٠للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.1998 ، ص38.
[2]كارل بوبر،المجتمع المفتوح وأعداؤه،ج.1،ص 38.
[3] كارل يوبر، المجتمع المفتوح وأعداؤه،ج.1، ص 41.
[4] نفس المرجع، ص 46.
[5] أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثاني، ترجمة حنّا خبّاز، ص.77. مؤسّسة هنداوي،2017.
[6] أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثاني، ترجمة حنّا خبّاز، مؤسّسة هنداوي، 2017.
[7] K. Popper, S.O. T.2, Hegel et Marx, Édition de seuil, Paris. 1979, p.p.24.25.
[8] K.Popper, S.O T, 2, Hegel et Marx,T.2 p.30.
[9] K .Popper ,S.O ,T,2, p.28.
[10] K .Popper, S.O, T.,2.p.36.
[11] Schopenhauer. A, Le monde comme volonté et comme représentation, Librairie Félix. Alcan, Paris.1912, Traduit en français par Auguste Burdeau.
[12] K .Popper ,S.O ,T 2 ,p.41.
[13] Popper. K ,S.O ,T.2,p .63
[14] Popper .K, S.O, T.2, p.67 .
[15] Ibid, p.65.
[16] Sève. L, Marxisme et théorie de la personnalité, Terrains, Éditions Sociales, Paris. 1969 p.78 (Manuscrits de 1844).
[17] Ibid., pp.18-19.
[18] Balibar.E, Cinq études du Matérialisme historique, F.Maspero, Paris. 1979, p.26 .
[19] Popper .K, S.O, T.2 p.70 (L’historicisme économique).
[20] Ibid. p71.
[21] Balibar .E, Cinq études du matérialisme historique, F. Maspero, Paris. 1979, p. 26 .