الكتابة ضد الكتابة/ما وراء التخييل (Transfictionnalité) وأسئلة ما بعد الكولونيالية في رواية
(contre – enquête Meursault) لكمال داوود.
The writing against the writing/tansfictionnality and the questions of post colonialism in the novel (meursault, counter – investigation) of Kamal Daoud
الأستاذ الدكتور عبدالله شطاح/جامعة البليدة2/الجزائر
Dr. Abdallah chettah/University of Blida 2/Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 81 الصفحة 9.
ملخص:
المقال دراسة معمقة في مفهوم الكتابة ضد الكتابة والرد بالكتابة المندرجتين ضمن مقولات النقد الثقافي في شقه المتعلق بالنقد ما بعد الكولوينالي وتحققهما ضمن آليات النقد القادرة على استنطاق النص موضوع الدراسة باعتباره نصا أثار الكثير من اللغط بين ضفتي المتوسط لما اجترحه من أسئلة تخييلية وتمثيلية صرف وإعادة كتابة لنص فرنسي شهير لصاحبه البير كاموس، وفق آليات إعادة الكتابة كما حددتها المدرسة بما بعد الكولونيالية، وهو نص (الغريب) تحديدا الذي تعالق وجوديا وفلسفيا مع الجزائر المستعمرة والمغيبة تحت طائلة اللاشعور الاستعماري الذي حرم الأهالي من التمظهر اللازم وزج بهم، خلاف المتوقع، في غيابات التهميش والنسيان. دراستنا هذه استبطان لآليات الكتابة الكولونيالية وللكتابة الناقضة لها من حيث تتكئ على فضائها وتستدعي شخوصها لإعادة كتابة القصة وفق مقصدية حديثة ومختلفة.
كلمات مفتاحية: إعادة كتابة، كولونيالية، نقد ثقافي، تمثيل، تخييل.
Abstract:
This study is a profond investigation in the notions of cultural studies especilay those of postcolialiam as representation, the ansewring by writing, ans writing against the writing. I tried to apply those notions on the novel mentiones above beacause of what it ensuies in litterary and information debate in France and algeria, besides it’s originel methode in rewriting (l’etranger) of Albert Camus by the use of tansfictionnality techniq and other postcolonialism notions.
Key words : postcolonialism, fiction, notions, writing, representation.
- على سبيل التمهيد
عند استعراض ذاكرة الآداب العالمية و خرائطها وتاريخها ومنجزاتها يحصل أن نتوقف عند محطات بارزة من الأداء الأدبي الذي يجعل من نصوص مخصوصة محطات فارقة في سيرورة التاريخ الأدبي برمته، تحل محل التاريخ العام في التأريخ أو تكاد، وتصبح منارات ضوء شديدة السطوع، وتنتصب في سياق النصوص الكبرى، وكلاسيكيات الأدب العالمي، ومنجزات الأدب المحلي، علامة فارقة يستحيل على الذائقة الأدبية بعدها ألا تستحضرها و تستدعيها، كلية أو جزئيا، وهي تتلقى الأعمال بعدها بالقراءة أو بالنقد أو بهما معا، كما يستحيل على ذاكرة النقد ألا تستعير من مكوناتها الجمالية والشكلية والفكرية مواد جديدة لبناء منظومتها[1] القيمية والمنهجية، فتتحول تدريجيا إلى ما يشبه المعيار الأدبي القابل للتوظيف في السياق المحلي أو العالمي وتفصل في السياق الزمني بين ما بعدها وما قبلها، على النحو الذي أحدثته رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح في الأدب العربي ورواية (ألف عام من الحنين) لغابرييل غارسيا ماركيز أو (أزهار الشر) لشارل بودلير، وسواها من النصوص التي لا يتسع المقام لذكرها.
وإذا كانت تلك النصوص ما زالت تستحوذ على الاهتمام وتستدعى للتمثيل على المضامين والأشكال باعتبارها نماذج وبراديغمات أدبية قادرة على النمذجة الدراسية، فإن النصوص المبتكرة الحين بعد الحين، لا تنفك تفاجئنا، بدورها، بقيامها بنفسها نماذج جديدة تتوفر على اجتراحات فنية وأسلوبية وتقنية فاصلة في سياقها، ومختلفة في أدائها، ولعل رواية كمال داوود[2] المكتوبة باللغة الفرنسية[3] والفائزة بجائزة الكونكور الفرنسية العريقة لأول رواية، وجائزة القارات الخمس للفرانكفونية، وما أثارته من لغط حينها في الأوساط الفرنكوفونية الجزائرية والدوائر الإعلامية الفرنسية، وما جرته على صاحبها من تكفير وإهدار دم من طرف التنظيمات الأصولية في الجزائر[4]، ومتابعات قضائية شغلت الرأي العام الوطني ونكأت في القلوب والعقول جراحات العشرية السوداء التي لم تندمل تماما، وفتحت الذاكرة الوطنية على ويلات الماضي القريب الذي أعلنت فيه الحرب على الثقافة والحياة وزجت بالبلاد في دوامة دموية حصدت أرواح آلاف الأبرياء من المثقفين والطلبة والجامعيين والبسطاء.
هذه الوقائع الجانبية الإعلامية، الأدبية، والفكرية التي تزامنت وظهور الرواية، تجعل من التساؤل عن الخصوصيات الفنية والمضمونية التي أحلت النص ذلك المحل من الجدل، وذلك الموقع من اللغط، شيئا يتجاوز الضرورة إلى الفضول العقلي والنقدي، الذي تثيره في العادة، مثل هذه النصوص ذات الميلاد العسير والمزعج على أكثر من صعيد، على الرغم من أن تاريخ الأدب العالمي لم يعدم مثل هذه النصوص التي تنتهي عادة بين جدران المحاكم، والتي سببت لأصحابها كثيرا من المتاعب[5]، دون أن تكون دليلا حاسما على استثنائية العمل أو عبقريته المتفردة، قبل أن تتضافر شروط فنية وفكرية أخرى محايثة تبرر موضعته ضمن تراتبية محددة ومصاف مخصوصة.
هذا، وإن النص الذي بين أيدينا ليثير الانتباه بتموضعه خارج سياق النصوص المألوفة، بقيامه الكلي على تقنية ما وراء التخييل (Transfictionnalité) التي تعني مجموع الآليات التي تعطي لشخوص النص وفضاءاته ومضامينه حياة أخرى تتجاوز النص الأصلي، حيث وجدناه يحاور شخوص رواية (الغريب)[6] لأبير كاموس، التي صدرت منذ ما يزيد عن سبعين سنة، عام 1942 على وجه التحديد، ويبتعث من ضباب الرواية التخييلي شخصية (مورسولت) العدمية، وطبيعتها التخييلية الإشكالية، ليسائلها عن جريمتها المجانية التي ارتكبتها في حق الجزائري المجهول، على شاطئ معزول ذات صيف قائظ، مدفوعا بشعور غامض من العبث والعدمية و اللاجدوى، ويستدعي الكاتب نفسه ليسائله عن خياراته الإيديولوجية والفنية والكولونيالية واللاشعورية، وذلك بالاشتغال وفق سيرورة سردية مرآوية متناغمة مع مراحل الرواية الأصل، ومتجاوزة لها، ومصححة لأوضاعها (الخاطئة)، وخياراتها المتحيزة، وفق منظور حديث مركوز في سياق ما بعد كولونيالي، ضمن وسط ثقافي حيوي وسياسي ينتمي إلى الدولة الوطنية الحديثة، بما تشتمل عليه من هواجس وهموم وطموحات، و خيبات ترادفت مع استقلال سياسي وثقافي هش، لم يتمكن من الوفاء بجميع الوعود الثورية التي شكلت فضاء الوعي السياسي و الهوياتي لمرحلة الثورة وما قبلها، فاتحا المجال لمفهوم “خيبة ما بعد الاستقلال” الذي سيطبع جل الأعمال الأدبية التي صدرت بعده، والتي ستبلغ قمتها الدرامية المتحققة في ” العشرية السوداء” وما تمخضت عنه من أعمال أدبية وسمت في حينها بالأدب الاستعجالي.
وعلى هذا الأساس فالرواية برمتها تقوم على أساس من الكلام على الكلام، أو من التخييل على التخييل، أو من الكتابة على الكتابة، ومن التنصيص على التنصيص، ومن التسريد على التسريد، دون أن يعني ذلك الانقطاع الكلي عن الواقع وقضاياه، بقدر ما يعني الانطلاق من التخييل الأصلي لصياغة تخييل محمول يضرب بأسبابه في واقع وطني مأزوم، مشدود إلى ماض استعماري، لا يبدو ماضيا منتهيا، بقدر ما يبدو ملتبسا بالواقع المعيش التباسا شديد التواشج، الأمر الذي دفعه إلى الارتكاز في قلب الجدل الثقافي والكولونيالي وما بعده، سواء بمساءلته للماضي، أو للحاضر وليد ذلك الماضي القريب، أو لاستدراكه على الخيارات الفنية الاستعمارية في التخييل الأصل، أو بمراجعتها ومصادرتها والمرافعة الطويلة ضد مقدماتها وأسبابها ونتائجها.
أريد أن أؤكد في هذه المرحلة من الدراسة على أن النص، أي نص على كل حال، (يقترح) بطريقة غير مباشرة أسلوب معالجته، ويفتح ذراعيه لمناهج مخصوصة من حيث توفره على مناطق رخوة في مفاصله تمكن من النفوذ إلى مطاويه الخفية ومكامنه البعيدة، كما أن النظريات والمناهج نفسها لا تكشف عن طاقتها الكلية ومختلف ممكناتها إلا عبر التمثل والتحقق والانكشاف عبر النصوص التي تعد امتحانا لها و(تمظهرا) نقديا متحققا عبرها في الوقت نفسه، وعلى رأي محمد بوعزة فإن “محاورة النظريات والأفكار من خلال الاشتغال بالنصوص، يساعد في الفهم الموضوعي للمشكلات التي تطرحها، وذلك بمعاينة تطبيقاتها واستخداماتها في صيرورة الممارسة.”[7]، من أجل ذلك أسلفنا البيان في صياغة العنوان استعارتنا لمفهوم نقدي نصي صرف، هو مفهوم العابر التخييلي أو ما بعد التخييلي (Transfictionnalité) من بين مفاهيم منهجية أخرى كلها صالحة لمقاربة النص، من قبيل التناص (l’intertextualité) و التعالقات النصية (la transtextualité) والمتعاليات النصية[8]، وغيرها من الآليات والمفاهيم السردية التي فرضها تعالق النص الثاني(التحقيق المضاد) مع النص الأولى (الغريب) تعالقا تخلل كل تفاصيله السردية والنصية والتخييلية و المضمونية. وتجدر الإشارة إلى أن المفهوم الذي اخترناه يتعلق، بالدرجة الأولى، بالعنصر الثاني الثقافي الذي يمثل الشطر الثاني من العنوان ومن الدراسة، الذي سنتكئ عليه في دراسة الاستعارات التخييلية التي استعان بها كمال داوود لبناء شخوص روايته وحبكتها، ومضامينها وفضاءاتها التاريخية، وانتهاكاتها وصمتها، وتمثيلاتها المختلفة التي وقعت، بحكم الاشتغال على نص صادر من خلفية كولونيالية وحامل لماضمينها الظاهرة والمضمرة، الشعورية واللاشعورية[9]، داخل الدرس الثقافي و قضاياه، ومنفتحة لاستقبال جهازه المفاهيمي وأدواته الإجرائية بكفاءة عالية، لاسيما مفاهيم الرد بالكتابة، التقويض والانتهاك، السرد التابع، الخطاب النقيض، الخطاب الإمبراطوري، تمثيل الآخر، القراءة الطباقية، الأصلاني، السرديات البديلة، المركزية الغربية، التحرر من تمثيلات السرد الإمبراطوري، تفكيك المركز واستحضار الهامش، استعادة التاريخ المحلي، وغيرها من الأدوات التي سنوظفها في قراءة النص قراءة ثقافية ما بعد كولونيالية، استجابة لندائه العميق أولا، ولطبيعته التي أملت اختياراتنا المنهجية هذه دون سواها ثانيا.
