سوسيولوجيا الانتحار … رؤية شعرية
Suicide sociology … poetic vision
أ.د. عامر صلاّل راهي الحسناويّ، جامعة المثنى/كلية التربية للعلوم الإنسانية(العراق)
Amer Sallal Rahi Al –Hasnawi, Al -Muthanna University/College of Education for Humanities (Iraq)
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 76 الصفحة 19 .
الملخص:
لمّا كان الشعر ديوان العرب من جهة، ومرآة عاكسة للبيئة والعصر اللّذين أنتجاهُ من جهة أخرى، والشاعر في كِلا الوجهتين يمثّل لسان حال، أو قُل: الواجهة الإعلامية لتلك البيئة وذلك العصر؛ ومن هنا فقد جاء هذا البحث لبيان الرؤية الشعرية لواحدةٍ من خطر المشاكل الاجتماعية المستعصية التي عصفت بالمجتمع العربي على مختلف الأزمان، تلك هي ظاهرة الانتحار، فربأ البحث على استقصائها في دوالها السياقية، الحقيقية منها والمجازية، ثم استظهار أشكال الانتحار التي حدّها أرباب السوسيولوجيا، والأسباب التي تقف وراء استشرائها على مرّ العصور، بعدما وجدت هذه الأشكال والأسباب أرضاً خصبة لها في المنظومة الشعرية؛ ولعلّ استظهار الشعر لتلك الظاهرة ورصدها من لدن الشعراء يتأتى بوصف هذا الرصد وجهاً من وجوه المعالجة من حيث التنبيه لخطرها والإيماء إليها من أجل تحجيمها والحيلولة دون استفحالها وصيرورتها جائحة، ومن ثم إيجاد الحلول الناجعة لدرئها وتعزيز قيمة الإنسان بنفسه، وتدعيم الهوية الإنسانية التي حباها الله تعالى بالتكريم لدى ولد آدم عامةً.
الكلمات المفتاحية: سوسيولوجيا – الانتحار – رؤية – الشعر العربي
Summary:
When poetry was the Diwan of the Arabs on one hand, and a mirror reflecting the environment and the era that it produced it, on the other hand. The poet, in both sides, represents a mouthpiece, or to say: the media interface for that environment and that era. Hence, this research came to clarify the one poetic vision of the danger of the intractable social problems that have afflicted the Arab society at various times. This is the phenomenon of suicide which stands behind its spread throughout the ages. These forms and causes found fertile ground for it in the poetic system, and perhaps the recitation of poetry for that phenomenon. Its monitoring by the poets comes by describing this monitoring as one of the aspects of the treatment in terms of alerting to its danger and nodding to it in order to reduce it and prevent its escalation and its becoming a pandemic, and then finding effective solutions toward off it, enhancing the value of the human being himself. In addition to that, it comes to consolidate the human identity that God Almighty has loved by honoring the sons of Adam in general.
Keywords: Sociology – Suicide – Vision – Arab poetry
توطئة:
ممّا لاشكّ فيه أنّ الشاعر يمثّل مرآةً لبيئته، وانعكاساً لروح عصره، دالاًّ عليهما، ومتمثّلاً إيّاهما في كلماته وبين طيّات شعره؛ ولاسيما حين يتشبّع المحيط من حوله بالشكوى، ويستشري فيه كل ما يلذع بالألم، ومن البدهي انّ هذا التألّم وتلك الشكاية، دليل على عدم الرضا، الذي يفضي إلى السعي لتغيير هذه الحال السيئة، ولعل تلك عُدّة الشاعر وغاية مجتمعِه المستقبلية، وأملهما الوحيد للإصلاح المنشود على صعيد الفرد والمجتمع على السواء، فالشعر لا تتوقف قيمته على متعته ولذّته فحسب بل يجب أن يكون قبالة تلك المتعة واللّذّة منفعة وفائدة متحصّلة منه، وهذا ما نلمسه في قول الفارابي((والأقاويلُ الشعريةُ منها ما يُستعملُ في الأمورِ الّتي هي جدٌّ، ومنها ما شاءَ أن تُستعملَ في أصنافِ اللَّعبِ، وأمورِ الجدِّ التي هي جميعُ الأشياءِ النَّافعةِ في الوصولِ إلى أكملِ المقصوداتِ الإنسانيةِ، وذلك هو السعادةُ القصوى))([1])، فالجانب النافع والمفيد في الشعر يتمثّل في إسهامه بارتقاء الإنسان من خلال تأثيره في سلوكه وتوجيه أفعاله لتحقيق الغاية القصوى من وجوده وهي السعادة التي تعدّ من أكمل المقصودات الإنسانية، وهذا الأمر من دون شكّ ينسحب على ماهية دور الشاعر في مجتمعه الذي لا يقلّ أهمية عن دور أي مؤسسة اجتماعية أو تنموية أو إعلامية، فهذه المؤسسات من لبّ وظيفته، ومن مكملات رسالته النهضوية؛ فلا وجود للمرء الشاعر خارج رحم المجتمع، ولابدّ من تماهي الأنا وذوبانها في كيان النحن([2]).
وتأكيداً لفاعلية أثر الشعر والشاعر وإسهامها في البناء والتقويم المجتمعي سنحاول الوقوف هنا عند واحدة من المحطّات الجدّية التي هزّت كيان المجتمعات بالنظر لسوداوية أفكارها، وكآبة أبعادها، وقتامة موضوعها، ألاَ وهي ظاهرة الانتحار وكيفية تصدّي الشعراء لها عبر مختلف عصورهم الأدبية وتشخيصهم لحيثيات تلك الظاهرة سلباً وإيجاباً.
وبالنظر لصعوبة استحصال بعض المصادر الورقية من المكتبات-لإغلاق أكثر تلك المكتبات ومحدودية وقت عمل بعضها الآخر بسبب جائحة كورونا وتعارضه مع أوقات عملي- فقد عوّل البحث على الشبكة العنكبوتية، ولاسيما ما يتعلّق ببعض الدواوين، وكذلك بعض المعلومات المهمة عن موضوعة الانتحار، وقد انتظم البحث في ثلاثة محاور رئيسة: أولها في المفهوم والنوع على صعيد اللغة والاصطلاح، وثانيهما بحث في أسباب هذه الظاهرة، أما المحور الثالث فقد حاول وضع اليد على الحلول والمعالجات، ومصاديق هذه المحاور قد اجترحناها من قريض الشعراء سواء أكانت على سبيل الحقيقة والقصد، أم تأوّلناها على وفق ما يقتضيه المقام والسياق، ومن الجدير بالتنويه انّ مادة بعض المحاور قد فرضت نفسها على البحث من حيث عدم تقيّده أو مراعاته للسّبق التاريخي بين النماذج الشعرية المستشهد بها، فضلاً عن كينونة الانتحار من الأمراض الاجتماعية العصرية هي من فرضت تلك التقدمة للشعر الحديث على حساب القديم في تلك المواضع الموما إليها.. والله الموفق.
- الانتحار مفهومه وأنواعه:
- الانتحار لغةً:
ورد في اللغة، الانتحار مصدرٌ للفعل اِنتَحـَرَ، هو قتلُ النَّفسِ عمداً([3])، بعبارة أخرى هو إصابةُ الإنسانِ لنفْسه قصدَ إفنائهـا، ويقالُ:((انْتَحر الرجلُ اي نَحَر نفسه))([4])، أي أنّ الانتحارَ مأخوذ من النَّحرِ الذي هو أعلى الصدر، وعُبرَ بـه للغالب؛ بمعنى انّه غالباً ما يكون قتلُ النَّفسِ ونَحَرُها مِنْ أَعْلَى الصَّدْرِ، مِن العُنُقِ([5])؛ دلالةً السرعة في الهَلَكة.
التفت أرباب اللغة إلى بعض أنواع الانتحار على سبيل الحقيقة تارةً، والمجاز تارةً أخرى، ومن ذلك:
- الانتحار الأخلاقيّ: المتأتي من(( تعريضُ السّمعة والنفوذ لخطر الزوال، إضرار بالذات، أو جلب الكارثة عليها))([6])، ويُعرف كذلك بـ[ انتحار الأمّة ]([7])، ويتخذ سبيلين:
أولهما: مباشر: أي أنّ المنتحِر يُقدِم على قتل نفسه بيده، كما في إشارة الرصافي* إلى انتحار عبد المحسن السعدون([8])؛ وذلك في قوله([9]):
شبَّ الأسَى في قلوبِ الشَّعبِ مُستعِرا يومَ ابنُ سعدونَ عبد المحسن انتحَرا
يومٌ بــــــــهِ كلُّ عينٍ غيرُ مبصرةٍ إذ كانَ إنسانُها في الدَّمعِ منغمِرَا
يومٌ بهِ البرقُ رجَّ الرافدينِ أسىً غداة أدَّى إلـــــــــى أقصاهما الخَبَرَا
لقد كان عبد المحسن السعدون شخصية فريدة من نوعها؛ إذ كان مثالاً للشجاعة والاستقامة والكفاءة الإدارية، وكان دائم الخشية على سمعته والتمسّك بالمبادئ العليا وكان يتقن اللغة التركية كاتقانه للغة العربية، فالسعدون مثّل ظاهرة متميزة وفريدة في المشهد السياسي العربي والعراقي على السواء، ولاسيما في النصف الأول من القرن الماضي، فانمازت سيرته ومسيرته أنه عاصر عهدين مهمين في تاريخ العراق الحديث، هما: العهد العثماني الأخير، وعهد الانتداب البريطاني([10])؛ أمّا سبب انتحار السعدون فقد جاء احتجاجاً على مهاجمة بعض النواب في مجلس النواب لسياسته ووصفوها بالعمالة لبريطانيا ورفضه بشدة لتلك الاتهامات فقرّر أن ينهي حياته بتاريخ 13تشرين الثاني 1929م([11])، وقد جرى له تشييع رسمي وشعبي مهيب في بغداد إحتفاءً بوطنيته([12]).
