شعرية الفضاء في الرواية النسائية: قراءة في رواية المتمردة لمليكة مقدم
The poetics of space in the female novel: A reading of the rebellious novel by Malika Moghaddam
د. منى بشلم ، أستاذة محاضرة بالمدرسة العليا للأساتذة – قسنطينة، الجزائر
BECHLEM Mouna, Lecturer – higher normal school- Constantine, Algeria
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 76 الصفحة 09.
ملخص:
تطرح هذه الدراسة سؤال الفضاء في الرواية النسوية الجزائرية و ذلك بغية الكشف عن أصناف الأفضية التي توظف الكاتبة و الدلالات التي ترتبط بهذه الأفضية.
وإذ نخص رواية المتمردة لمليكة مقدم فلأنها روائية عاشت بأفضية متنوعة فانتقلت بين الصحراء و المدينة “وهران” و المهجر باريس، فكيف أثر هذا الثراء في تجربتها الروائية. تكشف لنا الرواية عن انحصار في تعامل الروائية مع الفضاء فهي تكتب من داخل الغرفة، الفضاء المغلق، لتسرد الفضاء المفتوح “الصحراء” . ما يجعل من الفضاء مكونا اشكاليا في كتابة الأنثى التي ترتبط بالمغلق و المحدود، و ناذرا ما تتمكن من استكناه الفضاء العام و المفتوح ، الذي يبقى مجالا للهيمنة الذكورية.
الكلمات المفاتيح: الفضاء الروائي ، التقاطبات المكانية، الرواية النسوية ، مليكة مقدم، الفضاء الدلالي
Abstract
his study raises the question of space in the Algerian feminist novel, in order to reveal the types of spaces that the writer employs and the connotations associated with these spaces.
And if we choose the novel of the rebel by Malika Moghaddam, because she is a novelist who lived in a variety of places and moved between the desert and the city “Oran” and the diaspora Paris, which enriched her literary experience. The novel reveals to us a confinement in the novelist’s dealing with space, as she writes from inside the room, the closed space, to narrate the open space “the desert”. What makes space a problematic component in the writing of the female, which is linked to the closed and limited, and rarely manages to seize
Keywords: Narrative space, spatial polarizations, feminist novel, Malika Moghaddam, semantic space
مقدمة
اختلفت الروايات في تعاملها مع الفضاء كمكون سردي، فالرواية التقليدية -إن صح التعبير- اتخذته إطارا للحدث متفاعلا مع الشخصية وعاكسا لأجوائها النفسية، فاهتمت بوصفه، لكنه لم يشتغل في النص إلا كإطار، أما مع روايات التجريب فقد انتقل ليحتل مكانة هامة في بنية ودلالة النص الروائي، ما يفتح باب السؤال عن هذا المكون السردي وكيفية تشكله في النص وعلاقاته مع باقي المكونات السردية، و الدلالات التي يولدها، وبحثنا إذ يتغيا البحث في أفضية رواية نسوية فإن التفضئة تعد أكثر إشكالية بالنظر لانحسار المرأة العربية دون العديد من الأفضية، التي لا يمكنها ولوجها فكيف لها أن توظفها إبداعيا، ورواية المتمردة، تعكس هذا الابعاد عن المكان، و الذي ينتهي بهجرتها خارج الفضاء الصحراوي، مع ذلك لا تنقطع الأفضية الصحراوية بكل حمولاتها الثقافية و التراثية من الحضور في السرد، ليس فقط في الطبقات السردية المسترجعة من ذاكرة الطفولة بالصحراء، بل حتى في الطبقات التي تسرد حياة المهجر، و للإحاطة بهذا الحضور المكثف للمكان في مدونتنا، اعتمدنا على تحليل شعرية الفضاء التي لا تمثل مسارا إجرائيا بل يمكن في تحليل الفضاء الروائي الاتكاء على مسارات متعددة شكلتها جهود الباحثين حول هذا المكون الذي همش مقارنة بالاهتمام الكبير الذي حظي به مقابله الزمن ، رغم أنه من الثراء بحيث لم تحط به مقاربة واحدة ما جعلنا نستفيد من جهود كل من جنيت و لوتمان و بشلار و بورنوف و حتى مشروع الأمريكي كيسنر الذي يبدو الأكثر شمولية و نضجا.
- شعرية الفضاء الروائي :
تشكلت دراسات الفضاء الروائي في شكل مسارات بحثية مستقلة، رغم ما يطبع المسارات من تباين وتشتت فإنها تقدم إضاءة لا غنى عنها لدراسة الفضاء الروائي، من اوائل الدراسات الغربية التي تناولت الفضاء الأدبي “La poétique de l’espace” لغاستون باشلار Gaston Bachelard وهي الدراسة التي تستلهم عمق التأمل الفلسفي المتكئ على المنهج الظاهراتي في دراسة القيم الرمزية المرتبطة بالمناظر التي تتاح لرؤية السارد أو الشخصيات في أماكن إقامتهم كالبيت والغرف المغلقة أو الأماكن المنفتحة، الخفية أو الظاهرة، المركزية أو الهامشية.. و غيرها من التعارضات التي تعمل كمسار يتضح فيه تخيل الكاتب والقارئ معا (weisgerber,1978,p.9) سعيا منه للقبض على الدلالات والمعاني وتحديد القيمة الانسانية للمكان في ذاكرة الإنسان ووجدانه. و قد رصد جنيت G. Genette هذه العلاقة التي تربط الفضاء بالأدب فيما اصطلح عليه بالفضاء الدلالي المتحقق في النص عن طريق الصورة، والدلالات المجازية.