2. الرد بالكتابة/الكلام على الكلام
الرواية، في مضمونها الأعمق وبنيانها السطحي والعميق معا، هي إعادة كتابة لنص (الغريب)، تبتدئ من استرجاع اللحظة الدرامية الأولى في وقائع الرواية التي جرت منذ نيف وسبعين سنة، وتم فيها إزهاق روح بريئة بدون سبب ظاهر سوى الملل والعبث و غياب المعنى، وضربة الشمس الافريقية القوية على رأس (ميرسولت)، حيث يتولى بطل الرواية إفراغ مسدسه في كيان الضحية، ويتولى الكاتب، ألبير كاموس، (إفراغ) لامبالاته بحرمان الضحية من اسم يشخص وجودها، ويسمه ويعينه في الزمان والمكان، الأمر الذي يجعل من هذه اللحظة لحظة فارقة في الدراسات التي تناولت مذهب العبث الفلسفي الذي اعتنقه الكاتب بعد الوجودية، وعبر عنه في (أسطورة سيزيف)[10] وفي رواية (الغريب)[11] تعبيرا أدبيا لتمثيل التحقق العملي للعبث عبر الضحية الجزائرية المجهولة، المنتهكة مرتين، مرة في خضم التخييل(الرواية)، ومرة في خضم ما قبل التخييل( الواقع العملي/الكاتب)، الأمر الذي يعطي لانبراء كمال داوود لتصحيح هذا الوضع المغلوط امتدادا فنيا مطلوبا، ومتقبلا إنسانيا وإيديولوجيا، حيث تولى مهمة التعريف بالضحية ومحيطها وعائلتها وشخصيتها، بالتركيز على تسطير اسمها (موسى) تسطيرا ظاهرا، (انتقاما) من (الإهمال) العبثي المقصود في نص كاموس، وذلك بتوظيف شخصية (هارون)، أخ الضحية، الذي سيتولى، عبر مرافعات ومحاورات طويلة، مهمة الكشف عن المبررات الظاهرة والمضمرة وراء عدم الشخصنة (Dépersonnalisation) التي وقع أخوه ضحية لها، كما كان وقع ضحية لفورة العبث التي أودت بحياته على يد مرسولت من قبل، حيث تشكل مهمته هذه، التي تصبح طموحه الوحيد في عالم ضيق المسالك، ما يشبه ما أطلق عليه جيرار جنيت[12]Girard Genette مفهوم (le palimpseste)/الأطراس، التي تتراكب كنصوص متعاقبة على رق واحد، تتبادل أدوار المحو والإثبات، والحضور والغياب، من أجل استثمار هذا الغياب الذي جعل اسم الضحية الجزائري (l’arabe) ” يتكرر خمسا وعشرين مرة (في رواية الغريب) ولا يذكر له أي اسم، ولا مرة واحدة”[13].
الواقع إن شخصنة الضحية وتحديد هويتها واسمها سيجر في سياقها تحولات جذرية في عملية تأثيث فراغات (الغريب)، واستدعاء المسكوت عنه، والمغيب بين السطور والفقرات، ووراء ظلال التخييل والتمثيل، حيث سيتم التعريف بالهوية العميقة للإنسان الجزائري وظروفه المزرية، في سياق استعماري مهين ومتغطرس امتنع (الغريب) عن فتح جوانبه مدفوعا، أغلب الظن، باللاشعور الكولونيالي، الذي أملى عليه خياراته الفنية في تمثيل الفضاء الجزائري حسب توصيف أدوارد سعيد، الذي أكد بأنه ” رغم أن رواية (الغريب) غالبا ما تعتبر نوعا من الاستعارة المجردة عن الشرط الإنساني، فإن الرواية شديدة التجذر في سياقها التاريخي، وهي مستعمرة الجزائر التي ترعرع فيها ألبير كاموس، (…)حيث الشخوص العربية لا تذكر أبدا بأسمائها، وتكتفي بأداء أدوار خلفية سلبية للشخوص الأوروبية التي تتوفر على أسماء وهوية. تماما مثل النظام الكولونيالي، فإن الشخوص العربية تحتل مكانة ثانوية تابعة.”[14].
من أجل ذلك يتولى السارد في رواية كمال داوود تصحيح تلك الأوضاع المتحيزة بتعلم لغة المستعمر أولا، كي يتكلم ” في مكان رجل ميت…ومواصلة جمله بشكل ما.”[15]، لأن رواية (الغريب) التي قامت على حادثة مقتل أخيه جعلته يشعر بأن هزيمته هزيمة (أدبية) بالدرجة الأولى، قال عنها ” إنها قصة كتبت منذ ما يزيد عن نصف قرن. تحدث الناس عنها كثيرا ومازالوا يتحدثون، ولا يذكرون إلا ميتا واحدا، بينما في الحقيقة يوجد ميتان.”[16]، إشارة إلى استحواذ شخصية (الغريب) العبثية على اهتمام الدارسين والقراء بلامبالاته وقلة اكتراثه بموت والدته أولا وبالحياة برمتها ثانيا، وبقتله للجزائري مدفوعا بشعور طارئ بالعبث والملل واللامعنىى، حيث تناسى القراء والدارسون في خضم اهتمامهم بالحالة المزاجية للقاتل وتأويلاتها الفلسفية ومحاكمته وإعدامه عن الضحية الأولى البريئة، أخ السارد في (تحقيق مضاد)، التي قتلت بهذا الشكل مرتين، قتلا ماديا عمليا وقتلا أدبيا نقديا إن صح القول، وما سبب هذا النسيان وهذا القتل المتعمد يا ترى؟ يجيب (هارون) سارد داوود وأخ (موسى) ضحية (الغريب) بأن السبب مرده ” إلى أن القاتل يجيد الحكي إجادة مكنته من جعل الناس ينسون جريمته، بينما الضحية رجل أمي مسكين يبدو أن الله لم يخلقه إلا لكي يتلقى الرصاصة ثم يعود إلى التراب… مجهول لم يكن لديه من الوقت ما يكفي حتى لامتلاك اسم.”[17]، وعلى هذا الأساس تصبح (المواجهة) بين الكاتبين، البير كاموس وكمال داوود، مواجهة أدبية، تخييلية، وتمثيلية، يتولى فيها (هارون) الرد بالكتابة على الكتابة، وبالتخييل على التخييل، وبالتمثيل على التمثيل، تصحيحا للأوضاع التخييلية المتجنية، وتسجيلا لوجهة النظر المغيبة، وجهة نظر الضحية وطائفتها وأهلها وأرضها وتاريخها وفضائها. بما يجعل الأمر برمته، بالنص الأول والنص الثاني، بالنص الأصل والنص التابع، شيئا شبيها بما أطلق عليه التراثيون توصيف الذيل والتكملة.
حفظ (هارون) نص (الغريب) حفظا كاملا، حيث ” يستطيع أن يسرده عن ظهر قلب مثل القرآن “[18]، ومن ثم أن يراجع تفاصيلها ومضمرات خطابها، وما بين سطورها، وأن يقبض بقوة على الملفوظ و المسكوت عنه، وعن المضمر والواعي و اللاواعي، لينتهي إلى حكم نهائي بخوص الكاتب هذه المرة وليس بخصوص شخصيته الروائية المجرمة، حكم معياري ملحق بالشخصية المعنوية التي تتحمل التبعة الأخلاقية والفلسفية والقانونية عندما يقتضي الأمر، طالما كان المجرم (مرسولت) مجرد أداة تخييلية للقول والتمثيل والتعبير عن مكنونات العقل ومضمرات الفؤاد، قال عنه ” إن الذي كتب هذه القصة ليس إلا جثة وليس كاتبا.”[19]، ذلك أن الرجل بدا مريضا، بطريقته، بالشمس ووهج الألوان وليس لديه أي رأي بخصوص أي شيء باستثناء ” البحر والشمس وأحجار الزمن الماضي “[20]. الأحجار المحيلة على تاريخ سحيق ممتد في الزمان الحضاري إلى الآثار الرومانية المتناثرة على طول الشمال الجزائري، وخاصة على سواحل مدينة تيبازة التي عرف الكاتب بشغفه الكبير بها، و بجموعته القصصية “حفلات أعراس “(Noces) الصادرة سنة 1939 والتي حملت قصتها الافتتاحية عنوان (أعراس في تيبازة) جميع مكونات الشخصية الكاموسية التي أشار إليها داوود في المقبوس الذي أسلفناه، من ولع استثنائي بالآثار والشمس والطبيعة والألوان و الوحدة والشرط الإنساني، والتساؤل المحير حول عبث الوجود[21] الذي بدا واضحا في حبكة (الغريب) وتعلق بمقتل (موسى) الذي لخص أخوه الراوي عند داوود مقتله بمرارة سوداوية شديدة القتامة عندما قال لمحدثه: ” سألخص لك الحكاية… هناك رجل يجيد الكتابة يقتل رجلا عربيا لا اسم له. ثم بدأ يشرح لنا بأن سبب ذلك هو الله الذي لا وجود له وما فهمه وهو تحت الشمس ولأن ملح البحر كان يجبره على إغماض عينيه.”[22].
لا يخفى ما في الصورة من عبث ومن قلب جريء للأوضاع، جعلت الجزائري المجهول يذهب ضحية الهواجس الفلسفية التي اكتنفت القاتل بمعاني العبث والخواء و اللاجدوى وغياب المعنى وانتفاء الإله، ولا يخفى من جهة أخرى إصرار الكاتب على تحميل (الكتابة) نفسها مسؤولية القتل، الأمر الذي جعله يتذرع بالمسؤولية الأدبية عن القتل لتحميل الكاتب مسؤولية ما وقع وليس الناص أو الراوي أو شخصية مرسولت نفسها، حيث يبدو الخلط بين الأدوار مقصودا رغم أنه يوهم أحيانا بقلة اكتراث داوود أو عدم وعيه بالفروق السردية بين الكاتب والناص، الأمر الذي جعل الرواية تبدوا مصرة على محاكمة الكاتب ومتجاوزة لـ(المبرر) التخييلي الذي جعل التاريخ الأدبي (يتعاطف) مع القاتل ويلقي بالضحية في غياهب النسيان، كما لو كان مجرد تفصيل صغير في سيرورة النص وفي ديكوره وأثاثه وفضائه، وهذا بالضبط ما جعل (هارون) يصرخ منتفضا بأن ” العبث سأحمله أنا وأخي على ظهورنا أو إلى بطن أرضنا.”[23]، وعليه فإن السياق الفلسفي لمذهب العبث الذي يعتنقه الكاتب والذي كتب وقائع (الغريب) للتمثيل التخييلي له قد تحول تحت طائلة الجريمة المجانية إلى فضيحة مكتملة الأركان، وإلى جرح (نرجسي) عميق أصاب مقومات الشخصية من حيث الانتماء إلى هوية مهزومة واقعيا و(أدبيا)، الأمر الذي جعله يصرح بأن هدفه الأول والأخير في حياته هو أن يحقق العدالة ” ولا أقصد عدالة المحاكم بل عادلة التوازنات. des équilibres”[24]، وما التوازنات في النهائية إلا العدالة الشعرية التي سيتولى إرساء أركانها بسرده المرآوي الموازي للنص الأصل، نص الجريمة المجانية، وتصحيح أوضاعها، والرد على اتهاماتها المضمرة وفضح مقولاتها الكولونيالية الخفية، بالإضافة إلى موقعة السرد في الزمكان ما بعد كولونيالي، الذي يمثل فيه التحرر والاستقلال الوطني، رغم خيباته الكثيرة، تحققا عمليا للتوازنات التي كان يجب أن يتم فيها ومن خلالها تجسير الهوة بين ماضي الهوية وحاضرها ضمن كيانها الوطني المحدد في العالم، وحيث الاستعمار فاصلة خاطئة في التاريخ الوطني، بل فاصلة مجانية عابثة وخاطئة في الوقت نفسه.
يبدأ النص في إنجاز رده المرآوي الدقيق منذ لحظة ميلاد النص الأولى باستدعاء العتبة الافتتاحية (L’incipit) للغريب:” اليوم أمي قد ماتت”[25] بالعتبة الافتتاحية لنص داوود التي عارضت الأولى بالقول:”اليوم (M’ma) ما زالت على قيد الحياة.”[26] مجذرا للفظة الأمومة في التربة المحلية الوطنية، بإطلاق اللفظة الجزائرية (مّا) في سياق اللغة الفرنسية التي كتب بها النص، و التي كانت تحتم عليه أن يوظف لفظة الغريب نفسها (Maman) لكنه انصرف عنها إلى موازيها المحلي انسجاما مع موقف الرد والنقض والتصحيح والاستدراك الذي طبع النص منذ عتبة المدخل إلى عتبة المخرج (L’exit)، حيث يتجاوز العلاقة الحميمة التي تربطه بالنص الأول إلى إنجاز ما يشبه العلاقة النقيض، أو العلاقة الطباق (contrepoint)، من أجل إعادة صياغة كلية للنص، أو إعادة كتابة، بما يقتضيه ذلك من ” إعادة كتابة أخرى (للمرة الأولى والثانية والثالثة…الخ) لنص آخر، بما يتطلبه ذلك من إعادة اكتشاف، أو صياغة رؤية أخرى لشيء ما، قريبة من اهتماماتنا … وتعني إعادة الكتابة، من جهة أخرى، صياغة نسخة أخرى لنص مكتوب.”[27].
