الإدارة الأهلية ودورها في ممارسة السلطة في دارفور: مدينة كتم أنموذجا
The Native Administration and its Role in Exercising Power in Darfur:Kutum area as a Model
أ.د. أبكر عبد البنات آدم إبراهيم/جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم، السودان
Abaker Abdelbanat Adam Ibrahim/University of Holy Quraan and Sciences of Taseel, Sudan
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 87 الصفحة 101.
ملخّص:
تناولت هذه الدراسة الإدارة الأهلية ودورها في ممارسة السلطة في دارفور “مدينة كتم أنموذجاً”، لما للمدينة من أهمية استراتيجية وتاريخية طويلة منذ قرون خلت، وقد هدفت الدراسة إلى معرفة هيئة أو شكل الإدارة الأهلية التي حافظت على النسيج الاجتماعي والثقافي طوال تاريخ المنطقة، والإلمام بالنظم والضوابط التي تنظم ممارسة السلطة، كما أشارت الدراسة إلى أهمية مدينة كتم باعتبارها من أكثر المناطق التي اشتهرت بوجود نظام إداري دقيق ومنظم منذ الاستعمار إلى الاستقلال، استخدم الباحث المنهج الوصفي والتحليلي لقراءة واقع الإدارة الأهلية في كتم طوال فترة سلطنة دارفور حتى فترة الحكومات الوطنية.
الكلمات المفتاحية: الإدارة الأهلية، السلطة، دارفور، الحكومات الوطنية.Abstract:
This study dealt with the indigenous administration and its role in exercising power in Darfur, “Kuttum City as a Model”, because of the city’s strategic and historical importance for centuries ago. The study aimed to know the body or form of the native administration that preserved the social and cultural fabric throughout the history of the region, and familiarity with the systems and controls that regulate the exercise of power. The researcher used the descriptive and analytical approach to read the reality of the native administration in Kuttum throughout the period of the Darfur Sultanate until the period of national governments.
Keywords: civil administration – authority – Darfur – national governments.
مقدمة:خلق الله الإنسان ومهد لهم سبل الحياة، وجعل التقوي معياراً للتفاضل بينهم، ومد لهم الأرض ودحاها، وأمرهم بالمشي في مناكبها والسعي الكادح للإقامة فيها وإصلاحها ثم الرجوع إليه تارة أخري للحساب والعقاب، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[1]، فمن خلال تلك الرحلة الطويلة والشاقة يستطيع كل إنسان أن يتعامل مع متعة الدنيا وغرورها قبل أن يلاقي ربه طلباً للفوز بسعادة الدارين، وهنا يتنافس الجميع كل يريد لنفسه موقعا آمناً ومطمئناً، امتثالاً لقوله تعالى:{خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}[2]، غير أن هذا المصير يحتاج إلى تنظيم وترتيب دقيق يسهل علي الناس إدارة شؤونهم الخاصة والعامة دون تفرق أو عصبية أو جهوية، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[3]، فالله سبحانه وتعالى جعل الناس شعوباً وقبائلاً للتعارف وليس للتباغض والتناحر، وقد قيض التعارف بالتقوى الذي هو مفتاح الجنة.
فالإدارة الأهلية بمفهومها العام هي نمط من أنماط الحكم التقليدي التي اشتهرت بها الدولة السودانية عامة ودارفور على وجه الخصوص، لأن الإنسان هو الكائن الاجتماعي الوحيد الذي يلجأ إلى تنظيم حياته في شكل كيانات صغيرة ابتداءً من الأسرة إلى الكيان العشائري أو القبلي الذي يشمل كل فرد من أفراد القبيلة أو رقم من القبائل بينهما علاقات تعايش ومصالح مشتركة، أو بناء تحالفت تساعد على حماية الممتلكات ومنعاً للعصبية والجهوية، ومن هذا المنطلق تطور شكل الإدارة الأهلية ليأخذ شكل الدولة الحديثة بمؤسساتها وقوانينها ومظاهر قوتها، كآخر مستوى من التطور الذي يمكن أن يصل إليه الفكر الإنساني فى تطوير أساليب الحكم والإدارة.
لذلك يجب علينا أن نستلهم قراءة التاريخ بآليات من العطاء العلمي والمعرفي، ونأخذ اعتبار الماضي والحاضر لبناء المستقبل، ولا يمكن تحقيق تلك الغايات إلا بوضع استراتيجية سليمة خالية من الجهوية والقبلية، وبالتالي نستطيع أن نستنهض الهمم التي تتناسب وعصرنا الحاضر ومآلاته المستقبلية، وحتى نتمكن من إدارة نفوسنا إدارة تجعلنا أكثر فاعلية مع ذاتنا ومع الآخرين في المحيط المحلي والإقليمي والدولي، علينا تفعيل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية والثقافية، هذا بالإضافة إلى كل ما يتعلق بالقيم الدينية والإنسانية من أجل وطن ينعم الجميع فيه بالأمن والاستقرار، كتم كغيرها من مدن السودان تضم في طياتها رقم من الهياكل الإدارة الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني والروابط، والجمعيات الخيرية، ومجالس للهياكل الإدارية، ومجالس الشوري ذات الثقل الشعبي، والتي ما فتأت تعمل لإيجاد مجتمع يسع الجميع رغم التحديات الفكرية والثقافية الماثلة.
أهداف الدراسة: تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء حول معرفة دور الإدارة الأهلية في المحافظة على الأمن والاستقرار في مدينة كتم، ومحاولة الكشف عن الجهود التي بذلتها السلطة المركزية والإدارات الأهلية في نشر ثقافة الحكم التقليدي.
أهمية الدراسة: تكمن أهمية الدراسة في الآتي:
- الكشف عن العلاقة بين ممارسة السلطة المركزية والإدارة الأهلية في محلية كتم.
- الوقوف على مهام الإدارات الأهلية في المحافظة على الأمن الداخلي.
- التأكيد بأن للإدارة الأهلية دور متعاظم في حل المشكلات التي تؤرق إنسان منطقة كتم.
مشكلة الدراسة: تنطلق مشكلة الدراسة في الإجابة عن التساؤلات الآتية:
- هل هناك علاقة بين الإدارات الأهلية في منطقة كتم، وما هي سلطاتها؟
- إلى أي مدى تمارس الإدارات الأهلية سلطاتها حل المشكلات التي تواجه المواطن في كتم؟.
- هل للصراعات القبلية الداخلية علاقة وطيدة بالإدارات الأهلية؟
- ما علاقة حفظ الأمن أو تدهوره بغياب سلطة الإدارات الأهلية؟
منهجية الدراسة: استخدم الباحث المنهج الوصفي والتاريخي للكشف عن دور الإدارات الأهلية في الحفاظ على الأمن في شمال دارفور عامة، ومنطقة كتم على وجه الخصوص.
المبحث الأول: جيموغرافية شمال دارفور
تعتبر ولاية شمال دارفور من إحدى ولايات دارفور العريقة، والتي تقع في الجزء الغربيّ من البلاد وعاصمتها الفاشر، وتنحصر بين خطى الطول 24ــ و26 شرقا وخطي العرض 12 و20 شمالاً، وتحدّها من الشمال الولاية الشمالية ومن الشمال الشرقي ولاية شمال كردفان، ومن الشمال الغربي دولة ليبيا، ومن الشرق ولاية غرب كردفان، ومن الغرب تحدها كل من ولاية غرب دارفور ودولة تشاد، أمّا من الجنوب الشرقي تحدها ولاية جنوب دارفور[4].
تتميز ولاية شمال دارفور بالمناخ الجاف وشبه الجاف، حيث يسودها المناخ الصحراوي في الشمال وشبه الصحراوي في الوسط، والسافنا الفقيرة في الأجزاء الجنوبية، والسافنا الغنية في الأجزاء الجنوبية الغربية، كما يسودها مناخ البحر الأبيض المتوسط في الأجزاء الجنوبية الغربية المتاخمة لسلسلة جبل مرة.
يبدأ موسم الأمطار بالولاية في يوليو ويستمر إلى شهر سبتمبر كغيرها من باقي أقاليم دارفور، على الرغم من أن نسبة هطول الأمطار تكون متذبذبة من عام لآخر وتبلغ معدلاتها السنوية ما بين 75 إلى 600ملم[5]، تتنوع تربة شمال دارفور بين الرملية والطينية الخصبة، وتصنف الرملية بنسبة 66% والجبلية بنسبة 10% فيما تبلغ نسبة الأرضي الطينية بنسبة 5%، وتتألف التركيبة الجيولوجية للولاية من الصخور المعروفة بصخور النايس والكوارزايت والتست، وهي عبارة عن صخور رسوبية تغطي مساحات شاسعة من الأراضي خاصة في الأجزاء الشمالية المطلة على الصحراء الكبرى، والتي تتخللها صخور البازلت النارية مثل الجرانيت والسبانايت، هذا بجانب الصخور البركانية التي تشمل الصخور النارية ممثلة لسلسلة جبل تقابو والمالحة، وجبال مورو وقرون البقر وجبال واحة العطرون والنخيل، وهى امتداد طبيعي لسلسلة جبل مرة البركانية[6].