أمّا الثاني: غير المباشر: وهو عدم إقدام المنتحر على قتل نفسه بيده وإنّما بيد الآخر كما نلحظه في قول عمر بن لجأ([13]):
وَيَومَ تَيمَنَ نَحنُ الناحِرونَ بِها جَبّارَ مَذحِجَ وَالجَبّارُ يَنتَحِرُ
أشار الشاعر بـ[يوم تيمن([14])] إلى الكلاب الثانية وهي من وقائع الجاهلية بين مَذحِج وتميم، وهنا يفخر عمر بانتصار قومه-تميم- على مَذحِج، وإعمالهم السيف في نحور أعدائهم المتكبّرين الذين لم يقبلون النصيحة في العودة إلى أدراجهم، ومن ثم فهذه الهزيمة أفضت إلى انتحار زعيم مَذحِج، عبد يغوث بن الحارث بن وقاص الحارثي بعد وقوعه في أسرِ التميميين، فطلب منهم قبل موته أن يسقوه خمرًا ثمَّ يعمدوا إلى قطع عرقه الأكحل؛ حتى يموت نزفاً عقوبةً لنفسه وشرفه الذي أريق ماؤه واستشعاره للذلِّ بعد ذهاب ملكه وهزيمته؛ إذ كان سيد قومه وفارسهم، فأنشد قصيدته التي مطلعها وهو ينتظر الموتَ، ويعيش لحظاته غصةً بعد غصّةٍ([15]):
ألا لا تلوماني كفى اللَّومَ ما بيا وما لكما في اللَّوم خيرٌ ولا لِيا
وكما نلحظ فالانتحار ههنا قد وقع عمداً، وبطريق غير مباشرة؛ فالعمدية تتبيّن من خلال طلب عبد يغوث طريقة قتله التي لم تكن من السهولة بمكان، وهي الموت البطيء؛ إذ كان بإمكانه-وقتئذ- أن يختار موتةً فيها إراحة سريعة للنفس من تجرّع الألم كأن تكون طعناً مباشراً بالسيف في أحشائه، أو قطع رأسه، أو شنقه، وغيرها من سبل الاعدام والانتحار في الآن معاً؛ وكأنّنا بعبد يغوث أراد أن يحفظ لنفسه ما بقي من النزر اليسير للكرامة.
- انتحار السَّحاب: وهو((انبعاقه مُصوِّتًا بالمطر))([16])، ويأتي هذا الانبعاق أو الانهمار فجأةً ومن دون سابق إنذار من تغيّر حالة المناخ؛ ولشدّة انصبابه وغزارته فهو يؤدي إلى انشقاق الأرض تحته، وهذا اللون من الانتحار قد ورد على لسان الراعي النميري بقوله([17]):
وَرَجّافاً([18]) تَحِنُّ المُزنُ فيهِ تَرَجَّزَ مِن تِهامَةَ فَاستَطارا
فَمَرَّ عَلـــــــــى مَنازِلِها فَأَلقى بِها الأَثقالَ وَاِنتَحَرَ اِنتِحارا
- الانتحار الجماعيّ: ضرب اللغويون المحدثون مثلاً لهذا اللون من الانتحار بالخروج الجماعيّ لبعض الحيتان من البحر إلى الشَّاطئ([19]). وكأنّنا بهم قد قصروه على جنس الحيوان أو أنّه من باب الشيوع والغَلَبة على الرغم ممّا نقلته لنا المدوّنات التاريخية من عمليات انتحار جماعية لطوائف بشرية، ولعلّ أقدمها انتحار 960 شخصاً من طائفة يهود السيكاري في القرن الأول الميلادي، ويعدّ انتحار ليتوانيا عام 1336 هو الأضخم تاريخياً إذ ذهب ضحيته 4000 شخصاً([20])؛ إلاّ أنّ بُعدَ هذه الحوادث عن مسامع العرب الأوائل آنذاك جعل البحث يزعم بقصر هذا اللون من الانتحار على الحيوان حصراً، وضرب الشعراء للانتحار الجماعي مثلاً بانتحار العِير، وهي قوافل الإبل والبغالِ والحميرِ التي يجُلب عليه الطَّعامُ؛ إذ كانت هذه الحيوانات تُقدِم على الانتحار جرّاء مكابدتها ونَصَبِها لما تنوء به من أحمال ثقيلة ولمسافات طويلة وسط الفيافي المجدبة مع قلّة أرزاقها، وهذا ما نلمحه حاضراً في هجاء أحمد نسيم لميمون أحد رجالات الحكم العثماني في عهد الخديوي بمصر، وقد وافته المنيّة منتحراً، وكان عبداً، أسود البشرة([21]):
مُتْ رغمَ أنفِكَ يا ابنَ العبدِ لا قدرا كي لا تدنّس يـومَ القبضِ عزرينا
لم ألـــــــــقَ غيرَكَ طيناً لو نحاله لكانَ طيناً بماءِ اللُّؤمِ معجونا
إذا انتحرتَ انتحارَ العيرِ نجزرُها جئنَا إليكَ بِفُحشِ الهجوِ تَأبِينا
فــــلاَ محاسنَ يومَ الموتِ نذكــرُها لَو كنتَ إسكندراً أو كنتَ قارونا
يخاطب الشاعر مهجوّه المسجّى في ملحودته بأنّه قد دنّس ملك الموت حين قبض روحه لنجاستها-أي الروح- مادياً ومعنوياً كونها قد جُبلت من أسوء طينة؛ فسجيّتك اللؤم والدناءة، ونحن غير مأسوفينَ على رحيلك، فضلاً عن كونكَ لم تستدرّ عطفنا عليكَ بختام حياتك منتحراً، ولو قدر لنا وحضرناكَ لحظة تفكيرك بالانتحار فلا ننآكَ عن الإقدام عليه، زدْ على ذلك فأنا أقف اليوم لأوبّنكَ بهجو القريض وفاحش التقريظ فشأنك شأن أي حيوان فَطِسَ؛ بل إنّه حتى بعض الحيوانات أفضل منك ولاسيما العِيرُ؛ كون الفائدة متحصّلة منها في حياتها من خلال النقل والتجارة، وفي مماتها فبالإمكان ذبحها وهي في النزع الأخير والإفادة منها، أمّا المؤبّن المهجو فإن حضر لا يُعد وإن غاب لا يفتقد، فتأريخه حافل بالموبقات إزاء الشاعر وبني جلدته؛ وهذا ما حمّل الأخير-أي الشاعر- إلى مقارنة ميمون بشخصيات لها مرجعياته الدينية وخصوصيتها الأثنية من حيث القداسة والدناسة فجاء بالاسكندر الأكبر أشهر الفاتحين عبر التأريخ، وقارون عنوان الثراء الفاحش مصاديق لاكتنفاء ذلك المقدّس للسلبية في بعض جنباته فالفتح يعني الانتصار وهذا الانتصار يرافقه جمّ غفير من الأرواح المزهَقةِ، في قبالة إنطواء المدنّس على الإيجابية في جزئية منه تتمثّل في كينونته وعلى الرغم من طغيان قارون وبغيه على خالقه فقد صار يُضرب به المثل فيما يُستعظم قدره لثرائه؛ ليصل الشاعر من كلّ ذلك في مهجوّه إلى أسفل دركٍ من السوء والفحش من جهة كونه مغرَقاً بالسلبيات فليس هناك من حسنةٍ تذكر في صحيفةِ أعماله.
- الانتحار اصطلاحاً:
وفي الاصطلاح، الانتحار: كل حالة موت ناجمة عن طريقٍ مباشر أو غير مباشر عن فعل إيجابي أو سلبي قامت به الضحية نفسها، وهي على يقين بما سينتج عنه([22]). واستقصت الباحثة بوسنة عبد الوافي زهير العديد من مفاهيم الانتحار لدى أهم علماء الاجتماع؛ ولعلّ أبرزها إجمالاً: بأنّه عدوان ضدّ النّفس، شعوري أو إرادي يفضي إلى الموت. (أو) أنّه ظاهرة اجتماعية، ومشكلة طبية، تجعل شخصاً ما يزهق روحه بسبب عجز عن مواجهة الواقع، أو لفشل شخصي في المشكلات الطارئة، أو يأس لعدم القدرة على التكيّف مع الظروف غير المتوقّعة أو المستجدة والمفاجئة([23]).