أما يوري لوتمان الذي يشاطر جنيت فكرة أن الإنسان يعبر بالعلاقات الفضائية عن عدد من العلاقات الأخرى، ويرجع سبب ذلك إلى أن الإنسان يدرك العالم إدراكا بصريا، مما يؤدي به إلى اعتماد لغة العلاقات الفضائية في «وصف الواقع، وينطبق ذلك أيضا على ما هو إيديولوجي صرف» (الظل، 2011، صفحة 49) فمفاهيم مثل “أعلى – أسفل”، “يسار – يمين”، “قريب- بعيد”…و غيرها تستخدم في بناء نماذج ثقافية تشتمل على ما هو فضائي فتكتسب معاني جديدة مثل”قيم-غير قيم”، “حسن- سيء”، “الأقربون- الأغراب”. ليخلص إلى أن نماذج العالم الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية العامة التي ساعدت الإنسان (على إضفاء معنى على الحياة التي تحيط به تنطوي دوما على سمات مكانية تأخذ أحيانا شكل تضاد ثنائي ينطوي على سمات مكانية، مشكلة بذلك تراتبية سياسية أو اجتماعية تشدد على التعارض الحاصل بين “الطبقات العليا” والطبقات الدنيا” وتارة في شكل تقابل صفات أخلاقية بين “اليمين” و”اليسار”.
وجدت دراسة لوتمان هذه حول التقاطبات باعتبارها أداة انتاج للدلالة، امتدادا عند كل من جورج ماتوري G.Matoré وجان فيسجربر G.Weisgerber؛ حيث سيعمل الأول على توسيع منظورات لوتمان حول الفضاء في كتابه الفضاء الانساني L’espace humain ملاحظا كثافة حضور المصطلحات الفضائية في قاموسنا، مما جعله يشدد على تصنيف هذه المصطلحات (الزموري، 2010، صفحة 32) أما فيسجربر فيقدم أهم إضافة في هذا المنحى، من خلال مشروعه الفضاء الروائي L’espace romanesque الذي لفت فيه الانتباه إلى أهمية اللغة في تشييد فضاء الرواية، وتنويع تضاريسه وإبراز تمظهراته على عكس فضاءات أخر كفضاء السينما والمسرح التي يتم إدراكها بواسطة حاستي السمع والبصر بينما يدرك الفضاء الروائي بوساطة اللغة اللفظية المكتوبة، لتصبح نسقا يؤسس لفضاء المحكي الأدبي وينظم مواصفات الفضاء عبر تحققات تخييلية تتصل بوصف الأحياز المكانية، وقياس تضاريسها وامتداداتها، مؤكدا بهذا على خطورة اللغة في تشخيص الأمكنة وتنويعاتها ما بين واقعية ورمزية وعجائبية، فالفضاء الروائي لا يكون بالضرورة حقيقيا بل غالبا ما يتم انتاجه من قبلنا حيث يتم استيلاده من إمكانية تشكيل الألفاظ المتخيلة.
استفاد الأمريكي جوزيف .إ. كيسنر من هذه المسارات البحثية و غيرها وأسس لمفهوم الإيهام الثانوي، كما اعتبر شعرية الفضاء منهجا في قراءة الرواية، محددا مفهوم الإيهام الثانوي بأنه تواجد أحد عناصر شكل من أشكال الفن في شكل آخر (كسنر، 2003، صفحة 23) بعبارة أوضح، فإن الإيهام الثانوي للفضاء في الرواية هو ظهور عنصر الفضاء من الفنون الفضائية في هذا الفن الزمني، والتي لن يقتصر تأثيرها على الجانب الشكلي فقط، كما قد نختصرها متسرعين في حجم الكتاب أو لون الغلاف، بل إنها تمتد حتى مضمونه، بل وأهم من ذلك إن الفضاء يحدد طريقة تشييد النص _ معماره _ كما أنه يحدد الدلالات التي سترتبط بالحكاية من خلال تحديد أماكنها.
يؤدي الإيهام الثانوي للفضاء أربع وظائف: أولهاـ من حيث إنه ايهام ثانوي فعال وواسطة تتحقق عبرها الخصائص الفضائية في الفن الزمني، ويتم تلقي الصورة والتركيبات الكلمية من خلال الارتداد والتعاقب الآني.
الوظيفة الثانية: تتجلى من خلال الأنواع الهندسية كالنقطة والخط والمستوي والمسافة لأن اللغة عمودية (كسنر، 2003، صفحة 28) مفضاة أكثر منها أفقية وتتابعية
الوظيفة الثالثة: تكمن في علاقة الرواية بالفنون الفضائية كالرسم، والنحت، وفن العمارة، التي تمد الأدب بالمشهد، وخلق الشخصيات، والشكل الوظيفي على التوالي، الذي يميزه برتراد راسل من خلال «المجازات البلاغية وعناصر الكلمة، والجملة، والفقرة، والفصل في أي رواية كلها معمارية في نزوعها نحو تسييج فضائي» (كسنر، 2003، صفحة 29)
الوظيفة الرابعة: تؤثر على الفعل التأويلي حيث إن النص يخلق حقلا “مطابقا مولدا” في حضور القارئ الذي يدخل في علاقة دينامية مع النص.
