النقد الثقافي من رحابة النظرية إلى صرامة المنهج
Cultural criticism From the vastness of the theory to the firmness of the method
العربي قنديل ـ أستاذ التعليم العالي مساعد ـ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بني ملال ـ المغرب
Larbi Kandil – Regional Center for Education and Training Professions, Beni Mellal – Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 75 الصفحة 101.
ملخصنقدم تصورا تركيبيا للدراسة الثقافية المقارِنة التي تجد شبيها لاهتماماتها ومتون اشتغالها في المدرسة الأمريكية من حيث انفتاحها على المقارنة بين الفنون التعبيرية المختلفة. ومن منظور مختلف، فهذه الدراسة الثقافية تختلف عن التصور الأمريكي للمقارنة في خلفيتها المعرفية التي تتأسس على مفهوم جديد للخطاب (فوكو) في علاقته بالسلطة (فرانز قانون) وبالهيمنة (غرامشي)، فضلا عن علاقات القوة والضعف (إدوارد سعيد- هومي بابا- إعجاز أحمد- سبيفاك…). إنها خلفية الإخفاء والمخاتلة في مقابل الإظهار والشفافية.
ولمحاولة الإجابة عن إشكالية منهج الدراسات الثقافية الذي شكل محط انتقاد عديد الباحثين، نقترح تصورا سيميائيا بيرسيا يغتني بنظرية الأنساق المتعددة على اعتبار أن السيميائيات تأخذ موادها من اللسانيات وعلم النفس والعلوم الاجتماعية وتاريخ الثقافات، والآداب. وهكذا يتخذ منهجنا الثقافي المقارن ثلاثة مناحٍ متوازية ومتزامنة في الدراسة، ألا وهي، سيمياء الموضوعة وسيمياء التلقي وسيمياء الثقافة. إنه تصور منهجي موحد الخلفية المعرفية؛ فكل هذه الاتجاهات تستند على فكر ظاهراتي تأويلي ونسقية في جهازها المفهومي.
الكلمات المفاتيح: النقد الثقافي- السيميائيات- المقاربة الثقافية- الخطاب.Abstract
This paper presents a synthetic conception of the comparative cultural study. From a different perspective, this cultural study is based on a new concept of discourse (Foucault) in its relationship to power (Fanoon) and hegemony (Gramsci), as well as relationships of strength and weakness (Edward Said – Homi Baba…). It’s the background of concealment and illusion as opposed to demonstration and transparency.
In order to try answering the problem of the cultural studies approach, which has been the subject of criticism by many researchers, we propose a semi-persian conception which considers that semiotics take its materials from linguistics, psychology, social sciences and history of cultures. Thus, our comparative cultural approach takes three parallel and simultaneous approaches to stud y, which are, the semiotic of the theme, the semiotic of receiving, and the semiotic of culture. It is a unified methodological conception of the knowledge background, all of these trends are based on an interpretive phenomenological thought.
Keywords : Cultural criticism- Semiotics- Comparative approach- Dicrourse.
حديث التقديم
نقترح في هذه الدراسة إعادة التفكير في قاعدة تفكيك الخطاب وفق النقد الثقافي بين الدراسات الثقافية والمناهج النقدية التي تشترك معها في السعي نحو تفكيك مضمرات الخطاب الواعية وغير الواعية. وقد انطلقنا من إشكالية تعدد الأجهزة المفهومية للنقد الثقافي بتعدد النقاد المهيكلين لبنية تحليلية مخصوصة، مما يفتح النقد على إمكانية الاستعمال الإيديولوجي أو الانطباعي. ومن ثمة، افترضنا إمكانية القبض على الصرامة المنهجية للنقد الثقافي من خلال استثمار الجهاز المفهومي لمناهج نقدية تلتقي معه في الخلفية الهيرمينوطيقية والظاهراتية المستهدفة لتفكيك الخطاب؛ أي الخطاب الذي يواجه بالشك والعمل على إظهار مخبوئه الثقافي (السلطة والهيمنة والمركزية) المتلبس ببنيته الخطابية.
ومن هذا المنطلق، قدمنا سيرورة بحثية تنطلق من بسط تصور الدراسات الثقافية لمفهوم الخطاب، ليكون ذلك مسوغا لتفكيكه وفق مستويات الدوال والمدلولات والتداولات، معتمدين التصور السيميائي للتوليف بين سيمياء التلقي وسيمياء الموضوعة وسيمياء الثقافة، قصد اجتراح جهاز مفهومي صارم في الكشف عن أليات التسنين والتناظر والتدليل. وبذلك هيكلنا دراستنا وفق المحاور التالية:
– الدراسة الثقافية والمفهوم الجديد للخطاب.
-مستويات الخطاب: من التنظير التداولي إلى التفكيك السيمائي.
– نقد ثقافي.. منهج سيميائي موسع.