وعلى غرار ما رصدته اللغة من أنواع لهذه الظاهرة والتقطتها عدسة المنظومة الشعرية، كذلك كان للباحث الاجتماعي وقفته التصنيفية الخاصة، فقد جعل عالم الاجتماع(إميل دور كايم) الانتحار على ثلاثة أشكال قد عالجها الشعراء العرب، فصدحت حناجرهم تردّد أصداء تلك الألوان في قريضهم، وتتمثل بالآتي:
- الانتحار الأناني: ويسمى كذلك بالانتحار الأثري([24])، وترجع أسبابه إلى قضايا فردية ومعطيات شخصية، فيعمد إليه الفرد من تلقاء نفسه([25])، ومن أمثلة هذه المعطيات، التفكّك الأسري الذي يعانيه بعض الأفراد، نتيجة خيانة أحد طرفي للعلاقة الأسرية وهذا اللون من الانتحار يمكن أن نلمسه حاضراً في قول بشار بن برد([26]):
حَسبي بِما قَد لَقيتُ يا عُمَرُ لَم يَأتِني عَن حَبيبَتي خَبَرُ
شَهرٌ وَشَهرانِ مَرَّ قَبلَهُما شَهرانِ مُرّانِ مِنهُما صَفَرُ
يا لَيتَ شِعري ماتَت فَأَندُبُها أَم أَحدَثَتْ صاحِباً فَأَنتَحِرُ
نلحظ في أول بيتين تظاهر الشاعر برغبته العارمة في لُقيا الشريك العاطفي(الزوجة) وأشواقه الحارة إزائها بحضرة الوسيط(عمر) بعد طول غياب ليس بالقصير من قِبلِها؛ ولعل تكرار الشاعر للفظة(شهر) بصورتها المفردة والمثناة في البيت الواحد يشي بتكرار حالة القطيعة وعدم الاستقرار بينهما، فضلاً عن قصر مدة الوصل بالزوجة وسرعة مغادرتها لعشّ الزوجية، الأمر الذي أفضى إلى إفصاح بشار عن حقيقة مشاعره تجاه زوجته ورغبته في الانفصال عنها سواء بموتها قتلاً بيده أم بموته منتحراً بحجة عشقها لرجل آخر، ومن ثم فهذه الرغبة السلبية تومئ إلى عمق الفجوة الحاصلة بين الزوجين، فضلاً عن تبجّح الشاعر في إقدامه على الانتحار بذريعة خيانة زوجته إيّاه يدلّ على أنانية بشار وعدم إحساسه بكونه مرتبطاً بالمجتمع وإيمانه بقدراته الخاصة في تحديد مصيره؛ إذ إنّ((الأشخاص ذوي الميول الانتحارية عُرضةً لخطر قتْل آخَرين ثم قتْل أنفسهم. ويُعرَف ذلك بالقتْل ثم الانتحار أو بالاغتيال ثم الانتحار))([27]).
- الانتحار الإيثاري: ويُعرف كذلك بالغيري([28])، وأساسه الإفراط في التضامن الاجتماعي من لدن الفرد واستسلامه لمتطلبات مجتمعه التقليدية منها، والطقوسية، فضلاً عن الواجبات الاجتماعية التي تتطلب منه في ظروف معينة الخضوع لها ومن ثم تسليم حياته رخيصةً إثر ضغوطات تلك المتطلبات وهيمنتها([29])؛ وهذا اللون من الإيثار المجتمعي والحسّ الوطني المفرط هو ما أودى بحياة عبد المحسن السعدون-كما مرّ آنفاً- وأشار له الرصافي ثانيةً بقوله([30]):
ســعــدٌ وســعــدونَ مــحــمــودٌ مــقــامُــهــا هــذا بــمــصـر وهـذا هـا هـنـا اشـتـُهـرا
كــلاَهــمــا قــد فـــــــــدَى بــالنَّــفــسِ أمَّـتـَهُ لكــنّ ســعــدونَ لا سـَـعــداً قـد انـتـحـرا
ففي البيت الثاني إشارة بيّنة من الشاعر في كينونة السعدون كان مشبعاً بهموم شعبه حدّ التخمة إبّان الاحتلال البريطاني؛ لكن ما باليد حيلة في الوقوف بوجه المحتل الباغي لوحده على الرغم من مساعيه الحثيثة لاستعادة حقوق أبناء جلدته وإنصافهم، إذ كانت غايته المنشودة والمفعمة بشعوره الحي وعقيدته الراسخة، سعادة الأمة والوطن، ولعلّ تلك الغاية وهذه الحقيقة تتضح جليّة في وصيته التي كتبها قبيل انتحاره، جاء فيها:((… سئمتُ هذا الحياة التي لم أجد فيها لذة ولا ذوقا وشرفا.. الشعب ينتظر خدمات بينما الإنكليز لا يسمحون بتقديمها وليس لي ظهير. وإن العراقيين من طلاب الاستقلال يظنون أنني خائن للوطن وعبدا للإنكليز. ما أعظم هذه المصيبة؟؟ أنا الفدائي الأشد إخلاصا لوطني))([31])، وهكذا فقد آثر السعدون العراق أرضاً وشعباً بنفسه، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
- الانتحار الفوضوي: ويراد به الفوضوية الناجمة عن فقدان النظام الشرعي([32])، أي أنّ سببه يكمن في نقص المعايير الاجتماعية في مجتمع ما، وحصول فوضى جماعية فيه، نحو قول الشاعر أديب التقي([33]):
وَيح المَحبَّةِ قَد باتَت تُدنِّسُها هَـــذي المَفاســـد وَالآثـام وَالنُكُر
أَين الأُلــــــى قَبلَنا حَبُّوا لِطُهرِهمُ وَلِلعَفـــــــــاف وَلَــــــــــــــم يَعلَق وَضَر
الحُبُّ يصقُل مِن هَذي الحَياة إِذا عَفَّ اللِسان وَعَـــــفَّ القَلب وَالنَظَر
كانَ الفَسوق لِهَذا العَهد مُنتَحِلاً فَردَّه اليَـــــــومَ قَوم وَهُـــوَ مُبتَكَر
إِني لَأَنحرُ نَفسي فيكِ مُعتَزِلاً يا دارُ كَي لا أَرى الأَخلاق تَنتحر
حسرة عميقة تعتلج كيان الشاعر، ومن جرّائها صار يمنّي النفس بالانتحار بعد انقلاب الموازين الحاكمة للمجتمع رأساً على عقب التي أجملها بعبارة[ انتحار الأخلاق ] في آخر النص؛ إذ استشرت المآثم وتسيّد المنكر، وولّى العفاف والطُّهر وانعكاساته الإيجابية، بل الأدهى انّ النشء الجديد افترع للفسوق ألواناً وطرق للمعاصي أبواباً لا حصر لها، ومن ثم فهذه الفوضوية في المنظومة الخلقية للمجتمع من تبدّل قيمه وتنصّله عن أخلاقياته الموروثة تومئ إلى اضمحلاله وأفوله ومن دون شكّ فهذه المعطيات قد انسحبت على رغبة أفراده في الانتحار، إذ صار الفرد يستشعر الوحدة، ويميل نحو العزلة نائياً بنفسه عن أبناء جلدته خشية انّ الاختلاط والبقاء وسط محيط اجتماعي موبوء بالمفاسد سيصيبه بعدوى هذه الجائحة الأخلاقية المتردّية، ومعلوم انّ الشخص المنعزل اجتماعياً عادة ما يكون سلبياً وبمزاج سيء معظم الوقت، ومن ثم فهذا الشخص يكون أكثر عرضةً للإصابة بمشاكل نفسية قد تدفعه للانتحار لاحقاً. ولاسيما بعد اتخاذه من مبدأ(آخر العلاج الكيّ) شعاراً له فيكتوي بنار مجتمعه الذي سوّغ له كل هذه المعطيات المدقعة في سلبيتها.