- 3. بنية التقاطب المخاتلة المهجر/الوطن:
في رواية المتمردة لمليكة مقدم يحضر المكان بشكل مكثف حتى لتبدو الرواية رواية مكان، اتخذت الكاتبة من الثنائية المضادة تقنية لتفضئة نصها، و هي آلية « مشحونة دلاليا و رمزيا نتيجة دمجها في المنظومة الثقافية العامة عن طريق اللغة فأصبحت بما تتوفر عليه من كثافة دلالية…تحدد الرؤية العامة للكائن تجاه الواقع والعالم» (حسين، 2000، صفحة 74) فتقسم أماكن الرواية إلى “هنا” و “هناك”، فانكتبت الرواية بشكل متناظر وفق سرديتين، الأولى سردية مدينية تروي سيرة المهجر و المدن الفرنسية- تحديدا مدينة مونبولييه- حيث تقيم الساردة و تضطلع بفعل الحكي، و سردية الصحراء التي تروى بفعل التذكر، و تحمل عنوانا فرعيا “هناك” مقابل العنوان الفرعي “هنا” ، اسما الإشارة الذين يتناوبان على عنونة اللوحات السردية داخل فصول الرواية، حيث تشير هنا إلى القريب مكان اقامة الساردة و مكان الحكي، أما الهناك فهي للبعيد ليس جغرافيا فقط بل و زمانيا أيضا، إنها تشير إلى زمكان الطفولة التي عاشتها في الجزائر تحديدا في الصحراء بمنطقة القنادسة، غير أن الذاكرة التي تسرد لا تكبحها التقسيمات التي اعتمدت الكاتبة فحتى في مقاطع “هنا” تحضر الصحراء، و ذاكرة الساردة و ماضيها ليحتل الحاضر و يحتل المكان الجديد و هو المهجر، الذي يتخذ صورة منفى يقف بينها و بينه حاجز نفسي، فلا تصفه و لا ترسم معالم حياتها فيه، كأنها تعيش منفى مزدوج منفية ثقافيا عن مصادر اللغة التي تكتب بها (الفرنسية) و موروثها، و حتى فضائها الذي لا تشكله في النص، و منفية لغويا عن أجواء الصحراء التي تكتب عنها بلغة الآخر، مع ذلك تتشكل الصحراء كهاجس في النص لا يتوقف سرد المكان الصحراوي إلا لتعود إليه الساردة بكل محمولاته الثقافية والاجتماعية، و حتى الجغرافية، كأن الكتابة عند مليكة مقدم « سجل أنثروبولوجي للعادات و التقاليد والأساطير، دبج برؤيا رومانسية تميط اللثام عن الأسرار و الخبايا » (ابراهيم، 2011، صفحة 249) و تصور الساردة بصورة ضحية لمحيطها الذي يدفعها نحو العزلة و الاغتراب فتنتهي إلى الكتابة.
ليأتي فضاء الكتابة طافحا بانشغالات الوطن الأصلي و لا ينقل شيئا من فضاء المهجر، الذي رغم أنه المكان الذي ينكتب فيه النص إلا أنه لا يحمل شيئا من سماته، فالكاتبة ممزقة بين لا انتماءين، فلا هي امتلكت وانتمت لمكانها الأصلي “الصحراء” و لا هي سبرت أغوار المكان الجديد فهو لا يرد إلا في شكل إشارات متباعدة، للبيت، للعيادة و للبحر، و هي أماكن تحمل الدلالات ذاتها التي تحملها الأفضية الصحراوية، فالفضاء الصحراوي متداخل مع شخصية الساردة و هو خالق أبعادها النفسية والسوسيوثقافية، والوعي به مكون أساسي من مكونات الوعي بشرط الكتابة عند مليكة مقدم و ساردتها (الكاتبة) جماليا وتكوينيا، وجودا وذاكرة وهوية، فالصحراء تطبع هذا النص بطابعها الثقافي و الطبوغرافي و نفسية الساردة لم تتغير رغم الانتقال بين فضائين متناقضين، ما بين صحراء الجذب و العطش إلى منبوليي المدينة التي لم تصف لا أمطارها ولا ثلوجها، بل اكتفت بوصف الريح التي تذكرها برياح الصحراء. « أحس بالضجر، و أصغي إلى ريح الطرمنطان . و الرياح المزمجرة (…) ربما تقودني إلى الصحراء . فهناك تمنح ريح الخماسين لفصل الربيع رائحة التراب…» (مقدم، د.ت، صفحة 11) حتى على مستوى الدلالة يلتبس الفضاء الفرنسي بالصحراوي ليلتقي كل منهما في كونه فضاء للحكي.
- البيت – فضاء الحكي :
تشرع الساردة بالكتابة في بيتها بمونبولييه و ان كانت تمارس الكتابة في العيادة أيضا، إلا أن نصفية البيت هي الفضاء الذي خصصته للكتابة وسرد الحكايات كما تصفها، لتشبه جدتها التي كانت من الرحل و انتهت إلى الاستقرار، وصارت تعوض التنقل في الفضاء الصحراوي بالتنقل في فضاء الذاكرة وسرد حكاياها للساردة أو لضيوفهم كما حصل ليلة اجتياح السيول و حلول الضيوف ببيتهم للحماية، فكانت تسرد لهم حكايا الرحل، فالبيت هو فضاء للحكي، سواء كان شفاهيا أم مكتوبا لا يختلف في ذلك بيت الصحراء عن بيت مونبولييه، كلاهما بيت للأنثى و فضاؤها للحكي، الذي يعوضها و يشفي النقص الذي تحسه، فالجدة تنفس عن افتقار الترحال بالحكي عنه، و الساردة تعوض جراح الوطن في التسعينيات و ما شابها من عنف بالكتابة عنه.
