العجائبيّ في أمكنة الفعل الدرامي بين غايات إيهام المشاهد ومسارات إدماج طفل التوحّد
Fantasy in the spaces of dramatic action: Between the goals of deluding the audience and the processes of integrating autistic children
الأستاذ المساعد زهير بن تردايت/ المعهد العالي للعلوم الإنسانية بمدنين، جامعة قابس، تونس
Zouhaier Ben Terdayet, Assistant Professor at the Higher Institute of Human Sciences of Medenine, University of Gabes – Tunisia
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية العدد 92 الصفحة 93.
ملخّص:
تسعى هذه الدراسة إلى البحث في عجائبية أمكنة الفعل الدرامي بين وظائفها التي عرّفها المسرح الإغريقي ونظّر لها أرسطو طاليس في كتابه فنّ الشعر وبين مساراتها الإدماجيّة مع ظهور اضطراب التوحّد; حيث نحاول الرّبط بين تجربة تطبيقيّة أنجزناها ومباحث نظرية اطّلعنا على كنهها ومحتواها .ونستخلص منها غايات توظيف المكان بين التطهير والإيهام إذ تصنع الفرجة المسرحية لفائدة المشاهد وصنّاعها على حدّ السّواء. وحين يكون أبطالها حاملين طيف التوحد تحقق لهم ما لا تحققه للمشاهدين .
الكلمات المفتاحيّة :العجائبي-الفعل الدرامي-الإيهام- الإدماج- التوحّد- التطهير.
Abstract:
This article aims to study fantasy in the spaces of dramatic action whose functions are defined by the Greek theatre and theorized by Aristotle Thales in his book The Art of Poetry on one hand and employed within the processes of integrating autistic children on the other hand. Within this respect, a link is meant to be established between an applied experiment that we completed and theoretical investigations that we learned about its essence and content. We derived conclusions from the purposes of employing the space between purification and delusion. In fact, the theatrical spectacle is created for the benefit of the spectator and the playwright alike, but when the heroes are on the autism spectrum, the play achieves for them what it does not achieve for normal audience
Keywords: Fantasy – dramatic action – illusion – integration – autism – Purification.
مقدّمة :
كان الفنّ المسرحيّ عند انطلاقته مع كتّاب الدراما الإغريقية يستلهم منجزاته من الإلياذة والأوديسا للشاعر هومروس ; ملحمة تجنّح في عالم الأساطير العجيبة وتنغرس في وقائع تاريخيّة في الآن ذاته. الحرب لها جنود على الميدان وفي نفس الوقت لها عوالم خارقة تتجاوز العقل والبرهان. يقول تودوروف (Tzvetan Todorov):”إنّ العجيب يلقي بنا في عالم ذي قوانين مختلفة تماما عن قوانين عالمنا،”[1]..فالمعارك يخوضها بالإضافة إلى الجند قادة من أنصاف الآلهة ; أخيل مثلا لا يمكن أن يقتل إلاّ إذا ما ضرب بسهم في قدم رجله. أمّا الآلهة نفسها فكانت تتصارع فيما بينها ; بعضها يناصر طروادة ويرى أنّها مظلومة والبعض الآخر يناصر الإغريق ويرى أنّ المعركة هي استرداد لشرف استباحه باريس بن فريام أمير طروادة حين فرّ بهيلين زوجة مينلاوس . إذن منذ البدء كان العجب يتملّكنا ونحن نستمع إلى هذه الأساطير ونتخيّل هذه الشخصيّات.