وتتجلى العلاقة (الطباقية) بين النصين في التأكيد على (حياة الوالدة) في النص الثاني مقابلا لموتها في (الغريب)، بما تعنيه الحياة والموت من تناقض وبما يحيلان عليه من معان رمزية وظلال وتقاطعات إيديولوجية مرتبطة بهوية كولونيالية كان محكوما عليها بالفناء منذ وقت طويل، وهوية وطنية خارجة من ظلمات الفناء والاستعمار والقهر إلى فضاءات الحرية والحياة والتحرر. وعلى هذا الأساس سارع (هارون) إلى إعادة صياغة وقائع (الغريب) بما يخدم عدالة التوازنات، فالضحية (موسى) لم يكن ضعيفا ولا تافها بل كان شهما قوي البنية تغضنت ملامحه بفعل التفكير المستمر في الوضع الاستعماري المهين لأرضه وذويه، و مومس الرواية لم تكن أخته بل كانت جزائرية بائسة ألجأتها قسوة المعمرين وظلمهم وشظف العيش إلى احتراف البغاء، ولم يكن لموسى علاقة بها سوى أن حمية الجزائري الغيور وإحساسه الحاد بالشرف دفعاه إلى الدفاع عنها ضد تحرشات القاتل، الأمر الذي جعل خبر سقوطه المجاني تحت رصاصات (مرسولت) الغادرة تشعره بالخيبة العميقة وليس بالحزن، فقد كان (موسى) قويا شديد البأس مهيبا، واعيا، يتحمل أعباء عائلته التي غاب عنها الأب إلى الأبد بصبر وثبات وعزيمة: ” موسى كان إلها رصينا طويل الصمت قليل الثرثرة، يبدو عملاقا بلحيته الكثة وساعديه القويين القادرين على دق رقبة أي فرعون قديم، هذا كي أقول لك بأننا يوم تلقينا خبر مقتله والظروف التي أحاطت به لم أشعر بأي ألم أو غضب، ولكن بالخيبة وبالإهانة كما أن أحدهم شتمني، لأن أخي موسى كان قادرا على شق البحر إلى اثنين وها هو يموت موتة لا معنى لها كما لو كان مجرد شيء ثانوي مبتذل.”[28].
هذا الإحساس الحاد بالإهانة سيدفعه إلى محاكمة الكاتب محاكمة علنية واضحة ومباشرة، تكاد تفقد صفتها التخييلية لتصبح مرافعة قانونية وأخلاقية، وصرخة غضب يتردد صداها بين تجاويف التاريخ والذاكرة الاستعمارية التي ما زالت دماء ضحاياها لم تجف تماما، حيث يتهم الكاتب بتزييف الحقائق واختلاق أوضاع لا هدف لها سوى تشويه صورة الجزائري من حيث يشوه صورة (موسى)، ويتساءل عن دواعي اختلاق قصة (المومس)، ثم يقر له بقدرته الكبيرة على (اختلاق) القصص من العدم، ثم يؤكد له بأنه هو (هارون)/السارد واخاه (موسى)/الضحية لم تكن لديهما أية أخت، كانا وحيدين تماما مع أم تشقى وأب مختف لم يبق من ذكراه إلا اسمه وبقايا ملامح في ذاكرة العائلة البائسة، وأن المومس الحق هي” أرض الجزائر التي ما انفك المعمرون يغتصبونها ويعنفونها باستمرار.”[29]. ولم يتأخر من جهة أخرى عن الرد على (القاتل) الذي حمل مسؤولية الجريمة لضربة الشمس وتواجد (موسى) على الشاطئ في الوقت الخطأ بأن الخطئية التاريخية هي وجوده هو في أرض ليست له منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، وأن الحقيقة التاريخية التي يتناساها الخطاب الاستعماري هي ” أن موسى كان في الشاطئ قبله.”[30]، سبق زمني وتاريخي وأنثروبولوجي لم يفلح الشطط الاستعماري وسلوكه الإجرامي، طوال ما يقرب من قرن من الزمان ونصف، من إخفاء هذه الحقيقة ولا انتزاع جذورها من الوجدان الجماعي، و لا طمر أشواقها و مواجيدها التي ستحقق كينونتها بعد عقدين فقط من صدور (الغريب).
لقد كان القلق الوجودي والخواء الروحي والضياع الذي اكتنف حياة (مرسولت)، بالإضافة إلى فقدان الانتماء والإيمان بالله وبالإنسان، والاستسلام الكلي لمعاني العبث وغياب المعنى، مؤذنا على خراب الكيان الكولونيالي، وعلى نهاية المغامرة الاستعمارية التي استنفذت كل أوهامها وأحلامها، منذ كشفت طموحاتها الإمبراطورية المدججة بالدعاوى الإنسانية النبيلة عن وجه استعماري قبيح، لم يتردد في الكشف عن تاريخه الدموي وجرائمه ضد التاريخ والجغرافيا والإنسانية معا، وسيحقق التاريخ لاحقا نبوءة أم موسى التي صرخت في وجه الفرنسيين وهي تجري تحقيقها الخاص بشأن مقتل ابنها/مقتل الجزائريين جميعا:”سيلتهمكم البحر جميعا.”[31]، وذلك ما سيحصل بالضبط في صائفة 05 جويلية 1962، عندما يغادر الكولون أرض الجزائر سراعا على ما توفر من مراكب لم تكف جموعهم المليونية التي تجمعت وتكاثرت منذ مائة عام ونيف.
لقد أظهرت الكتابة المضادة، على النحو الذي مارسها كمال داوود في (تحقيق مضاد)، سواء بوعي نقدي وإبداعي كامل، أو بلاوعي لا يخلو بدوره من آليات دفاعية ذاتية كامنة، عن قدرة تخييلية مذهلة على بناء الذات والهوية من خلال الفهم الخاص للتاريخ الشخصي، وإذا كانت شهرزاد قد استفادت من قدرات الحكي العجائبي والسرد الفانتاستيكي من النفاذ بجلدها من سيف الجلاد في ألف ليلة وليلة، فإن (هارون) قد استطاع هو الآخر من توظيف آليات السرد التمثيلية المذهلة لغسل المهانة التي ألحقها به (الغريب) عندما ألغى كيانه الإنساني و الهوياتي إلغاء كليا، سواء من حيث الإغفال والإهمال واستحضاره كتفصيل قليل القيمة في فضائه الكولونيالي، أو بجعله يموت موتة بائسة وهو يدافع عن أخته المومس، أو وهو ينتشر ويشتهر وتشتهر معه صورته الإنسانية الفاقدة للشرف[32]، ولم يكن بإمكان الناص/موسى من أن يرد، أو أن يصحح الوضع السردي الزائف، أو ينجز رؤيته الخاصة للواقع موضوع التخييل، لولا الخلفية الحكائية والشفرة التأويلية التي فككت البنى المضمرة وكشفت عن التمثيلات السيئة للنص التي توجب الرد عليها، بطريقتها، وضمن جنسها التخييلي، طالما كانت الحروب لا تخاض بالسلاح وحده.
وذلك ما يفسر ظاهرة الرد بالكتابة التي أطلقنا عليها توصيف الكتابة ضد الكتابة، وهي كل تلك السرود التي كتبتها الشعوب الأصلانية التي تعرضت كياناتها للمحو، وهويتاها للإلغاء، في كثير من مستعمرات الرجل الأبيض التي امتدت من أقاصي أستراليا و نيوزيلندة و إفريقيا إلى الأمريكتين وشمال إفريقيا وإلى كل أرض وطئتها أقدامه، كما نجدها في كتابات المنفى والشتات وإبداعات (الدياسبورا) من كل الجنسيات، وفي الكتابات النسوية والأقليات التي تضطرها الأغلبية المختلفة، والاستبداد السياسي، والاضطهاد الديني والإيولوجي، إلى اللجوء والتكتل والتنديد والكتابة واستجماع بقايا الهوية المهددة بالانقراض، حيث ” يوظف السرد كإستراتيجية مضادة[33] لمواجهة عمليات الإسكات التي تفرض على الهامش.”[34]، وهو الإسكات الذي تعرفنا ابتداء على نموذج عملي له في رواية (الغريب) وفي أغلب أعمال كاتبها في واقع الأمر، حيث تتعرض شخصية الأهالي إلى المحو العمدي و(الإهمال) الخطابي إن صح التعبير، فتحضر بلا لسان وبلا قضية وبلا موضوع وبلا أي بعد فني أو فلسفي باستثناء دورها كخلفية للديكور الأوروبي سرعان ما يتم إغفالها أو إزالتها من أجل الاستمرار في إنجاز المشهدية الأوروبية المستقلة بذاتها في فضاء لا يرحب بالأصلاني إلا بالقدر الذي يخدم غرضه التخييلي، والذي غالبا ما ينجز مقصديته على حساب هذا الأخير، على النحو الذي خدمت به الضحية الجزائرية المجهولة في (الغريب) أبعاد الشخصية المحورية القائمة على تشابكات فلسفية وعبثية وأسئلة وجودية بررت له كل التجاوزات، بما فيها القتل المجاني، على الرغم من أن المبررات الفلسفية وحدها لا تكفي في عمليات (القتل) والإبادة والتصفية التي تعرضت لها الشعوب الأصلانية شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وإنما تستند في ذلك إلى السلاح بمختلف أشكاله، وإلى القوة، وليس المسدس الذي أفرغ (مرسولت) خزانه في رأس(موسى)، والذي افتقده هذا الأخير وواجه رصاصاته الغادرة بجسده الأعزل، سوى إحالة رمزية على ما وراء المسدس من عتاد حربي تدججت به القوى الاستعمارية الإمبراطورية وهي تفرض هيمنتها العسكرية أولا، ثم الثقافية ثانيا، حيث تجيء هذه الأخيرة في أغلب الأحوال لتبرر شطط الأولى وعدوانها وجرائمها: ” إن القوة (…) على تمثيل ما يقع خارج الحدود الحواضرية تشتق، كما احتججت، من قوة مجتمع إمبريالي، وتلك القوة تتخذ الشكل الإنشائي المتمثل في إعادة ترتيب مادة معلوماتية “خام” ضمن الأعراف المحلية للسرد الأوروبي والمنطوق الرسمي(…) بل لقد كانت في معظم الحالات الفعالة مبنية على مقدمة منطقية هي صمت الأصلاني.”[35].
الواقع إن السرد الإمبراطوري قد أملى ضمن سياقاته المعروفة جملة من الثنائيات التي مهدت الطريق للرد بالكتابة، وبإرساء أسس الخطاب النقيض، ومن أهمها ثنائية المركز والهامش، السيد والتابع، الأصلاني والرجل الأبيض، القوة الخشنة والناعمة، الاستعمار والتحرر، الماضي والحاضر، الشمال والجنوب، الشرق والغرب، وغيرها من الثنائيات الضدية التي شكلت العلاقة غير المتكافئة بين القوة والضعف، والمستعمر والمستعمَر، والتي أتاحت لهذا الأخير، بعد صراع مرير وحروب وتضحيات، فرصة التأسيس لسرديته الخاصة، في مواجهة السردية الإمبراطورية التي أسست للاستعمار وبررت مظاهر القهر والهيمنة، قبل أن تتعرض بدورها على يد الأولى إلى الخلخلة والتفكيك وتدفعها إلى مراجعة أسسها وتبني وجهة نظر مغايرة تماما لسردية البدايات، لأن ” القوة على ممارسة السرد أو على منع سرديات أخرى من أن تتكون أو تبزغ ، لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة والإمبريالية، وهي تشكل إحدى الروابط الرئيسة بينهما.”[36]، وذلك لأن سرديات التحرر والتنوير الكبرى ” قد جندت الشعوب في العالم المستعمر وحفزتها على الانتفاض وخلع نير الإمبريالية، وخلال هذه العملية، هزت تلك القصص وأبطالها العديد من الأوروبيين والأمريكيين، أيضا، فقاموا هم بدورهم بالصراع من أجل سرديات جديدة للمساواة والروح المجتمعية والإنسانية.”[37]، ومن جهة أخرى فقد تمكنت سرديات التحرر، بتفعيل الرد بالكتابة من انتقاد الأسس التي قامت عليها المركزية الغربية، ومن تفكيك التمثيل الإمبراطوري للأخر، لا سيما الأصلاني المستعمر، وكيانات العالم الثالث المنتفضة من تحت ركام الهيمنة الإمبراطورية و سردياتها و تمثيلاتها الملغية لها ولذاتها وهوياتها الخاصة، دافعة له، ولأول مرة، إلى موضع الاتهام، ومجبرة إياه على الاعتراف بالتواريخ المهمشة والمنسية، وهكذا فإن ” ما يتم سرده على أنه حقائق في السرد الإمبراطوري عن الآخر، يصبح عرضة للتفكيك والمحاكاة الساخرة في السرد التابع. وفي سياق هذا التفكيك، يطرح السرد التابع تواريخ جديدة، تكتسب قوتها الانتهاكية من معارضتها الساخرة لتواريخ الاحتلال.”[38]، وذلك ما يميز بالتحديد النص موضع الدراسة في هذا المقال، ونعني به قيامه على السخرية والمحاكاة وتفعيل تقنية الباروديا في مواجهة استرجاعية وتجاوزية واستدراكية أسميناها الوجه والمرآة.