يرتبط البيت المديني بالدلالات ذاتها التي دفعت الساردة لهجرة البيت الصحراوي، إنه مكان للضجر ، للوحدة، للألام النفسية ، هو فضاء القطيعة التي تأتت بعد هجران الحبيب لها فغادر و تركها بالبيت العابق بالذكريات، كذلك كان بيت الصحراء فضاء للقطيعة التي مارستها هي ذاتها مخلفة البيت و مغادرة نحو الثانوية أولا ثم الهجرة التي استمرت 13 سنة دون عودة لبيت الصحراء، أما سبب هذه القطيعة فهو ثقافي في الحالتين، بمنبولييه هجرها حبيببها بسبب الكتابة التي وقفت حاجزا بينهما: «أفكر في الظلام في قبيلتي التي ولدت فيها، لم أهجرها عن رفض أو عن تذوق للمغامرة. لقد قطعت نفسي عنها كي لا أموت اختناقا. و الآن، ها أنا أفترق عن الرجل الذي أحب لأنه هو الذي يختنق من رؤية الجسد و العقل المتواطئين مع الكتابة» (مقدم، د.ت، صفحة 17ـ18) أما في الصحراء فكان التعلم و الكتب هي سبب القطيعة مع العائلة بعد أن استولت على فضاء خاص هو غرفة الضيوف جعلته فضاء للقراءة و النوم و كان بمثابة الحرب المستترة مع الأم، تحولت إلى قطيعة نفسية مع العائلة بالكامل، و بداية العيش معزولة عنهم : «استيلائي على هذه الغرفة أعطى الانطلاق للحرب، التي ظلت مستترة إلى هذا اليوم، ما بين أمي و بيني (….) القراءة طوال الليل و النوم صباحا، و العيش بمعزل عن الآخرين » (مقدم، د.ت، صفحة 112)، لتتحول قاعة الضيوف إلى معراج للحرية، تختار بفضله الساردة طريقة عيشها، و تقاوم محيطها بكل أنساقه ، فهي اختارت الكتب وسط ثقافة شفوية، و اختارت العزلة في القبيلة و العائلة، و بفضل هذه الخطوة الأولى على طريق الحرية سيتأتى لها الذهاب بعيدا، و مغادرة الصحراء نهائيا لتقتلع ذاتها من الصحراء و من الجزائر ككل، غير أن هذه الأفضية تظل تسكنها، و تحضر لتحتل فضاء المهجر، فأخبار الوطن في الجرائد و هي تبتاع منها الكثير لتتابع الوضع بالوطن رغم أنه يعمق جراحها، كما أن الدلالات التي ترتبط بفضاء الصحراء و الوطن ككل هي نفسها التي تربطها بالمهجر، فالعنف و القتل الذي ارتبط بتسعينات الجزائر، هو نفسه يهدد حياتها في المهجر، فالذين اغتالوا طاهر جاووت في الجزائر يهددون كل من يهددهم قلمه، فأحرقِت سيارتها، و هُددَت، و توالى جيران عيادتها بإخبارها بأنهم يتلقون تهديدات بقتلها ،كأن المهجر الذي وهبها الحرية للتعلم و العمل، و العيش كما تشاء، لم يتمكن من منحها الإحساس بالأمان، و لا حتى بالانتماء فهي بعد حرب الخليج تفقد الاحساس بالانتماء لفرنسا التي مثلت وطنا بالتنبي قبل ذلك، فتصف نفسها أخيرا بعديمة الجنسية، و تتحول فرنسا إلى فضاء معاد، تصفه بالمستعمر على اختلاف اشكال الاستعمار التي يمارس، ما يجعل من فضاء المهجر مساويا في عدائيته لفضاء الصحراء، محملا بالدلالات ذاتها من موت و عنف، و لا انتماء، إنها لم تعد تنتمي إلا لثقافة الحد /الثخم « ثقافة مقاومة و مضادة لجماليات الحداثة الرائجة، لأنها ثقافة ساهم في انتاجها آداب المقموعين و المهمشين و المنبودين و المنفيين الذين يعارضون جماليات “المركز” و يقفون منها موقف النقيض» (الشحات، 2005، صفحة 21) فتنحاز للهامش، و تترك المشفى و التخصص بأمراض الكلى وتفتح عيادة للطب العام في حي للمهاجرين، فيكونون عائلتها الجديدة، عائلة من المهمشين «إن الحي الذي يقيمون فيه ينشر حولي باستمرار، مذاقاته و أريجه العائلي. هذه الأشياء العائلية هي ما أبحث عنه. و لكن المنة الأكثر عمقا تأتيني من نظراتهم. صرفت كثيرا من الوقت كي أعي بها و كي أزن قدرتها على الإصلاح و على التجديد و الإحياء. العيون نفسها بدأت، هنا، في إعادة إصلاح و ترميم ما خرب هناك.» (مقدم، د.ت، صفحة 119)، الحي المهمش الذي تقيم به غالبية مهاجرة من المغاربة و بعض الأتراك و البرتغاليين و قلة من الفرنسيين المهمشين، هذه الفئة المسحوقة تخلق أخيرا الإحساس بالانتماء لدى الساردة /الكاتبة، ويقع التقاطب أخيرا بين الـ هنا و الـ هناك، لترمم هنا ما خربته هناك، و تشفى جراح الأنا بفضائها الجديد الفضاء الهامشي الذي يخلق الألفة و تعالج ما بنفس الكاتبة من تمزقات و عزلة سببها فضاء الصحراء بل الوطن ككل، غير أن هذه التمزقات لا تجد لها في النص مبررا واضحا، فالساردة و هي تروي هذا النص الذي يتشابك فيه التخييلي بالسيرة الذاتية، تخلق مبالغة في الشعور بالنبذ في حين أنها على امتداد النص كانت تروي سيرة للابتعاد الطوعي عن العائلة الأصلية «سيرة ذاتية مضخمة و تأملات وجودية مبهمة تصور حالات إنسانية مزعزعة يتعذر عليها الانتماء، و لا هوية لها، أدى هذا الضرب من الكتابة إلى حيرة وعتمة وسخط ، و ارتفعت فيه درجة حرارة الغضب» (ابراهيم، 2011، صفحة 251) لأسباب غير واضحة غالبا.
فالتقابل بين الفضاءين “هنا” و “هناك” المهجر/الوطن هو على المستوى الجغرافي وعلى المستوى البروكسيمي، حيث حققت لها هنا ما كانت تصبو إليه من اكتساب فضاء خاص بها فامتلكت المنزل و العيادة، و صار لها سرير خاص، تبتعد به عن السرير العائلي الذي كان يجمعها بأشقائها، غير أن الفضاءين لا يختلفان من حيث كونهما عنيفين، مهددين للحياة، و يفتقران للألفة، التي لا تجدها إلا في حي هامشي هو إقامة المرضى، التي تعوضها عن فقدان العائلة، إنه نقطة للعزلة التي تجد بها المهمشين والمبعدين عن عائلاتهم، الذين يشبهون حالة العزلة التي آلت إليها.