- الدراسات الثقافية.. مفهوم جديد للخطاب
لطالما اشتغل ميشيل فوكو (Michel Foucault) على مفهوم الخطاب الذي اعتبره أَهَمَّ مُقَوِّمٍ لترسيخ سلطة ما أو لتقويضها؛ ذلك لأنه مقوم حامل لخصائص بنيوية ونسقية تخلق صورة شمولية تقوم بإقناع متلقيها بما يريد المرسل ترسيخه كنمط في التفكير. غير أن المحلل الفَطِنُ للخطاب قد يجد فيه عناصر تناقض المراد الدفاع عنه، والتي تنسجم مع الموجود والمألوف في بنية مجتمعية ما. وهذا ما يُؤَكِّده إدوارد سعيد حين رأى أن محاولة فوكو وجاك دريدا (Jacques Derrida) “تبيين الشيء الذي يحجبه النص في العادة، ألا وهو مختلف الأسرار والقواعد والتلاعب الذي تتلاعب به نصية النص”[1].
وإذا كانت أفعال الإخفاء والحجب والتلاعب موجودة في الخطاب، فإنها أفعال تنسب إلى صاحب الخطاب نفسه، باعتباره مالكا ومرسِلا لهذا الخطاب. وبذلك يكون المعوَّلُ عليه في هذه العملية التواصلية هو الفعل المقابل للإرسال، ألا وهو فعل التلقي. فإذا كان المرسِل مخفيا وحاجبا ومتلاعبا، فإن على المتلقي أن يكون يقظا وفطنا وكاشفا عما يبرزه الخطاب وما يخفيه في الآن ذاته، وهو ما لا يتأتى إلا من خلال التعامل مع النصوص التي يفرزها خطاب ما. وقد طَبَّقَ إدوارد سعيد هذه التوجيهات التي وردت عند فوكو في دراسته للخطاب الاستشراقي، وإن اعتبرها فرضيات مثيرة للنقاش في قوله: “إن أكثر الفرضيات الفلسفية التاريخية إشكالا وتشويقا لدى فوكو هي الفرضية التي مفادها أن الخطاب، والنص أيضا، قد صار محجوبا عن الأنظار، وأن الخطاب بدأ يتقنع ليظهر مجرد كتابة أو نصوص، وأن الخطاب أخفى القوانين المنهجية المتعلقة بتشكيله وبعلاقاته الحميمة الملموسة بالسلطة، لا في وقت محدد من الزمن بل كحدث في عموم تاريخ الثقافة وفي تاريخ المعرفة على وجه التخصيص”[2].
وهكذا، نلفي أن علاقة الخطاب بالسلطة علاقة وثيقة، وأن هذه العلاقة لا تقتصر على الفعل الآني بين السلطة والخطاب في الحاضر، بل تتجذر تلك العلاقة لتنادم مكوني السلطة والخطاب في العمق التاريخي للثقافة والمعرفة. ولعل ذلك ما يدعو المتلقي للخطاب إلى أن يعيد النظر في زاوية التلقي، وقد يصل إلى الانفلات من مواضعات التلقي التي تكبل الفاعلية العقلية وعلاقة الذات بالموضوع.
وعليه، فإن فاعلية القراءة أو التلقي تستلزم ربط الخطاب بقصدية صاحبه وبالذات القارئة كموضوع لهذه القصدية. وهذا ما أكد عليه إدوارد سعيد في قوله: “النقد الذي يجب، إذا أريد له ألا يتحول إلى مجرد شكل من أشكال توكيد الذات، أن يستهدف المعرفة يجب أن يحاول، وهذا أهم، التعاملَ مع المعرفة وتحديد هويتها وإنتاجها كشيء له علاقة معينة مع الإرادة ومع العقل”[3].
لقد وَلَّى زمن التأثر بالخطاب، وبدأ الإعلان عن زمن الاقتناع أو عدم الاقتناع بالخطاب. ذلك أن التأثر كان خاضعا لمواضعات العصر الثقافية والجمالية. أما الاقتناع أو عدمه من منظور جديد، فلا يرتبط بدراسة الخطاب وفق المواضعات الثقافية أو الجمالية، وإنما في علاقاته معها توافقا أو تعارضا. وهذا ما يخول لهذا القارئ أن يرتفع عن النص/ الخطاب لينظر في علاقته بالبنية الثقافية التي أُنْتِجَ فيها، وكذا البنية التي تم تلقيه فيها.
إن التعامل مع النصوص الإبداعية باعتبارها خطابات، في علاقاتها مع البنى الثقافية المتعددة والمتنوعة يؤكد إنسانيةَ تلك الخطابات. وبالتالي، تتأكد نسبيةُ المعرفة المتضمنة فيها وقابليتُها للتحليل الحر، ذلك التحليل الذي لا يوارب ولا يهاب المقدس المتواضع عليه، غايته البحث عن حقيقة من الحقائق المنفلتة من عقال القواعد والضوابط. وهذا ما انتبه إليه حفناوي بعلي في خطاب إدوارد سعيد؛ حيث يقول: “إن النقد الدنيوي بالنسبة إلى إدوارد سعيد هو النقد الموجه إلى الأمور الدنيوية، ومن تم فهو يدخل في إطار التاريخي والنسبي والمتحول. أما النقد الديني فعلى العكس، هو الدخول في إطار التاريخي والمطلق والثابت، ويلازم النقد الديني التعامل مع النصوص الأدبية كأنها مقدسة وثابتة، كما أنه يتعامل مع المدارس النقدية كأنها ملل ونحل”[4]. وعليه، فقد اعتبر إدوارد سعيد أن النصوص الدنيوية كانت تُنْقَدُ بوساطة آليات النقد الديني الذي يتسم بصفات الإطلاق والثبات. ولعل من مظاهر هذه العملية الميكانيكية أن يتم تصنيف الشعراء إلى أقسام وفق المدارس الأدبية (الكلاسيكية والرومانسية…)، مع أن بعضهم يقدم إبداعات تنسحب مقوماتها ومبادئها على مدارس متعددة في مساره الإبداعي. كما نجد أن منهم من اشتهر بموقف معين في ظرف تاريخي للتلقي، وبقي ذلك الموقف ملازما له عبر العصور. غير أن تمحيص ذلك الموقف وفق المستجدات، سواء في المواقف والأفكار أم في آليات تحليل الخطاب، قد يكشف لنا عن فهم جديد لذلك الموقف. وهذا الفهم الذي يتخذ أشكالا متعددة كتحوير الموقف أو تخفيف حدته، أو تعارضه مع ظاهره.