تقدر مساحة ولاية شمال دارفور حوالي 290.000كم2، حيث تشكل 12% من مساحة السودان، ويبلغ رقم سكانها حوالي 2.113.668 نسمة، وتضم هذه الولاية العديد من المدن، أهمّها الفاشر، وكتم، وكبكابية ومليط والطينة، وكرنوي، وأم كدادة، أمبرو، وطويشة، وكلمندو، وسرف عمرة، وغيرها.
ذكر بعض الروايات التاريخية أن دارفور كانت دولة مركزية، حيث تجتمع كل السلطات عند السلطان بيد أن هناك سلطات كثيرة تم تفويضها إلى الإدارات الأهلية لإكمال عملية إدارة السلطنة، وعلى هذا المنوال تطور النظام الإداري للدولة خاصة بعد توسيع العلاقات مع دول الجوار وبالأخص مصر[7]، فالنظام الإداري الذي تتمتع به سلطنة الفور لإدارة الدولة يعتبر من أعظم النظم الإدارية التي شهدتها الدولة السودانية في وقتها، فقد كانوا يراعون قيام أي مستوى للسلطة الإدارية في حيز مكاني معلوم ومحدود بالمعالم، حتى نجد أن الرعايا لا يتجاوزوا السلطة المحلية صاحبة الاختصاص عند تقديم مظالمهم[8]، لذلك يمكن القول أن تطبيق الفدرالية كانت تمثل قمة في الممارسة الفعلية للسلطة من قبل حكام الولايات ومن دونهم من المسؤولين في كل شأن إداري دون أن يفقد السلطات سيطرته على العاملين في الدولة بغض النظر عن المصالح الشخصية أو القبلية.
هكذا كانت الإدارة الأهلية تعنى بإدارة شئون المناطق والوحدات الإدارية التابعة لها بعد موافقة المواطنين في ظل إشراف ورقابة السلطة المركزية، ويعطي بموجب النظم الإدارية صلاحيات ومهام واختصاصات محددة تتعلق بقضايا المواطنين في الوحدة الإدارية المعينة ضمن حدود الدستور والقانون[9]، وقد وصف جون هاول هذا النظام بأنه من أفضل النظم في الإدارة حيث يعمل على نقل سلطان الحاكم إلى هيئات محلية تنال رضا المواطن على كافة مستويات الحكم المحلي، فالإدارة الأهلية طوال تاريخ دارفور هي بمثابة إدارة الزعامات العشائرية لمواطنيها، وقد كانت على الدوام تمثل إحدى مؤسسات المجتمع في مراحل نموه المبكر، حيث تتخذ الإدارة العشائرية عادة شكلاً هرمياً قاعدته شيخ القرية أو البادية[10].
فإذا نظرنا إلى قانون إدارة الأرض في سلطنة الفور نجد أنها تقوم على مبدأ إعمار الأرض، وتوظيف مواردها للمستفيدين من الأهالي، فالحديث عن مستويات الإدارة تبدأ بالترتيب الآتي:(السلطان والوالي، والشرتاي والدملج والعمدة والشيخ)، وكان حدود حكم كل من هذه المستويات محددة بالحدود الجغرافية لكل منطقة، بل وموثق بصك سلطاني وفق قانون الأرض[11]، ومن جانب آخر فإن هذه الحواكير كانت تحفظ للدولة كيانها وحدودها بالإضافة إلى حفظ العلاقات بين المكونات القبلية والإثنية داخلياً وخارجياً، كما حافظت وبشكل قوي على العلاقات بين الكيانات المجتمعية في المناطق الحدودية[12]، فاللامركزية هنا تعنى في الأساس بنقل السلطات والصلاحيات من المستويات المركزية الأعلى إلى المستويات المحلية الأدنى، وإعطاء أمر التفويض لأفراد وهيئات تابعين له على المستويات الإدارية داخل الدولة، وهذا ما لزم تطبيقه في قانون الإدارة الأهلية قبل وبعد الاستعمار في السودان[13]، وبناءً على تلك الإجراءات الإدارية منح الدستور بعض المؤسسات الأهلية حق الولاية المطلقة على الأرض والشعب، وفي هذه الحالة تم إنشاء أنظمة حكم محلي على المستويات الإدارية الإقليمية أو المحلية ومسمى هذا الوحدات الإدارية إقليم، ولاية محافظة، وغيرها[14].
ولم تكن إقليم دارفور حالة شاذة عن غيرها من أقاليم السودان في نظم الحكم، فقد استمر الفور يحكمون دارفور نحو 430 عاماً دون انقطاع، إذ استمر حكمهم وإمارتهم الإسلامية حتى سنة 1874م، ومع أن عاد السلطان علي دينار أمجاد حكم أجداده في دارفور من عام 1898م حتى 1916م[15]، إلا واعتمد على النظام اللامركزي، حيث قام بتعيين حاكم لكل قبيلة إما سلطاناً أو ملكاً، فهؤلاء يحكمون قبائلهم بتفويض من السلطان وبصلاحيات واسعة.
كذلك اعتمد الإنجليز في حكم أقاليم السودان على نمط من الإدارة يختلف عما تم تطبيقه في إقليم دارفور، ففي تلك الأقاليم كانوا يعتمدون على شيوخ القبائل والإدارات الأهلية في إدارة مناطقهم بالدرجة الأولى، ثمَّ على الموظفين التنفيذيين المختارين لمساعدتهم في الإشراف على الخدمات العامة، أي عبر خليط من الهياكل الإدارية التقليدية والمستحدثة[16]، أمَّا في دارفور فقد وجدوا عند احتلالهم لها إدارة راسخة نضجت وتوطدت عبر قرون من الزمان في ممارسة وتطوير النظم الإدارية تجاوزت الأطر التقليدية، فكثيراً ما ارتبطت تلك النظم بوجدان الناس وتراثهم، بل في كيفية إدارة شؤون حياتهم، وبالتالي أصبح رجل الإدارة الأهلية بمثابة السلطة العليا في تقديم خدمات للمواطنين وضبط المجتمع، وما يزال كبار السن من أهل الإقليم يذكرون كيف كان المفتش الإنجليزي يمر عليهم راكباً حصانه يحادثهم بحزم في كل ما يتعلق بحياتهم، فإذا كان الأمر تطلب تنفيذ شيء ما يعود بالفائدة فإنَّه يشير لشيخ المنطقة لفعل ذلك[17]، ولعلَّ السر في ذلك قد يكون مردَّه إلى درجة الوعي التي يمتاز به إنسان السودان عامة، ودارفور بصفة خاصة[18]، ونتيجة لتلك الميزة سعى الإنجليز كثيراً في تحويل ولاء الزعامات القبلية التقليدية لتكون ممثلة لسلطتهم، وليست لأهاليهم، ومن ثمَّ استخدامهم كأداة لنشر ثقافتهم الاستعمارية دون اعتراض من أهالي المنطقة، فوجدوا ما يعينهم في تحقيق أهدافهم، وهو خلق حائط صد يحول دون تمكين المتعلمين من أبناء الإقليم من التأثير الإيجابي على أهاليهم البسطاء.
وبتلك الطريقة اعترف الانجليز أن القبيلة في دارفور هي المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التي تسعى إلى ترقية حياة أفرادها، وبناءً على ذلك فقد أوصى اللورد فلنر في تقريره عام 1925م، بضرورة تشريع نظم وقوانين لتنظيم الإدارة الأهلية تحت مسمى قانون سلطات المشايخ، وقد استهدف التشريع الشريحة الأكثر بساطة، ومن هنا دفعت تلك القوانين السلطات الإدارية والتنفيذية والقضائية للفصل في الخصومات والنزاعات والحروب، وحفظ الأمن؛ ولكنها بطريق تقليدية[19]، وفي الأثناء شعر الحاكم العام جون موفي أن ممارسة الحكم في السودان سوف يواجه بعدة تعقيدات خاصة بعد ثورة اللواء الأبيض عام 1924م، والذي قضي بموجبه إصدار قانون جديد عرف باسم قانون سلطات المشايخ لعام 1927م ألغي بموجبه قانون 1922م الذي كان من أهم بنوده إنشاء وظائف جديدة في هياكل الإدارة الأهلية كتقدير الضرائب وتحليلها، والاشتراك في جمعها، وفي كيفية إدارة بعض الخدمات الاجتماعية كالأسواق؛ ونقل النفايات، ودفع مرتبات رجالات الإدارة الأهلية[20].
وفي عام 1928م تبنت السلطة نهجاً جديداً أعادت تنظيم الإدارة الأهلية لتصبح أكثر فعالية، ولتنفيذ تلك السياسة عدل قانون 1927م بقانون 1928م، وقد حدد هذا التعديل إعطاء صلاحيات واسعة لزعماء القبائل الأهلية، وبموجب تلك الصلاحيات زادت مخصصاتهم من الرواتب مقابل ما يقومون به من أعمال أهمها حفظ الأمن، كذلك تبنت المستعمر سياسة جديدة قضى بتعيين وصف إداري جديد تحت مسمى الأمير الهدف منها هو إنهاء منصب المقدوميات الوراثية في كل أنحاء دارفور، وإفراغهم من فكرة الارتباط بالأرض أو نظام الحواكير المعمول به في سلطنة الفور القديمة، وبالتالي أصبح للأمير وضعية خاصة عند الشراتي والعمد والسلاطين[21].