- دوافع الانتحار وأسبابه:
- ضعف الواعز الديني وقلّة الإيمان بالقضاء والقدر:
على الرغم من شجب الدين الحنيف للانتحار وقطعيته في النهي عن الإيذاء المتعمّد للذات بقصد إنهاء الحياة، فقد جاء الأمر الإلهي بلزوم الحفاظ عليها بقوله سبحانه: (( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) [النساء:29]، وأكّده تعالى في موضع آخر بقوله: (( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) [البقرة:195]، وفي السياق نفسه أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيمة الإنسان وضرورة الذبّ عن حرمته من لدن الإنسان عينه؛ كونه بنيان الربّ الجليل فقالr:((إنّ هذا الإنسانَ بنيانُ اللهِ فَملعونٌ من هدمَ بنيانَهُ))([34])؛ ومن ثمّ فإقدام المرء على الانتحار ضربٌ من الجهالة وضعف إيمان، وسخرية بقضاء الله تعالى، وهذه الحقيقة قد وقف عندها الشاعر أحمد نسيم محاججاً الراغبين في الانتحار بقوله([35]):
أُحـاجـيـكَ مـا تـبـغـيـهِ من شرفِ القتلِ ولم يــرضَــهُ إلاّ ضــعــيــف أخــو جـهـلِ
رأيــتُ الفـتـى يـمـشـي مـخـافـةَ فـقـرِهِ إلى الحـتـفِ أعـمـى ضـلَّ واضـحةَ السُّبلِ
يـحـاولُ أن يـعـزي إلى الفـضـلِ بعدَها ومـا عـدّ قـتـلَ النَّفسِ شيئاً مِنَ الفضلِ
إذَا طــاحَ مــن يـأسٍ عـرفـنـاهُ سـاخِـراً بـأقـضـيـةِ الرَّحـمـنِ فـي حُـكـمِـهِ العَدلِ
وكما نلحظ فالتذرّع بالواعز الاقتصادي المعيشي وما يرتبط به من ضائقة مالية أو ما شابه من افتقار وعوز، وعدم الحصول على وظيفة ما أو حرفةٍ معينة، هي أسباب واهية من وجهة نظر أحمد نسيم؛ إذ لا يرتضيها الدِّين والعقل، فليس في الانتحار من الفخار والتباهي من شيء؛ قدر كينونته دليل إدانةٍ لضلالة ذلك المنتحر وعماه، فعجلةُ الحياة لا تتوّقف عليه؛ ويغدو انتحاره وسط هذا الزّخم البشري الذي ضاقت به الأرض ذرعاً غير مأسوفٍ عليه ويصدق بحقّه القول المأثور[ إن حضرَ لا يُعدّ وإن غاب لا يفتقد ]، فضعيف العزم والرأي، خائر القوى عجزاً ويأساً لا مقام له فيها، ليخلص الشاعر إلى مكانه بُعيد الانتحار ولبثه في أسفل دركٍ من الجحيم، فيقول:
وَمــا ضــاقَـتِ الدُّنـيـا الغَـرورُ وإنـَّمـا يـضـيـقُ ضـعـيـفُ العـزمِ عـن طلبِ الشُّغلِ
نــراهُ فــلم نــعــكــفْ عــليــهِ وســبـَّـة إذا نـحـن بـتـنـا عـاكـفـيـنَ عـلى عجلِ
وشـــرُّ انـــتـــحـــارٍ مــا تــكــلَّفَ ربــُّهُ مــنــيــتـَهُ فـي مـعـركِ الضِّـيـقِ والأزلِ
فـَلا تـطـلبِ الدُّنـيـا إذا كـنتَ عاجزاً عـن الدأبِ مـفطوراً على الضَّيمِ والذُّلِّ
- التجارب والضغوطات النفسية المؤلمة:
إنّ اختلاط مشاعر الوحدة والحيرة باليأس والفشل قد تفضي بالشخص إلى الميول الانتحارية، فمن المعلوم أنّ مشاعر اليأس لها دور كبير في التمهيد للانتحار، إلى جانب مروره بتجربة مؤلمة، نحو: فقد عزيز، أو ابتعاده عنه، كتجربة الزهاوي* مع حبيبته نوّار التي غادرته دون أوبة، فيقول([36]):
أَ نوّارُ منذُ دفنتُ جسمَكِ ناعماً لِـــــــي بالقبورِ صبابةٌ وولوعُ
عيني السَّخينةُ لا تنامُ مِنَ الأسَى حتَّى تنـــــــامَ عيونُه الملسوعُ
مَن يشترِي منِّي الحياةَ جميعَها بِالموتِ إنِّـــــــــي لِلحياةِ أبيعُ
إنّ الحياةَ قبيحةٌ فِــــي أعيُني والعيشُ فيهَــــــا أنفُهُ مجدوعُ
وَعليَّ بعدكِ يا نوَّارُ مِنَ الأسَى ضاقَ الفضـــاءُ وإنَّه لَوسِيعُ
قالوا تَســــــلَّ بغيرِهــــــــا فأَجبتُهم ما حيلَتِي إنْ كنتُ لا أَسطيعُ
أبكِي وكيفَ ترونَ لاَ أبكِي وَقد رحلَتْ نوَّارُ وَفاتني التَّشييعُ
رحلَتْ ولم ترحلْ حياتي بعدها هذا لَعمرُكَ في الغرامِ شنيعُ
وجـــــــــهٌ تألــــــــــــقَ ثمَّ زالَ كأَنَّه برقٌ بِحاشيةِ السَّماءِ لموعُ
يَا لائِميّ علَى البُكــــــاءِ لأنَّني لَم أنتحرْ ولقد مضى أسبوعُ
وصفٌ مفعمٌ بالحزن والأسى والسوداوية المخيمة على أجواء القصيدة وقبلها على قلب الشاعر، الذي تنازعته أسباب عدة كانت مدعاة لإقدامه على الانتحار: بدءاً من أفول نجم نوّار ومواراتها في ملحودة قبرها فقرّر أن يبيع حياته البائسة بثمن بخسٍ، وممّا زاد من مضاضة ألم الشاعر وجموح رغبته في الانتحار هو عدم توفّر الفرصة السانحة له في حضور مراسيم تشييعها، زِدْ على ذلك أنّ الأمر الثالث الذي عمّق هوّة الألم النفسي في ذات الشاعر هو ذلك اللائم البغيض الذي يبصق بسمومه الحانقة على مسامع الزهاوي بين الفينة والفينة داعياً إيّاه إلى تعجيل اللحاق بها ومستغرباً في الآن نفسه إبطائه عنها، ومن ثم فنظرة الفرد لذاته وتضافر تأثير المحيط السلبي(اللائم) سيكون له الأثر الأكبر في واقعه المعيش ونظرته للحياة والموت، ((فالكثير ممن يسهل دخولهم في دوّامة لوم ذواتهم وإدانتها على كلّ الأخطاء والأحداث السلبية الحاصلة يقعون في شراك الاكتئاب الذي يقودهم للسؤال عن جدوى الحياة ودورهم فيها، خاصةً في حال قارنوا أنفسهم بالآخرين من حولهم))([37])، ووجه المقارنة في النص أعلاه نجده قابعاً في البيت الأخير، وكأنّنا باللائم يوقظ جذوة الانتحار من سباتها وهي قابعة في اللاوعي ويرسلها إلى الوعي حينما يستغرب على الزهاوي بقائه على قيد الحياة وقد مضى على غياب نوّار في ثراها مدة أسبوع في حين أنّ سواه من المحبّين قد أدركوا محبوباتهم ولحقوا بهنَّ على جناح السرعة بمجرد سماعهم لموتهنّ.. فما بالك لم تنتحر؟؟!!!
وليتَ الزهاوي سار على حذو الشعراء الأوائل كالمرّار بن منقذ الذي أشاط عاذله من الغيض حينما لم يعره هو وشريكته أذناً صاغية لكلّ ما تفوّه به من مزاعم، حتى كادت عدم مطاوعتهما لأقواله الدنيئة التي رام من ورائها الفرقة والقطيعة بين المرّار وشريكته، أن تفضي بانتحار ذلك العاذل، فخاطبه الشاعر بقوله([38]):
يَتَزَاوَرْنَ كَتَقْطاءِ القَطَا وَطَعِمْنَ العَيشَ حُلواً غَيرَ مُرّْ
لَم يُطاوِعْنَ بِصُرْمٍ عاذِلاً كادَ مِن شِدَّةِ لَوْم يَنْتَحِرْ
وقد يتأتى الضغط النفسي من شعور الفرد بعدم قدرته على تحقيق آماله وطموحاته، وهذا اللون من الضغط النفسي نطالعه في قول صالح الشرنوبي([39]):
حيرَان لاَ يعرفُ عن نفسِهِ إلا كمـا يعرفُ هذَا الحَجرْ
يبكِي بِلا دمعٍ وفِي قلبِه مَا يُغرقُ الدُّنيا إذا ما انفَجَرْ
وربّما زانَ لـــــــهُ ضعفُهُ أن يشتكِي آلامَــــــهُ لِلبشَرْ
لكنّهُ يخشَى مواساتَهُم فِي محنةٍ الصَّبرُ فِيهَا انتحَرْ
فالتخبّط والحيرة واضحة على محيا النصّ، فهناك جمٌّ كبير من المشاعر المكبوتة التي يُراد لهذا الإنسان الذي غدا متحجّراً عاطفياً وعقلياً بفعل الضغط النفسي المحدق به، على الرغم من حاجته في أن ينفث ما يعتلج صدره من هموم وآلام ومكابدات لكنّه نأى عن شكايتها للآخر، وفي هذا الصدد يرى علماء الاجتماع أنّ الشخص الذي يفكر في الانتحار قد لا يرغب بإنهاء حياته فعلياً، لكنه يحاول طلب المساعدة وإخبار من حوله أن هناك خطباً ما دعاه للإقدام على هذا الأمر إلاّ أنّه يفشل في طلب المساعدة([40])، وهذا يعني استمرار تردّي الحالة النفسية للفرد، الذي يغدو حبل الانتحار يلوح أمام ناظريه بوصفه الحلَّ المناسب للراحة التي ينشدها لنفسه وللآخرين بعدما فاض نهر اليأس وانقطع حبل الصبر وما عاد في النفس طاقة تحمّل، وآن الأوان لهذه النفس في أن تلقي ما على كاهلها من أعباء، وسبيلها في ذلك هو اللحاق بركب الصّبر الذي انتحر جزعاً ويأساً.