يعرّف روجيه كايوا(Roger Caillois) ، مفهوم العجائبي ب”ـأنّه اقتحام الممنوع الذي لا يمكن أن يحدث، و لكنّه رغم ذلك يحدث في نقطة و في لحظة دقيقة، و في عالم متجدّد بامتياز، عالم مادي فوق الواقع .”[2]
هذا المفهوم هو ما انبنت عليه الدراما بأشكالها المختلفة ; ألم يقل أرسطو طاليس في كتاب فن الشعر :” إن عمل الشّاعر ليس رواية ما وقع بل ما يجوز وقوعه.”[3] وأكّد أنّ: ” عنصر الرّوعة ينبغي إدخاله في التراجيديا…ومخالفة العقل هي أكبر ما يعتمد عليه عنصر الروعة.”[4]
- عجائبية أمكنة الفعل الدرامي ودورها في خلق الإيهام .
لعبت أمكنة الأحداث في الإلياذة والأوديسا دورا محوريا ; ففي الإلياذة مثلا دارت أحداث في السّماء ودارت أحداث في البحر وأخرى على اليابسة. بل أنّ بعضها دار داخل حصان خشبيّ – عجيب وغريب – غيّر مجرى الأحداث كلّها، حصان طروادة الذي أبدع “أوليس ” فكرته ليوحي للأعداء بأنّه هدية من الآلهة وبشرى انتصار ولمّا أدخلوه إلى المدينة خرج منه المقاتلون القادة وفتحوا أبواب الأسوار ليدخل جيش الإغريق ويدكّ طروادة.
أمّا في الأوديسا فإنّ أغلب الأحداث دارت في البحر أو في جزر عجيبة أحاط بها البحر من كل جانب ;فهذه جزيرة العمالقة آكلي البشر، وتلك جزيرة اللوتوس التي من يأكل من ثمارها ينسى طريق عودته وكل شيء عن حياته الماضية، فسحرها يذيب العقول. وتلك جبال رؤوسها أفاعي ولا عجب، فالأسطورة عالم من الخيال يأخذ من الواقع شذرات.
بما أن الفنّ المسرحيّ يقوم على المحاكاة فقد دأب على خلق أحداث وهمية أو أحداث لها صلة بالواقع ;تدور في فضاءات زمانية ومكانية خاصة بها لا تنتمي غالبا لفضاءات المشاهد. ولتعميق هذا العزل – إن صحّ القول- حدّد في البدء فضاء للّعب المسرحيّ سميّ ركحا وفضاء للجماهير التي تشاهد; والهدف من ذلك تعميق الإيهام ;حيث يتّفق المشاهدون مع الفاعلين أنّ الأحداث تدور في الزمان الذي أنبأ به المخرج وكذلك المكان من خلال ما تصوّره المناظر أو الكلمات.
إنّ ما سميّ بالجدار الرابع وهو جدار وهمي يفصل بين الركح والجمهور خدم غايات الإيهام من خلال ممارسة عجيبة ساحرة، فأنت ترى الممثّل أمامك ومن خلال تقمّصه للشّخصيّة وما أحاط به من ديكور ومؤثرات – رسمت فضاءات وهمية للأحداث- تقتنع أنّه الشّخصية التي يؤدي ، فتبكي لحزنها وتضحك لسعادتها; فأنت المسحور بألعابه وخدعه المفتون بصور المخرج وعبارات الكاتب وأداء الممثل تهت بخيالك ووجدانك .فقد تعاقدت مع المبدع واتفقت معه على أن تصدّق قوله وفعله ; فإن قال : أنا محتجز في هذا الكهف، صدّقت قوله حتى ولو كان العرض لا يعتمد ديكورا يوحي بوجود الكهف فالصورة يتخيلها المشاهد مباشرة إثر ما ينطق أو يفعل الممثل.
إنّ المكان المسرحي عموما هو تصوير لفضاء الأحداث يعمّق الإيهام ويبعث على العجب المخالف للمعتاد.