وعلى ذات الشاكلة أصبح لقانون المحاكم الأهلية صلاحيات واسعة أكثر مما سبق، بل صار فيما بعد الأساس الذي قام عليه نظام الإدارة الأهلية في السودان، ففي المحاكم الشرعية الأهلية يعتمد القضاة اعتماداً كبيراً على المحاكم الأهلية التي تقوم بالنظر الابتدائي في معظم القضايا مدنية أوجنائية، علماً بأن هذه المحاكم تم تأسيسها تحت قانون المحاكم الأهلية لسنة 1932م، وهي مختلفة الدرجات أولها المحاكم الرئيسية، ولكل محكمة رقم من المحاكم الفرعية، هذا بالإضافة إلى المحاكم الشرعية الأهلية، ومن أهم اختصاصاته النظر في المنازعات الداخلية التي تحدث بين مكونات المجتمع المختلفة[22]، كما نص القانون إلى عدم التقيد بوحدة القبيلة، الأمر الذي ترك الباب موارباً في تعيين أعضاء المحاكم الأهلية من فئات أخرى، وأيضاً رفعت مكانة رؤساء القضاء الذين هم من الأهالي إلى قاضي الدرجة الثانية. ومن هنا ظهرت كلمة نظار في مسمى الإدارة الأهلية، غير أن هذا القانون لم يجد القبول من قبل طبقة المتعلمين لاتساع سلطات الإدارة الأهلية الذين أغلبهم من الأميين.
المبحث الثاني: سلطة المقاديم في سلطنة الفور
يعتبر المقاديم في سلطنة الفور بمثابة رؤساء قطاعات في كل المناطق، وهم يقومون مقام السلطان في قطاعاتهم ولهم كافة الصلاحيات السياسية والاقتصادية والعسكرية و الاجتماعية وخير نموذج لهذه الإدارات المقدوم مسلم الذي كان مسؤولاً عن سلطان الفور في كردفان، وهو أول من واجه القوات التركية في كردفان عام 1822م، واستشهد في معركة بارا عاصمة المقدومية[23]، وقد ذكر بعض الروايات التاريخية أن مصطلح المقدومة قد ظهرت عام 1800م كموظف يعمل خارج الترتيب الهرمي القديم للألقاب الإدارية التي اشتهر بها النظام في سلطنة الفور، فهو مفوض ونائب ملك يعين لمهام محدد، إما حكماً أو قيادة حملة، وعند تعيينه يملك شارة الملك، والقرآن والسجاد، وككر ورماح[24].
ومن المقاطعات الرئيسة في دارفور هي:
- دار اباديما: تقع في الجنوب الغربي “ولاية غرب دارفور وتنقسم إلى اثني عشر شرتاوية وكانت الشرتاوية تقسم إلى رقم متفاوت من الزعامات المحلية أو الدملجيات يديرها دملج، وكان لبعض الشرتايات الأكبر رؤساء يدعون سامبي التي تعني بلغة الفور”حربة” يعملون كوكلاء للشرتاي في التعامل مع الدماليج[25]، ويعتبر أباديما بمثابة مقدوم “والي الولاية” ويحكم اثني عشرة شرتاي وله إقليم واسع وله جميع ما للسلطان من الشارات والأبهة ما عدا النحاس، وهو كناية عن ساعد السلطان الأيمن، ووظيفته أن يمشي هو وعساكره عن يمين السلطان في الحرب[26].
- دار تكيناوي: تقع في الجزء الشمالي من سلطنة الفور والتكيناوي قرين اباديما في كل شيء، وهو كناية عن الساعد الأيسر للسلطان ويحكم على اثني عشر ملكاً أيضاً من ملوك الجهة الشمالية.
- دار أبا أوما: تقع في الجزء الجنوبي الشرقي لسلطنة الفور وأبو أومو العمود الفقري للسلطان، ويطلق عليه اسم(فورانق أبا) أي أبو الفور؛ ويكون ملماً بقانون دالي العرفي، ومن أهم مهامه الفصل في القضاء داخل القبيلة خاصة القضاء العرفي الداخلي.
- دار ابا أومو: وتشمل معظم جبل مرة الشرقي مقسمة إلى عدة شرتايات، ويقصد به المقدوم أي حاكم الولاية ووظيفته أن يمشي خلف الجيوش بجيش لا يعقبه أحد وقت الحرب[27].
- دار دالي: وتشمل هذه المقاطعة الجزء الشرقي من سلطنة الفور وعاصمتها الفاشر ويديرها مقدوم الشرق، وهو” أبو الشيخ” كبير الخصيان ومقامه أكبر مقام في السلطنة، إذ هو المرجع الأعلى لقانون دالي القانون العرفي في البلاد.
وتحت أي مقدوم شرتاي أو ملك أوعمدة أو شيخ، غير أنّ بعض الشراتي يتبعون للسلطان مباشرةً، فهولاء يعملون وفق نظم ولوائح مجلس الشورى الذي هو بمثابة المجلس الاستشاري، ويتكون من 12 عضواً من الأعيان، ومن أهم اختصاصاته مساعدة السلطان في تسيير أمور السلطنة، والمشاركة في اختيار وتنصيب السلطان الجديد، وحفظ النسيج الاجتماعي، ونشر ثقافة التعايش السلمى بين المجموعات الأثنية والقبلية المختلفة، وعدم استغلال الحدود الجغرافية للمصالح الشخصية.
أمّا في الفترة الثانية من سلطنة الفور(1899-1916م) كان زعماء العشائر القبلية يتبعون إدارياً لمقدوم الشمال الذي كان مسؤولاً عنهم أمام سلطان دارفور، وكان المقدوم يجتمع بهم مرة في العام في قرية فتابرنو قبل أن تنتقل منها إلى كتم فيما كان يعرف بالزفة، وهي عبارة عن مهرجان سنوي يقام على شرف مقابلة الحاكم الإداري حيث يأتي إليه زعيم كل قبيلة بفرسانه على الجياد والجمال في أزهى وأبهى استعراض للقوة، وفي نهاية الاحتفال يعقد المقدوم معهم لقاءً يحملهم توجيهات السلطان وأوامره، ثم يعودون بعدئذ إلى مناطقهم حيث يسعون في تنفيذ توجيهاته[28].
ساعدت تلك القوانين في فض النازعات القبلية التي تنشب من وقت لآخر، كما ساهمت في نشر ثقافة الجودية والمصالحات خاصة في حالات جبر الضرر؛ ودفع الديات بدلاً عن القصاص، تفادياً من تفشي الرواسب الفاسدة والضغائن الشخصية، والتي سرعان ما تهدد الأمن الوطني.
مجلس المقدوم
يضم مجلس المقدوم رقما كبيرا من الأشخاص الذين لهم معرفة بأحوال أهل البلد، وبعبارة أخرى هم الذين يشكلون النسيج الاجتماعي في كل منطقة[29]، فالمقدوم هو بمثابة الرئيس الشرفي في المجتمع له كافة الصلاحيات الإدارية والمالية والقانونية، وله نائب يختاره بالتشاور مع الوكيل، ويعتمد في إصدار القرارات على القوانين الصادرة من قبل السلطة الحاكمة(السلطان)، أو على العرف الذي يعتبر أحد التشريعات الأهلية التي عرفتها البشرية منذ القدم، وهنا يبرز دور الإدارات الأهلية في المحافظة على الأمن والأمان، وضبط الحدود الجغرافية بين الإدارات المختلفة، خاصة في فض الصراعات والنزاعات والمشاجرات التي تحدث بين طبقات المجتمع بين الفينة والأخرى، ويقصد من ذلك درء الفتن قبل وبعد وقوعها حفظاً لكرامة الإنسانية.
المبحث الثالث: لمحة تاريخية عن مدينة كتم
تقع مدينة كُتُمْ في ولاية شمال دارفور، وتقدّر المسافة بينها وبين مدينة الخرطوم حوالي 988كم (677 ميل)، كما قدرت المسافة بينها وبين مدينة الفاشر بحوالي 120كم،كما تقع على وسط هضبة مرتفعة تنتشر فيها تلال بركانية تعرف بتلال تقابو وتلال برتي، ومن الناحية الجيولوجية تقع في حقل بركاني بازلتي جنوب غرب حقل بركاني هو جبل ميدوب وماري وهشابة، ويرتبط حقل كتم البركاني بالحقول البركانية جنوب الصحراء الكبرى التي تعود إلى العصر البليستوسيني والهولوسيني[30]، ومن الجبال البركانية الأخرى كجبل توني، والذي يبعد عن المدينة بحوالي 25 كيلو متر، هذا بالإضافة إلى مجموعة جبال مورو وجبل حمرة وجبال سي، وهي بمثابة امتداد لسلسلة جبل مرة البركانية.