ومن مصاديق الكبت النفسي الداعية للانتحار ما نلمسه لدى شريحة عريضة من الشباب حينما يعلّق آماله وطموحاته في القيام بثورات واحتجاجات ضد الأنظمة السياسية التي يراها ظالمة أو فاشلة في بلده، ومن ثم لا يكتب النجاج لتلك الثورة وتتبدّد الأحلام بالخيبة والانكسار الذريع الذي يلحق الاثنين(الثورة والثائر)، فعندئذ تتأجّج مشاعر الرغبة والتفكير في الانتحار لدى ذلك الثائر، وقد كان للشاعر بركة محمد* رؤيته لهكذا لونِ من الدافعية الحاثّة على الانتحار بقوله([41]):
ثــورةٌ ضــاعــتْ ومــقــدارٌ وأهــلٌ ليـتـَهُ لم يـنـتـهـكْ سبلَ الرَّشادِ
ظــلَّ مــدحــوراً عـليـلاَ لم يـنَـلْ غـيـرَ مـا يـُنكِي بهِ بين العبادِ
ســئمَ العــيـشَ وأضـنـَاهُ الهـوانُ فـاحـتـواهُ النـيلُ يوماَ وانتحر
تصريح من الشاعر مزدحم بمكبوتاته النفسية في حديثه عن حال ذلك الثائر المنتكس بتلاشي مآلاته ورغباته في العيش الهانئ الرغيد بعد فشل ثورته، فصار يؤنّب نفسه عن ضياع كل الأشياء الجميلة التي كان يكتنفها بالأمس القريب ويحتويها، واليوم اغتدى صفر اليدين بعدما زاد الطين بلّةً فتفاقمت صحته اعتلالاً، وتدرّع الهوان والنكاية جلباباً، فضجر البقاء بين أناس أرادّ لهم الحرية والعيش الكريم؛ لكن ما يؤسف له تشفّي هؤلاء الناس به بعد فشل الثورة في تحقيق مآربها، فمخضته القلاقل في دوامة من العشوائية والصراعات النفسية اللامتناهية، بعد دخوله((في وهم مشاعر العدمية والعار أو الشعور بالذنب والرفض والإحساس بأنهم غير مرغوب فيهم ممن يحيط بهم، ويبلغ الأمر ذورة سوئه حينما يبدأ الفرد بالتفكير أنه لا ثمة أمل في التغيير وإصلاح الذات، فتبدأ الأفكار الانتحارية بالنشوء والتكوّر في عقله))([42])؛ وهكذا تضاءلت قيمة الحياة بين ناظريه وهان الموت عليه، فخلد إلى النيل منتحراً.
ج- الأدمان وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية:
يعدّ الإدمان بمختلف صوره من تعاطي المسكّرات كتناول الكحول والخمر وكذلك المخدرات، أو عدم الإقلاع عن ممارسة بعض ألعاب الرهان المحرمة كالقمار، مدخلاً شائعاً للميول الانتحارية التي تسببها الآثار النفسية للإفراط في إدمان هذه المحرّمات، التي تستفحل مستقبلاً إلى إصابة المرء المدمن بأفكار وهلاوس وضلالات، تفضي نهايتها إلى اختيار طريقة مأساوية للتخلّص من حياته، وقد وقف الزهاوي إزاء إدمان الخمرة مفصّلاً آثاره الجانبية السلبية بقوله([43]):
الخمرُ بالعقلِ قد تُفضي إلى التَّلفِ وَقَد تنالُ مِنَ الأموالِ والشَّرفِ
إذَا مضَى فِي هواهَا المرءُ لم يقفِ
مَنْ يُدمن الخمرَ مغلوباً لِعادتِهِ فإنَّما هـــــــو بالتَّدريجِ ينتحرُ
بيان تفصيلي دقيق لمضار معاقرة الخمر ومخاطر إدمانها، من لدن الزهاوي خلاصتها: إضاعة الفرد لإنسانيته وشرفه ومقدساته، ومختلف علاقاته الاجتماعية، فينحدر به إدمانه إلى المآل الأخير المتمثّل بالانتحار.
وفي المقابل تصدّى الشاعر نجيب حداد لمضارّ إدمان القمار والرهان الحرام بقوله ذامّاً إيّاه([44]):
لكلِّ نقيصةٍ في النَّارِ عارُ وشرُّ معايب المرءِ القِمارُ
هوَ الدَّاءُ الَّذي لاَ بُرءَ مِنهُ وَليسَ لِذنبِ صاحبِه اغتفارُ
تُشادُ لهُ المنازلُ شاهقَات وفي تشيِّيدِ ساحتِها الدَّمارُ
منازلُ كَم أُريقَ دَمٌ علَيها وَكــــــــــــلُّ دَمٍ أراقَتهُ جُبارُ
نصيبُ النَّازلينَ بِها سُهادٌ فَإفلاسٌ فَـــــيَأسٌ فانتحارُ
لا يقلّ إدمان القمار حرمةً شرعيةً وعرفيةً عن إدمان الخمر في شيء، إن لم يكن أشدّ ضراوة من الثانية؛ كونه السبيل لإدمان الخمرة وسواها من المخدرات والكحول، وإشارة الشاعر إلى كينونة القمار داء لا دواء له، ولا لمدمنه اغتفار حقيقة قارّة لا سبيل لنكرانها أو كونها ضرب من المبالغة بالنظر لآثاره السلبية على الفرد والمجتمع على السواء، فهو عامل مساعد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لارتفاع معدلات الجرائم والسرقات، فالمشاكل المادية الجسيمة التي تلحق بالمقامر قد تلجأه للقتل من أجل استحصاله على الأموال، فالقمار تبديد مباشر وجائر للثروات، فضلاً عن آثاره السلبية على وعي المقامر، وتأثيره على الحالة النفسية والمزاجية له، زِدْ على ذلك أنّه يخلق لديه مشكلات في الصحة العقلية كالقلق والاكتئاب، حتى تصل به الحال إلى الانتحار؛ نتيجة دوام تفكيره في المكسب والخسارة، فخلاصة إدمان القمار إفلاس دنيوي أخروي.
د- الغزو الثقافي والتقليد والمحاكاة:
تعوّل العلوم الاجتماعية على مصطلح “تأثير فيرتر”([45]) بوصفه مرادفاً للآثار المقلّدة التي تُعزِّز السلوك الانتحاري بسبب المؤثرات الخارجية كوسائل الإعلام وإساءة استخدام التكنلوجيا الحديثة المتمثلة ببعض الألعاب الإلكترونية وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي؛ ولعلّنا نلمس بوادر هذا التقليد الأعمى في قول الزهاوي([46]):
كَم مِن حُرٍّ قد أَنذرَهُم يحتجُّ فَلَم تغـــــنِ النُّذرُ
شربُوا مِن خمرةِ نصرتِهم حتَّى ثمِلوا حتَّى سكِرُوا
قالُوا مَا لَم يكُ معقولاً فعلُوا مَا لَم يكُ ينتظرُ
ضَغطُوا يؤذُونَ وَقَد جَهِلوا أنَّ البُركــــــــــانَ سَينفـجرُ
أَأَضاعَ القَــــــومُ رويَّتَهم أَم قَد بَطرُوا لمَّا اِنتصُروا
بَل إنّ القـــــــوَّةَ غرَّتهُم وَالقـــــــوَّةُ آفتُهــــــــــــا الغَررُ
مَــا زالَ الغَربُ بِمَا يأتِيهِ يغيظُ الشَّــــــــــرقَ وَيَعتذرُ
فَيكــــــادُ الشَّــرق لِغُمَّتهِ مِمّا قَــــــــــــــد كابدَ ينتحرُ
وإذَا بقــيَ الإنسانُ بِلا وَطرٍ بِالمَوتِ لـــــــهُ وَطَرُ
يُبدي الزهاوي امتعاضه لكثرة ما حذّر هو وسواه من الأصوات الحرّة النزيهة من مغبّة التأثير الغربي الماسوني لبلاد الشرق؛ لكن ليس هناك من أذنٍ صغت أو قلبٍ وعى، فانجرّوا وراء القشور بعدما دسّ لهم بعض هذا الغرب السمّ في العسل بأفكاره الإلحادية[قالُوا مَا لَم يكُ معقولاً] وترغيبهم على معاقرة الخمرة حدّ الثمالة[شربُوا مِن خمرةِ نصرتِهم]، وتحبيب الدماء والعنف إلى نفوس أطفالهم بواسطة بعض الألعاب الإلكترونية[ضَغطُوا يؤذُونَ]، فهذا اللون من الغزو العلمي والثقافي الذي تعرّض له الشرق عامةً، والعرب خاصةً جعلهم كالقطيع والراعي يتبعون عزف نايه لكنّهم لا يدركون هل يسير بهم إلى المروج الخضراء أو إلى المجزرة؟ فقد[أَضاعَ القَــومُ رويَّتَهم] بسبب هذا التضليل الإعلامي الغربي الذي بثّ سمومه وثقافته الموبوءة وشرور تكنلوجيته القذرة في بعض برامجها التي احتكرت عقول الصبية والشباب، وصاروا يحركّونهم كالدمى، فانتكس الشرق ونكص على عقبيه بعدما أشاعت الأفكار الماسونية في كل ما حوله حتى ابتذل الفساد وفعل المحرمات تحت عنوان الحرية والديمقراطية، وهكذا ركبت الأجيال الجديدة تيارات الانحراف والشذوذ العقائدي والاجتماعي، وغدت الموبقات وفعل الفواحش ديدن بعضهم، وحينما وجدوا أن لا ملجأ أو مهربَ من تلك الشِراك التي أحكمت قبضتها عليهم؛ أصبحت لديهم رغبة عارمة في الانتحار فبدأوا في الانسحاب تدريجيًا من الحياة، وتشظّت علاقاتهم بكل المحيط من أصدقاء مقربين وعائلة، وفقدوا اهتمامهم بالأنشطة والأحداث الاجتماعية وممارسة هوايتهم، وأصبحوا في عزلة عن الجميع[وإذَا بقــيَ الإنسانُ بِلا وَطر]، وهناك دراسات عن مخاوف تأثير الإعلام في زيادة معدلات الانتحار، في ظاهرة تُعرف بـ “مُحاكاة الانتحار” التي تجعل أوساط الشباب يُقلِّدون المُنتحِر لكثافة تداول تفاصيل ومشاهد انتحاره، ومدى ((التأثير الحقيقي لمقاطع الانتحار، وكيف أنها تدفع بعض الشباب الذين يُعانون من درجة الاكتئاب نفسها أو الإحباط الذي عانى منه المُنتحِر إلى الإقدام على الانتحار باعتباره الخلاص والحل – ومن الجدير بالتنويه- إن التعاطف الذي يُبيّنه رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع المُنتحِر يزيد من رغبة “الراغب في الانتحار” في الإقدام على الانتحار، لأن حاجته الأساسية هي التعاطف، والاستماع له ولمطالبه))([47]).