إن تحليل الخطاب، كما ورد عند إدوارد سعيد، يستند إلى موقف فوكو في التعامل مع الخطاب داخل سياقه لا خارجه. وهذا ما يؤكده إدوارد سعيد في قوله:” تتعمد نظريات فوكو نقل النقد من تأمل الدلالة إلى وصف مكان الدلالة، ألا وهو ذلك المكان الذي قلما يكون بريئا وبلا أي بُعْد”[5].
وإذا كان هذا القول يقربنا من مناهج موجودة تهتم بخارجيات النص، من قبيل المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي، فإنه في المقابل يميز بينها وبين المنظور الثقافي لإدوارد سعيد ولغيره من رواد الفكر ما بعد الكولونيالي. إنها دراسة تنطلق من النص وتنفتح على خارجه بشكل جدلي ينطلق من الجانبين (النص وخارجه) ويصل إلى الجانبين في الآن ذاته. وذلك في علاقة النص بالثقافة السائدة في مختلف أشكال التعالق معها، سواء بالتوافق والكشف البسيط عن انعكاسها في النصوص أم بإبراز علاقات التناقض بين النصوص والثقافة السائدة والمنتجة فيها. ولعل تلك أبرز سمة من سمات الدراسات الثقافية التي تصل إلى إبراز سمات الهيمنة والمقاومة في الخطابات اللغوية، وفي الخطابات الأدبية خاصة. ولكي يصل المفكك إلى كُنْهِ هذه الخطابات، فلابد له من مقولات اشتغال تسند خلفيته الفكرية.
- مستويات الخطاب: من التنظير التداولي إلى التفكيك السيميائي
- المستوى الدالي
يظهر، إذن، أن الدرس التداولي له من العطيات ما يتيح له الامتداد نحو الدراسات الثقافية التي تربط الدراسة اللغوية والجمالية بالدراسة الثقافية من منطلق الكشف عن تمظهرات الثقافة في الخطاب وتشكل الثقافة انطلاقا من نسق من الخطابات في الآن ذاته. ومن “هنا يبرز الدور الإيجابي للدرس التداولي في بعده الثقافي، والذي يتمثل في الكشف عن تصورات الإنسان الخاصة لنفسه، بوصفها نسقا فكريا تتحكم فيه الثقافة دون وعي منه، ويمكن للقارئ الواعي أن يكشف عن جوانب السلب والإيجاب في نتاجه الفكري، ومن ثم التعرف على أسباب تقدمه وأسباب تراجعه”[6]. وما جوانب “السلب” و”الإيجاب” إلا تجل من تجليات العلاقة التفاعلية بين وعي القارئ الإيجابي/ الناقد الثقافي والوعي النصي المراوغ، تلك العلاقة التي قد يتوفق القارئ في ضبط سيرورة الانخراط فيها، وقد تنفلت منه معايير ضبط تلك السيرورة القرائية. قد نجد قارئا يحتكم إلى قرائن لفظية وقواعد فكرية (أو قوانين ومؤولات نهائية)، ويبقي على مسافة بين الذات وموضوع الدراسة. وبالمقابل، قد نجد قارئا لا يثق بالقرائن اللغوية ولا يؤمن بالقواعد الفكرية (أو القوانين والمؤولات النهائية) وينسف أي مسافة بين الذات والموضوع، وهو القارئ التفكيكي، في إطار ما يمكن تسميته بالتفكيكية الثقافية.
غير أن هدف تصورنا التركيبي، الذي يستند إلى العمل السيميائي التداولي الثقافي، يبتعد عن التفكيكية ليقترب من منظور التحليل الثقافي؛ إذ يميل عملنا إلى كشف ما يترسب من معطيات تراثية، سواء أكان تراثا خاصا بثقافة ما أم تراثا أجنبيا، من منطلق أن كل ذلك يشكل تراثا عالميا. وهذا ما يمثل توسيعا لمفهوم الترسيب “sédimentation” الذي قد يُربط بالتناص وبثقافة صاحب النص، فـ”انتقال المعنى من منظومة ثقافية إلى منظومة نصية، هو ما نسميه بظاهرة الترسيب “sédimentation” وهذه الظاهرة تعني- باختصار- ما يترسب في النص من ثقافات وأفكار تراثية، عن طريق الجدل المستمر مع الخطابات الأخرى، ليست الواقعة في مجاله التناصي فحسب، بل يشمل أيضا الخطابات الواقعة في مجاله الثقافي”[7].