يشق مدينة كتم رقم من الأودية تجري من الغرب إلى الشرق في مساحة تقدر بحوالي 300 كيلومتر(186,41 ميل) لتقترن به عدة أودية موسمية صغيرة أبرزها وادى فتا برنو، ووادى آمو، ووادي كساب، ووادي فولو، وهناك أودية أخرى تجري بالقرب من المدينة مثل وادي مانو؛ ووادي مسترية الذي يبعد عن المدينة بحوالي 24 كيلومتر (14,9 ميل)، وأيضاً وادي بارك الله والذي يبعد بحوالي 37 كيلومتر(22,9 ميل)، هذا إلى جانب عدة خيران مثل خور جلود، وخور الخميس، ويقسمها وادي فتا برنو إلى قسمين: قسم يقع في اتجاه الشمال ويضم معظم الأحياء السكنية مثل الدبابين وحي الفور وسلامة أبو دوما، وبها رقم كبير من المدارس الابتدائية وحالياً الأساس، والثانوي بنين وبنات وهي من أعراق المدارس في شمال دارفور.
أمّا القسم الجنوبي يقع بين الوادي وجبل قبة الذي يطل على المدينة، ويضم رقماً من الأحياء السكنية ودواوين الحكومة ومكاتبها بما فيها مبنى المحكمة، ومركز شرطة والسجن ومدرسة كتم الريفية، والمستشفى ومكتب المحافظة والحامية العسكرية، وهذا الجزء تشكل الرمزية الإدارية لكتم، ومن أهم القرى المجاورة للمدينة، هي: سنقر ودلل وقوس ميمي، وحلة بشر، وكركاوي، فتابرنو، بنقا، جندو، وغيرها.
وتعتبر مدينة كتم من أقدم المدن في إقليم دارفور، وربما تأتي بعد مدينة الفاشر من حيث الأهمية التاريخية، ففي عصر سلطنة دارفور كانت بمثابة المدينة الثانية في الشمال؛ وبها المقدومية التي انحصرت في”ال المقدوم”، ومنهم التجاني مقدوم الذي مازال يحمل لقب المقدومية يومنا هذا، وآخر نسله الأمير أبو القاسم الذي مات في ظروف غامضة بعد زيارة الرئيس السابق جعفر محمد نميري للمدينة في السبعينات من القرن الماضي، والذي لم يتم استقباله بالصورة المثلى نتيجة لسوء الأحوال الجوية، وعندما عاد السيد الرئيس جعفر نميري إلى الفاشر دون أن يهبط بطائرته تراشقت الأنباء بأن عدم هبوط طائرة الرئيس كان بفعل فاعل عندئذ طلب الرئيس من السلطة الإدارية في كتم بحضور الأمير أبو القاسم إلى الفاشر متهما إياه بتدبير حادث اغتياله، وهنالك بعض الروايات التاريخية تؤكد بأن الأمير أبو القاسم قد تم اغتياله في الطريق بين الفاشر وكتم نتيجة أثر التعذيب الذي تعرض له من قبل عناصر جهاز أمن الرئيس نميري، وعلى كلِ لم يعد الأمير أبو القاسم إلى كتم مرة أخرى، ومازال قصره الذي يقع على ضفاف وادي كتم ماثلاً حتى اليوم حيث يقع القصر في الحد الفاصل بين حي العرب وحي الزغاوة، والذي سمي فيما بعد بحي القصر، وقد تحول في فترة الديمقراطية الثالثة إلى مساكن للحامية العسكرية.
وعلى هذا المنوال يقطن كتم مجموعات قبلية وإثنية مختلفة منتشرين في مختلف أنحاء المنطقة، وبالرغم من بعده عن المركز والمدن الأخرى إلاّ أنّ لإنسان كتم ما يميزه، فالجميع يألفون بعضهم في السراء والضراء، ويعشقون الخضرة والغناء لأن الطبيعة الجاذبة هي التي أفضت إلى هذه الحالة، خاصة شريط الوادي الذي يمتاز بالخضرة والنسيم العليل.
المبحث الرابع: المكونات الإثنية في كتم
يقطن كتم مجموعات إثنية وقبلية مترقمة تمتاز بصفات وعادات وتقاليد فريدة قلّ أن نجدها في كثير من المجتمعات السودانية الأخرى، ويمكن تقسيمها كالآتي:
- المجموعة الزنجية: وهم يشكلون الفروع الرئيسية لسكان دارفور في العصور القديمة والحديثة، وهم:
* الداجو: ذكرت بعض الروايات الشفوية المحلية إن أول من حكم هذه المنطقة هم الداجو الذين أسسوا دولة في دارفور، وهم خليط من الحاميين والساميين يعيشون في مناطق متفرقة من المنطقة، وقد اختلف المؤرخون حول أصل الداجو، فقد افترض”ماكمايكل” أن أصلهم من الشرق، أي تجري في عروقهم الدماء العربية[31]، ويرى”آركل” أنهم ينتسبون إلى قبائل التاجو أو التاجويين الذين ورد ذكرهم على لسان كثير من الجغرافيين العرب أنهم فرعاً من الزغاوة وحدد منطقتهم بين كانم وبرنو في تشاد[32]،كما تشير بعض الروايات التاريخية إلى أنهم من أصل نوبي انتقلوا من شمال السودان إلى إقليم دارفور، وهم أبناء عمومة الدناقلة والمحس والحلفاويين[33]، ووفقاً للتكوين القبلي فهم يشكلون همزة الوصل بين تشاد والسودان الأمر الذي يعطي العلاقة بين الدولتين بعداً تاريخياً كبيراً.
* التنجر: اختلفت الآراء حول أصل التنجر، حيث يزعم البعض أنهم من سلالة العباس الذين قدموا من تونس فاستقروا حول جبل مرة، ومما لا شك فيه أن هذه الإشارة لها دلالتها التاريخية والمنطقية بقدوم هؤلاء من تونس لأن من المعلوم أن القبائل أثناء تجوالها لا تنسى موطنها الأول[34]، كما يرى آخرون أنهم من بني هلال، وهنالك من يري بأنهم مجموعة زنجية بسطوا نفوذهم على دارفور وأجزاء من سلطنة ود داي جراء الهجرات المتكررة، فالتنجر هم شعب زنجي يزعم أنهم مزيج من الزنوج “الحاميين”[35]، وفي أيام عظمتهم انتشر الإسلام في الجزء الشمالي من دارفور، وهم يمثلون جزء من حضارة الفور في القرن الخامس عشر الميلادي ويقيمون في الجزء الشرقي والجنوب الشرقي من المدينة ويتحدثون اللغة العربية التي احتلت مكان لغتهم المحلية، ولعل هذه الإشارة تؤيد الرأي القائل بأنهم ينتمون إلى المجموعة العربية الذين عاشوا في مناطق متفرقة من دارفور خاصة الجزء الشمالي الشرقي من جبل مرة وشمال دارفور في جبل أوري وعين فرح وعين سيرو وغيرها، وقد احتل الكيرا مكانهم في قيادة دولة الفور، وكان أول ملوكهم(دالي)[36].
* الفور: يشكل الفور أكبر المجموعات الإثنية الذين يقطنون في معظم أنحاء المنطقة، وينتمون إلى المجموعة الزنجية الإفريقية الذين يسكنون جبل مرة في مناطق دار أما ودار ديما، دار كرتي، ودار ماديوخرج من هؤلاء كل ملوك وسلاطين الفور، ويرجع تاريخ هذه العائلة إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وقد شكلت وجودهم حضوراً سياسياً واجتماعياً ودينياً وعرقياً وإقليمياً ومحلياً لمدة خمسة قرون خلت فكانت السلطنة هي بمثابة بؤرة وبوتقة وانصهار عرقي منقطع النظير، حيث ضمت في طياتها مجموعات إثنية مثلت نموذج لحضارات وثقافات وأعراق مختلفة.
* الزغاوة:يعتبر الزغاوة من أكبر المجموعات الإثنية التي سكنت دارفور بعد الفور، وهم يمثلون خليط من التيبو والحاميين والزنوج الذين وفدوا من تونس وليبيا وتشاد، ويشكل الزغاوة ثقلاً اقتصادياً كبيراً، وهم يمارسون حرفتي الرعي والتجارة أكثر من المجموعات السكانية الأخرى.
* البديات:يقيمون في أقصى الشمال الغربي من الأقليم- جبل العوينات أي على الحدود السودانية الليبية والمصرية، وأجزاء من كتم وكبكابية، وبحكم الجوار لهم علاقة وثيقة مع الزغاوة.
* البرتي: ذكرت بعض الروايات التاريخية أن هذه المجموعة الإثنية هم خليط من الزنجية والعربية، وينتشرون في أجزاء واسعة من المحلية.
* الميما: هم خليط من التيبو والزنوج الذين وفدوا من مالي فاستقروا في كل من دارفور وتشاد.
* البرقد: ذهب”ماكمايكل” إلى أنهم من أصل نوبي للتشابه بين لهجتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويقطنون في الجزء الجنوبي الغربي من المحلية.
* الميدوب: وهم من الأصل النوبي، وفدوا من شمال السودان، وينتشرون في الأجزاء الشمالية والشرقية من المدينة.
2-المجموعة العربية: أي ذوي الأصول العربية وهم الرزيقات، التعايشة، الهبانية المسيرية والعريقات والبديرية والبقارة وينتشرون في الشمال والوسط، ويمارسون حرفة الرعي، وكثيراً ما اتصفوا بالقبائل المتنقلة (الرحالة)، وهم ينقسمون إلى:
* العرب الأبالة: كالمحاميد والمهرية والعريقات والعطيفات تسكن هذه القبائل شمال كتم، وتحترف رعي الإبل.