- الغرفة نقطة لعزل الذات :
تبدو الساردة كنقطة منعزلة في فضائها، إنها تقيم وحيدة ببيتها بعد أن هجره جان لويس، و في العيادة تعمل بمفردها، و حتى حين تستعيد ذكريات الصحراء تروي كيف انتقلت إلى غرفة منفردة بعيدا عن باقي العائلة. إن تقنية النقطة الفضائية تربط علاقة تبادلية بالجانب الموضوعاتي في الرواية، لتتشرب نوعا خاصا من موضوعات، هي تلك المتعلقة بالعزلة، النبذ الاجتماعي، الوحدة الوجودية، الأنانية، اليتم، قضايا الإبعاد…وغيرها من أشكال العزل، « فتقوم بدور الصورة الحاسمة في الرواية، من حيث إن “مستوى” المجتمع (…) يشكل الحقل الذي تكون فيه هذه “النقطة” معزولة.» (كسنر، 2003، صفحة 49) غير أن العزلة في هذا النص حالة اختيارية، إن الساردة منذ بدايته تسعى للخروج من الممارسات الجماعية، إنها ليست حالة من الإبعاد أو النفي، بل هي رغبة واعية في الخروج عن النسق العائلي و شق طريقة خاصة في العيش تؤثثها الكتب و القراءة و لغة مستعمر يجهلها حتى الوالدان «لقد كان الأرق و العزلة و القراءة حرياتي الأولى» (مقدم، د.ت، صفحة 11) التي شرعت بممارستها منذ مرحلة الطفولة و استمرت معها حتى في مهجرها، حيث تقابلنا الفاتحة الروائية بوصف وحدتها في البيت متنقلة بين غرفه و أسرته دون أن تتمكن من بلوغ الاحساس بالألفة فتستعيد ذاكرة المكان الصحراوي، غير أن الصحراء لا تصور في الرواية في صورة يوتوبية لبيت الطفولة، بل هي على العكس من ذلك تأتي بدلالاتها السلبية العطش، و العزلة فعائلتها تقيم في بيت بعيد عن القرية، وهي تقيم في غرفة الضيوف بعيدا عن باقي أفراد عائلتها، بعد أن تنقلت من سرير إلى آخر.
يتداخل فضاء الغرفة حيث تعزل الساردة ذاتها بفضاء السرير في هذه الرواية إن الغرف لا تجيء إلا للحديث عن سرير أو عن فراش، حتى غرفة العيادة تصفها بسريرها، كأن الغرف تفقد كل دلالاتها لتختصر في السرير، و مرد هذا إلى حالة العزلة المهيمنة على النص بالكامل، و التي تخلق الإحساس بالحرية لدى الساردة، فهي حين تستعيد غرفة بيت الطفولة حيث كانت تتشاركها مع والديها و تتشارك فراشها مع باقي أخوتها تصفها “كمظاهر الظلم الأولى، و بدايات الشقاء”(مقدم، د.ت، صفحة 15) و تجعلها سببا في أرقها الذي سيستمر معها حتى زمن الكتابة، و لا تحس حريتها إلا باقتلاع نفسها من ذلك الفراش المشترك و الانتقال إلى غرفة الضيوف حيث تنعزل لممارسة القراءة ليلا و النوم صباحا، و ترى في هذه العزل منعرجا نحو الحرية عليها الحفاظ عليه، أما باقي الغرف في الرواية فهي أيضا لا تذكر إلا مقترنة بأسرتها، منها غرفتها في المدرسة الداخلية حيث تصف مباشرة سريرها و الخزانة ، ثم أسرة الطالبات، غرفة نومها الرئيسية و السرير الذي صنع جون لويس و تحطمه لتقتني آخرا، غرفة معدة للضيوف تعرج على سريرها ثم ترفض النوم به، النصفية و هي مكتب خصصته للتأليف و به سرير أيضا، غرف المرضى التي تصفها من خلال أسرتها، فالسرير هو الفضاء الأساسي في هذه الرواية و لذا جاء الفصل الأول من الرواية بعنوان السرير الواقف.
السرير فضاء للخصوصية و الهناءة المرتبطة بالنوم، و الحميمي، أما اضافة صفة الوقوف له فهي تسقط عنه كل هذه الدلالات، فالأسرة تأتي ممددة لتضطلع بوظيفتها، أما وقوفها فنفي جذري لهذه الوظيفة، فلماذا جعلت مليكة مقدم سريرها واقفا، إن التفسير تأتي به من التراث الشفوي الصحراوي و هي تضمن الرواية حكاية عن صناعة النسيج التراثية أيضا، حيث وصف المنسج بالسرير الواقف لشبه شكله من جهة ولجمعه بين حبيبين من جهة أخرى (مقدم، د.ت، صفحة 34) في علاقة حب انبثقت من اعجاب بالزرابي، جعلت الحبيببين في الحكاية الشعبية يقفان معا أمام المنسج، السرير فضاء الحب في الحكايا، أما المنسج في بيت الساردة فلم يخلق الحب بل صنع خيبة الأم التي لم تتقن هذا الفن وخيبة الجدة التي لم تتمكن من نقل فنها التراثي للجيل الجديد، ليتخذ السرير الواقف دلالات جديدة هي الخيبة التي تنتهي بتفكيكه، يتحول إلى سرير منكسر كالأسرة التي ستعايشها في حي المهاجرين بمونبوليي و التي تصفها مقارنة إيها بالأسرة الواقفة «هذه الأسرة ليست أسرة واقفة، إنها مكسّرة و موضوعة في أقصى الأمكنة»(مقدم،د.ت ص118) فصفتي الوقوف و الانكسار لا تحمل دلالتها الحرفية كما في النص التراثي بل إنها تضاد بين حال القوة و الصمود مقابل الضعف و الوهن، إنه فضاء نفسي يعكس حياة الشخوص أكثر مما يصف حال السرير، إنها أفضية النفس في قوتها أو إنكسارها.