إذا كان عمل التداوليات الثقافية هو عمل الاستقصاء النصي والثقافي، فإن سيرورة اشتغال تلك العملية الاستقصائية تبدو أكثر تركيبا؛ حيث تخضع للبحث في منشأ التوظيف اللغوي الخاص بكل جانب ثقافي عبر محوري الاستبدال والتعاقب، والتوظيف النوعي والمبدع لكل عنصر لغوي من لدن الكاتب. ففكرة “التداولية الثقافية- إذا- تبحث عن المبدأ المحرك في الأفكار داخل الخطابات، كما تبحث عن الاختلافات الشكلية والجوهرية في هذه الأفكار نتيجة تداولها وانتقالها من مجال إلى مجال”[8].
إن البحث في الاختلافات الشكلية والجوهرية التي تحكم اختلاف الإحالات الثقافية هو ما يمر بعملية لغوية إبداعية تتكون من مرحلتين: تتمثل الأولى في اختيار العلامة اللغوية واستعمالها داخل النص الأدبي، فيما تتجلى الثانية في كيفية توظيف العلامة خطابيا بعد تمثلها معرفيا من لدن الكاتب[9]. ذلك أن هذه الفاعلية الثانية تتأثر بما اعتبره سعيد بنكراد تسنينا لعمل المبدع.
يظهر إذن أن “السيميائيات الثقافية” امتدادٌ طبيعي للتداوليات الثقافية التي تتسم بملمح عام يجعلها تبحث في تعالقات اللغة بالموضوع (الثقافي) أو بالمعنى، أو تصب في “سيميائيات تأويلية” تتقاطع مع مجموعة من المباحث ذات الصلة بالمنحى التأويلي[10]. ذلك أن “تطور النقد الأدبي واحتكاكه المتزايد باللسانيات التداولية وسيمياء المعنى، فضلا عن تشبعه بالفلسفة الظاهراتية والهيرمينوطيقا، أدى إلى ظهور مباحث عديدة ومتنوعة تهتم بالجوانب التأويلية للنصوص الأدبية، وذلك في ضوء العلاقة الخاصة التي تربط الأدب بالقارئ”[11].
ولعل هذا المنحى التقريبي بين السيميائيات والتأويل هو ما نجده في كون “السيميائيات والتأويلية تجمع بينهما شراكة بناء نظرية عامة للدلالة”[12]. فمهما اختلفت منطلقاتهما الفكرية، يبقى حاصل سيرورة بحثهما هو الوصول إلى دلالة من الدلالات، وليس إلى المعنى.
وإذا كانت التداوليات الثقافية، في أبسط مظاهرها، آلية تقصٍ عن الجوانب الثقافية من خلال الخطاب الأدبي الذي يتيح ذلك عبر علاماته اللغوية، فإن سمة الفاعلية التأويلية التي تبنى على فاعلية التقصي تتمثل في عدة مظاهر، من بينها:
– الانحراف عن المعنى الظاهر والجاهز نحو المعنى الباطن والخفي.
– البحث عن المعنى الأعمق أو الغايات القصوى في التأويل دون وقوف عند حد.
– الوقوف عند ثغرات النص وبياضاته لاستثمارها في فعل التأويل[13].
وهكذا، تكون السيميائيات التأويلية حقلا لاستثمار معطيات نقدية مختلفة، وتيارات فكرية متنوعة، ونظريات تواصل متعددة. وهذا ما يعطي مشروعيةً لولوج المقاربات الثقافية حقل السيميائيات والعكس بالعكس، غير أن لذلك الولوج محددات انسجام معرفي ومنهجي تبعدنا عن النزعة التكاملية الكلاسيكية، حيث تنفتح الدراسات الثقافية بناء “على وعي مزدوج، سلبي وإيجابي، بالتخصصات والنظريات الأخرى، يقوم على تقييد استعارة الدراسات الثقافية للمناهج والمقاربات الأخرى بالجدوى المعرفية التي يمكن أن تستمدها منها وتعزز استراتيجيتها في مقاربة موضوع تخصصها”[14]. تلك، إذن، هي خاصية قراءة النص/ اللغة وفق المنظور السيميائي التأويلي. وهذا منظور يقربنا من محاولة باختين الرَّبْطَ بين اللغة وأبعادها الإيديولوجية التي تُستقى عبر فاعلية القراءة.
- المستوى الدلالي
وبذلك فإن دراسة النص تتطلب من الدارس التعامل مع البنية الثقافية المحيطة به، إذ إن أداء الرسالة في ثقافة مخصوصة يعني ضرورة وصل النص بثقافة المؤلف وثقافة محيطه الاجتماعي والتاريخي وغيرها، وكذا بثقافة متلقيه. إن القول بذلك يجعل عملية بناء النص وتلقيه عملية ظاهراتية لا ترى في النص وجودا “إلا إذا كان خزانا لمعان بعضها من المؤلف وبعضها من النص وبعضها الآخر هو حصيلة ما تأتي به الذات التي تقرأ وتؤول”[15] .