* البديات: وهم قبائل رحل يعيشون في الشمال الشرقي التي تلي دار الزغاوة، وقد خلص التونسي إلى أنهم زنوج على صلة قوية بالزغاوة[37].
وعندما قضى الحاكم العام في الخرطوم على السلطان على دينار؛ أصبح للانجليز باع طويل في بناء مدينة كتم، بل اعتبر الكثيرون أن الانجليزي”مستر مورMisster Moor ” هو المؤسس الحقيقي لمدينة كتم، وليس ببعيد لأنه أول انجليزي يتولي إدراة شؤون المدينة في العهد الانجليزي، وقد قام ببناء رقم من المراكز في أنحاء المدينة كالمبنى الإداري الذي يشبه طراز القصر الجمهوري في مدينة الخرطوم، وهو اليوم يشكل مقر محافظة كتـــــــــم، أيضاً بنى المدرستين الأوليتين، مدرسة كتم (أ) الابتدائية بنين، وكتم (أ) الابتدائية بنات، ومازالت هذه المدارس باقية حتى اليوم، حيث تخرج في هاتين المدرستين رقم غير قليل من أبناء مدينة كتم وما جاورها من المناطق المتاخمة لها، ثم تلاها مدرسة كتم الريفية؛ وغيرها من المدارس الأخرى التي أصبحت فيما بعد منارة للعلم والمعرفة.
لقد حظيت مدينة كتم طوال فترة الانجليز بنوع من الاهتمام قد يختلف عما كان في جنوب السودان، حيث استغل “مستر مور Misster Moor” علاقاته مع الإدارات الأهلية فأجبرهم على أن تدخل جزء من أسرها إلى المركز لتلقي التعليم للاستعانة بهم في إدارة شؤون المنطقة، فطلب من كل رجل إدارة أهلية رقم معين من الطلاب لتلقي العلوم والمعرفة، ومن هنا بدأ تأسيس الأحياء الجديدة على هذا الأساس، والتي على منوالها زالت الفوارق الفردية والجماعية خاصة عندما عين الحاكم العام حاكماً إدارياً من الأهالي لتسيير أمور المدينة وما جاورها من المناطق الإدارية التابعة لها، فانصهر الجميع في علاقات زواجية؛ وعلاقات صداقة؛ وحسن الجيرة، وبالتالي انتهت الفوارق الشكلية التي كانت تشكل عقبة كبيرة في التعامل بين الإثنيات المختلفة.
تشكل مدينة كتم مورداً استراتيجيا لكثير من المناطق المجاورة لها، وهي التي تغذي عاصمة السلطنة (الفاشر) بالخضر والفاكهة، وتعدّ الزراعة بنوعيها المطرية التقليدية الآلية من أهمّ الحرف التي يمارسها سكان المدينة، فهم يزرعون الخضروات مثل الباذنجان، والبصل، والبندورة، والذرة، والفواكه مثل البرتقال، والمانجو، والتمور، والليمون، وغيرها.
أهم الأسواق
* سوق كتم: تقع داخل مدينة كتم، وتعمل طوال أيام الأسبوع، وتتسع أكثر كل يوم إثنين وخميس، حيث يرد إليها باعة ومتسوقون من خارج المدينة، وتقسم هذا السوق إلى أسواق فرعية صغيرة منها: سوق الماشية ويقع في القسم الشرقي من السوق، وسوق الذرة والمحاصيل الزراعية الأخرى في الجنوب، وسوق الخضار والفاكهة في وسط السوق.
* سوق فتابرنو: تعمل في يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع.
* سوق فروك: تعمل في كل يوم سبت.
* سوق جميزة: تعمل كل يوم الإثنين .
* سوق بارك الله: تعمل يوم الأربعاء من كل أسبوع.
* سوق حمرة نيني: تعمل في يوم الثلاثاء من كل أسبوع.
* سوق كورما: تعمل في يوم الإثنين من كل أسبوع.
وبجانب ممارسة حرفة التجارة هناك من يمارس حرفة الرعي، فهم يهتمون بتربية المواشي كالأغنام والضأن والبقر والجمال، وتعتبر مدينة كتم من أهم مسارات العرب الرحل المتجهة من الشمال نحو الجنوب، والعكس في فترة الجفاف والخريف.
أمّا من الناحية الإدارية تضم كتم رقم من المحليات التي تمثل قمة الإدارات الأهلية لمختلف الإثنيات والعشائر التي تشكل النسيج الاجتماعي لمختلف الأعراق والبطون، وهي على النحو الآتي:
- إدارة دار حمرة: إدارة تتبع للتنجر والفور، وعاصمتها كتم، وبها أربعة عموديات: عمودية نادي، والقبة والدبة لمينا.
- إدارة دار بيري: إدارة تتبع لرقم من القبائل والبطون، وتضم الفور والتنجر والزغاوة، والعرب، وبها خمسة عموديات على النحو الآتي: عمودية كتم، وامراي والميما وأم سدر وأنكا.
- إدارة دار سويني: وتقع تحت إدارة الكايتنقا، وتضم الفور والتنجر والزغاوة، وعاصمتها الدور، وبها ثمانية عموديات، وهي: عمودية توري وعمودية الجنيد، الدور، حنضل، عمودية أم سرف وناورا وخشم كوما وقوري، وهي عمودية تتبع للبرتي، وعاصمتها قوري.
- إدارة دار فروك: إدارة تتبع للفور، وتضم مناطق الفوراوية، وعبد الشكور، وبها عموديتين هما: آنقود ومورقا.
- إدارة دار إنقا: وهي من الإدارات القديمة، والمعروفة منذ عهد الانجليز، وتعني أرض England، وتضم رقما من العموديات: مثل عمودية سويني ودار يلا، وكدلدل، وجابر، وجوبا.
- إدارة دار فورنوق: وهي من الإدارات القديمة تتبع للفور، وبها أربع عموديات هي: عمودية سرقلو، وتوسي، ودبس، وآمو، وعين فرح.
- ادارة دار جلي( السريف حالياً): إدارة تابعة لقبيلة أولاد مانا والفور والدروك والتنجر، وتضم مناطق جانقا وبني سريف حمارو، وغيرها، وبها ثلاثة عموديات هي: عمودية ترقل، وتيو، وآفي.
- إدارات دار زغاوة: وهي إدارات موزعة حسب التوزيع الجغرافي لبطون الزغاوة المنتشرة في شمال كتم، وهي:
- دار زغاوة تورا: وتضم سبعة عموديات: عمودية شقيق كارو، وجقترا، وأبوليجا، وأورشي، وأمبرو، وليل، وأخيراً أقبا.
- دار زغاوة أرتاج: وتضم عموديتين هما:أم مراحيك، وأم حراز.
- دار زغاوة قلا: وبها عشرة عموديات، وهي: عمودية فوراوية، وهلالية، وكارنوي، ومسكي عبيد، وأبو قمرة، وكامو، وقريو، ودوابي، وهرمبا، وأولاد دابو.
- دار زغاوة اولاد دقين: تتبع لإدارة دار توار بأمبرو، وبها عمودية واحدة، هي عمودية أورو.
- دار زغاوة كبكا: وليست لديها عمودية.
- دار زغاوة كوبي:وهي من الإدارات القديمة في سلطنة الفور، حيث منحوا السلطنة والنحاس عندما ساندوا السلطان علي دينار ضد سلاطين البرقو، وتضم رقم من العموديات منها: عمودية الطينة وباتو وباسو وكيلا وقادر سراجاي وماعون وشتيب وترانقو وبامنا وجوبا وباهاي.
فإذا نظرنا إلى بنية الإدارة الأهلية في كتم نجدها تتكون من ثلاث مستويات، ولكل مستوى سماته من الواقع القبلي القائم، الغاية منها التنظيم، وحسن الإدارة، وهي على النحو الآتي:
* زعيم الإدارة الأهلية: يختلف مسماه من نظام قبلي لآخر، فهنالك السلطان، الناظر، الملك، المقدوم، الديمنقاوي، الشرتاي، الأمير، هذه الوظيفة موقعها الإداري والقيادي يتماشى مع التقاليد والأعراف القبلية، فهو المسؤول إدارياً أمام مفتش المركز خاصة في إدارة دفة الأمور التى تتعلق بالقبيلة، وعليه أن يراعى في ذلك عاداتها وتقاليدها، وأن يراقب تحركاتها الإيجابية والسلبية، ويعمل على حل الخلافات، في الجانب الآخر لديه سلطات قضائية خولت له بموجب قانون المحاكم لسنة 1930م.
* العمد: وهم بمثابة حلقة ربط بين الزعيم والمشايخ، وتلعب الأعراف التقليدية المحلية دوراً كبيراً في تعيينه، ومن شروط تعيينه يجب أن يكون أكثر إلماماً ومعرفة بشئون القبيلة، ومن مهامه الإشراف على المشايخ، والقيام بالأعمال القضائية في دائرته، هذا إلى إلى جانب حل الخلافات التي تنشب بين الأهالي من حين لآخر.