2. الوجه والمرآة
تظهر لعبة الظلال و الانكاس والتقابل المرآوي منذ البداية، وتحكم النص برمته طوال سيرورته السردية، منذ المدخل الذي قابل بين موت أم (مرسولت) وحياة أم (موسى)، إلى النهاية/المخرج (L’exispit) الذي يتكرر في النصين بالطريقة التقابلية نفسها التي لاحظناها في المدخل، حيث يختتم (كاموس) رواية (الغريب) بتأملات (مرسولت) في الموت والحياة، والسعادة والشقاء والوحدة والاغتراب والعبث والمعنى، بعد الحكم عليه، ليصرح في النهاية: ” لكي يُستهلك كل شيء، ولكي أشعر بوحدة أقل، بقي لي أن أتمنى أن يكون هناك متفرجون كثرا يوم إعدامي، وأن يستقبلوني بصرخات الكراهية “[39]، بينما يجعل كمال داوود بطله (هارون) المقابل الفني المرآوي لبطل (كاموس) يعيش في الأخير نفس الأسئلة الدينية والوجودية المحيرة عن الحياة والله والإيمان والإلحاد، ليختتم سرده بالقول، هو الأخر: ” أريد، أنا الآخر، أن يكون المتفرجون كثرا، وأن تكون كراهيتهم متوحشة “[40]، وليس ذلك، في النهاية، إلا نتيجة طبيعية للتشابة الطباقي بين البطلين، بين الوجه/مرسولت، والمرآة/هارون، ففي الوقت الذي أدار فيه الأول ظهره لله وحبه وما يعنيه ذلك من خلاص على النحو الذي صوره له الكاهن في زنزانة الإعدام:” نظر الكاهن حوله ثم أجاب بصوت بدا لي مرهَقا جدا << كل هذه الأحجار تتعرق ألما، أعرف هذا، لم أتمكن يوما من النظر إليها بدون أن أشعر بالقلق، ولكن، من أعماق قلبي، أعرف أنه من بين الأشقياء منكم من يكون قد رأى نورا إليها يخرج من ظلماتهم. إنه الوجه نفسه الذي نطلب منكم أن تروه. >> شعرت بقليل من النشاط ثم قلت لنفسي بأنني أرى هذه الجدران منذ شهور (…) ربما كان منذ وقت طويل حيث بحثت فيه عن وجه ما، هذا الوجه كان له لون الشمس ولهب الشهوة، لقد كان وجه ماري.”[41]، فإن (هارون)، وبحكم انتمائه إلى الدين الإسلامي وفضائه، سيستحضر الموازي الديني لشخصية الكاهن المعدومة في تقاليد هذا الأخير عبر النماذج الأصولية المتعصبة التي انتقد ممارساتها الاجتماعية ومواقفها الإيديولوجية وإسهاماتها الراسخة في تشويه الفضاء وإشاعة القبح والكراهية منذ الاستقلال وخيباته المبكرة، الأمر الذي جر عليه الكثير من المتاعب[42]: ” بطلك( مرسلوت) زاره الكاهن في غرفته، أما أنا فإنه حشد من المتعصبين الذي انطلقوا ورائي محاولين إقناعي بأن أحجار هذه البلاد لا ترْشَح الألم فقط وأن الله يراقب كل شيء. سأصرخ في وجوههم بأنني أرقب منذ سنوات طويلة هذه الجدران غير المكتملة (…) يبدو لي أنني رأيت شيئا يشبه للأمور الإلهية. ذلك الوجه كان له لون الشمس ولهب الشهوة. كان ذلك الوجه وجه مريم.”[43].
وهكذا تؤكد المخارج (les éxipites) في النصين على التواطؤ بينهما، ولاسيما على النزوع المرآوي المبيت لدى داوود، وانطلاق كتابته من الدرجة الصفر من الاتجاه صوب إعادة كتابة الغريب، من أجل تبييض فراغاته، وابتعاث المسكوت عنه، وتفكيك هشاشة كيانه لتمكين المقولات الكولونيالية من الخروج إلى سطح الوعي بكل ما يعنيه ذلك من إدراك وفهم، ورفض للغموض المستقر في مناطق الخطاب الرمادية، من أجل ذلك اضطر النص الثاني إلى التموقع في الإطار السردي والخطابي نفسه للغريب، بما يستلزمه ذلك من وقائع تناصية ( (Intertextualité، وترادفية نصية إن صح القول (hypertexte و hypotexte) بما يعنيانه من تلازم بين نص سابق ونص لاحق، بين نص أصل ونص تابع، وبين نص موضوع ونص محمول يعتمد في وجوده على السابق له مهما بدا مستقلا في كيانه ومختلفا في مادته وأسلوبه[44]، فإنهما يظلان، بشابكهما في الخيارات الأسلوبية والفنية والأدبية، يؤديان الغرض الأساس الذي تستوجبه الترادفية والتناصية و ما يجري مجراها مما لمسناه منذ البداية من رغبة في الحوارية مع النص الأول وإعادة كتابته، منذ لحظة العنوان التي جاءت مبشرة بإعادة التحقيق في قضية مر عليها نصف قرن إلا ربعا من السنين، وتولى السرد فيها صوت وحيد يعبر من منظوره الخاص عن وجهة النظر الجزائرية المغيبة في النص الأول، بخلاف مماثله السردي، ووجهه المرآوي/(مرسولت )الذي بدا منذ عتبة العنوان غريبا عن فضائه الاجتماعي والعائلي، ينظر إلى العالم نظرة باردة خالية من أي تعاطف ومن أي انفعال مهما كان نوعه، ولم يكن من معنى لبروده الظاهر، حتى وهو يواجه المقصلة ويتلقى نعي والدته، سوى إحساسه العميق بالعبث و الإحباط وغياب المعنى، الأمر الذي جعل (هارون) يؤكد بأن الحكم عليه بالإعدام لم يكن جزاء لجريمته بحق أخيه بل عقابا له على تعامله غير المألوف مع موت والدته، حيث لم يبد عليه التأثر ولا الحزن ولا العطف ولا أية مشاعر متوقعة من شاب تنعى إليه والدته، من أجل ذلك تساءل بحرقة وألم:” لماذا فضلت المحاكمة أن تحاكم رجلا لم يبك موت والدته بدل رجل قتل جزائريا.”[45]، كأن الأمر كان عقابا جماعيا لفرد خارج عن أعرافها وتقاليدها وقوانينا، وليس عقابا أخلاقيا على جريمة مجانية منكرة، حيث انتبهت المحكمة ومحلفوها وتحقيق الشرطة إلى أن (مرسولت) واصل روتينه اليومي بلامبالاة مطلقة بعد وفاة والدته، لكن لا أحد منهم أشار إلى أنه تصرف بالطريقة نفسها بعدما أزهق روح (موسى)، كأن المحاكمة قد عقدت للنظر في البرود الفلسفي تجاه الموت وليس اللامبالاة المطلقة أثناء القتل وبعده.
ستكون ساحة الجريمة فرصة أخرى لتبادل الأصداء والظلال والانعكاسات وإنجاز التقابل المرآوي الذي سيؤدي في النهاية إلى ما يشبه التطابق ببين الساردين: (هارون) الجزائري و(ميرسولت) الفرنسي، حيث يعزي هذا الأخير إقدامه على الجريمة إلى الحرارة الخانقة وإلى انعكاس الشمس على نصل الخنجر، الأمر الذي دفعه إلى إفراغ الرصاصات الخمس في جسد (موسى)، بينما يعزي (هارون) قيامه هو الآخر بقتل الفرنسي بعد الاستقلال، إلى أسباب لا تقل عبثا ولامعقولية عن أسباب الأول، قال:” كانت قبضة المسدس مضمخة بالعرق، وكان الوقت ليلا، لكن يمكن الرؤية بوضوح بفضل ضوء القمر الفوسفوري الذي بدا قريبا جدا حتى ليمكن لمسه عند القفز إلى السماء.”[46]، وهكذا تكتمل أركان العبث واللامعقول عند الساردين اكتمالا كليا، على الرغم من أن (هارون) المنتمي إلى جيل ما بعد الاستقلال، ورغم تحرره الفكري والإيديولوجي الذي جعله يتشابك مع خيارات السلطة السياسية، ومع الظاهرة الأصولية، بنفس الحدة وبنفس الحماسة المحيلة على لون من الانتماء الاجتماعي والالتزام الفلسفي الذي يبعده عن العبث وما يجري مجراه، الأمر الذي يجعل من قيامه بقتل الفرنسي عشية الاستقلال، وبعد وقف إطلاق النار، جريمة متكاملة الأركان، لا معنى لها سوى الرغبة التمثيلية في مد الجسور بين جريمتين وقعتا في زمانين مختلفين، وسياقين مختلفين، لكنهما تحملان مقومات اللامعقول ومعانيه بنفس الدرجة من العبث، على الرغم من تصريحه بأن ما قام به ليس قتلا بل كان بمثابة رد الوضع إلى ما كان عليه قبل الجريمة الأولى، كان ” une restitution.”[47] على حد تعبيره، بما يعنيه ذلك من (انتقام) وتشف، وتخلص من آثار الحقد وثقل الرغبة في الانتقام من قتلة (موسى) الذين أصبحوا يعيشون بعد الاستقلال وضعا مشابها للجزائريين قبل الاستقلال، محاصرين بين البحر والفشل، قبل أن يحتملوا حقائبهم وممتلكاتهم الخفيفة ويغادروا الجزائر إلى الأبد، بينما تتخلى والدته عن حذرها وقلقها وتسترخي للمرة الأولى منذ مقتل ابنها معلنة ” عودة الأشياء إلى وضعها الطبيعي السابق.”[48]. ولعل الوضع السابق المقصود أن يكون وضع البلدين قبل الاستعمار، ووضع الأمتين الجزائرية والفرنسية قبل الوضع الكولونيالي الذي شوه التاريخ والجغرافيا والهوية ومزق الأوضاع الفردية والاجتماعية طوال قرن وربع من السنين، وقد يعني الوضع السابق حلما طوباويا شديد المثالية، يفترض لونا من علاقات السلم والمحبة والاحترام المتبادل بين الأمم بدل الاحتراب والمنافسة والمكر والعدوان، وهو في نهاية المطاف حلم جميل ما انفك يغذيه الفلاسفة والإنسانيون منذ زمن طويل بلا أمل ظاهر في تحققه في القريب المنظور.
مهما يكن فإن الناص قد أنجز مرآويته من خلال المقابلة بين الساردين وهما يتورطان في جريمة مجانية لا معنى لها على الإطلاق، بررها الأول بضربة الشمس وبررها الثاني بلزوجة الدم على مقبض المسدس و(ضربة) القمر الفوسفورية إن صح القول، الأمر الذي يجعلهما شخصين متشابهين إلى حد التطابق، سواء من حيث الخلفية العائلية التي جعلتهما ينموان ويبلغان أشدهما في غياب الأب أو صورته وسطوته وتوجيهه باستثناء الحضور الباهت لموسى في طفولة (هارون) المبكرة، أو بالحضور الثانوي لشخصية الأم التي اكتفت بدور أمومي محدود في حياة الأول وبدور إجرامي في حياة الثاني، بالإضافة إلى اشتراكما في اسم الحبيبة، فحبيبة الأول (ماري كاردونا) بينما سيقع الثاني في غرام (مريم)، وسيقتل الأول جزائريا بدون اسم بينما يقتل الثاني فرنسيا له اسم (Joseph Larquais)، وسيحاكم الأول ظاهريا بسبب قتله للجزائري ولكنه سيدان بسبب عدم تأثره بوفاة والدته، بينما ستلقي الشرطة الجزائرية القبض على الثاني وتستجوبه ظاهريا بسبب قتل الجزائري لكنها تدينه بسبب عدم اشتراكه في الثورة التحريرية، وهكذا يتولى أولهما سرد الوضع الكولونيالي الملغي لشخصية الآخر الوطني المستعمر والمهمش، ويتولى الثاني سرد الوضع ما بعد الكولونيالي، بكل ما يتضمنه من شطط وخيارات أيديولوجية فاشلة وخيبات معممة تردد صداها لعقود طويلة بعد الاستقلال، وهو الوضع المرآوي الآخر الذي سينجزه النص بوعي مرة وبلاوعي مرات كثيرة.
كما يتولى الكاتب تأكيد البعد الاستئنافي لروايته المذيلة لرواية (الغريب) باستدعاء المشهد الذي يثور فيه (مرسولت) في وجه الكاهن بما يشبهه من ثورة (هارون) في وجه الإمام والانخراط في استيهامات دينية مليئة بالشك والثورة والتمرد والرفض للإجابات الدينية الجاهزة عن وضع وجودي قاهر لا شيء فيه يوحي بحضور القوة الإلهية القاهرة فوق العباد، ولا يبدو البشر قادرين على الإمساك بأية إجابة مقنعة حول الوضع الوجودي الغامض الذي عاشوه ومازالوا يعيشونه، مما دفعه إلى الاستسلام إلى الوهم الديني اللذيذ الذي لا يوفر لهم حدا أدنى من العزاء ومن القدرة على الاستمرار في مسرحية مملة لا معنى لها.