إن أبرز مكون سنسعى إلى العمل على تتبع آليات اشتغاله في التعامل مع النصوص هو مكون “التدليل”؛ إذ يشكل محور سيمياء الثقافة التي نعتمدها لتأطير المنحى الثقافي علميا، وهو ما نجد له مسوغا في تعريف بنكراد للنص قائلا: “أما النص فيبنى وفق إكراهات الانسجام والوحدة. إنه ما يطلق عليه عادة “بناء عالم” أي الاستنبات التخيلي لكيان فني متقطع من موسوعة ثقافية شاملة، ولا يمكن لهذا الكيان أن يشتغل بصفته تلك إلا إذا وضع بين “بياضين دلاليين”، أي ضمن حدود تمنحه وجودا مستقلا”[16]. إن العمل على الدلالة وفق سيمياء الثقافة يتطلب التمييز بين مفهومين أساسيين: يتمثل الأول في مفهوم “التناظر” (isotopie) الذي يشكل جذعا دلاليا قاعديا يحد من تعدد الدلالات ومن فوضى المعانم (السمات الدلالية الصغرى)، ويخلق انسجاما دلاليا. أما المفهوم الثاني، فهو “السيميوز” (sémios) الذي يتجلى في السيرورة المستمرة للتدليل من خلال نقل المادي إلى مجرد[17].
وإذا كان المفهوم الأول سيشكل محط اهتمام الدارس للخطاب الفكري التقريري بشكل أوضح، فإن المفهوم الثاني (السيميوز) سيمثل محور الاشتغال عند دارس الخطاب الأدبي بشكل أغزر؛ إذ “إن السيميوز سلسلة من التقديرات المتباينة تلعب فيها ثقافة المحلل الدور الرئيسي، فالوصول إلى معنى ما لا تحدده الخطاطة التحليلية، بل تقود إليه طبيعة السؤال الذي يطرحه القارئ على النص”[18]. ونعتقد أن السؤال الذي يطرحه القارئ على النص، وفق سيمياء الثقافة، يرتبط بثقافة القارئ أولا، ثم بثقافة النص ثانيا؛ إذ غالبا ما تتمايز ثقافة كل منهما وإن انتميا إلى التصنيف الثقافي نفسه (ثقافة عربية، ثقافة غربية…)، حيث تختلف ثقافة كل فرد عن فرد آخر وفق طبيعة تفاعله مع المشترك الثقافي. إنه ما عبر عنه، كل من يوري لوتمان((Youri Lotman وبوريس أوسبنسكي (Boris Ouspenski) في قولهما: “ومن جهة ثانية، واعتمادا على الحدود التي يضعها الباحث لعرض مادته وتصنيفها، فإن الثقافة يمكن أن تعامل على أنها ثقافة إنسانية عامة، أو على أنها ثقافة منطقة مخصوصة، أو زمن بعينه أو جماعة. ولأن الثقافة ذاكرة أو سجل لتجربة الجماعة فإنها ترتبط ضرورة بماضي الخبرة التاريخية، ولهذا فإن الثقافة لا تسجل لحظة ظهورها، ذلك لأنها في بواكيرها تعني الماضي الناجز فحسب”[19].
إن الاختلاف الثقافي الذي أشرنا إليه بخصوص ما يقع داخل الثقافة نفسها يعود، في جزء منه، إلى الوعي المختلف بتجليات الثقافة، بين من يعي ماضيها فقط، ومن يستضمر حاضرها ويوجهها نحو المستقبل كذلك. كما قد يعود هذا الاختلاف إلى الاعتبارات المشكلة للثقافة، والتي تتحدد من خلالها الثقافة في مقابل ما هو خارج الثقافة. غير أن ما يعتبر خارج الثقافة قد يشكل ثقافة عند الآخر. ولكي تتميز كل ثقافة عن الأخرى فإنها تبقى بحاجة إلى ضدها أو المختلف عنها؛ إذ “ربما تباينت طبيعة هذا الضد- الَّلاثقافة- كأن يبدو غير منتم لدين بعينه، أو كأن يبدو منفصلا عن بعض المعارف، أو يشارك في بعض طرز الحياة والسلوك. ولكن الثقافة ستظل أبدا بحاجة إلى مثل هذا الضد إذ تبرز الثقافة هنا طرفا مقاوما لضده وبضدها تتميز الأشياء”[20].
- المستوى التداولي
تشحن الذات الفردية أو الهوية المجموعية الخطاب بما يميزه عن غيره من الخطابات/ الذوات. ومن هنا، كان للغة دور كبير في إخفاء الحمولات الثقافية أو الإديولوجية. وهذا ما فطن إليه بارث في قوله: “كل شكل هو أيضا قيمة؛ لهذا فبين اللغة والأسلوب هناك مكان لواقع شكلي آخر. فالكتابة، في أي شكل أدبي كان، تتضمن الاختيار العام بين نغمة وروح مجتمع -إن شئنا القول – وهنا يلتزم الكاتب”[21]. يصبح الشكل والجنس الأدبي دالا أو قناة من قنوات الانتقال من الممكنات إلى التحيينات، ثم تتبلور تحققاته من خلال التقطيع الوجودي للذات/ الجماعة التي ينكتب بها النص.