غير أن السرير لا يبتعد عن الدلالة الأولى و هي العزلة مهما اختلف توظيفه في هذا النص ، فالسرير الواقف هو فضاء لعزلة العشيقان في نص الحكاية الشعبية حيث اختليا بعيدا عن زوج الحبيبة، و أسرة المرضى المكسورة معزولة عن الحياة تصفها بـ “أقصى درجات العزلة في زوايا البؤس و الاقتلاع” والعزلة عن الآخر، عن العائلة البعيدة في مواطنهم الأصلية، العزلة عن الحياة والانغماس في البوس و الفاقة، و العزلة بعيدا عن الحب و العائلة كسرير بيتها، الذي هجره جان لويس بعد سبع عشرة عاما.
وهي تفتتح الرواية بهذه الثيمة مباشرة واصفة فضاء للوحدة و العزلة، فقد غادره الحبيب و بقيت فيه لوحدها، تصارع ذاكرة المكان ، ذاكرة الرائحة و الصورة التي شكله عليها جان لويس ذاكرة المكان:« لقد غادر هذا الصباح ، أنا وحيدة في السرير، وحيدة هذا المساء في رائحتنا، بالرغم من أن الشراشف تم تبديلها و لكن الرائحة مازالت هنا، في نسيج القماش في ذاكرة السرير» (مقدم، د.ت، صفحة 9) فالسرير الذي كان فضاء للحب والحميمي و الانغماس في حالة من الألفة تحول إلى نقطة معزولة قلقة، إلى فضاء ضاغط يهاجم الساردة بالذكريات و يسبب لها الأرق فتنتهي بتحطيمه، و جلب سرير آخر لا ذاكرة له ، ليفقد الدلالات العدوانية و يعود إلى دلالته الطبيعية فضاء للانكماش على الذات فالإنسان « يعيش في تذبذب جدلي بين الرغبة في الانتشار و الانطلاق من قوقعة إلى أخرى في حركة طرد مستمرة و بين الرغبة في الانكماش و التقوقع في حركة جذب إلى الداخل» (قاسم، 2002، صفحة 38) هي الرغبة التي حققت لها الألفة و الفرح في طفولتها حين كانت تأوي إلى فراش جدتها، الفضاء العابق برائحة زكية و حكايا الصحراء و الرحيل و الخيول، و الحنو العائلي الذي يحملها على النوم في طمأنينة و سلام في حضن الجدة، وفي المهجر تعود إلى السرير تبحث هذه المشاعر التي كان وجود جان لويس يهبها إياها، فلا تجدها بل تصف حالها في السرير بالانكماش في فضاء بارد معزول يسبب الأرق.
- الفضاء الصحراوي:
بالنسبة لمليكة مقدم تتساوى الصحراء والجزائر، إنها لا تفصل بين الفضاء الكلي وهو البلاد بكاملها والصحراء التي تمثل جزءا فقط منها، لكن السرد لا ينتقل بالأفضية الشمالية بل فقط بالصحراء مقابل أفضية مهجرها. ارتبطت الصحراء بدلالات متنوعة، أولها جسدت صورتها النمطية من عطش حرارة واتساع وموت إذ تصف الصيف بـ “الأيام الجهنمية” والصحراء: «الفضاء الفارغ، هو الخارج. هو الصحراء. هو الموت» (مقدم، د.ت، صفحة 111) غير أنها ناذرا ما تأتي على وصف هذا الفضاء الصحراوي خارج البيت، باستثناء مرات قليلة وصفت فيها المساحة المجاورة للبيت وما تتضمنه من خزان للمياه، تحول إلى مصدر رزق والدها. فحتى سماء الصحراء بمشهد نجومها الفريد تصفه من داخل البيت السبب في ذلك هو وجود المظليين واحتلالهم الفضاء الخارجي ليلا، لكنه ليس السبب الدائم لمنع الأنثى من اكتشاف الفضاء الخارجي ووصفه، بل لأن فضاء المفتوح محتكر للجنس الآخر، للرجال حتى أن الفتيات اللائي يتجرأن على اجتياز هذه الأفضية قاصدات المدرسة يتعرضن للعنف اللفظي و حتى الجسدي و «على الآباء أن يتحملوا النقد و التنصل و المواجهة الجسورة للتقاليد، إنهم يعرضون بناتهم للاستنكار والشجب و لأقوال خسيسة و مهينة في الشارع، هذا إذا لم يصل الأمر إلى حد رجم سيقانهن بالحجارة لأنهن تجرأن على دعس أراض كانت لحد الساعة محصورة بالذكور» (مقدم، د.ت، صفحة 122) فالفضاء المفتوح حكر على الذكور ومحاولة عبوره فقط دون الطموح إلى اكتشافه أو استغلاله تفضي بالأنثى إلى تحمل العنف عقابا اجتماعيا تفرضه الذكورة عليها، حتى أن الأسطورة حين تروي عن طارغو شبح امرأة تسكن الصحراء و تظلل المسافرين، أو تروي حصة الإملاء عن إيزابيل إيبرهاردت فإنهما تذكرا متنكرتين بزي رجالي لتتمكنا من عبور الفضاء الصحراوي.
هذا جعل الأفضية الصحراوية المفتوحة في النص قليلة جدا، وهي حين ترد تمثل مهربا للساردة، التي تتسلل إليها خفية أو تنطلق إليها هاربة.