هذه الاستيهامات وغيرها من الأسئلة المقلقة والملاحظات الدقيقة الجريئة في الحقل الديني ووضعه السوسيولوجي، إلى جانب طائفة من التأملات العميقة في الشرط الإنساني وفي الظاهرة الدينية الملازمة له، لا سميا في السياق الجزائري ذي الحساسية الدينية المفرطة، كانت كافية لإطلاق البعبع الأصولي من عقاله وإمداده بالمادة التي تغذت عليها محاكم التفتيش المقدس في القرون الوسطى، سواء بمراقبة الضمائر أو الرقابة على الفكر وأسئلته المقلقة للمستقر والثابت واليقيني والإجابات الدينية القاطعة التي لا تشفي غليل العقل ولا تهدئ عنفوانه.
إلى جانب ذلك تنتصب اللغة والهوية في قلب القضايا التي اشتغل عليها داوود في (تحقيقه المضاد)، حيث كرس الفصل الثاني لتوصيف الفضاء الحضري التي تعيش فيها الأسر الجزائرية، في مقابل الفضاء الحضري الذي يعيش فيه المعمرون، والذي لا يخترقه الأولون إلا لماما مدفوعين بسد من التمييز اللامرئي الذي يحشرهم في فضاءاتهم الفقيرة الخاصة، وهنا تحضر لغتهم المحكية بكل عمقها وعنفوانها وعفويتها، تأتي في الرواية مائلة، مؤكدة على الشخصية الوطنية التي استعصت على عوامل المحو والنفي والإلغاء التي مارستها عليها الفرنسية الرسمية والشعبية بكل سطوتها الإدارية والقافية والسياسية، معلنة عن فشل الساسة الاستعمارية من جهة وعن استمرارية الشخصية الوطنية في الزمان والمكان وفي التاريخ والجغرافيا. وبالموازاة مع قضايا الهوية واللغة المحلية واللغة الاستعمارية، وطبقية الأهالي والسادة المعمرين، والخيط الرفيع للأبارتايد الذي أظهره النص في سياقات مختلفة، فإن السرد الذي ينجزه الناص وهو يعيد كتابة (الغريب) يأتي على شكل مونولوج طويل يجريه السارد في حانة اسمها (تيتانيك) التي تتعالق رمزيا وتاريخيا مع واقع وطني حابل بالرهانات الصعبة، إلى جانب مجموعة من الطرائق الاستعارية والإشارية لبناء فضاء الهوية الوطنية، كما نجد مجموعة أخرى من آليات القلب والترجمة واستعارة المضامين النصية والمفردات الفرنسية التي تستعمل استعمالا محكيا محليا، مثل (ميريام) التي تصبح (مريم) و(maman) التي تصبح (مَّا)، إلى جانب بعض الصيغ والعبارات والفقرات المكتوبة بطريقة مختلفة تحيل على أصلها في النص الأول، من قبيل ” لقد كانا مثل ضربتين خفيفتين على باب الخلاص”[49]، التي وردت في (الغريب) على النحو التالي: “لقد كان مثل أربع ضربات خفيفة ضربتها على باب التعاسة”[50]، إلى جانب بعض التحويلات الاستعارية المتقابلة بين النصين والعاكسة للوضعية المرآوية للساردين، ففي الوقت الذي وجد فيه (مرسولت) مشروب القهوة بالحليب الذي تناوله وهو يسهر على جثمان والدته مشروبا لذيذا فإن (هارون) يجده مشروبا مريعا[51]، وأيام الجمع التي يمقتها هذا الأخير تصير أيام الأحاد الذي يمقتها الأول، وجار الثاني الذي لا ينفك يرتل القرآن في كل وقت بصوت فيه الكثير من الرتابة والطنين المؤلم يقابله جار الأول (Salamano) الذي لا هم له سوى تبريح كلبه المريض ضربا وهو يقوده في سياحته اليومية على الساعة الثانية والرابعة مساء.
لابد من الإشارة هنا إلى أن لعبة المرايا والظلال وتبادل الانعكاسات بين النصين، إلى جانب مختلف الآليات السردية والتمثيلية التي وظفها داوود للاستدراك على (الغريب) وملء فراغاته واستنطاق المسكوت عنه فيه، لم تكن إلا أدوات فنية اتكأ عليها لتمرير خطابه الخاص حول القضايا الحافة بالكولونيالية ومقولاتها الواعية، وأساليبها اللاواعية وهي تتحقق نصيا ضمن تطابقات وترادفات ولواحق لا تخطئها العين المتمرسة بتحليل الخطابات، لاسيما تلك الملتبسة بالاستعمار والهوية واللغة والتراتبيات الاجتماعية المقدمة والمؤخرة والرافعة والخافضة والقائدة والتابعة وما جرى مجراها، على النحو الذي وردت به قضايا ما بعد الاستقلال الجزائري مقابلة لما قبله الكولونيالي وآثاره على اللغة والهوية والثقافة، وهنا لا يفوتنا التساؤل حول ما إذا كان الاشتباك مع ألبير كاموس وإعادة كتابة نصه الشهير (الغريب)، في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الجزائر، ومن تاريخ كمال داوود الشخصي، ما يدعو إلى التأمل والتساؤل معا، لا سيما وأن ظهور رواية التحقيق المضاد تزامنت مع الذكرى المئوية لميلاد كاموس/1913 وما أثارته من لغط بين ضفتي المتوسط، فرنسا والجزائر، ولاسيما في هذه الأخيرة حيث تجدد النقاش حول هوية الكاتب وما إذا كان يصح جعله جزائريا، أو اعتباره فرنسيا كما نادت بذلك النخب الوطنية المعربة التي ذكرت بمواقفه العدائية من الثورة التحريرية، بينما صرح داوود بموقفه بكل وضوح عندما قال:” أنا أطالب باعتبار كاموس كاتبا جزائريا”[52] في حواره مع إحدى الدوريات الفرنسية[53].
وهكذا إن شئنا النظر إلى نص كمال داوود من زاوية أخرى، لأمكننا التأكيد على أن لعبة المرايا والانعكاسات وظلال الوجه والمرآة وإعادة الكتابة والتحقيق المضاد في جريمة القتل، ليست من أجل تمكين الضحية من ارتداء هويتها المصادرة فحسب، بقدر ما كان الأمر برمته تحية إجلال وتقدير للكاتب الكبير، وتسطيرا لمواطن العبقرية في نصه الشهير، وبيانا لمكامن الأداء الفني البليغ، وانحناء فنيا وتمثيليا لعبقرية اللغة الفرنسية التي لم يخف إعجابه بها في مواطن كثيرة من النص، ولم يتردد في الإشادة بها وبكاتبها الشهير كاموس الذي بلغ بها منازل فنية بعيدة الشأن، وحلق بها في آفاق عبقرية يجهلها كثيرون، قال:” لقد عرفت بإيجاز عبقرية بطلك (كاموس): تمزيق اللغة اليومية العامة من أجل الظهور في خلفية المملكة، هناك حيث توجد لغة صاعقة تنتظر لتروي العالم بطريقة أخرى. نعم هو هذا. إذا كان بطلك يروي مقتل أخي بهذه الطريقة الجيدة، فذلك معناه أنه قد وصل إلى حدود لغوية مجهولة، قوية جدا في عناقها، قاسية جدا وهي تقطع صخور الكلمات، عارية مثل الهندسة الإقليدية. أظن أن ذلك هو بالضبط الأسلوب الرائع في النهاية، أن تتكلم بدقة صارمة عن آخر اللحظات في حياتك. تخيل رجلا يموت ولكماته التي ينطق، تلك هي عبقرية بطلك: أن تكتب العالم كما لو كان يموت كل لحظة. كما لو كان يختار الكلمات باقتصاد أنفاسه. إنه زاهد.”[54]. وهكذا فالمقبوس صياغة عشقية شديدة العمق، بديعة التصوير، موغلة في التحري والرغبة في الإحاطة بطبيعة الشعور الذي تثيره لذة القراءة للنص الكاموسي، لذة عشقية تنم عن ولع خاص يجعل مما ذهبنا إليه بخصوص إعادة الكتابة تخريجا شديد الاحتمال، لاسيما وهو تعضده مقبوسات أخرى كثيرة مبثوثة هنا وهناك في جوانب النص تنحو هذا المنحى، وتؤكد على العلاقة الخاصة التي يقيمها الكاتب مع الفرنسية، وعلى الالتباس الأدبي والعاطفي الاستثنائي الذي تجلى في مشاهد كثيرة تتناول تفاصيل جزئية من اللغة الفرنسية وقدراتها وعبقريتها الخاصة التي مكنت الناص من تصفية حسابات كثيرة مع الذات والتاريخ والاستعمار.
من ذلك مثلا ارتباطها بالحب العميق الذي كان يكنه لمريم التي جعلته يكتشف جمال اللغة التي كتبت بها رواية (الغريب)، وكيف يمكن أن تتحول هذه اللغة بين يديهما إلى أداة فعالة في كشف خيوط الجريمة، محققة بعدين جماليين استثنائيين تماما هما الحب والجريمة، أو العشق والقضية، هما الفن والإيديولوجيا، أو الخصم والحكم في الوقت نفسه:” مريم، إنها هي التي علمتني كيف أتقن لغة بطلك ( كاموس)، وهي التي جعلتني أكتشف ذلك الكتاب الذي تخبئه في محفظتك مثل تميمة. لقد أصبحت اللغة الفرنسية بذلك أداة بحث دقيقة ومهووسة. معا كنا نسلطها مثل منظار على مسرح الجريمة.”[55]. من الواضح هنا أن الجريمة تحيل بفعل (بارودي) شبيه بتورية البلاغة العربية على معنيين، معنى قريب غير مقصود، ومعنى بعيد هو المراد، معنى الجريمة الفعلية المجانية التي ارتكبها مرسولت بحق الضحية الجزائرية المجهولة، ومعنى بعيد يتعالق مع الجريمة الثقافية والكولونيالية التي طالت التاريخ الوطني وثقافته ولغته وهويته، ولم يكن في الإمكان مقاومة المد الاستعماري المنتصر عسكريا وثقافيا إلا بتغيير الخطة الثورية التي انتهجها الأجداد الذين ما انفكوا يثورون الحين بعد الحين، ولكن سرعان ما ينهزمون أمام الآلة العسكرية الاستعمارية المتطورة وأمام ثقافته التي اكتسحت العالم القديم وقيمه، فغيرت مُثله وأساليبه وطرائقه التي لم يكن بد من تبنيها وتمثلها والتحكم فيها، بل وتطويرها ثم استخدامها في فعل المقاومة والثورة والتحرر، وهو ما حصل بالضبط مع جيل نوفمبر الذي تعلم في المدارس الفرنسية وأتقن لغتها ثم ثار وصاغ بيانه الثوري بلغة المستعمر نفسه، وهزم منتصر الأمس باستعمال أساليبه وثقافته وسلاحه، من أجل ذلك أعلن الناص منذ السطور الأولى من الرواية بأنه ” تعلم اللغة الفرنسية خصيصا لكي يتكلم مكان المقتول(أخوه موسى)، وأن يستكمل جمله قليلا.”[56]، للتنديد بالنسيان الذي ضرب على القضية الأصل، الجريمة، والاهتمام بقضية هامشية تتعلق بالوجود ومعناه عند مجرم مختل استطاعت اللغة أن تخفف من جريمته على نحو من الأنحاء.
اللغة إذن ليست كيانا مجردا ومحايدا بل تتحمل المسؤولية الكاملة في قضايا الصراع والاستعمار والتحرر وما جرى مجراه، لأن امتلاك اللغة هو امتلاك المصير، طالما تعالقا وتظافرا وتشابكا، وعلى هذا الأساس أعاد الناص إلى الواجهة صراع المعربين والفرنكوفونيين عشية الاستقلال، وما قاله الكاتب والمسرحي الجزائري الشهير كاتب ياسين بأن اللغة الفرنسية غنيمة حرب[57]، وما كان يعنيه ذلك من استثمار لممكنات الفرنسية الثقافية والعلمية بعيدا عن مضامينها الاستعمارية القديمة، وخلفياتها الكولونيالية ولاسيما التباس ذلك كله مع طائفة من الجزائريين الذين كان ولاؤهم لفرنسا وحضورها الامبراطوري أعمق من ولائهم للوطن وثورته وتضحياته الكبيرة التي قدمها من أجل الحرية والكرامة طوال قرن ونيف من الزمان، وتلك قضية مؤلمة في الذاكرة الجزائرية مازالت لم تشف تماما ما دامت هناك طائفة منهم كبيرة لا تفوت التواريخ ولا المناسبات الانتخابية الفرنسية أن تخرج لتطالب بحقوقها والاعتراف بها، وتلك هي قضية (الحركى)[58] الدامية في التاريخ الجزائري المعاصر وحصان طروادة التي تراهن عليها القيادات السياسية الفرنسية للضغط على الحكومات الجزائرية وخياراتها السياسية والاقتصادية، من أجل ذلك ” سأفعل كما فعل الناس في هذه البلاد بعد الاستقلال، سآخذ أحجار بيوت المعمرين حجارة حجارة لأبني بيتا خاصا بي، ولغة خاصة بي. إن كلمات القاتل وتعابيره هي ممتلكاتي الشاغرة[59].”[60]. على ضوء هذه العزيمة، وهذا القرار المتجاوز لقضايا الوطن إلى المهمة الشخصية الخاصة، يمكن تفسير ذلك الشغف الذي مكنه من الارتفاع بالأداء الأدبي، عبر اللغة الفرنسية، إلى مستوى النبوغ والفرادة والتميز، بل والعبقرية التي كرستها المؤسسات الفرنسية الأدبية العريقة بتتويجه بجوائز[61] مرموقة مكنته من البروز على المشهد الأدبي الفرنسي، والحضور الدائم على قنواتها التلفزيونية، وجرائدها ودورياتها، وتظاهراتها الثقافية والأدبية.