* المشايخ: يتم اختيارهم بموافقة عامة الناس، ويختاروا غالباً من كبار السن حسب الأعراف، ومن مهامهم حفظ الأمن، وتحصيل الضرائب، والتبليغ عن المخالفات الصحية، وحجز الحيوانات الضالة، ومناشدة المواطنين للعمل الطوعي، وحل النزاعات والصراعات.
هذا بالإضافة إلى إدارات الرحل؛ والتي أغلبها تقع في دار بيري، وتتبع لرقم من العشائر العربية أهمها:
- العريقات: وهم فرع من الرزيقات الذين وفدوا من شمال إفريقيا بعد سقوط الأندلس، ولهم ثلاثة عموديات: عمودية النصرة، والمناوية، والديمصات، وتضم الزبلات وأولاد راشد، وغيرها.
- العطيفات: وهم فرع من الماهرية والرزيقات، وينتشرون حول مناطق فروك، ولديهم عموديتين هما: عمودية أولاد عقيل وبركة، وعمودية جونة والحجايا.
- الزيادية.
- المحاميد: وتضم مجموعة من القبائل العربية، وهم ينتشرون في شمال ووسط كتم، يحترفون رعي الإبل.
المبحث الخامس: مهام الإدارة الأهلية
كانت الإدارة الأهلية في دارفور طوال عهد سلطنة الفور وما أعقبها تمثل النموذج الأمثل في الإدارة والحكم، حيث شملت الممارسة كل الزعمات القبلية والعشائرية بغض عن النظر مكوناتها وفروعها، وما أن جاء المستعمر بعد عام1916م، إلا وقد أبقت على فلسفة الإدارة الأهلية مع قليل من التغيير والتبديل ليناسب خدمة أغراضها[38]،وبناءً على ذلك جاءت مهام الإدارة الأهلية في: إدارة المحاكم الشعبية والاستجابة لأوامر السلطان، وجمع الجزية أو الضرائب السنوية؛ وإرسالها إلى العاصمة عبر نائب السلطان في تلك الجهة، وتجهيز المقاتلين لحفظ الأمن، وتأمين الطرق، وردع المعارضين[39].
أما في فترة الإدارة البريطانية 1916-1956م بدرافور فقد تأسست الإدارات الأهلية بسلطات وصلاحيات كبيرة لإدارة شؤون قبائلها ومجتمعاتها المحلية، وإدارة الأرض ومواردها، وفض النزاعات القبلية، إضافة إلى النظر في الأحكام العرفية بين القبائل، لاسيما في القضايا الفردية والجماعية المختلف حولها[40]، وبناءً على تلك الأهداف شكلت القيادات التقليدية الأهلية بدارفور عنصر أمن واستقرار لأفراد المجتمعات المحلية المختلفة من النساء والأطفال والرجال خاصة وأن الزعيم الأهلي يعتبر عرفياً المسؤول الأول عن حفظ حقوق قبيلته من الرجال والنساء في مجتعه المحلي، كل تلك السياسات أدت إلى ضعف نفوذ القيادات، وقد ظهرت جلية في فترات متلاحقة من بعد الاستقلال.
أمّا في عهد الحكومات الوطنية تغيرت مفاهيم الإدارة الأهلية، خاصة حين دخلت الإدارة الأهلية في مضمار الممارسة السياسية، الأمر الذي أدى إلى إضعاف نفوذها، بصورة لم يسبق لها مثيل، وقد ظهرت جليّاً في عهد الرئيس جعفر نميري 1969-1985 حين أصدر قانون الأراضي غير المسجلة سنة 1970 م وبموجبه تم تحويل ملكية الأراضي للدولة بما فيها الحواكير التي كان يعتمد منها رجالات الإدارات الأهلية في مواردها، كما أصدر في العام نفسه قراراً بحل جهاز الإدارة الأهلية بدارفور[41].
وعلى إثر تلك القرارات تأثرت الإدارة الأهلية بمدينة كتم للاستهداف والاختراق من قبل بعض الحكومات الوطنية التي لم ترد لتلك البقعة الآمنة أن تعيش بعيدة عن جو الخلاف والاختلاف، فاكتنفها الضعف والوهن، خاصة عندما تم تسييس رجالات الإدارة الأهلية لخدمة أجندة السلطة الحاكمة في الدولة، ومن هنا استغلت الشأن القبلي ومجتمع القبيلة في حل الاضطرابات الأمنية التي عاشتها المنطقة خلال الثلاث عشرة سنوات الماضية، الأمر الذي خلق مجتمعاً لم يألفه إنسان المنطقة طوال تاريخها الطويل، فانشغل الناس بهموم وقضايا ليست لها علاقة بالتعايش، بل أصبح الجميع يعترفون بالفروع دون الأصول، فانعدم قانون كرامة الإنسان واحترام الآخرين، ونسي البعض أن من غاية الخلق التعارف وليس التناحر، والعيش وليس التشرد.
أيضاً زادت الحالة سواءً عندما أصبحت الإدارة الأهلية مطية في تنفيذ السياسات غير ذات الصلة باختصاصاتها وواجباتها الأهلية، مما أدخلها في خفص الاتهام، ومن هنا فقدت كل القيادات مصداقيتها بين الأهل، ومن هنا فقدوا أهليتهم وحياديتهم المطلوبة منهم، فأصبح كل رجل إدارة أهلية يكيل الكيل للآخرين بالحقد والحسد، كما سعوا كثيراً في نشر ثقافة النزاعات والصراعات فالحروب المدمرة.
وفي ظل تلك التصورات بدأ دور الشخصية الدارفورية عامة وكتم خاصة تصاب بالشلل نتيجة للسياسات الخاطئة من قبل السلطة الحاكمة، ولهيمنة المصالح الشخصية على العامة، وخاصة عندما أدركت النظام أن الزعامات القبلية تتربع على سلطات هائلة جعلت منها أشبه بمراكز القوة السياسية، مما حدى ببعض ضعاف النفوس إلى تبني سياسات جديدة تضعف من نفوذ شيوخ وقيادات القبائل فتآكلت تلك النفوذ القوية والصلبة في قول الحق عندما وجدت نفسها في قفص الاتهام، وبالتالي فقدت السلطة الأهلية رمزيتها الاعتبارية[42].
وعلى هذا النمط كان الشيخ في قريته أو فريقه يقوم بدور رجل الشرطة في حل النزاعات والصراعات التي تحدث بين الفينة والأخرى، ووسط أهله يقوم مقام الحكومة في رتق النسيج الاجتماعي بين المزارع والراعي، ويعمل كالسفير لقبيلته أينما ذهب أو حلّ، أمًا القيادات الأهلية الوسطى كالعمد فدورهم أكبر من ذلك في القضاء على المسائل المختلفة حولها بين المجموعات القبلية، وفي كل يعكس رجل الإدارة الأهلية سمعة قبيلته في التسامح والتعارف والتعاون وسط القبائل الأخرى، كما كان له سلطات إدارية وقضائية واسعة.
أما القيادات العليا كالنظار والشراتي فكانوا يقومون بدور (الولاة) ويتمتعون بسلطات إدارية وقضائية ومعنوية كبيرة بجانب الاحترام والتقدير وفق الأعراف والتقاليد من المجتمع والدولة مع الحياد الكامل في المجالات الاجتماعية والسياسية، مما وفر لهم الثقة وسط جميع الأطراف على المستويين الفردي والجماعي[43]، ومع أن بدأ الصراع الدارفوري يلوح في الأفق منذ بداية عام 2003م وحتى يومنا فقد فقدت الإدارة الأهلية فعاليتها التي كانت تمثل رجل الدولة بصلاحيات عُرفية كبيرة وسط أهله والحكومة أيضاً.
فالنظام الأهلي هو عبارة عن منظومة اجتماعية الهدف منها نشر ثقافة السلام الاجتماعي، والاهتمام بوحدة الأهالي وتماسكهم، وفق عادات وتقاليد وأعراف معينة، بل هو نتاج لتعايش وتعاون في كافة مجالات الحياة المختلفة، وهنا يشكل الإنسان اللبنة الأولى في بناء المجتمع، لذلك من باب الضرورة معرفة تركيبته السيكولوجية، وبالتالي تتوسع دائرة الحماية بدءاً من محيط الأسرة لتأخذ الشكل الهرمي المعروف بالإدارة الأهلية، والتي تبدأ بالشيخ كأصغر وحدة إدارية وتنتهي بناظر القبيلة وهكذا.
وبموجب ذلك التطور الإداري، أصبح للإدارات الأهلية في دارفور عامة وفي منطقة كتم على وجه الخصوص دوراً محورياً ممثلا في بلورة وتكييف حالة المجتمع بصورة تجعل الجميع يألف ويأنس للآخر دون كلل أو ملل، فكان لكل زعيم قبيلة في ممارسة السلطة، فله الحرية المطلقة في التوجيه والإرشاد، كما كانت لهم هيبتهم التي سخروها للدفاع عن قبائلهم وعشارئهم، وتأمين مناطقهم من الاضطرابات التي تحدث من وقت لآخر، ونتيجة للمتغيرات البيئية التي صاحبت المنطقة كعامل الجفاف والتصحر، وأخيراً انتشار ثقافة الحرب واستباحة الآخر وأصبح للإدارة الأهلية شرعيتها في صدور القوانين والتشريعات التي تلائم حاجة إنسان المنطقة.