- أمكنة الفعل الدرامي ومسارات تطوير قدرات طفل التوحّد
نشأ العلاج النفسي بالدراما مع مورينو (Jacob Levy Moreno-1911) . وظهرت استخدامات جديدة لهذا الفن تغيّرت فيها الوظائف، فلم نعد في حاجة إلى جمهور نوهمه بالأفعال ونفصله عن عوالم الأحداث، بل جعلنا من المريض ممثّلا يقدّم لأجل ذاته ومع الآخرين أدوارا من حياته، ففي سنة 1912 حضر جاكوب ليفي مورينو دروس سيغموند فرويد (1900Freud Sigmund)حول الأحلام) (Télépathique وحين سأله فرويد عن دراساته أجابه” أبدأ من حيث تنتهي. تضع الناس في وضعيات مصطنعة في مكتبك أما أنا ألتقيهم في الشارع وفي بيوتهم وفي أوساطهم. أنتم تحللون أحلامهم وأنا أعطيهم الشجاعة كي يحلموا من جديد. أدرّب الناس كيف يلعبون دور الإله”[5] أي صاحب القدرة والفعل .، فيستدعي فضاءات واقعه أو ماضيه كي يكمل بناء أركان قصته . مما يساعده على الاندماج فيها واسترجاع أفعاله وسلوكياته حتّى يتخلّص منها، فدور المكان تحقيق مزيد من الانغماس داخل الذات التي تؤدي الدّور وليس الانفصال عن جمهور يراد أن تخيّل إليه الأحداث.
تقول شيتزنبارق (Schutzenberger Anne): ” في البسيكو دراما يتمثّل الأمر في أن تحيا في إطار مجموعة وضعيّة مضت أو هي جارية الآن، أو يمكن أن تكون مستقبليّة، ليس بواسطة الحكي وإنّما بواسطة الفعل المرتجل . “[6]
تطوّر علم النفس وتجلّت معه خفايا اضطرابات لم تكن معهودة كاضطراب التوحّد الذي اكتشفه الطبيب النمساوي ليو كانر( Leo Kanner’s ) في سنة 1943 وعرّفه بصعوبات التّواصل ورغبة الطفل في الانزواء و”عدم قدرته على إقامة علاقة طبيعيّة مع الناس وشذوذ اللغة .وامتلاك الطفل لطاقة قائمة على التذكّر والتكرار ولعب نمطي مكرّر ورغبة في ذات الأشياء الموجودة في البيئة.” [7]
فهل تمكّن الفعل المسرحي مرّة أخرى من لعب أدوار غير تلك التي عهدناها في المسارح ؟هل أمكن للفعل المسرحي وأمكنته تطوير قدرات هذا المضطرب؟ فالمصاب باضطراب التوحّد يعاني من صعوبات جمّة تتجلى في عدم إدراكه مثلا بالجسد ووعيه به كما لا يستوعب الفضاء بشكل سريع ويصعب عليه فهم الاتّجاهات; أعلى ، أسفل، يمين، يسار وقبول الأمكنة الجديدة، لاحظ فونتان Fontaine -1991) (أنّ” الأطفال الذين يعانون من تأخر في التعلّم يتّصفون بتأخّر في تكوين العمليات الذهنية لهذا التعلم ومن بين القدرات الذهنية التمكن من بنيات تنظيم” فعملية التنظيم هذه يمكن أن تكون حسب الفضاء أو المكان وحسب الزمان.”[8]
التوحّد حسب هوشمان) 1956 (Jacques Hochmann هو الطريق الثالث، عالم يخلقه الطفل للدّفاع عن نفسه ضد عالم مؤلم يعيشه ولا يستطيع مساعدته على التعبير عن أوجاعه.” [9]
وهؤلاء الأطفال أقلّ ميلا للاحتضان. يظهرون عجزا عن التفاعل الاجتماعي وحساسيّة للضجيج ويركّزون على أهداف ذات طابع أنانيّ يتمركز حول الذات .