لكن انطلاقا من قول الطغرائي([48]):
أُعللُ النَّفسَ بالآمالِ أرقبُها مَا أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
وتأسياً بالمثل القائل:(من حفر حفرةً لأخيه وقع فيها) وإن شاء الله تعالى بوجود الأخيار الشرفاء من بني العرب سينقلب السحر على الساحر وتُفجع الماسونية الصهيونية شر فجيعة بانتحارها واندحارها، وهنا لابدّ من الإيمان المطلق بتضافر الجهود وتوحيدها، ورصَّ الصفوف ورصفها لمواجهة هذه الهجمة الإعلامية الشرسة للغزو الثقافي المعادي للعروبة والإسلام والقضاء على الهيمنة الفكرية الماسونية ودرئها؛ لأجل الحفاظ على شباب أمتنا من الضياع والضلال وكبحه عن التمادي في غيّه، وهذا هو النصر بذاته، وفقءٌ لعينِ فتنة صهيون، ومن ثم قَبره، وإيقاظ المجد العربي البعيد الغور في التاريخ من سباته وبعثه من جديد بسواعد أجيال الربيع العربي، وكلّ هذه المعطيات قد وظّفها الشاعر صالح الشرنوبي بقوله([49]):
وجرَى صهيونُ خلفَ الوَهمِ، والوهـــــــمُ قَتولُ
فبنَــى قبــــــرَ أمانيهِ وأغـــــــــــــــراهُ الفُضـــولُ
وأرادَ اللهُ أن ينتحرَ الحـــــــــــــــــظُّ الكَســــــولُ
فإذَا مَا شاءَ صهيونُ غثــاءً فــــــــــــيَّ سَيَولُ
وأّتينَا ولنـــــَا بِالنَّصرِ إيمـــــــــــــــــــــــانٌ طَليــقُ
نبعثَ الماضيَ الَّذِي كفّنهُ الدَّهرُ السَّحيقُ
- الحلول والمعالجات:
رسالة الشعر النبيلة لا تقتصر على بيان أسباب الانتحار ومسوغاته فحسب، بل حاول في بعض المناسبات والمواقف أن يضع الحلول الناجعة لإجهاض التفكير به من عقول المقدِمِين عليه، ومن تلك المعالجات التي رصدناها في ديوان الشعر العربي وجاء عرضها إمّا بصورة قصدية مباشرة، أو بصورةٍ تأوّلها البحث، ما يأتي:
– تنمية الوازع الديني بشكل كبير؛ إذ إنّ الانتحار يكثر لدى الأشخاص الذين لا يتمتعون بقدرٍ كافٍ من الشعور الديني والصلة بالله تعالى، وهذا الأمر قد نبّه إليه أبو القاسم الشابي بقوله([50]):
يا ليلُ مَا تصنعُ النَّفْسُ التي سَكَنتْ هذا الوجودَ ومــــن أعدائها القَدَرُ
ترضى وتَسْكُتُ هذا غيرُ محتَمَلٍ إِذاً فهل ترفُـــــــــضُ الدُّنيا وتنتحرُ
وذا جنونٌ لَعَمْــــــــــــــري كُلُّهُ جَزَعٌ بـــــــــــاكٍ ورأيٌ مريضٌ كُلُّه خَوَرُ
فإنّما المــوت ضَرْبُ من حبائِلِهِ لا يُفلتُ الخلقُ مَا عاشوا فما النَّظرُ
هذا هــــــــــــــو اللغْزُ عَمَّاهُ وعَقَّدَهُ علـــــى الخليقةِ وَحْشٌ فاتكٌ حَذِرُ
يطالعنا الشّابي في هذا النص بأسباب أخرى للانتحار تتمثل بالعقد النفسية والآراء المريضة المفضية إلى الجنون ومن ثم الانتحار، لكنّه من جهة أخرى نلمحه مصرّحاً بواحدٍ من الحلول التي يمكن عدّها وسيلة رادعة للانتحار بالاتكاء على مقولة أبي نواس((وداوني بالتي كانت هي الداء))([51])، فعمد الشاعر ههنا إلى الحضّ من الإقدام على هذا الأمر عن طريق التذكير بالموت نفسه، وكأنّنا به يخبرنا مستفهماً مستعجّباً: لِمَ العَجلة في الموت وحثّ الخطى نحوه مسرعين، والجزع من الحياة؟؟!! فهو سيدركنا حتماً ولا سبيل لدفعه أو صدّه إذا ما أقبل حينئذ مهما اتّخذ المرء من وسائل دفاعية وحصون لحجبه، أو على أقل تقدير عدم التحسّب لوقت حلوله وطرقه لأبواب النفس قابضاً إيّاها، وهذا هو لغز الألغاز والأحجية التي يتحامى بنو البشر الخوض فيها، فالتفكير عندها يتعطّل؛ إذ إنّ من المحال إدراك كنه الموت.
– بثّ التفاؤل وزرع روح الأمل من أهم العوامل الداعمة لتجاوز محنة التفكير بالانتحار، وذلك عن طريق التركيز على العناصر الإيجابية فى شخصية المرء المُقدِم على الانتحار، والسعي إلى كيفية إمكان استعمال تلك العناصر وتنميتها وزرع الثقة فيه بإحساسه في أهمية وجوده في الحياة التي يشعر في أثناء تلك المحنة أنه لا قيمة لها ولا قيمة لوجوده فيها، وهذا ما يمكن أن نستشفّه من قول إلياس أبو شبكة([52]):
مَهما طَغى اللَيلُ لا تُشقيكَ زَوبَعَةٌ وَلا يُجَهَّمُ فـــــــي أَجفانِــــــــكَ الحَوَرُ
صُلبٌ عَلــــى الدَهرِ لا تَهوي صَواعِقُهُ إِلّا عَلـــــــى جانِبَي وَقُبَيــــكَ تَنتَحِرُ
يَقظانُ وَالناسُ عُمـــيٌ فِي مَراقِدِهِم سِيّانِ ناموا عَلى ذُلٍّ أَمِ اِحتُضِروا
عـــــــــارٌ عَلَينــــا نَنـــامُ اللَيلَ هانِئَةً عُيونُنــــــا وَعبابُ اللَيـــــــــــلِ مُعتَكِرُ
وَتَشهَدُ الصُبحَ عُرسَ الصُبحِ مُنعَقِداً عَلـى جَبينِكَ نــــــورٌ مِنهُ يَنضَفِرُ
دعوة مفعمة بالأمل وكسر لقمقم الإحباط[ لا تُشقيكَ زَوبَعَةٌ ]، وضرورة إبعاد كل سوداوية وتشاؤم يقع في ناظري المرء وخلده[ لا يُجَهَّمُ في أَجفانِكَ الحَوَرُ]، فضلاً عن التحلّي برباطة الجأش والصلابة، فهذه المعطيات جميعاً ترفع من همّته ومن ثم تنأى به عن الرغبة في الانتحار، مع الأخذ بالحسبان على تحويل مسار تلك الرغبة وتنميتها من ناحية عكسية من خلال إسقاطها على عاتق الدهر وجعل السعي إلى ليِّ عنق الأخير-أي الدهر- وكسر شوكة عواتيه هي الغاية، ثم نلحظ تنامياً في خطاب أبو شبكة من خلال زرعه للثقة في نفس مخاطبه بنعته في أول البيت الثالث بـ(يقظان) وكونه مخالفاً بذلك غيره من الناس ولاسيما الذين غدت حياتهم هامشية لمّا تساوت لديهم كفتي الذلّ والموت، ورضوا التقوقع على أنفسهم لا يحرّكون ساكناً وهذا هو العار بعينه بل لابدّ من مواجهة الحياة بكل صعابها وخوض غمارها، فحلاوة الأشياء وجمالها قد يتأتى في خواتيمها، فلابدّ أن ينجلي الليل بخفافيش ظلامه وينبلج وجه الصبح وضّاءً بعرس عصافيره وهو ما يحمل بين طيّاته تعزيزاً لقيمة الإنسان في الحياة، وتأكيداً لأهمية وجوده في بنائها.