فالأسلوب إذن هو المعبر عن التمايزات بين الكتّاب في طبيعة إدراكهم لعناصر العالم وتمثلهم لقيمه. وإذا كان رولان بارث يقر بالاختلافات بين الكتاب في مستويات التعبير فإنه يخصص سبب هذه الاختلافات في طبيعة العلاقات التي تجمعهم بالمحيط الاجتماعي؛ فـ”الكتابة نفسها واقع غامض: فهي تولد، قطعا من احتكاك الكاتب بمجتمعه من جهة، وكذلك من الغاية المجتمعية من جهة ثانية. إنها ترجع الكاتب، عبر نوع من التحويل التراجيدي، إلى الأصول الفاعلة في نشأته”[22]. ينحو تصور بارث منحى سوسيولوجيا أو سيميائيا ثقافيا ينفصل عن انغلاق النص ليعانق رحابة فضاء إنتاجه وتشعب جوانب العملية الإبداعية وتعدد عواملها.
لقد أصبح الكاتب نتاج علاقات اجتماعية في طريقة تعبيره، بل أصبح ضحية هذه المقصدية الاجتماعية الكامنة في خطابه. وهكذا تنتقل العملية التعبيرية من نقطة اللغة إلى نقطة الأسلوب بشكل متدرج بتدرج دخول الحمولات الدلالية على مستويات اللغة. وهذا ما يعبر عنه بنكراد قائلا: “ومن هنا فإن الانتقال من المورفولوجي إلى النحوي ودخول ذات الخطاب كأساس لهذا الانتقال يشكل التباشير الأولى لكل تحديد إيديولوجي، وهي المحددة أيضا لنوعية التحقق السردي للبنية الدلالية البسيطة”[23].
إن سيرورة الانتقال من المورفولوجي إلى النحوي كبداية لاصطباغ الخطاب بصبغة صاحبه لا تحتاج إلى هذا الانتقال عند بارث؛ حيث تصطبغ الكلمات نفسها بحمولات اجتماعية وتاريخية قبل التآلف مع بعضها، إذ يقول: “إنه لتحت ضغط التاريخ والعرف تتأسس الكتابات الممكنة لكاتب ما (…) الكلام ليس بريئا؛ إذ للكلمات ذاكرة ثانية تمتد، بشكل سحري، إلى وسط الدلالات الجديدة”[24]. يوسع بارث مجال التداول ليلامس المعجم ذاته، المعجم الذي تشكل في محيط واصطبغ بصبغته بالضرورة. ولعل مشروعية ذلك واضحة، في أبسط مظاهرها، من خلال ظواهر الترادف المختلف الدلالات الجزئية والمتعدد بتعدد صفات الموصوف.
وإذا كان ما قاله بارث ينسحب على التعبير اللغوي عامة، فإن تخصيص القول في التعبير الأدبي والسردي خاصة يتطلب منا اشتغالا على الجهاز المفهومي للسرديات وعلى مختلف المناهج التي قدمت أدوات إجرائية تفتح دراسة الخطاب على معطيات التاريخ والثقافة. والسيميائيات بدورها خاضت في هذا المعطى وحددت إمكانيات طرح تلك المعطيات من خلال المحورين الاستبدالي والتوزيعي. وهذا ما نلفيه في قول بنكراد: “فالانتشار التوزيعي والاستبدالي للكسيم يحيلنا على تشكل التيمة كتشخيص أولى للمعنى يقود من اللكسيم إلى المسار التصوري إلى التشكلات الخطابية، وفق سلسلة من الإرغامات التي يفرضها الإطار الثقافي العام الذي أنتج داخله النص السردي”[25].
إن المحور الاستبدالي للكسيم كما تعرضه السيميائيات هو ما يتيح للكاتب الاختيار أو الخضوع للكلمات المناسبة للسياق الثقافي الذي شكل نمط تفكيره. وبالتالي، تفتح إمكانيات استبدال الكلمات ذات الذاكرة الثانية “Une mémoire seconde ” كما طرحها بارث. وعليه، فالدراسة السيميائية الثقافية كفيلة بالبحث في الحمولات الثقافية للتشكيل الاستبدالي للخطاب السردي. فماذا عن التشكيل التوزيعي.
يرى بنكراد أن التحليل السردي اتجاهان: أحدهما، تحليل تلفظي، والآخر ملفوظي. إذا كان الثاني مركزا على تحليل القصة أو المحكي كما عند كلود بريمون (Claude Bremond) وألجرداس غريماس (Algirdas Greimas)، فإن الأول يركز على الأنواع السردية والمستويات والحالات الخطابية كما عند جيرار جنييت (Gérard Genette). ويتضمن التحليل التلفظي إمكانيات للبحث في عملية التسريد التوزيعية، فإذا كانت عملية التسريد تمس مختلف آليات اشتغال الكتاب، فإن المفهوم الذي يربط البنية العميقة بالبنية السطحية للعمل السردي هو مفهوم “التسنين”.
يعد التسنين سيرورة الانتقال من المادة المضمونية الخام (الحدثية، القيمية…) إلى تشكل خطابي مبني وفق آليات واعية وأخرى غير واعية. فـ”الشكل المتحقق في حاجة إلى مادة تدرك عبره وتبرر وجوده، وتحتاج القيم المتحققة أيضا إلى وجه مجرد تقاس من خلاله”[26]. إنها سيرورة تقوم على فلسفة الغياب؛ غياب سديمي للمادة المضمونية/ الممكنات، وسرعان ما تليه ضرورة الحضور في شكل خطابي دال عليها. وهذا ما نقترح العمل عليه من خلال استثمار السيميائيات في أبعاد ثلاثة: بعد التلقي وبعد الموضوعات وبعد الثقافة.