3. الذيل والتكملة.
كل شيء بدأ برغبة عارمة في الانتقام من واقع الأهالي وجهلهم بلغة المستعمر التي أصبحت تشكل السمة البارزة للقهر والغلبة والسيطرة، ما دامت الإدارة الاستعمارية تقصي اللغة المحلية إقصاء كليا، وتفرض لغتها في الإدارات الرسمية وفي مختلف المعاملات المدنية والاقتصادية، الأمر الذي يجعل الأهالي يقعون من الكولون في الدرجة الثانية بحكم الواقع اللغوي والواقع السياسي معا، الأمر الذي يشعرهم بدونية مضاعفة، فينظرون إلى لغة المستعمر نظرة إعظام وإجلال تفرضها التراتبية الاجتماعية الملزمة بتوترات العلاقة بين الغالب والمغلوب، القوي والضعيف، وبين العالم والجاهل، مثل لها الناص بأحد معارفه الذي تلقى برقية باللغة الفرنسية تخبره بوفاة والدته في إحدى المناطق الداخلية البعيدة من البلاد، فلم يتمكن من فهم محتواها، ولم يقدر أحد على قراءتها مدة ثلاثة أيام كاملة، وعندما عرف محتواها أخيرا، قال بحزم ” قررت أن أتعلم الفرنسية من أجل أبي، ولكي لا يتكرر ما حصل أبدا، لم أنس أبدا غضبه على نفسه، ونظراته التي كانت تتوسل مني العون.”[62]، فالقضية إذن ليست استلابا أملاه الولع بالحضارة الوافدة وبريق لغتها وأدبها ومدنيتها الراقية، بقدر ماهي الضرورة المحيلة على الحاجة التواصلية أولا وعلى الكرامة الإنسانية ثانيا، وعلى الرغبة العارمة في ترميم الجرح النرجسي الذي أحدثته الهزيمة الحضارية أمام الحضارة الغربية التي فاجأت العالم الإسلامي بعرامتها الأدبية والفكرية من جهة، وبآلتها الحربية وقدراتها العسكرية المهولة من جهة ثانية.
لقد مثل الناص للرغبة الراسخة في ضمير المجروحين في الانتقام بعبارة موجزة وشديدة البيان:” هذه القصة يجب إعادة كتابتها، في نفس اللغة الأصلية، لكن من اليمين إلى اليسار.”[63]، وما الكتابة من اليمين إلى اليسار إلا تفعيل حضارتها وثقافتها ونظرتها الخاصة في مقابل الكتابة من اليسار إلى اليمين التي هي اللغة الفرنسية وجميع اللغات الغربية في واقع الأمر، هي بمعنى آخر كتابة الامبراطوريات الاستعمارية الغربية في مواجهة الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص التي تمارس كتابتها من اليسار إلى اليمين، وبهذا المعنى تصبح رغبة الناص رغبة متجاوزة لقضية مقتل أخيه إلى القضية الأعم والأشمل، وهي كتابة وجهة نظر الحضارة العربية الإسلامية وإنسانها المتحرر أخيرا في كل ما حصل، برؤية مخالفة خطيا للرؤية الأولى، وإيديولوجيا وحضاريا في الوقت نفسه، ومن أجل هذا وحده يأخذ قوله:” لقد تعلمت هذه اللغة لكي أروي هذه القصة مكان أخي الذي كان صديقا للشمس.”[64] بعدا تفكيكيا كفيلا بتأويل النص تأويلا يقبض على المعنى العميق لرموزه وتمثيلاته وتلويحاته، على النحو الذي تحيل عليه الشمس التي أضيف إليها الأخ إضافة تجعل من التقاطب بين الشمس والبرد، الحرارة والثلج، الخضرة والصحراء، وأخيرا بين الشمال والجنوب، وبين الغرب والشرق، وعودا على بدء، إلى (موسم الهجرة إلى الشمال)، والطيب صالح الذي عاد إلى بلاده الجنوبية من (بلاد تموت من البرد حيتانها)[65]، ومصطفى سعيد الذي قال: (أنا صحراء الظمأ)[66]، و(أنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع)[67]، إلى كمال داوود الذي قال (سأكتب الحكاية في نفس اللغة ولكن من اليسار إلى اليمين)[68]، إلى نفس القضية ونفس الصراع ونفس الحكاية، قضية الاستعمار والتحرر والجرح النرجسي و الرغبة العارمة في الانتقام بشكليه، الواقعي والرمزي، وفي إعادة صياغة ملحمة الاستعمار والتحرر بطريقة أخرى تمكن الضحية من بيان وجهة نظرها الخاصة التي غيبها القهر والاستبداد مدة مديدة.
وما بيان وجهة النظر الخاصة التي فرض عليها الإسكات طوال الزمن الكولونيالي سوى قيام بعملية الرد بالكتابة، بالكتابة ضد الكتابة، وبصياغة خطاب نقيض وبامتلاك حق التمثيل لأول مرة، وبهذا الامتلاك المهم والمستجد للكملة وقوتها، وتوظيف (اللغوس) الذي لم يعد حكرا على الإمبراطورية، أصبحت الذات مدركة تماما لكيانها واختلافها وشخصيتها، وأصبح بإمكانها نقض الخطاب الكولونيالي الذي لم يكن يتيح تمثيل الآخر إلا ضمن العلائقية الكولونيالية الضيقة التي كانت تصور الآخر الأوروبي الأبيض سيدا على المكان وعلى جسد الآخر معا، بكل ما يتضمنه أحيانا من تشويه وتهميش وتزييف، وقد ” فرض اليوم كتاب وباحثون من العالم الذي كان خاضعا للاستعمار تواريخهم المتباينة على النصوص المكنونة العظيمة لثقافة المركز، وقاموا برسم جغرافيتهم المحلية ومن هذه الثقافات المتقاطعة لكن المتعارضة مع ذلك، تبدأ القراءات والمعارف الجديدة بالظهور.”[69]، من أجل تفكيك الصور النمطية التي سوقتها المركزية الغربية عن الأصلاني وثقافته والتي تخضع في تمثيلاتها، في أغلب الأحيان، إلى تحيزات ثقافية وإيديولوجية لم تتعرض كثيرا للمساءلة إلا بعد القيام بالرد بالكتابة بتوظيف آليات الخطاب النقيض.
وطبيعي جدا، والحال كذلك، أن تعيد الرواية المنتجة للخطاب النقيض كتابة سرديتها بوعي تفكيكي نقدي يستبطن المقاومة، ويعيد صياغة التمثيلات الكولونيالية ويناقشها بل ويفندها ويبين تهافتها وفيها ” ينطق الأصلاني الذي كان صامتا في السابق ويمارس الفعل على أرض استعادها، كجزء من حركة مقاومة شاملة، من المستعمر المستوطن.”[70]، على النحو الذي رأيناه في رواية (التحقيق المضاد)، حيث قرر الناص محاربة المستعمر بأساليبه ولغته وطريقته التي مثلت أخاه/الجزائري، الضحية المقتولة عبثا، تمثيلا سيئا جعله أخا لمومس يموت موتة مجانية، بتعلم لغته وإتقانها ومعارضة النص الشهير الذي برر الجريمة وتغاضى عنها وركز على القلق الوجودي الذي يعاني منه بطله، حيث واجهه بخطاب نقيض، والخطاب النقيض ” عملية يقوم بموجبها الكاتب ما بعد الكولونيالي بتعرية وتفكيك القناعات الأساسية التي يتبناها نص معتمد canonical معين وذلك من خلال إيجاد نص نقيض counter – text يحتفظ بالعديد من الدوال المميزة للنص الأصلي مع تغيير بنيات القوة التي يقوم عليها هذا النص، وهذا ما يتم غالبا على نحو مجازي allegorically.”[71]. وقد أطلقنا، من جانبنا، على تلك الدوال المشار إليها، على النحو الذي تحققت بها في نصي الدراسة، توصيف ما وراء التخييل (Transfictionnalité )، بغية مقاربة الإحالة المتبادلة بينهما مقاربة سردية ثم ثقافية، تحيط بتجليات المعنى في بعديه، السطحي والعميق معا، وتفكك الإحالات التي أعاد النص الثاني صياغتها من أجل تصحيح مضامين القوة والتشويهات التي طالت الهوية الوطنية كما لو كان يجري إعادة الكتابة متكئا على نظريات ما بعد الكولونيالية لاسيما ما تعلق بمسألة ” تقويض النصوص المرجعية (السلطة) والإعادة الحتمية لكتابتها في عملية التقويض.”[72].
وبهذا المعنى يصبح نص (التحقيق المضاد) نصا ملتزما بالمعنى السارتري (جان بول سارتر) للكلمة، حيث لم يتردد في إثارة الكثير من القضايا السردية والخطابية والسوسيولوجية والتاريخية وما بعد الكلولونيالية، بل وقضايا إيديولوجية حافة متعلقة بالخيارات السياسية والمجتمعية التي انتهجتها السلطة بعد الاستقلال، وقضايا التدين الشكلي المسيطرة على مجتمع مستلب الشخصية غير متصالح تماما مع هويته وعقيدته، القضايا التي صارت بدورها محورا لجدل فلسفي معلق بين السماء والأرض، متوتر بين اللاهوت والميتافيزيقا وقضايا الوجود.
وإذا كان السارد قد عمل على امتلاك ناصية الفرنسية كي يعيد ترتيب التاريخ والوقائع، بطريقة تنصف أخاه، وتحدد شخصيته واسمه وتاريخه الخاص ضمن سياق التاريخ الوطني الممتد بين مرحلتين متباعدتين، 1942 تاريخ صدور (الغريب)، و2013 تاريخ استظهار جثة المقتول وإعادة كتابة قصته ومحاكمة قاتله، وكاتب قصته المتحيز الذي لم يرو الحكاية كما كان يفترض أن تروى، بل رواها بما ينسجم مع تاريخه الامبراطوري العابر للقوميات والثقافات والحضارات، وكافة الخصوصيات التي تتوارى إلى ظلال الهامش دافعة بسردية الإمبراطورية إلى صدارة المشهد الثقافي والأدبي والتاريخي، الأمر الذي يجعل من مناسبة استظهار الجثة وإعادة الكتابة فرصة لتكملة سردية (الغريب)، وتذييلها بتاريخ الأشخاص الملتبسين بالرواية في مرحلة تاريخية لاحقة لم يعشها الكاتب وبطله، وعاشتها والدة الضحية وأخوها الذي عبر عن موقفه النقدي الشديد مما يجري في راهن الجزائر المستقلة، منذ مطلع الرواية: ” الحقيقة أن الاستقلال لم يفعل شيئا إلا أن دفع هؤلاء وأولئك إلى تبادل الأدوار، أما نحن فكنا أشباح هذه البلاد عندما كان يستغلها المعمرون وهم ينقّلون فيها النواقيس واللقالق وأشجار السرو. أما اليوم فإن الأمر خلاف ذلك، فإنهم يأتون أحيانا، ممسكين بأيدي ذريتهم، في رحلات منظمة من أجل (الأقدام السوداء)[73] ولأبناء أولئك الذين يشعرون بالحنين إلى البلاد، وكل منهم يبحث عن شيء ما، منهم من يبحث عن شارع، أو بيت، أو جذع شجرة منقوشة عليه بعض الحروف.”[74]. ومن هنا يبدو الكاتب مشغولا، وهو يعيد كتابة (الغريب)، بتقديم شهادته حول الجزائر ماضيا وحاضرا، وخصوصا وضعها أثناء الاحتلال وبعد الاستقلال، توازيا مع النص الذي كتبه كاموس أثناء الاحتلال متضمنا لمواقفه المعروفة كالجزائر الفرنسية، ورفض استقلالها، والمرافعة من أجل الحياة المشتركة والانسجام بين الأهالي والأوروبيين، وإنجازا لما يشبه المراسلة الضمنية معه من خلال التحقيق المضاد بغية اطلاعه على وضع البلاد التي أحبها والتي انحدرت بعد الاستقلال صوب الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي والاقتصادي لتقع أخيرا فريسة التعصب الديني والبؤس الثقافي والجنسي وضياع أجيال من الشباب الذي صودرت منه حياته مرتين، مرة على يد جيل الثورة الذي احتكر المناصب والمنافع والأموال ومرة على يد الأصوليين الذين صادروا منه حاضر الحياة ووعدوه بمتع الآخرة، وعلى هذا الأساس يشبه الكاتب بطله هارون، منذ الصفحات الأولى، بروبنسون كروزو[75]، حيث يجد نفسه مثله معزولا، ومهمشا وسط محيط عدائي، يتأمله من بعيد دون أن يتورط معه كثيرا، ويمارس التأمل أكثر مما يمارس الحياة، وهو في خضم ذلك يتعين عليه أن يظل على قيد الحياة، وأن يتعايش مع الشطط المجتمعي المحيط به، وأن يجد وسط القبح المحيط به مبررا كافيا لمواصلة الحياة، رغم أنها فقدت مبررها الوحيد منذ فقد والدته، وأصبحت فجأة لعبة عبثية لا معنى لها على الإطلاق:” منذ أن ماتت والدته، أصبح لا وطن له، وسقط في الفراغ والعبث، إنه روبنسون الذي اتقد أنه سيغير قدره بقتله لـ(جمعته)، ولكنه اكتشف أنه وقع في الفخ على الجزيرة، فأخذ يلقي بعبقرية خطابا طويلا مثل ببغاء متعاطف مع نفسه… أين أنت يا مرسولت المسكين؟ … أنا أحفظ هذا الكتاب عن ظهر قلب، أستطيع أن أتلوه مثل القرآن.”[76]، ولا غرو، فقد ظل يتلو منه مقاطع كاملة، يضمنها كلامه وتأملاته وذكرياته واستطراداته، وما كاد يخلو النص في صفحة منه من استذكار أو تلميح أو تضمين.