في “سنة 1989 افترض داوسون وليوي ( Dawson and Lewey) وجود عطب في النّظام الشّبكي /الطرفيّ/ القشريّ/الدماغيّ وهو مركز الانتباه لما هو جديد وللمثيرات المفاجئة ، لدعم وجهة النظر لاحظ أن أطفال الانطواء يظهرون استجابات فيزيولوجية شاذّة للمثيرات الجديدة – الغريبة- وهم أبطأ في التعوّد عليها . وقد شكّلت هذه النتائج الأساس للعلاج الموجّه نحو الطفل حيث يستخدم التّقليد لزيادة المهارات الاجتماعية والعقلية مثل اللّعب بالدّمى ، تبادل الأدوار، الانتباه المشترك واللّعب الرّمزي.” [10]
من الأهداف العلاجيّة التي حدّدها المختصّون “تعويد الطّفل على التّقليد والتّجاوب الاجتماعيّ- اللّعب الوظيفيّ والرّمزي-التّفاوض للحصول على المكان والنّشاط.”[11]
لقد بيّنت منظّمة الصّحة العالميّة أنّ ” اﻹﻋﺎﻗﺔ ﺗﺤﺪث ﺑﺴﺒﺐ اﻟﺘّﻔﺎﻋﻞ ﺑﻴﻦ اﻷﺷﺨﺎص اﻟﻤﺼﺎﺑﻴﻦ ﺑﻌﺎﻫﺔ واﻟﺤﻮاﺟﺰ ﻓﻲ اﻟﻤﻮاﻗﻒ واﻟﺒﻴﺌﺎت اﻟﻤﺤﻴﻄة اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮل دون ﻣﺸﺎرﻛﺘﻬﻢ ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻓﻌّﺎﻟﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﻢ، ﻋﻠﻰ ﻗﺪم المساواة مع الآخرين. “[12]
بصفة عامة كل فرد له إعاقات تحول بينه وبين القيام ببعض المهمّات. والطفل المصاب باضطراب التوحّد يعاني من مشكلات تمثّل جسده داخل المكان. لذا فإنّ من أولى مهام المربّي أن يطوّر قدراته في هذا المجال ليفهم الاتّجاهات والأفعال المناسبة لكلّ فضاء. فاعتماد أساليب التّدريس المباشرة قد تكون مفيدة لكنّ استخدام اللّعب الدراميّ يمكن أن يكون أكثر فاعليّة. إنّ أنشطة الألعاب الدراميّة ترتكز على مبدأ الحركة والصوت وتتمثل في ألعاب ارتجالية قد تنطلق من مثيرات كعروسة أو دمية أو لعبة أو موضوع ما …حيث يسعى المنشّط إلى تحريض اللاّعب على التفاعل ومن ثمّة يلاحظ ردود أفعاله والعوائق التي تعترضه فيحاول عن طريق الألعاب مساعدته على تطوير قدراته.
لذا فإنّ استخدام الألعاب الدرامية لمساعدة المصاب باضطراب التوحّد تجعل مهمّتنا الأولى في هذا الإطار أن نسهّل تفاعله مع الحواجز والبيئات المحيطة كما ورد في اتفاقية منظّمة الصحّة السابق ذكرها.
انطلاقا من هذه المعطيات أنجزنا في سنة 2016 تجربة إدماجية مع ستة أطفال يعانون من اضطراب التوحّد .وبعد الملاحظة أنجزنا ألعابا تطوّر قدراتهم وتشدّ انتباههم . ثم انطلقنا في خلق فضاءات عجيبة لا يجدون بدّا من الانتباه إليها وهم الذين لا يرغبون في التغيير. استخدمنا الإضاءة السّوداء فظهرت الغابة العجيبة تسحر العيون بألوان أشجارها الخضراء وثمارها الصفراء .إنّها مرحلة هامة جعلت أطفالنا يندمجون مع العمل ويطمحون للمشاركة فيه ودخول عوالمه.