- نقد ثقافي .. منهج سيميائي موسع
- سيمياء التلقي
تعتبر نظرية التلقي من أبرز النظريات النقدية التي أولت اهتماما كبيرا للمتلقي. ولعل العودة إلى أصولها ومرجعياتها يكشف عن مدى الاهتمام الذي ناله هذا المتلقي على مستوى تمثلاته وخبرته وآلياته في قراءة الخطاب وتأويله. وفي هذا المقام نكتفي بالإحالة إلى أهم روافدها وأصولها، من قبيل: الفينومينولوجيا- التأويلية، والظاهراتية، والإجراء المادي، والإجراء الدياليكتيكي، والاتجاه السكولوجي، ونظرية التواصل وغيرها[27].
ولعل اختيارنا البحث عن الأبعاد الوظيفية لنظرية التلقي في حقل السيميائيات عامة، وسيمياء الثقافة بخاصة، ينبع من كونها محورية في الدراسة الثقافية، إذ تختلف طرق تفاعل القراء مع النصوص باختلاف سياقات إنتاجها وسياقات تلقيها وما يستتبع ذلك من صيغ التلقي بين مستهلك وواصف ومحلل ومعلق ومؤول. فإذا كانت طرق التدليل والتجاوب مختلفة داخل الثقافة الواحدة فإن الأمر أكثر تنوعا واختلافا بين قراء ثقافات متعددة، كما أن فاعلية الرفض والانتقاد تعد نقطة مركزية في القراءة الثقافية التي تمحص الخطاب الظاهر والمبطن، فالقراءات تختلف باختلاف القائمين بها وباختلاف مرجعياتها النظرية. ومن هنا “فإن دلالة كل نص تأتي مخالفة لدلالة النص الآخر، حتى إن افترضنا أنهما نهلا من الثقافة نفسها، ومن التراث الفكري والأدبي والاجتماعي نفسه. وحينما تلج هذه العناصر بوابة التجاوب، فإنها تأخذ معناها في علاقتها مع الكل الذي هو النص (…)، وفي علاقته [يقصد النص] بالقارئ، الذي يواجه النص محملا بخطاطة ذهنية، هي مزيج من تجربة حياتية، وتجربة قرائية (…) حيث يعمل هذا القارئ- بمساعدة الاستراتيجيات- على أخذ النص إلى منطقته (فعل الإدراك)”[28]. فضلا عن أنها جزء من أطروحات ما بعد البنيوية في النظر إلى العمل الأدبي كفاعلية مفتوحة على خارج النص، وفي ذلك يصرح روبرت ياوس (Robert Jauss) قائلا: “تشترك نظرية التلقي مع أطروحات ما بعد البنيوية (…) في تصورها العمل الأدبي كعمل مفتوح، ورفضها للنزعة المركزية ومراعاتها للجانب الذاتي في التأويل، وبحثها عن وظيفة اجتماعية للنص الأدبي”[29].
وإذا كان الأمر كذلك، نستنتج أن من عناصر القيمة المضافة لنظرية التلقي في تعالقها مع السيميائيات الثقافية ما يلي:
_ الانفتاح على خارجيات النص ورفض النزعات المركزية.
_ البحث عن الأبعاد الوظيفية (الاجتماعية بخاصة) للنص.
_ فتح المجال أمام الخصوصية الذاتية في التأويل.
_ مراعاة السيرورة القرائية للنص عبر التاريخ.
وعليه، سنبحث في الخطوات الإجرائية والجهاز المفهومي الذي سيمكننا من الوصول إلى المعطيات السالف ذكرها، وغيرها مما سننفتح عليه من أطروحات أخرى تتقاطع ونظرية التلقي، وبصفة خاصة أطروحة النقد الثقافي والسيميائيات السردية.
وهكذا سنركز الاهتمام على منظور وولفغانغ إيزر (Wolfgang Iser) في بحثنا الذي ينبع من المنحى التأويلي الذي تتسم به إسهاماته في نظرية التلقي؛ حيث ركز على آليات قراءة اللاتحديدات وسد البياضات التي يتضمنها النص، وهذا يعني “أن اللاتحديدات يجب أن تزال، أي أن تُمْلَأَ أو تُفَسَّرَ أيضا، حتى يمكن لمستويات العمل المختلفة أن تترابط فيما بينها بطريقة ملائمة وتصبح الخصائص الصحيحة جماليا في مركز الاهتمام”[30]. وبذلك نجد أن بناء المعنى يرتكز على الاهتمام بالمقومات الفنية والجمالية، لا على المضامين فقط. فالأدب تعبير إنساني مغاير للخطابات الفكرية التي نبحث فيها عن الخلفيات المعرفية التي يحيل إليها الخطاب الصريح؛ إذ يتطلب الخطاب الأدبي البحثَ في الخطاب الصريح قصد سد بياضاته في مستوى أول، ثم البحث في إحالاته الخارجية في مستوى ثان. وهذا ما يؤكده إيزر في قوله: “فالعلاقة بين النص والقارئ تختلف تماما عن العلاقة بين الموضوع والملاحظ: فبدل علاقة بين الذات والموضوع، هناك وجهة نظر متحركة تتجول داخل ذلك الذي ينبغي أن تدركه هذه الوجهة. وهذه الطريقة لفهم موضوع ما تكون خاصة بالأدب”[31].