لذلك عندما أدرك المستعمر أهمية الإدارة الأهلية في بناء النسيج الاجتماعي، سعى في تطبيق الحكم غير المباشر في كل أنحاء إقليم دارفور، وقد نالت كتم حظها من تلك المتغيرات السياسية، والتي حققت نجاحاً منقطع النظير فكانت الإدارة الأهلية غير عون وسند في إدارة شؤون البلاد خاصة في المناطق الريفية، ومن هنا وجد المستعمر في الإدارة الأهلية جهازاً إدارياً قليل التكلفة واسع الانتشار، وبالغ الأثر في المجتمع، مما دفعه في تعيين رقم من زعماء القبائل وقياداتها كرؤساء لأهاليهم بمسميات مختلفة، ووفقاً لتقاليد وأعراف كل منطقة[44]، ومن هنا فقد لعبت الإدارة الأهلية في أحد المقاديم دوراً هاماً ومهورياً في بسط الأمن والاستقرار، وفي بناء العلاقات بين القبائل، وتفعيل علاقات حسن الجوار والتعايش السلمي بين مختلف المجموعات الإثنية، هذا إضافة لتفانيها في خدمة الأنظمة المتعاقبة استعمارية ووطنية وشمولية وديمقراطية، حتى أصبحت الإدارات بمثابة آلية فاعلة في تنفيذ قوانين الدولة[45]، وعلى ما ذكر نخلص إلى جملة من الحقائق، أهمها:
* تمتلك الشخصية الدارفورية خلفيات فكرية متجذرة بشأن الحكم والإدارة، مع وعي عميق بمفهومية الدولة وعلاقتها بالمواطن، والتي تطورت وتشكلت بطريقة هادئة من خلال الممارسة اليومية.
* لعبت الإدارة الأهلية في شمال دارفور عامة، ومنطقة كتم بصفة خاصة دوراً أساسياً في بناء التسلسل الهرمي الدقيق والواضح للسلطة، حيث صار لكل فرد في المجتمع موقعه الاجتماعي والسياسي، لذلك كان الجميع متماسكون مع بعضهم، ولم يألفوا أبداً صراعاً مكشوفاً على السلطة أو حرباً أهليةً على أساس نزاع حول كرسي الحكم، بل ظلَّت النزاعات تدور غالباً حول الموارد الطبيعية فقط، بيد أنها ظلَّت مضبوطة بأعراف وتقاليد اجتماعية موروثة تطورت إلى آليات مقبولة إجتماعياً لفض النزاعات والسيطرة عليها.
* إن نضال السلطان علي دينار لاستعادة عرش سلطنة الفور يكشف وجهاً آخر يؤكد أهلية أهل دارفور في المحافظة على وتيرة الحكم والثقافة والتراث.
* إنّ علاقة المواطن بالسلطة في دارفور تمثل جزءاً من مفهومه للحياة، فالسلاطين والملوك والشراتى والنظار والعمد والدمالج والشيوخ ليسوا مجرد مناصب سلطوية فقط بل اكتسبوا بعداً روحياً تمثل، في الاحترام و الأسوة الحسنة، مما جعل التركيب القبلي لشعب الإقليم عامة، وكتم خاصة يخلو من التنافس على أساس القبيلة، خاصة قبل الصراع الدارفوري.
* ظلَّت جماهير كتم سنداً قوياً للدولة منذ سنين خلت، فمؤتمر الخريجين الذى تكون بأم درمان عام 1937م وجد طريقه للفاشر بعد عامين فقط، ثمَّ جاءت مظاهرات عام 1948م بالفاشر ضد المجلس الاستشاري لشمال السودان والجمعية التشريعية تأكيدا للتواصل القومي، ومشاركة أهل الإقليم في الكفاح الوطني جنباً لجنب مع كل أهل السودان في المناطق والأقاليم الأخرى.
* رغم تدهور التعليم، وانعدام آليات الوعي الجماهيري بكتم، إلا أن الأهالي صمدوا أمام تلك التحديات، فالمتعلمون من أبناء كتم يسعون في ترقية أهاليهم البسطاء، الأمر الذي جعل القاعدة الجماهيرية تتحرك بتلقائية تجاه الأحداث القومية، من خلال الدفع الذاتي، ومن عمق التاريخ الذى يتميز به أهل المنطقة.
* قوة شخصية إنسان كتم خلقت نوعاً من روح المبادرة البناءة خاصة في إدارة الأزمات التي ما فتأت تؤرق المجتمع اليوم.
* عندما فرض برنامج “التوالي والأمارة” لإعادة توزيع إدارات القبائل الكبرى من باب الكيد السياسيي اصطدمت مفاهيم التعايش بمفاهيم الهوية والجهوية والعنصرية، مما أحدث نوعاً من عدم الثقة بين العشائر والبطون، الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من القبائل، فكان الاضطراب والاحتراق.
* على الرغم من أن الإدارة الأهلية في كتم ظلت سنداً قوياً للسلطة المركزية، إلاّ أنها أصبحت حبيسة الأطماع الشخصية بعد افتعال أزمة دارفور.
أسباب ضعف بنية الإدارات الأهلية :
هنالك عدة أسباب موضوعية وغير موضوعية أدت إلى إضعاف البنية الإدارية في منطقة كتم منها:
* السياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومات الوطنية في حل الإدارات الأهلية.
* النزوح القلبي المستمر من دول الجوار نتيجة للصراعات والنزاعات الحدودية.
* إلغاء قانون ملكية الأراضي والحواكير، الأمر الذي أثر في العلاقات بين المزاع والرعي.
* ظهور بعض المجموعات الوافدة، والتي تريد أن يكون لها سلطة موازية لسلطة الإدارات الأهلية القديمة.
* تسييس نظام الإدارة الأهلية في كل ولايات السودان.
التوصيات:
* ضرورة مراجعة القوانين والنظم التي يتم بها تعيين رجالات الإدارة الأهلية.
* تفعيل دور الإدارات الأهلية في المحافظة على الأمن والاستقرار.
* ضرورة تأهيل وتدريب الإدارات الأهلية في كيفية حمل الأمانة.
*إعادة هيكلة الإدارة الأهلية، وفق الأعراف والتقاليد التي قامت عليها، وإبعادها من براثن التسييس اللعينة التي كثيراً ما تساعد في اشتعال فتيل القتال والاقتتال.
*ضرورة توفر عنصر الحيادية في الأداء حتى يتسنى للجميع العيش الكريم، والاستقرار الاجتماعي، وإعادة دور القضاء في حفظ أمن وحقوق الإنسان.
* الاهتمام بالتعليم النوعي وليس الكمي.
* ضرورة الوفاء العهود والمواثيق بين الإثنيات المختلفة، حتى يكفل للجميع رتق النسيج الاجتماعي.
خاتمة:
أكدت الدراسة أن للإدارة الأهلية دور فاعل في ترسيخ قيم المجتمع من الناحية العدلية والقيمية، ونشر ثقافة السلم الاجتماعي والثقافي والفكري، هذا بجانب تحقيق قيم الأمن، غير أن تلك القيم قد اندثرت عندما استغلت الإدارات الأهلية في الممارسات الساسية مما أدى إلى فقدان سيرتها الأولى.
قائمة المراجع :
- أبو سليم، محمد إبراهيم (1957م)، الفور والأرض وثائق تمليك، دار التأليف والترجمة والنشر جامعة الخرطوم، ط1.
- اسحاق، إبراهيم محمد (1998م)، دارفور وخدمة الحرمين الشريفين، الطابعون دار نور البشير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1.
- أوفاهي، ر.س (2000م)، الدولة والمجتمع في دارفور، ترجمة عبدالحفيظ سليمان، مركز الدراسات السودانية، الخرطوم، ط2.
- أحمد إدريس يوسف (2011م)، حقيقة الحواكير [الأرض المجتمعية ونظام الإدارة الأهلية في دارفور مذكرات جي أي إتش وستيد (1935-1938م)، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط1.
- آدم، ايدام عبد الرحمن آدم (2008م)، دارفور تاريخ منذ عهد السلطنات في العصور الوسطى، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط1.
- أرباب، أحمد عبد القادر (1998م)، تاريخ دارفور عبر العصور، جامعة الخرطوم، بنك الغرب الإسلامي، ط2.
- التونسي، محمد بن عمر (1965م)، تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب السودان، حققه وكتب حواشيه خليل محمود شاكر ، مصطفى محمد سعد، راجعه محمد مصطفى زيادة، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر القاهرة، 1965م.
- الحسن، موسى مبارك الحسن (1995م)، تاريخ دارفور السياسي 1882-1898م، دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع، ط1.
- الزين، آدم الزين محمد(2011م)، اللامركزية وقضاياها وتطبيقاتها في السودان، من منظور الحكم الرشيد، مركز التدريب الإداري الخرطوم، ط1.
- سعد، مصطفى محمد(دون تاريخ)، سلطنة دار فور – تاريخها وبعض مظاهر حضارتها، ط1.