يعاني الطفل المصاب باضطراب التوحّد من مشاكل في المجال النفسيّ الحركيّ الذي يضمّ صورة جسده والأجسام التي يحيط بها وهو ما يعبّر عنه بالحسّ الدهليزي[13] ، المسؤول عن الإحساس بالجاذبيّة والتّوازن والّتناسق الحركيّ عند الوثب أو القفز من مكان مرتفع أو العزف أو ركوب الدراجة أو الحصان …فيشمل حركة المفاصل والعضلات وتوجّه الجسد في الفراغ…
حين نعمل على ترغيب الأطفال ليدخلوا أمكنة أحداث مسرحيّتهم ليصبحوا أبطالا فيها نمكنّهم من دربة للتعوّد على قبول عوالم أخرى تماما كما نطوّر قدراتهم الحسيّة الحركيّة.
حين تنتقل التربية الحسيّة الحركيّة إلى فعل منتج داخل فضاءات متنوّعة لها أن تعبر بالطّفل من مخاوفه واضطراباته إلى تكيّف مع ما يحيط به ” فجوثري (Guthrie-1886-1959) ميّز بين الحركة والفعل وقال إنّ الحركة نمط من الاستجابات الغديّة ، أمّا الفعل فهو سلسلة حركات تؤدّي إلى نتيجة، بمعنى أنّ الحركة آليّة، ولكنّ الفعل أكبر من ذلك.”[14]
لنأخذ مثلا على ذلك: بعض الأطفال الذين يعانون من اضطراب التوحّد يتابعون حركة الدوائر سواء كان ذلك بصريّا بمتابعتها على شاشة التّلفزة أو حركيّا بالدوران معها إذا ما كانت أطواقا بلاستيكيّة نحرّكها لتدور على الأرض. إنّه يحدّد مسافة ما من هذه الأطواق وينطلق بشكل تلقائي بالدّوران معها إنّه يخلق إطارا مكانيّا وفضاء لعبيّا. لنفترض أنّنا وضعنا تلك الدوائر على يدي وحش مخيف وجعلنا الوحش يدور سيتبع عندها الطفل الدوائر غير آبه بالوحش. ثمّ باعتماد قاعدة التدرّج نزيل الأطواق ونترك الوحش يقوم بنفس الحركات فسترى أنّ الطفل سيتعوّد على مطاردة الوحش ومواجهته، إذا ما جعلنا الوحش يضيف بعض الأفعال كأن يضرب بلطف الطّفل أو يحاول لمسه وهو يدور سيدفع الأمر بالطفل لردّ الفعل .عندها نجعل وحشنا يظهر انهزامه أمام قوة الطّفل رغم أنّ ردّ فعل الطّفل كان بسيطا سنحقّق بذلك تغيّرا في الوضع النفسيّ للطّفل، سيشعر بأنّه قادر على ردّ الفعل ومواجهة الخوف والانتصار على المجهول. كلّ ذلك تحقّق بفضل مكان اللّعب الذي أصبحت له وظيفة إدماجيّة فهو عتبة ينتقل عبرها الطّفل من وضع إلى وضع ومن سلبيّة وانكفاء إلى فعل واقتدار.
وإذا ما استعنّا بالإضاءة المسرحيّة لنصنع دوائر ضوئيّة تحدّد أمكنة ما كمكان المواجهة بين الطّفل والوحش. نلاحظ أنّ الطّفل لمّا نضعه بداخلها لا يغادرها ربّما خوفا من ظلمة تحيط بها رغم أنّ داخل الضوء وحش لكنّه معلوم وسبق للطّفل أن هزمه. ولكن أيضا رغبة منه في عدم مغادرة فضاء اللّعب وفقا لقاعدة “هنا نلعب و لا لعب خارج هذا الفضاء . “[15] إنّ دائرة الضّوء حدّدت مركزا ينطلق منه الطّفل ليواجه العالم .يقول مارسيا إلياد” إنّ تعيين نقطة ثابتة أي مركز لهو فعل يضارع خلق العالم.”[16]
يخشى هؤلاء الأطفال الأضواء السّاطعة وينفرون من الأصوات الصّاخبة لأنها تؤثّر في الدّماغ وتحدث اضطرابات في التّوصيلات العصبيّة ولكن باستخدامها المتدرّج لخلق العالم العجائبي والفضاءات السّاحرة التي تمكّنه من اللّعب والصّراخ وإعلان وجوده وهو في وضع آمن منفصل عن الجمهور أمكن لنا ذلك.