أما حين تصف القصر والسبخة والضريح والقرية والحي الفرنسي في مقابل الحي العربي و اليهودي، فإنها لا تصفها متنقلة فيها بل فقط تطل عليها من بعيد، ثم تلجأ للكثيب المعزول الذي لا تبلغها فيه ألسنة و لا أيدي الآخر الذكر ليعنفها، تقضي به وقت قصيرا « ووجوده(ا) هنا لا يتحقق بسبيل العيش…بل في تأكيد الذات إزاء المحيط الواسع المتناهي» (النصير، 2010، صفحة 113) لتعود مستعدة لمواجهة قسوة الحياة والصحراوية وكذا قسوة حياتها الأسرية التي تفتقر لحنان الأم فهي الأخرى تفضل أبناءها الذكور وتدللهم وتحاول جعلها تخدم أخوتها الذكور بينما «هم ليسوا فقط أحرارا، و لكنهم أيضا محل دلال و غنج و ملاطفة. أما أنا فلا حق لي في أي شيء من كل هذا و ما علي إلا أن أخدم و أذعن و أن ألوذ بالصمت» (مقدم، د.ت، صفحة 112)، ولأن الفضاء المغلق (البيت) هو الآخر ليس ملكا لها، ولا هو وفر لها الحنان الذي تحتاجه أي طفلة فإنها فضلت العزلة.
أما الفضاء الصحراوي في الرواية فيتجلى من خلال الثقافة المحلية، فالساردة تأتي على ذكر تفاصيل اليومي فتأثث سردها بعناصر من البيئة المحلية: المسرجات، الكانون، حصيرة الحلفاء، بطانية الصوف. كما تأتي على سرد تفاصيل مهنة النسيج التي تلقنها الجدة للأم و بكل مراحلها التي تمتد لأسابيع في «الغسيل و في كشط و ندف و نسج وتخضيب و صبغ جزازات الخرفان، و الآن شلات صوف تتراكم و تتكدس، خضراء وحمراء وبيضاء ونيلية وصهباء، جاهزة لما هو شاق، وهو تحويل الشغل إلى عمل مكتمل(…) أمي منهمكة في مهنة النسيج. جالسة في بدلتها النسائية وظهرها متقوس بشكل خفيف، وهي تحاول جاهدة إدخال حبال قصيرة ملونة في لحمة النسيج. تقوم بتثبيتها بعقد قبل أن تقوم بقطع وتوازن طولها….» (مقدم، د.ت، صفحة 31،32) تأتي الساردة على ذكر كل مراحل الإعداد للنسيج ثم الشروع به لتتناول كل تفاصيل العملية التي تعد تمثيلا «للغة طبيعية محكية بعلامات وبإشارات خطية منقوشة(…) إن للحياكة حاملا ماديا يعمل على حفظها» (هرابي، 2006، صفحة 131) من النسيان، إنها لغة الأنثى التي تقاوم بها النسيان من جهة وتقاوم بها انحسارها في فضاء مغلق ومنعها من التعبير عن وجودها إلا بما توافر لها داخله، فالحياكة برموزها وتنوع أشكالها و ألوانها، لغة إبداعية تزاولها الأنثى لتخلق فضاء فني تتواصل من خلاله مع من يحسن قراءته، فيتخلق تاريخ فني أنثوي محفوظ على المنسج الذي تسميه الكاتبة “السرير الواقف” لتشكل الحياكة بؤرة السرد في الفصل الأول المعنون بالسرير الواقف في تشبيه لأداة النسيج بالسرير لكن بوضع عمودي “واقف”، والتي ترتبط أيضا بأولى قصص الحب التي تسمعها الساردة، قصة من التراث الشفوي تضمنها الساردة حكيها، لارتباطها بمهنة النسيج التراثية وبالحياة الصحراوية بشكل عام، حياة الأنثى داخل البيت الصحراوي، فالبيت هو الفضاء المهيمن على هذا النص سواء في المهجر أو في الصحراء، ترتبط به الساردة بشكل كبير و لا تصف إلا تواجدها به و جل أحداث النص تدور في أفضية مغلقة، سواء في الصحراء أو حتى في المهجر. وحضور تراث البيئة المحلية بكل أشكاله تراث مادي وغير مادي الطابع الذي يميز الفضاء الصحراوي في نص مليكة مقدم.
في هذه القصة الشعبية يقع خبير في النسيج بحب النساجة من خلال زربية معروضة، لتتحرر الأنثى من السجن الذي أودعها إياه زوجها، و تبلغ السعادة مع هذا الخبير بالزرابي و يجمعهما السرير الواقف، الفضاء الفني و التواصلي الذي تتحرر فيه الأنثى من قيد الأفضية المغلقة التي فرضتها عليها حياة الصحراء و أعراف أهلها.
مع ذلك لا تتمكن كل النساء من هذا الفن فوالدة الساردة تنتهي إلى الإقرار بفشلها وتترك النسيج إلى الخياطة، لأن « الحياكة قابلية المرأة الرافضة لقيودها لكي تكون مختلفة عن الآخرين» (هرابي، 2006، صفحة 131) و هو ما تمثله الجدة والحفيدة في الرواية أما الوالدة فعلى العكس من ذلك هي من النساء الخانعات و هو ما خلق فجوة وجفاء بينها و بين ابنتها الساردة، فالجدة مثل الحفيدة تسعى لتخليد ذاكرة، هي ذاكرة الرحل الذين شرع الاستقرار يقتلها، فلم يتبق لها غير الفن لتخليد ذاكرتها فكان الحكي والحياكة هما سلاحها لمقاومة النسيان، و لمقاومة الحياة الصحراوية التي يهيمن على أفضيتها الرجل فتخلق أفضيتها الخاصة في الحكي والحياكة، و هي التي توفر الحماية للحفيدة لتمتلك أفضيتها الخاصة بين الكتب «إنه، تحديدا، إخلاص هذه المرأة الحاكية، ذاكرة ثقافة شفهية، من يحمي و يرعى مجهوداتي للتعلم…جدتي التي تحتاج كثيرا إلى نقل ذاكرة الرحل المهددة ذاكرة شعب في طريق الانقراض: “إن استقرار الذين كانوا رحلا، هو الموت الذي بدأ يستبد بقدمي” و أما الآن ، فأنا لا أملك سوى سفر الكلمات…» (مقدم، د.ت، صفحة 44) فالجدة التي كانت من البدو الرحل الذين امتلكوا الفضاء الصحراوي و عاشوا فيه و عايشوا تقلباته، تعرف قيمة الفضاء للأنثى وأن تجد الأنثى لنفسها فضاء خاصا، تعيش فيه و له أحيانا، و تعرف أن فقدانه هو الموت البطيء الذي يكتسحها، هذا ما جعلها حامية للحياة التي اختارت حفيدتها، داخل الأفضية المتخيلة التي تخلق الكتب.