– لزوم تحفيز المرء الراغب بالانتحار على العمل والشعور بالمسؤولية تجاه عمله؛ إذ إنّ الأزمات الاجتماعية والضائقة المالية قد تعمّق من هوّة القطيعة مع المجتمع والحياة، فإجهاض هكذا تحفيز قد يفاقم من حجم الأزمة النفسية لدى الفرد ولاسيما حين نكرّر على سامعيه ألفاظ الانتحار، وهذا اللون من المثبّطات الموهنة للعزيمة نلمسه حاضراً في قول الزهاوي في بعض رباعياته ([53]):
حدِّثيني عنِ الفرا قِ ومَا فِيهِ مِن أذَى
حبذا ذلك الحديـــ ــــثُ لـــو امتدّ حبذا
*****
أرحمينـــي فإنّنــــــــــــــــي لانتحـــارٍ محـــــــــاول
إنّني بعــــــــــــــــــدَ ساعةٍ لقتيــــــــــــــــــــــلٍ وقاتِلِ
*****
انتحِـــرْ واتــــــــرُكِ الحيَا ةَ لِقــــــــومٍ تنعّمُـــــــوا
إنً يجُزْ أن يعيشَ نا سٌ فمَا أنتَ منهمُ
فهذا التصرّف المنبوذ وغير المحبّذ من أصناف الكلام المنضوي على كلّ ما هو سلبي، نحو:(الفراق، والأذى، والانتحار، والقتل، وترك الحياة، وعدم جواز العيش) أمام الأشخاص الذين لديهم درجة من الاكتئاب أو الإحباط المقاربة لتلك التي يعاني منها المُنتحِر، لها كبير الأثر في تحفيز إقدام هؤلاء الأشخاص على الانتحار، وقبله جمود تفكيرهم نحو كل ما هو سلبي، فمن المعيب وغير اللائق تحسين هكذا صور مؤلمة تجسّد لهم انحسار العيش في هذه الحياة على الأغنياء والمترفّهين فحسب، والواجب هو تنمية مهارات التكيّف والمرونة لديهم مع ضرورة مساعدتهم في تحفيز التفكير الإيجابى لإيجاد حلول أخرى لمواجهة مشاكلهم غير الانتحار والتخلّص من الحياة، وهذا الأمر يتأتى من تأكيد التنسيق والتعاون بين قطاعات المجتمع المختلفة الخاصة منها والعامة كالصحة، والتربية والتعليم، والعدل، والعمل والشؤون الاجتماعية، والإعلام، وغيرها من القطاعات الفعّالة الأخرى. وتكاتفها وتآزرها من أجل توحيد الجهود، ومن ثم الوصول إلى درجة من التكامل والشمول، إذ لا يوجد نهج واحد، أو قطاع وحده يمكن أن يؤثر بمفرده على قضية معقدة كالانتحار([54]).
الخاتمة:
خلُص هذا الاستقصاء الشعري إلى مكانة الشعر المجتمعية بوصفه وسيلة إعلامية ناجعة لمعالجة المشاكل التي تنوء بها مجتمعات الشعراء على مختلف أطيافهم من خلال جعل أصواتهم تصدح بمعاناة أبناء جلدتهم وإيصال تلك المعاناة إلى الرأي العام في سبيل معالجتها وإجهاض هكذا أمراض اجتماعية والعمل على درئها قبل استفحالها، وتنبيه المجتمعات للقيام بدورها الحيوي والفعّال في الوقاية من أحد تلك الأمراض المتمثّلة بالانتحار، من خلال قيامها بتقديم الدعم الاجتماعي للأفراد المعرّضين لمخاطره، والمشاركة في رعايتهم ومتابعتهم ودعمهم.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم.
( أ ) الدواوين والمجاميع الشعرية
- ديوان أبي القاسم الشابي، دار صادر، بيروت- لبنان، ط1، 1999م.
- ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ الحكمي: تحقيق إيفالد فاغنر، دار النشر فرانتز شتايز فيسبادن بشتوتغارت، 1408هـ-1988م.
- ديوان أحمد نسيم، مطبعة الإصلاح، مصر، 1326هـ-1908م.
- ديوان بشار بن برد: تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1376هـ-1957م.
- ديوان الزهاوي، المطبعة العربية، مصر، 1343هـ-1924م.
- ديوان الراعي النميري: تحقيق راينهرت فايبرت، دار النشر فرانتس شتاينر بفيسبادن، بيروت، 1401هـ-1981م.
- ديوان الرصافي: شرح وتحقيق مصطفى السقا، دار الفكر العربي، مطبعة الاعتماد بمصر، ط4، 1373هـ-1953م.
- ديوان صالح علي الشرنوبي: عبدالحي دياب، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، مصر، 1966م.
- ديوان الطغرائي: تحقيق علي جواد الطاهر و يحيى الجبوري، مطابع الدوحة الحديثة، ط2، 1406هـ-1986م.
- ديوان نجيب سليمان الحداد، مطبعة جرجي غرزوزي، الإسكندرية، ط2، 1905م.
- شعر عمر بن لجأ التيمي: تحقيق يحيى الجبوري، دار القلم، الكويت، ط3، 1403هـ-1983م.
- من صعيد الآلهة: الياس أبو شبكة، الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2019م.
( ب ) المصادر
- كتاب الموسيقى الكبير: الفارابي: تحقيق غطاس عبدالملك خشبة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، (د.ت).
- لسان العرب: ابن منظور: دار صادر، بيروت، (د.ت).
- معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، (د.ت).
- المفضليات: المفضل الضبي: تحقيق محمد أحمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة ط6، (د.ت).
( ج ) المراجع
- الانتحار: إميل دور كايم، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2011.
- أيام العرب في الجاهلية: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 1961.
- تاريخ العراق الحديث والمعاصر: محمد سهيل طقّوش، دار النفائس، بيروت-لبنان، ط1، 1436هـ-2015م.
- تاريخ العراق السياسي الحديث: عبدالرزاق الحسني، دار الرافدين، لبنان- بيروت، ط7، 1429هـ-2008م.
- تخريج أحاديث الكشَّاف: جمالُ الدين الزيلعيّ، عناية سلطان بن فهد الطبيشي، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط1، 1424هـ-2003م: 1/346.
- التصوّر الاجتماعي لظاهرة الانتحار لدى الطالب الجامعي: بوسنة عبد الوافي زهير، أطروحة دكتوراه، جامعة منتوري-قسنطينة-، كلية التربية للعلوم الانسانية والاجتماعية، 2007م-2008م.
- ذكريات بغدادية: انتحار رئيس وزراء.. واعتقالات جماعية للشيوعيين: زيد خلدون جميل، صحيفة رأي اليوم، 4ابريل 2017.
- العهد الملكي في العراق: 1921 – 1958، الحلقة السابعة: ظاهرة أول انتحار سياسي في تاريخ العراق المعاصر، عدنان القطان، مركز الرافدين للدراسات الاستراتيجية، الأحد 19 أبريل, 2020.
- ليس بسبب الضغط أو الاكتئاب أو الإحباط.. هذه هي الأسباب الحقيقية التي قد تدفعنا للانتحار: غيداء أبو خيران، عربي بوست، 2/10/2018.
- ماهية الشعر ووظائفه وأدواته: عماد عبد اللطيف، مجلة الذاكرة، العدد 8، يناير 2017.
- معجم اللغة العربية المعاصر: أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط1، القاهرة، ط1، 1429هـ-2008م.