- شرفي، محمد أحمد (1991م)، صور من الأداء الإداري في السودان 1942-1973م، دار جامعة الخرطوم للنشر، ط1.
- شطة، عبد الشافع عيسى مصطفى أحمد (2010م)، دارفور الأرض والحواكير، الناشر وادي صالح للطباعة والتغليف الخرطوم، ط1.
- عبدالله، علي حسن (1986م)، الحكم والإدارة في السودان، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط1.
- عثمان، عبد الجبار عثمان (2006م)، تاريخ الزغاوة في السودان وتشاد، القاهرة المصرية الدولية للدعاية والتوريد، ط1.
- عثمان، الأمين محمود محمد (2011م)، سلطنة الفور الإسلامية، دراسة تحليلية 1400-1960م، الخرطوم شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط1.
- عثمان تاج السر عثمان (2008م)، الدولة في السودان الحديث، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، ط1.
- عبدالله، علي حسن (1986م)، الحكم والإدارة في السودان، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط1.
- قمر الدين، محمد موسى محمود (2005م)، صفحات في تاريخ دارفور، الخرطوم، ط1.
- قنديل حسن قنديل(1937م)، فتح دارفور سنة 1916م ونبذة من ريح سلطانها علي دينار، الناشر مكتبة الشريف الأكاديمية، الخرطوم، ط1.
- كرار عبد العزيز على(1990م)، مستقبل الإدارة الأهلية في السودان بحث غير منشور، دبلوم الإدارة العامة في الحكم الإقليمي والمحلي، الدفعة السادسة 1989م أكاديمية السودان للعلوم الإدارية، ط1.
- البصيلي، الشاطر عبد الجليل (1972م)،تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، ط1.
- الكنجاري، جمعه محمد أحمد (2005م)، الحكم المحلي، المفهوم والخصائص، مذكره تدريبية أكاديمية السودان للعلوم الإدارية، ط1.
- العقيد، سيد أحمد علي(2005م)، دارفور الماضي والحاضر والمستقبل، دراسة سياسية، الخرطوم، ط1.
- متولي،عبد الحميد (1969م)، تطورات نظام الحكم في السودان منذ أقدم العصور، الجزء الأول، ط1.
- محمداني،محمد أحمد (2005م)، إدارة السودان الحديث المسئوليات والتحديات،مطبعة جامعة الخرطوم، ط1.
- محمود،حسن سليمان محمود (1957م)، تاريخ السودان من أقدم العصور إلى الآن، ، الناشر مطابع دار الكتاب العربي مصر، ط1.
- من الله، شيخ الدين يوسف(دون تاريخ)، الحكم المحلي خلال قرن عرض تحليل لتجربة السودان 1899-1998م، ط1.
- Arkell ,A(1951).History of Darfur , Khartoum .
- Mac Michel ,M.A(1922).A history of the Arabs in the Sudan .Cambridge viol 1.
- S. O’Fahey,(1980). State and Society in Darfur, C Hurst & Company, London.
[1] -سورة الملك:15.
[2]– سورة المطففين:26.
[3]– سورة الحجرات:13.
[4]– أرباب، أحمد عبد القادر(1998م)، تاريخ دارفور عبر العصور، جامعة الخرطوم، بنك الغرب الإسلامي، ط2، ص12 .
[5]– المرجع نفسه، ص34.
[6]– كرار، عبد العزيز على(1990م)، مستقبل الإدارة الأهلية فى السودان بحث غير منشور، دبلوم الإدارة العامة فى الحكم الإقليمي والمحلي، الدفعة السادسة 1989م أكاديمية السودان للعلوم الإدارية، ط1، ص17.
[7]– شطة، عبد الشافع عيسى مصطفى أحمد (2010م)، دارفور الأرض والحواكير، الناشر وادي صالح للطباعة والتغليف الخرطوم، ط1، ص137.
[8]– عثمان، الأمين محمود محمد (2011م)، سلطنة الفور الإسلامية، دراسة تحليلية 1400-1960م، الخرطوم شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط 1، ص396.
[9]– الزين،آدم الزين محمد (2011م)، اللامركزية وقضاياها وتطبيقاتها في السودان، من منظور الحكم الرشيد، مركز التدريب الإداري الخرطوم،ط1، ص18.
[10]– عثمان، الأمين محمود محمد (2011م)، مرجع سابق، ص299.
[11]– المرجع نفسه، ص300.
[12]– شطة، عبد الشافع عيسى مصطفى أحمد (2010م)، مرجع سابق، ص67.
[13]– الزين،آدم الزين محمد (2011م)، مرجع سابق، ص10.
[14]– مرجع نفسه، ص11.
[15]– R.S. O’Fahey,(1980). State and Society in Darfur, C Hurst & Company, London.p14.
[16]– قنديل،حسن قنديل(1937م)، فتح دارفور سنة 1916م ونبذة من ريح سلطانها علي دينار، الناشر مكتبة الشريف الأكاديمية، الخرطوم، ط1، ص23.
[17]– عثمان، عبد الجبار عثمان (2006م)، تاريخ الزغاوة في السودان وتشاد، القاهرة المصرية الدولية للدعاية والتوريد، ط1، ص6.
[18]– عثمان، الأمين محمود محمد (2011م) ، مرجع سابق، ص299.
[19]– من الله، شيخ الدين يوسف(بدون تاريخ)، الحكم المحلي خلال قرن عرض تحليل لتجربة السودان 1899-1998م، ط1، ص11.
[20]– الزين،آدم الزين محمد (2011م)، مرجع سابق، ص21.
[21]– عثمان، تاج السر عثمان (2008م)، الدولة في السودان الحديث، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، ط1، ص31.
[22]– الحسن، موسى مبارك الحسن (1995م)، تاريخ دارفور السياسي 1882-1898م، دار الخرطوم للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، ص11.
[23]– أبو سليم،محمد إبراهيم (1957م)، الفور والأرض وثائق تمليك، دار التأليف والترجمة والنشر جامعة الخرطوم، ط1، ص49.
[24]– أوفاهي،ر.س (2000م)، الدولة والمجتمع في دارفور، ترجمة عبدالحفيظ سليمان، مركز الدراسات السودانية، الخرطوم، ط2، ص106.
[25]– عبد الشافع عيسى مصطفى أحمد شطة، دارفور الأرض والحواكير، الناشر وادي صالح للطباعة والتغليف الخرطوم ، الطبعة الأولى 2010، ط1، ص88.
[26]– التونسي، محمد بن عمر (1965م)، تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب السودان، حققه وكتب حواشيه خليل محمود شاكر ، مصطفى محمد سعد، راجعه محمد مصطفى زيادة، الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1965، ط2، ص181.
[27]– (التونسي،1965م) ، مرجع سابق، ص 234.
[28]– متولي، عبد الحميد (1969م)، تطورات نظام الحكم في السودان منذ أقدم العصور، الجزء الأول، ط1، ص11.
[29]– محمود، حسن سليمان محمود (1957م)، تاريخ السودان من أقدم العصور إلى الآن، الناشر مطابع دار الكتاب العربي مصر، ط1، ص87.
[30]– محمداني، محمد أحمد(2005م)، إدارة السودان الحديث المسئوليات والتحديات، مطبعة جامعة الخرطوم، ط1، ص67.
[31]– Mac Michel ,M.A(1922).A history of the Arabs in the Sudan .Cambridge viol 1 P79.
[32]– Arkell ,A(1951).History of Darfur , Khartoum ,P37-70.
[33]– اسحاق، إبراهيم محمد(1998م)، دارفور وخدمة الحرمين الشريفين، الطابعون دار نور البشير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، ص123.
[34]– البصيلي، الشاطر عبد الجليل(1972م)، تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط، الهيئة المصرية للكتاب القاهرة، ط1، ص 383.
[35]– Arkell,1951:22.
[36]– 1922:79،Mac Michel.
[37]– عثمان، عبد الجبار عثمان (2006م) مرجع سابق، ص66.
[38]– الزين،آدم الزين محمد (2011م)، مرجع سابق، ص77.
[39]– الكنجارى، جمعه محمد أحمد (2005م)، الحكم المحلي، المفهوم والخصائص، مذكرة تدريبية أكاديمية السودان للعلوم الإدارية، ط1.
[40]– شطة، عبد الشافع عيسى مصطفى أحمد (2010م)، مرجع سابق، ص44.
[41]– أحمد، إدريس يوسف(2011م)، حقيقة الحواكير [الأرض المجتمعية ونظام الإدارة الأهلية في دارفور مذكرات جي أي إتش وستيد (1935-1938م)] شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط1.
[42]– سعد، مصطفى محمد(دون تاريخ)، سلطنة دار فور – تاريخها وبعض مظاهر حضارتها، ط1، ص29.
[43]– عبد الله، علي حسن(1986م)، الحكم والإدارة في السودان، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط1.
[44]– عبدالله ، علي حسن(1986م)، الحكم والإدارة في السودان، دار المستقبل العربي، القاهرة، ط1.
[45]– قمر الدين، محمد موسى محمود(2005م)، صفحات في تاريخ دارفور، الخرطوم، ط1.