وعليه يتكئ الكاتب بالكلية على كاموس وغريبه لإنجاز سرديته الجديدة عن الراهن الجزائري الملتبس بالديانة التباسا معقدا أنساه الثورة على القيود الدوغمائية والإيديولوجية التي صادرت منه حقه في الحياة، واضطهدت الجسد الأنثوي، وألغت موعده مع الدنيا والناس والفرح ونشوة الوجود، والإقبال على المستقبل بفؤاد مفعم بالأشواق، كما عبر عن ذلك بأسلوب أكثر وضوحا وصراحة، في الحوار الذي أجرته معه مجلة Le Monde des religions الفرنسية، وعندما سئل:” إن ما يثير الانتباه عند قراءة كتاباتك، وبعيدا عن الرؤية الكاسفة التي تنظر من خلالها إلى العالم، فإنه تظهر هناك رغبة عارمة في الحياة، وحبا جارفا للحظة الراهنة. فما مصدر هذا كله؟”[77]، أجاب قائلا:” إن هذه الرغبة العارمة سببها الحرمان. فأنا أنتمي إلى جيل صادر منه الحياة هنا في الدنيا شيئان: خطاب ديني يعلق الحياة ويعد بها بعد الموت، وخطاب وطني، وثقل التاريخ الكولونيالي، وحرب الاستقلال، الأمر الذي جعل الحاضر يبدو أقل قيمة من الماضي. أبطال الثورة وحدهم يبدون أحياء، نحن جئنا بعدهم، بشكل ما جئنا مدينين. لقد عشت حياتي كلها وأنا أشعر أنها معلقة بين هذين العاملين. وعندما كنت صغيرا أثرت في كثيرا قراءة كتاب (الأطعمة الأرضية) لأندريه جيد. قد يبدو الأمر ساذجا لكن التعبير عن الرغبة العارمة في الشعور بالحياة و بـ(الشعور بالرمل تحت الأقدام) كثيرا ما هزني بقوة. لقد دافعت كثيرا عن حق امتلاك الحياة بنفس درجة امتلاء الأشياء.”[78]. إن الحق في امتلاك الحياة والتمتع بها بعيدا عن أي تحيز ميتافيزيقي هو المهمة الأساس التي أناطها الكاتب بشخصية (هارون)، إلى جانب إعادة محاكمة (كاموس) و(ميرسولت) وتحيزاتهما الإثنية والكولونيالية، حيث يتخذه ذريعة فنية وآلية سردية لتصفية حساباته مع الأوضاع الاجتماعية والإيولوجية والدينية التي تركته معلقا بين الموت والحياة، بين الانتماء وعدم الانتماء، وبين الالتزام وعبور الحياة بدون أي إحساس بالواجب تجاه الحياة والأحياء، كما اتخذه خاصة وسيلة ” للتفتيش في أعماق ضميره ورصد علاقته بالناس والله وبالعالم.”[79] على حد تعبيره.
تنبغي الإشارة هنا إلى أن موقف الكاتب من هؤلاء الأخيرين، لاسيما الله، والناس في ما تعلق بوضعية المرأة في الجزائر، وفي البلاد الإسلامية جميعها على كل حال، حيث ما فتئ الكاتب يندد عبر مقالاته الصحفية وتصريحاته الإعلامية بوضعية الخضوع والإقصاء والتهميش ومصادرة الحق في الحب والحياة والجنس والحرية وغيرها من مظاهر الحضارة والتحرر، مؤكدا بطريقة أخرى ما ورد في التحقيق المضاد بصيغة أدبية، حيث لم يتوان عن إعادة صياغة المضامين الاستشراقية القديمة، والتمثيلات الغربية النمطية لـ(حريم) الشرق، وشبقية نسائه ورجاله، ودور الحرمان والحجاب والكبت والدين وعنفوان الذكورة الشرقية في امتهان الأنوثة، كقوله:” إن الجنس هو أكبر سبب للبؤس في في عالم الله، حيث المرأة مقصاة، مرفوضة، مقتولة، مغتصبة، محجبة، ومملوكة.”[80]، ولم يتردد، عندما واجهته الانتقادات التي كشفت تحيزاته ورؤيته (الاستشراقية) المكررة، في التأكيد على أنه يقصد كل كلمة قالها بخصوص ” العلاقات المريضة التي تربط المسلمين بشهوة الجنس وجسد المرأة.”[81]، وهي مواقف لا ينفك يجري عليها تنويعات تمثيلية وتقريرية متنوعة في كل كتاباته، دون المساس بجوهر القضية المتعلقة بتأطير الدين للجنس وحصره في علاقة الزواج فقط، الأمر الذي جعل بطل التحقيق المضاد يعيش حرمانا قاسيا من جسد المرأة الذي لا سبيل إليه إلا عبر الزواج الذي تعذر عليها في معمعان انشغاله بالثأر لأخيه، ثم بصدمة القتل المجاني التي قام بها هو نفسه تجاه الفرنسي عشية الاستقلال، وما أحدثته فيه من خلخلة وعدم اتزان انزلق به صوب الاقصاء والهامش والسلبية، وسوداوية تعلق جميع إحباطاتها بالدين والكبت والحرمان من تلك ” الطرائد الرائعة القادرة على الوفاء بوعود متعة الحب بدون حتمية الزواج.”[82]، وعليه فإن النقمة العارمة على الدين المصادر لمتعة الجنس لا تفوقها إلا نقمة أخرى على الوجود الذي لم يمده بأية إجابات مقنعة حول أسئلته الميتافيزيقية المقلقة، الأمر الذي أحال جميع مظاهر الدين والتدين إلى فرص للتعبير عن الغضب والإلحاد والتمرد على الأجوبة التي يقدمها الدين عن أسئلة الوجود والموت والحياة، وحتى على الله نفسه، على النحو الذي يبينه المقطع التالي الملخص لإحباطاته الدينية كلها:” يواجه بلكونتي مسجد ضخم غير مكتمل البناء، كما توجد الآلاف منه في هذا البلد. أنظر إليه كثيرا من نافذتي وأمقت هندسته، وأصبعه الكبير المسدد تجاه السماء (…) وأمقت الإمام الذي ينظر إلى قطيع المؤمنين كما لو أنه وكيل مملكة. ومنارة كريهة تثير الرغبة في الكفر الصريح داخلي، من قبيل (لن أنحني عند قدم كومتك الطينية). (…) تعتريني أحيانا الرغبة في تسلق المنائر حتى هناك حيث تعلق مكبرات الصوت، وأن أغلق على نفسي داخلها بالمفتاح، وأن ألعلع بما في جعبتي من ذم وقدح وكفر، وبعد أن أعدد قائمة كفرياتي، سأصرخ بأنني لا أصلي، ولا أصوم، ولا أتوضأ، وأنني لن أحج أبدا، وأنني أشرب الخمر، وأن أصرخ بكل قوة بأنني حر، وبأن الله سؤال وليس جوابا، وأنني أريد أن ألقاه وحيدا كيوم ولدت أو يوم أموت.”[83].
وبهذا يكون الكاتب قد صرح على لسان بطله بما دندن به كتاب كثر في شرق العالم الإسلامي وغربه، وقذف بتمرده وثورته وغضبه في وجه الجميع بجسارة وعنفوان، ولم يتورع كثيرا أمام ثالث الطابوهات التي لم تقاربها الأقلام إلا مترددة مشفقة مما قد تجيء به المؤسسات الدينية والأصوليون وحراس العقيدة، لا سيما والأمثلة في ذلك مليئة بالنهايات المؤلمة، لاسيما في البلاد العربية التي مازال أدبها لم يتحرر تماما من وطأة المسكوت عنه والطابو والممنوع، بخلاف الكتابة باللغة الفرنسية التي اتخذها الكاتب ذريعة للتمرد والمعارضة والاختلاف، والتي خلصته من الخطاب الديني والإيديولوجي المحيط باللغة العربية، التي تنتصب في السياق الجزائري باعتبارها لغة القرآن في مقابل اللغة الفرنسية لغة الكولون[84].
نختتم هذه الدراسة بالإشارة إلى أن قضية اللغة الفرنسية ومكانها في سياق الوطني، وتبنيها باعتبارها (غنيمة حرب) و(ملكا شاغرا)، واستغلال موروثها الثوري والتحرري من أجل التعبير عن رفض الواقع الملتبس بالخطاب الأصولي التباسا بائسا أحال دون التخلص النهائي من بقايا المأساة الوطنية وآثارها العميقة في الذاكرة والوجدان المجتمعي، وهو الأمر الذي بدا في النص موازيا للرغبة في تصحيح التحيزات التي كشف عنها (الغريب) بل يتجاوزها أحيانا إلى الرغبة في تمثيل الواقع الجزائري بكل محمولاته التاريخية والثقافية والاجتماعية في عالم سريع التحولات وبعيدا عن الرغبة الوحيدة في إعادة كتابة (الغريب) وتمديد فضائه التخييلي في زمان غير زمانه ومكان غير مكانه.
قائمة المصادر والمراجع
المراجع العربية
الكتب:
- محمد بوعزة، سرديات ثقافية، من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، دار الأمان/الرباط، ط/01، سنة/2014.
الكتب المترجمة:
- إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط/1، سنة/1997.
3 ـ بيل أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي وأيمن حلمي وعاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، ط/1، القاهرة، سنة/2010.
المعاجم:
4. المصطلحات الأدبية الحديثة، دراسة ومعجم إنجليزي-عربي، محمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط3، 2003
5. معجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، دار محمد علي للنشر، تونس، ودور أخرى، ط1، 2010
المجلات:
6. نقد النص بين التفكيك والتأويل (قراءة في مشروع علي حرب(..مجلة التأويل وتحليل الخطاب . العدد الأول من المجلد الثاني – ماي 2021https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/760/2/1/151201
المراجع الأجنبية
7. Virginie Larousse, Kamel Daoud : « Il est difficile de s’exprimer sur l’islam quand on est coincé entre islamistes et islamophobes », 29 octobre 2018, http://www.lemondedesreligions.fr/une/kamel-daoud-il-est-difficile-de-sexprimersur-l-islam-quand-on-est-coince-entre-islamistes-et-islamophobes-29-10-2018-7562_115.php
8 Danielle Laurin, «Écrire envers et contre tous», L’Actualité, 8 décembre 2017, https://lactualite.com/culture/ecrire-envers-et-contre-tous/
9 . Alain Jean-Robert, Agence France-Presse à Paris, 22 février 2017, « L’écrivain Kamel Daoud revendique le droit à l’insoumission », Le devoir, https://www.ledevoir.com/lire/492248/kamel-daoud-revendique-le-droit-a-linsoumission
10 Marion Cocquet, « La fabuleuse aventure de “MCE” de Kamel Daoud », Le Point, 5 novembre 2014, https://www.lepoint.fr/culture/la-fabuleuse-aventure-de-meursault-contre-enquete-05-11-2014-1878982_3.php
11 Kamel Daoud : «Je revendique Camus comme un auteur Algérien», Humanité Dimanche, https://www.humanite.fr/kamel-daoud-je-revendique-camus-comme-un-auteur-algerien-556351
12 CAMUS, Albert, L’Étranger, Paris, Gallimard, coll. « Folio », 1972
13 contre-enquête, Edition Barzakh 2013.Algérie, Act sud 2014 Kamal Daoud, Meursault
14 Tahar Zouranene, « Meursault, contre-enquête de K. Daoud et L’Étranger de A. Camus : transposition/déviation in the name of Moussa », Multilinguales, 8, 2017, https://journals.openedition.org/multilinguales/493
16 Girard genette, palimpsestes, ou l’écriture au second dégrée, Seuil, paris, 1982
17 Edward Saïd, Culture et impérialisme, Paris, Fayard, Le Monde diplomatique, 2000, cité dans « L’Étranger », https://fr.wikipedia.org/wiki/L’Etranger
18 Christian Millat, « Approches théoriques de la réécriture », www.revue.analyses.org, vol. 11, no 2, printemps-été 2016, p. 32, https://doi.org/10.18192/analyses.v11i2.157.