( د ) المواقع الإلكترونية
- أسباب الانتحار وأعراض ما قبل الانتحار: فريق حلّوها، 13/2/2019. https://www.hellooha.com/articles/1247-
- أكبر 10 عمليات انتحار جماعي في التاريخ: عمر حميد، 11/12/2016، موقع TOPS ARABIA https://www.topsarabia.com/
- الانتحار بالتقليد.. لماذا يجب أن نتوخى الحذر في نشر حوادث الانتحار؟ مادلين المشارقة، شبكة الجزيرة الإعلامية، 5/12/2019، موقع الجزيرة: https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2019/12/5
- الانتحار والأفكار الانتحارية:Mayo Clinic (مايو كلينك)، 20/6/2019:
https://www.mayoclinic.org/ar/diseases-conditions/suicide/doctors-departments/ddc-20378056
- ديوان أديب التقي: موقع بوابة الشعراء، حمد الحجري: https://www.poetsgate.com/Poet.aspx?id=3711
- ديوان بركة محمد: موقع ديواني: https://diwany.org
- ديوان جميل صدقي الزهاوي، وقع بوابة الشعراء، حمد الحجري:
https://www.poetsgate.com/ViewPoem.aspx?id=55563
- ظاهرة الانتحار بين الشباب: لماذا تتزايد: جميل عودة إبراهيم، شبكة النبأ المعلوماتية، 26 حزيران 2019.
https://m.annabaa.org/arabic/referenceshirazi/19728
([1]) كتاب الموسيقى الكبير: الفارابي: تحقيق غطاس عبدالملك خشبة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، (د.ت): 1184.
([2]) ينظر: ماهية الشعر ووظائفه وأدواته: عماد عبد اللطيف، مجلة الذاكرة، العدد 8، يناير 2017: 261.
([3]) ينظر: معجم اللغة العربية المعاصر: أحمد مختار عمر، عالم الكتب، ط1، القاهرة، ط1، 1429هـ-2008م: 4/2176.
([4]) لسان العرب: ابن منظور: دار صادر، بيروت، (د.ت)، مادة(نحر) 5/197.
([5]) ينظر: نفسه: مادة(نحر) 5/195.
([6]) معجم اللغة العربية المعاصرة: 4/2176-2177.
([7]) ينظر: التصوّر الاجتماعي لظاهرة الانتحار لدى الطالب الجامعي: بوسنة عبد الوافي زهير، أطروحة دكتوراه، جامعة منتوري-قسنطينة-، كلية التربية للعلوم الانسانية والاجتماعية، 2007م-2008م: 43
([8]) عبدالمحسن باشا السعدون(1889م-1929م) من مواليد محافظة ذي قار. تقلّد أربع وزارات. وهو أحد الرموز الوطنية العراقية، وعضو المجلس التاسيسي وثاني رئيس وزراء في العهد الملكي في العراق بعد نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني النقيب.
([9]) ديوان الرصافي: شرح وتحقيق مصطفى السقا، دار الفكر العربي، مطبعة الاعتماد بمصر، ط4، 1373هـ-1953م: 322.
([10]) ذكريات بغدادية: انتحار رئيس وزراء.. واعتقالات جماعية للشيوعيين: زيد خلدون جميل، صحيفة رأي اليوم، 4ابريل 2017.
([11]) ينظر: تاريخ العراق الحديث والمعاصر: محمد سهيل طقّوش، دار النفائس، بيروت-لبنان، ط1، 1436هـ-2015م: 146-147.
([12]) ينظر: تاريخ العراق السياسي الحديث: عبدالرزاق الحسني، دار الرافدين، لبنان- بيروت، ط7، 1429هـ-2008م: 3/73-74.
([13]) شعر عمر بن لجأ التيمي: تحقيق يحيى الجبوري، دار القلم، الكويت، ط3، 1403هـ-1983م: 105.
([14]) تيمن: أرض بين تميم ونجران بعالية نجد. ينظر: معجم البلدان: ياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، (د.ت): 2/68.
([15]) ينظر: أيام العرب في الجاهلية: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 1961: 129.
([16]) معجم اللغة العربية المعاصرة: 4/2177.
([17]) ديوان الراعي النميري: تحقيق راينهرت فايبرت، دار النشر فرانتس شتاينر بفيسبادن، بيروت، 1401هـ-1981م: 141.
([19]) ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة: 4/2177.
([20]) ديوان أحمد نسيم، مطبعة الإصلاح، مصر، 1326هـ-1908م: 2/.
([21]) ينظر: أكبر 10 عمليات انتحار جماعي في التاريخ: عمر حميد، 11/12/2016.
([22]) ينظر: الانتحار: إميل دور كايم، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2011: 10.
([23]) ينظر: التصوّر الاجتماعي لظاهرة الانتحار: 43-45.
([26]) ديوان بشار بن برد: تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1376هـ-1957م: 3/264.
([27]) الانتحار والأفكار الانتحارية: Mayo Clinic) مايو كلينك)، 20/6/2019
([29]) ينظر: التصور الاجتماعي لظاهرة الانتحار: 39.
([31]) العهد الملكي في العراق: 1921 – 1958، الحلقة السابعة: ظاهرة أول انتحار سياسي في تاريخ العراق المعاصر، عدنان القطان، مركز الرافدين للدراسات الاستراتيجية، الأحد 19 أبريل, 2020.
([33]) ديوان أديب التقي: موقع بوابة الشعراء، حمد الحجري: https://www.poetsgate.com/Poet.aspx?id=3711
([34]) ) تخريج أحاديث الكشَّاف: جمالُ الدين الزيلعيّ، عناية سلطان بن فهد الطبيشي، وزارة الشؤون الدينية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط1، 1424هـ-2003م: 1/346.
([36]) ديوان جميل صدقي الزهاوي: 166، ولم يقف الباحث في نسخة الديوان التي اعتمدها إلاّ على ثلاثة ابيات هي: الأول والخامس والتاسع، أمّا بقية الأبيات فوجدها في ديوان الشاعر الموجود على موقع بوابة الشعراء، حمد الحجري: https://www.poetsgate.com/ViewPoem.aspx?id=55563
([37]) ليس بسبب الضغط أو الاكتئاب أو الإحباط.. هذه هي الأسباب الحقيقية التي قد تدفعنا للانتحار: غيداء أبو خيران، عربي بوست، 2/10/2018.
([38]) المفضليات: المفضل الضبي: تحقيق محمد أحمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة ط6، (د.ت): 89.
([39]) ديوان صالح علي الشرنوبي: عبدالحي دياب، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، مصر، 1966م: 450
([40]) ينظر: أسباب الانتحار وأعراض ما قبل الانتحار: فريق حلّوها، 13/2/2019.
([41]) ديوان بركة محمد: موقع ديواني: https://diwany.org
([42]) ليس بسبب الضغط أو الاكتئاب أو الإحباط: غيداء أبو خيران، عربي بوست، 2/10/2018.
([43]) ديوان جميل صدقي الزهاوي: 238
([44]) ديوان نجيب سليمان الحداد، مطبعة جرجي غرزوزي، الإسكندرية، ط2، 1905م: 59-60.
([45]) في عام 1774، نُشرت أول أعمال الروائي الألماني غوته وعنوانها “آلام فيرتر”، وكانت على شكل مذكرات تحكي قصة الشاب “فيرتر” غير السعيد، العاطفي واليائس في حب شارلوت زوجة صديقه. وهي محاكاة لواقع الكاتب غوته الذي كان أسير حب شارلوت بوف، وكانت حينها مخطوبة لصديقه-في هذا العمل-، الذي يُمكن اعتباره سيرة ذاتية للكاتب، يُطلق البطل النار على نفسه بعد حب مشؤوم. بعد مدة وجيزة من نشر الرواية، كان هناك العديد من التقارير التي رصدت أعدادا من الشبان الذين يستخدمون الطريقة نفسها للانتحار، وقد أدّى ذلك إلى حظر الكتاب في عدة أماكن. ومن هنا جاء مصطلح “تأثير فيرتر”، المستخدم في الأدبيات الفنية لترميز حالات الانتحار المقلِّدة.
ينظر: الانتحار بالتقليد.. لماذا يجب أن نتوخى الحذر في نشر حوادث الانتحار؟: مادلين المشارقة، شبكة الجزيرة الإعلامية، 5/12/2019.
([46]) ديوان الزهاوي، المطبعة العربية، مصر، 1343هـ-1924م: 117.
([47]) ) الانتحار بالتقليد.. لماذا يجب أن نتوخى الحذر في نشر حوادث الانتحار؟ مادلين المشارقة، شبكة الجزيرة الإعلامية، 5/12/2019.
([48]) ديوان الطغرائي: تحقيق علي جواد الطاهر و يحيى الجبوري، مطابع الدوحة الحديثة، ط2، 1406هـ-1986م: 306
([49]) ديوان صالح الشرنوبي: 110.
([50]) ديوان أبي القاسم الشابي، دار صادر، بيروت- لبنان، ط1، 1999م: 226.
([51]) ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ الحكمي: تحقيق إيفالد فاغنر، دار النشر فرانتز شتايز فيسبادن بشتوتغارت، 1408هـ-1988م: 3/2.
([52]) من صعيد الآلهة: الياس أبو شبكة، الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2019م: 33-34.
([54]) ينظر: ظاهرة الانتحار بين الشباب: لماذا تتزايد: جميل عودة إبراهيم، شبكة النبأ المعلوماتية، 26 حزيران 2019.