لقد أصبح المكان ملهما روحيّا وفضاء تطهيريّا يساعد الطّفل على تفريغ طاقته و تحقيق متعته. إنّها أمكنة للفعل المسرحيّ احتوت عناصر التّحدّي كالوحش والدّوائر المطلوب القفز فيها والطاولة التي عليه الوقوف فوقها ورفع يديه والحوافز التي يحصل عليها إذا ما تمكّن من انجاز المطلوب داخل الفضاء المحدّد كحصوله على تاج يرتديه أو ثمرة يقطفها أو صعود فوق ظهر الوحش وكلّها مكافآت لعبيّة لها فضاءات خاصة بها.
في سنة 2020 أنجزنا تجربة إدماج طفلين يحملان اضطراب التوحد مع خمسة آخرين لهم إعاقات عضوية أو ذهنية وستة أطفال لا يحملون إعاقات كان عملنا بحثيا في إطار مختبر مسرحي يشارك فيه بالإضافة إلى الفنانين مختصّون نفسيون وآخرون اجتماعيون وعدد من المربين المختصين. عملا مسرحيا استخرجنا نصّه من هواجس الأطفال وأحلامهم التي توصلنا إليها من خلال العاب درامية أظهرت ما يكمن في بواطنهم فليون شانسرال في أوّل كتاب وضعه حول الألعاب الدراميّة Chancerel -1936) (عرّف هذه التقنية بأنّها :” ألعاب تعطي للأطفال وسيلة لإظهار مشاعرهم الباطنيّة وملاحظاتهم الشخصيّة وذلك بواسطة الحركة والصوت . وهدفها تطوير رغباتهم وقدراتهم التعبيريّة وتوجيهها. وتتمثّل في أنشطة متنوّعة انطلاقا من اللّعب البسيط الذي يمارسه الطفل بتقليد شخصيّة أو حيوان أو مهنة وصولا إلى اللّعب الجماعيّ المتضمّن لرغبات وأفكار كلّ فرد .” [17] وباعتبار الألعاب متنوعة تستخدم الجسد والصوت والرسم ومسرح الأشياء فقد جلب انتباهنا كثرة المخاوف لدى بعضهم وهي مخاوف مرتبطة بزمن الظهيرة والليل أي فترات النوم حيث دأب الآباء على الاستعانة بقصص الغول وغيرها من الشخصيات التي تخيف الأطفال فيركنون إلى النوم واقتداء بمنهج وينكوت( Winnicott- 1994 ) الذي عارض فكرة تجنّب مرحلة الشباب وما تفرزه من نشاط مفرط فقال: “مرحلة الشباب ترفض النوم أو حتّى الغيبوبة فعلى المجتمع أن يدعم يقظتها ويحتويها.”[18] دفعنا بأطفال لمقاومة مخاوفهم بأن قسمنا فضاء اللعب إلى فضاءين فضاء الخوف واليأس وقد حددناه بغرف يختبئ فيها الأطفال وفضاء المقاومة والأمل حددناه بمدارج متحركة يربطها الأطفال ببعضها لتصبح جسر تحقيق الأماني وإبراز المواهب .ولكننا لاحظنا خوف الطفلين الحاملين لاضطراب التوحد من الصعود على المدارج والأماكن المرتفعة فانطلقنا في البحث عن ما يكتنز في باطنهما من مواهب ووجدنا أن الفتاة تمتلك موهبة رائعة في الغناء قمنا باستثارتها فكانت أحيانا لا تتجاوب ففكرنا في تغيير فضاء اللعب حتى ندفعها للتجاوب لذا صنعنا مدارج تؤدي إلى جسر وقمنا بتلوينها على شكل قوس قزح وانطلقنا في لعب جماعي يشارك فيها الجميع بالصعود لعبور الجسر وحين تصعد فتاتنا نخصّص لها إضاءة وندفعها للغناء في أعلى المدارج . بعد أيام من التمارين لم تعد تجد أيّة صعوبة في الصعود بل أصبحت تتفاعل مع المؤثرات التي نحدثها لصناعة المشهد كالثلج مثلا دون أن تنقطع عن الغناء§، إن الفضاء المكاني فضاء آمن بالنسبة لطفل التوحّد فهو محدّد وله إضاءته وألوانه ولا يمكن للآخرين أن يعبروا إليه إلاّ عبر عقولهم ووجدانهم.