فالأنثى في الصحراء “الفضاء الفسيح المتسع” لا تملك سوى أفضية تخلقها بنفسها، لتهرب إليها ليس من قسوة الطبيعة فقط بل و هو الأهم من قسوة العادات و الأعراف الصحراوية.
- خاتمة:
بنت مليكة مقدم روايتها المتمردة بتقطيع مكاني وفق طبقتين هما “هنا” و “هناك” بشكل متناوب، ما يجعل قارئها يعتقد للوهلة الأولى أن أماكنها متقاطبة، غير أن بنية التقاطب هذه مخاتلة إذ أن الساردة التي هجرت “هناك” الصحراء و الوطن، نحو هنا المهجر مونولييه، بقيت تحمل أماكن الصحراء بذاكرتها، و قد هيمنة هذه الذاكرة على الفضائين معا الهنا و الهناك
فارتبط كلا الفضاءين بالدلالات ذاتها، و أهمها العزلة والوحدة، فكان كلاهما فضاء معاديا للساردة، إلى أن اكتشفت حيا فقيرا و شرعت بالعمل به، فشرع بترميم ما تحسه من خراب بذاتها، فكان الفضاء الهامشي هو فضاءها الأليف، الذي خلق لها الإحساس بالانتماء.
تعيش الساردة حالة من المنفى المزدوج فهي رغم أنها غادرت الوطن طوعا ، إلا أنها لم تجد الانتماء ببلدها الجديد “وطنها بالتبني” خاصة بعد حرب الخليج، و لا هي تمكنت من الفكاك من ارتباطها بالوطن الأصلي و لا الشعور بالانتماء إليه، بسبب جفاء علاقاتها العائلية من جهة و أحداث التسعينات من جهة أخرى.
هيمنة العزلة إذن على الساردة فلم تتمكن من توصيف الأفضية المفتوحة و نذر وجودها بالنص لأنها حكر على الرجل، واقتصر وجودها على الأفضية المغلقة التي مثلت نقاطا لعزل الذات عن باقي محيطها، في الصحراء ابتعدت عن عائلتها لتعيش بأفضية متخيلة في الكتب، و في المهجر خسرت حبيبها بسبب الكتابة، الفضاء الذي تهرب إليه مشكلة جراحات الوطن.
في أفضية عزلتها وهي غرف غالبا كانت تتجه دوما لوصف السرير فضاءاً وظف ليحمل دلالات كثيرة وإن كانت العزلة أهمها، فإنه خلق عن طريق التقابل بين حالاته المختلفة دلالات متضادة بين فكان فضاء أليفا للحميمي و الأمان مرة، و فضاء ضاغطا للعزلة و الانكسار و الوحدة مرات عدة.
تحضر الصحراء بشكل مكثف في الرواية، لكنها لا تتجلى بمناظرها الطبيعية بل بالحياة الأنثوية و الأفضية الفنية التي تخلقها داخل الفضاء المغلق للبيت، كالحكي والحياكة.
فالفضاء الصحراوي متداخل مع شخصية الساردة و هو خالق أبعادها النفسية والسوسيوثقافية، و الوعي به مكون أساسي من مكونات الوعي بشرط الكتابة عند مليكة مقدم ، فالصحراء تطبع هذا النص بطابعها الثقافي و الطبوغرافي و نفسية الساردة لم تتغير رغم الانتقال بين فضائين متناقضين
الإحالات و المراجع :
المراجع الأجنبية:
– jean weisgerber. (1978). l”espace romanesque. ed L”age de l”homme.
المراجع المترجمة:
– أ.ج كسنر. (2003). تأليف تر: لحسن حمامة، شعرية الفضاء الروائي ، المغرب: إفريقيا الشرق.
المراجع العربية:
– حورية الظل. (2011). الفضاء في الرواية العربية الجديدة ، مخلوقات الأشواق الطائرة لإدوار الخراط نموذجا. سوريا: دار نينوى للدراسات و النشر و التوزيع.
– خالد حسين حسين. (2000). شعرية المكان في الرواية الجديدة ، الخطاب الروائي لادوار الخراط نموذجا. الرياض: مؤسسة اليمامة الصحفية.
– خالد هرابي. (2006). الخطاب النسوي في النسيج ، القيمة الجمالية و الأبعاد الدلالية للزربية. تونس : دار سحر للنشر.
– سيزا قاسم. (2002). القارئ و النص/العلامةو الدلالة. مصر: المجلس الأعلى للثقافة.
– عبد الله ابراهيم. (2011). التخييل التاريخي ، السرد و الإمبراطورية ، و التجربة الاستعمارية . الاردن : المؤسسة العربية للدراسات و النشر .
– محمد الزموري. (2010). شعرية الفضاء في القصة القصيرة. المغرب: انفوبرانت.
– محمد الشحات. (2005). سرديات المنفى، الرواية العربية بعد عام 1967. الأردن: دار أزمنة.
– مليكة مقدم. (د.ت). المتمردة . المغرب: المركز الثقافي العربي .
– ياسين النصير. (2010). الرواية و المكان ، دراسة المكان الروائي. سوريا: در نينوى للدراسات و النشر و التوزيع.