[1] . يمكن استبدال المنظومة هنا بلفظة قريبة المعنى من مصفوفة أو قالب ( matrice-matrix)
[2] ., contre-enquête, Edition Barzakh 2013.Algérie, Act sud 2014 Kamal Daoud, Meursault
[3] . سأشتغل في هذه الدراسة على النسخة الفرنسية الأصلية للعمل لم تقع بين يدي من جهة، ومن جهة أخرى فإنني أفضل الأصل للتعرف على ظلال التعابير ومعاني الأساليب وإيقاعاتها بمفردي بغية انتقاء المقبوسات التي تخدم خط الدراسة.
[4] . ” أثارت فتوى لمسؤول تنظيم جبهة الصحوة السلفية بالجزائر (غير معتمد من طرف الحكومة) عبد الفتاح زيراوي حمداش بتكفير الروائي الجزائري كمال داود والمطالبة بإعدامه علنا ردود فعل مستنكرة وغاضبة من المثقفين، ودعا بعضهم إلى التضامن مع الكاتب حماية لحرية الرأي والإبداع.” ينظر لمزيد من التفاصيل حول هذه القضية: https://www.aljazeera.net/cultureandart/2014/12/17/ و https://arabic.cnn.com/world/2016/03/09/kamal-daoud-case-algeria
[5] . تعود بنا الذاكرة الأدبية إلى أبعد فترة تاريخية احتفظت بالمتاعب التي لحقت مسرحيي الإغريق العظام سوفوكليس ويوربيديس وأرسطوفانيس، وبمتاعب شيشرون الروماني و سينيكا وأبكتيتوس وعبدالله بن المقفع والحلاج والسهروردي وشارل بودلير ثم غوستاف فلوبير وحيدر حيدر ونجيب محفوظ في الأزمنة الحديثة وسلمان رشدي الذي فقد إحدى عينيه بعد الاعتداء عليه في أحد مسارح نيويورك في صائفة (أوت) 2022. ينظر : https://www.aljazeera.net/news/2022/10/23/
[6] . L’Etranger, Albert Camus
[7] . نقد النص بين التفكيك والتأويل (قراءة في مشروع علي حرب(..مجلة التأويل وتحليل الخطاب . العدد الأول من المجلد الثاني – ماي 2021 .. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/760/2/1/151201
[8]. يمكن الاستئناس في هذا المقام بهذه الدراسة المهمة التي تناولت هذه القضايا: Tahar Zouranene, « Meursault, contre-enquête de K. Daoud et L’Étranger de A. Camus : transposition/déviation
in the name of Moussa », Multilinguales, 8, 2017, https://journals.openedition.org/multilinguales/493
[9] . استعرنا هذا التوصيف من أدوارد سعيد Albert Camus, ou l’inconscient colonial, par Edward W. Said (Le Monde diplomatique, novembre 2000) (monde-diplomatique.fr)
[10] . صدرت سنة 1943.
[11] . صدرت سنة 1942.
[12] . Girard genette, palimpsestes, ou l’écriture au second dégrée, Seuil, paris, 1982
[13] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:131.
[14] . Edward Saïd, Culture et impérialisme, Paris, Fayard, Le Monde diplomatique, 2000, cité dans « L’Étranger », https://fr.wikipedia.org/wiki/L’Etranger
[15] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:07
[16] . نفسه، الصفحة نفسها.
[17] . نفسه، الصفحة نفسها.
[18] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص: 10.
[19] . المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[20] . المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[21] . ينظر : https://www.babelio.com/livres/Camus-Noces-Lete/253155
[22] . المصدر السابق، ص: 10.
[23] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:11
[24] . المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[25] . الجملة الأولى في رواية الغريب.
[26] . المصدر السابق، ص:07.
[27] . Christian Millat, « Approches théoriques de la réécriture », www.revue.analyses.org, vol. 11, no 2, printemps-été 2016, p. 32, https://doi.org/10.18192/analyses.v11i2.1571
[28] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:13.
[29] . المصدر نفسه، ص:52.
[30] . المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[31] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:39.
[32] . ينظر الرواية ص:38 للتعرف على تصوير معنى اللاشرف الذي سببه للناص انتشار (الغريب).
[33] . بخط داكن في الأصل.
[34] . محمد بوعزة، سرديات ثقافية، من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، دار الأمان/الرباط، ط/01، سنة/2014، ص:36/37.
[35] . إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط/1، سنة/1997، ص:165.
[36] . المرجع نفسه، ص: 58.
[37] . المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[38] . محمد بوعزة، سرديات ثقافية، من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، مرجع سابق، ص:58.
[39] . CAMUS, Albert, L’Étranger, Paris, Gallimard, coll. « Folio », 1972, p :184
[40] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:153.
[41] . , L’Étranger مصدر مذكور، ص: 178.
[42] . ” أثارت فتوى لمسؤول تنظيم جبهة الصحوة السلفية بالجزائر (غير معتمد من طرف الحكومة) عبد الفتاح زيراوي حمداش بتكفير الروائي الجزائري كمال داود والمطالبة بإعدامه علنا ردود فعل مستنكرة وغاضبة من المثقفين، ودعا بعضهم إلى التضامن مع الكاتب حماية لحرية الرأي والإبداع.” ينظر لمزيد من التفاصيل حول هذه القضية: https://www.aljazeera.net/cultureandart/2014/12/17/ و https://arabic.cnn.com/world/2016/03/09/kamal-daoud-case-algeria
[43] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:150
[44] . ينظر : المصطلحات الأدبية الحديثة، دراسة ومعجم إنجليزي-عربي، محمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط3، 2003، ص:47، ومعجم السرديات، محمد القاضي وآخرون، دار محمد علي للنشر، تونس، ودور أخرى، ط1، 2010، ص: 456 وص: 461.
[45] ., contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:47.
[46] . نفس المصدر، ص:85.
[47] . نفس المصدر، ص :62.
[48] . نفس المصدر، ص:63.
[49] ., contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:95.
[50] . , L’Étranger مصدر مذكور، ص:93.
[51] . قال:( أشعر بأنه مزيج فضيع) ص:75.
[52] . Kamel Daoud : « Je revendique Camus comme un auteur Algérien », Humanité Dimanche, https://www.humanite.fr/kamel-daoud-je-revendique-camus-comme-un-auteur-algerien-556351
[53] . نفسه، الصفحة نفسها.
[54] ., contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص: 110.
[55] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص: 100.
[56] . نفسه، ص:07.
[57] . ينظر لمزيد من التفصيل: https://www.aljazeera.net/politics/2022/7/30/
[58] . (الحركى) هم طائفة من الجزائريين الذي أجبرتهم الظروف المختلفة على الانخراط في الجيش الفرنسي إبان الثورة التحريرية، فوجدوا أنفسهم بحكم الواقع يواجهون إخوانهم من الثوار، وبعد الاستقلال قام هؤلاء الأخيرين بحملة انتقام ممنهجة ضد أولئك الذين أظهروا حماسا زائدا خاصة في محاربة الثوار، مما اضطرهم إلى الهرب مع الجيش الفرنسي المغادر، وأصبحوا يشكلون طائفة مميزة في النسيج الاجتماعي الفرنسي بحكم الواقع المزري والإهمال الذي واجهوه من قبل الفرنسيين على التراب الفرنسي، وضاروا رهانا سياسيا وانتخابيا تتجاذبه الأطراف المختلفة بكل مناسبة، كما يشكلون قوة ضغط معنوي على السلطتين في الجانبين، ومازالوا يمثلون الوجه البارز لمخلفات حرب الجزائر وجراحها التي لم تندمل بعد.
[59] . الممتلكات الشاغرة ((les biens vacants هي مختلف العقارات والمزارع والشركات والأراضي التي خلفها المعمرون الفرنسيون في الجزائر بعد مغادرة الجزائر عل عجل عشية الاستقلال، والتي عادت مليكتها إلى الدولة الجزائرية الفتية وقد أثارت كثيرا من اللغط وما تزال بسبب ما اعترى استغلالها وتوزيعها بل والاستيلاء العشوائي عليها، مما يشكل قضية مائزة في أدبيات الجزائر المستقلة التي ما زالت تثير الرأي العام أحيانا ببعض القضايا التي يرفعها المعمرون الفرنسيون في المحاكم الفرنسية والجزائرية يطالبون فيها باسترجاع ممتلكاتهم، فأصبحت من القضايا العالقة بين الدولتين لا تنفك تستار الحين بعد الحين خدمة لأجندات خاصة.
[60] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:07.
[61] . جائزة الكونكور الفرنسية العريقة وجائزة القارات الخمس للفرانكفونية.
[62] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:12.
[63] . نفسه، ص:11.
[64] . نفسه، الصفحة نفسها.
[65] . عبارة وردت في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) الشهيرة للطيب صالح.
[66] . نفس المصدر.
[67]. نفس المصدر.
[68] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور،ص:11.
[69] . إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، ط/1، سنة/1997، ص:120.
[70] . المرجع نفسه، ص:270.
[71] .المرجع السابق، الصفحة نفسها.
[72] . بيل أشكروفت وآخرون، دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي وأيمن حلمي وعاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، ط/1، القاهرة، سنة/2010، ص:121.
[73]. أطلق توصيف (الأقدام السوداء) على المعمرين الفرنسيين وذريتهم التي استوطنت الجزائر وسكنتها منذ سنة 1830، وغادرتها مجبرة قبل الاستقلال وأثناءة وبعد سنة 1962، مضافا إليها الأوروبيين عموما وذريتهم، تفريقا لهم عن الفرنسيين سكان الوطن الأم. وقد اختلفت وجهات النظر حول أصل التسمية، منها ما يرد أصلها إلى أقدام المعمرين المشتغلين بعصر العنب في سهول وهران قبل مكننة هذا القطاع، ومنهم من يردها إلى لون من الأحذية السوداء التي كان يرتديها جنود الغزاة الأول، ينظر تفصيل ذلك في الموقع الخاص بالأقدام السوداء: http://www.denisdar.com/ وموقع ويكيبيديا: https://fr.wikipedia.org/wiki/Pieds-noirs#Origines_du_term
[74] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص: 21.
[75] . Robinson Crusoé بطل الرواية الشهيرة التي تحمل نفس الاسم لكاتبها الأشهر لدانيال ديفوDaniel Defoe
[76] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص:14.
[77] . Virginie Larousse, Kamel Daoud : « Il est difficile de s’exprimer sur l’islam quand on est coincé entre islamistes et islamophobes », 29 octobre 2018, http://www.lemondedesreligions.fr/une/kamel-daoud-il-est-difficile-de-sexprimersur-l-islam-quand-on-est-coince-entre-islamistes-et-islamophobes-29-10-2018-7562_115.php
[78] . المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[79] . Danielle Laurin, « Écrire envers et contre tous », L’Actualité, 8 décembre 2017, https://lactualite.com/culture/ecrire-envers-et-contre-tous/
[80] . نفسه، الصفحة نفسها.
[81] . Alain Jean-Robert, Agence France-Presse à Paris, 22 février 2017, « L’écrivain Kamel Daoud revendique le droit à l’insoumission », Le devoir, https://www.ledevoir.com/lire/492248/kamel-daoud-revendique-le-droit-a-linsoumission
[82] . , contre-enquête Kamal Daoud, Meursault، مصدر مذكور، ص: 29.
[83] . المرجع نفسه، ص:149.
[84] . ينظر الحوار الذي أجري مع ناشره في: Marion Cocquet, « La fabuleuse aventure de “MCE” de Kamel Daoud », Le Point, 5 novembre 2014, https://www.lepoint.fr/culture/la-fabuleuse-aventure-de-meursault-contre-enquete-05-11-2014-1878982_3.php