خلاصة :
يلعب مكان الفعل الدرامي دورا هاما في تحديد خصوصيّة المشهد لدى المتفرّج وفي الآن ذاته لدى اللاّعب فيخلق الصّورة في وجدان الطّفل المصاب باضطراب التوحّد ليعي خصوصيتها ويتعوّد على الاختلاف بينها وبين الأمكنة الأخرى، إنّ ما يعيه الإنسان ليس إلاّ نسبة صغيرة مقارنة بما يحمله اللاّوعي ومن الحيف أن نركّز على النّسبة الضئيلة ونترك فرصة كبيرة للعمل على تطوير قدرات طفل التوحّد عبر مساحة اللّاوعي ونؤثثها بأمكنة متنوعة الإضاءات والموسيقى والمتمّمات الركحيّة حتى يتمكّن من الوعي بكل واحدة منها وما تختلف فيه عن الأخرى.
إنّ عالم الإنسان عجيب وغريب تسعى العلوم الصحيحة لتسهيل مهمّاته وفهم خصائصه الجسديّة وتسعى العلوم الإنسانيّة إلى فهم أغواره وكشف أسرار روحه وأفكاره، ولعلّ العجيب يكتنز الجمال والتشويق. إنّ المصاب باضطراب التوحّد مختلف يبعث فينا الرّغبة في اكتشاف عالمه والفعل الدراميّ يسمح لنا باختراق هذا العالم وتمكين الطّفل من دخول عالمنا. لكلّ عالم مكانه حيث تظهر عثرات هذا المختلف في عدم وعيه بالأمكنة وخصوصيّاتها فنمتطي صهوة الفعل الدرامي ونجرّب مع المصاب باضطراب التوحّد الأمكنة مسرحيّا لنعبر به إلى أمكنة الواقع.
قائمة المصادر والمراجع :
- إلياد مرسيا ، المقدس والدنيوي ، ترجمة عبد الهادي عباس المحامي ، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1988.
- الحفني عبد المنعم ، موسوعة مدارس علم النفس ، مكتبة مدبولي، مصر، بدون تاريخ.
- الخفش سهام ، الأطفال التوحديون : دليل ارشاد للوالدين والمعلمين ، دار يافا العالمية ، 2007.
- شقرون غازي، أنشطة لإعداد الطفل لتعلّم القراءة والكتابة والرياضيات، دليل المربي، نشر دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس، بدون تاريخ، .
- طاليس أرسطو ، كتاب فن الشعر ،، فن الشعر ، ترجمة وتحقيق بدوي (عبد الرحمان) ، مكتبة النهضة المصريّة ، القاهرة مصر،1953..
- ليمان روبارت وهيمبري كيجن طوني، تدخلات الصحة النفسية لأطفال ما قبل المدرسة ، ترجمة الريحاني سليمان ونزيه حمدي و نزيهة داود – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر بدمشق 1998.
- اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبروتوكول الاختياري ، منظمة الصحة العالمية 2001.
Chancerel Léon et Joly- Charbonnier (Hélène) et Hussenot- Saussoy (Anne-Marie) , Jeux dramatiques dans L’éducation- Librairie théàtrale, Rue Marivaux Paris Imprimerie Launay. Écrit En 1936.
Denis Labbé et Gibert Millet, Le fantastique, Ellipse édition, Paris, 2000.
Jean Claude Landier – Barret Gisèle, Expression dramatique – Théâtre-, université de Montréal -1976
Robert Samache – Psychologie clinique et psychopathologie- Editions Bréal Amazon France – cedex – France2005 .
Ryngaert( J P), Le Jeu dramatique en milieu scolaire– Paris. Cedic 1977.
Maurice –David Matisson Le psychodrame Edition universitaires –Paris 1973
Todorov, Introduction à la Littérature Fantastique, Éditions du Seuil, Paris, (Coll ; Points), 1972
Winnicott D.W, Déprivation et délinquance .Edition Payot et Rivages – France 1994 P186
[1] -Todorov, Introduction à la Littérature Fantastique, Éditions du Seuil, Paris, (Coll ; Points), 1972, P172.
[2] Denis Labbé et Gibert Millet, Le fantastique, Ellipse édition, Paris, 2000, p 6
[3] – أرسطو طاليس، كتاب فن الشعر ، فن الشعر ، ترجمة وتحقيق بدوي (عبد الرحمان) ، مكتبة النهضة المصريّة ، القاهرة مصر،1953.، ص 64.
[4] – المصدر نفسه ، ص 68.
[5] Maurice –David Matisson Le psychodrame Edition universitaires –Paris 1973 p22.
[6] – Ryngaert( J P), Le Jeu dramatique en milieu scolaire – Paris. Cedic 1977.- P 21.
[7] – ليمان روبارت وهيمبري كيجن طوني، تدخلات الصحة النفسية لأطفال ما قبل المدرسة ، ترجمة الريحاني سليمان ونزيه حمدي و نزيهة داود – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر بدمشق 1998، ص 208
[8] – غازي شقرون، أنشطة لإعداد الطفل لتعلّم القراءة والكتابة والرياضيات، دليل المربي، نشر دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس، بدون تاريخ، ص 09.
[9]– Robert Samache – Psychologie clinique et psychopathologie- Editions Bréal Amazon France – cedex – France2005 p309
[10] – ليمان روبارت وهيمبري كيجن طوني، تدخلات الصحة النفسية لأطفال ما قبل المدرسة ،مصدر سابق ، ص213
[11] – المصدر نفسه ، ص218.
[12] – اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والبروتوكول الاختياري ، منظمة الصحة العالمية 2001.
[13] – سهام الخفش ، الأطفال التوحديون : دليل إرشاد للوالدين والمعلمين ، دار يافا العالمية ، 2007، ص 117.
[14] – عبد المنعم الحفني ، موسوعة مدارس علم النفس ، مكتبة مدبولي، مصر، دون تاريخ، ص486.
[15] – Jean Claude Landier – Barret Gisèle , Expression dramatique – Théâtre-, université de Montréal -1976 – , .P 180.
[16] – مرسيا إلياد ، المقدس والدنيوي ، ترجمة عبد الهادي عباس المحامي ، دار دمشق للطباعة والنشر و التوزيع، الطبعة الأولى، 1988، ص 26.
[17] – Chancerel Léon et Joly- Charbonnier (Hélène) et Hussenot- Saussoy ( Anne-Marie) , Jeux dramatiques dans L’éducation – Librairie théàtrale , Rue Marivaux Paris. Écrit En 1936 –Imprimerie Launay – P05et P06.
[18] – Winnicott D.W , Déprivation et délinquance .Edition Payot et Rivages – France 1994 P186