غير أن ما يربط هذا التلقي بالنقد السيميائي الثقافي هو أنه مُتحررٌ من معيار الصدق أو الكذب. فهو تلق يبحث عن بناء معنى للنص، وإن كان هذا المعنى مفارقا للموضوع المصور في النص بشكل مألوف. وهذا ما عبر عنه إيزر قائلا: “وبدل أن يبحث القارئ فيما إذا كان النص يقدم وصفا دقيقا أو غير دقيق للموضوع، ينبغي له أن يصوغ الموضوع بنفسه، وغالبا ما يتم هذا بطريقة معاكسة للعالم المألوف الذي يثيره النص”[32]. وهذا ما يجعل مركز إنتاج الدلالة هو سيرورة التدليل وطبيعة المؤول.
- سيمياء الموضوع
لم يحظ النقد الموضوعاتي من حيث الاهتمام والتطبيق، بمثل ما حظيت به مناهج نقدية أخرى. وبالرغم مما وُجِّهَ إليه من انتقادات حول النزعة الحدسية والانطباعية، إلا أن ثمة معطيات في مرجعيته الفكرية وآليات اشتغاله تُسَوِّغُ للنقاد التوسل به في مقاربة النصوص الإبداعية. وفي هذا الصدد قال سعيد علوش: “فنحن نعتقد أن وجود هذا العمل [يقصد كتاب النقد الموضوعاتي] لن يغير الكثير من قناعاتنا بقدر ما يدفع إلى التساؤل عن هذا المسكوت عنه في الترجمات والمقاربات والرسائل الجامعية. فهل هي أزمة نقد موضوعاتي؟ أم أزمة عدم وجود قراء محتملين له؟”[33]
غير أن تطور الممارسة الموضوعاتية مع باشلار من جهة، وانتشارها بين الباحثين فيما بعد من جهة أخرى، جعل من هذا المنهج تصورا وأداة فاعلين في توجهات عديد النقاد الذي اشتغلوا به تصريحا أو تضمينا. وإننا لنعتبر هذا البحث فرصة لتثمين فعالية هذا المنهج من حيث الإمكانيات التي يتيحها في التعامل مع الإبداع، وكذا من حيث المشترَكات التي تجمعه بالنقد السيميائي وبنظرية التلقي وبالدراسات الثقافية، والتي تجعله رافدا من روافده. فما هي آليات اشتغال هذا المنهج؟ وما مسوغات اعتماده في المقاربة الثقافية الموسعة التي نبتغي بناءها؟ وكيف السبيل للاستعانة به في سيمياء الموضوع؟
لا يتسع مجال البحث للخوض في مرجعيات المناهج النقدية وظروف تبلورها، غير أننا نحيل- كما فعلنا من قبل- إلى إمكانية التوسع في ذلك. وهذا ما ينسحب على النقد الموضوعاتي كذلك، من حيث امتزاج الفكر الباشلاري والفينومينولوجي والنقد السيكولوجي والغولدماني…[34]
وعليه، فإن النقد الموضوعاتي مجال لمقاربة النصوص الإبداعية وفق مفهوم “الموضوعة” باعتبارها “التردد المستمر لفكرة ما، أو صورة ما، فيما يشبه لازمة أساسية وجوهرية، تتخذ شكل مبدإ تنظيمي ومحسوس أو ديناميكية داخلية، أو شيء ثابت، يسمح للعالم المصغر بالتشكل والامتداد”[35]. فكيف لهذه الموضوعة أن تشكل موضوع دراسة عبر مستويات الدال والدلالة والتداول؟ وكيف للأرضية السيميائية أن تحول الموضوع إلى موضوعة من خلال فاعلية التسنين؟
- سيمياء الثقافة
إن الدراسة السيميائية التي نقترحها لتكون حاضنة للمنحى الثقافي، كاختيار منهجي، تجد مشروعيتها في خصائص الدراسات الثقافية؛ ذلك أنها تهدف إلى فهم الظاهرة المدروسة في تجاوز للخصيصات النوعية التي تميز التخصصات المختلفة، فضلا عن توجهها نحو البحث في آليات إنتاج الخطاب، وعدم الاكتفاء باستهلاكه.
وإذا كنا نجمع بين الدراسة السيميائية والدراسة الثقافية في مقاربة متوننا وكشف طبيعة خطاباتها، فإننا نستمد ذلك من طبيعة الدراسات الثقافية باعتبارها مزيجا “من النظريات والمقاربات والنماذج والأسئلة التي توظف لقراءة الممارسات الخطابية وأنماط القوى الاجتماعية والثقافية وارتباطها بالهويات والجماعات”[36]. غير أن هذا التصور الشمولي قد يثير من الانتقاد بقدر ما قد يوحي به من الغنى، حيث تتجه سهام النقد إلى الدراسات الثقافية بخصوص الموضوع والرؤية والمنهج. ذلك أنها لم تحدد مفهوما دقيقا للثقافة، ورفضت التزام باحثيها سياسيا، ولم يكن منهجها صارما كبقية المناهج التي سبقتها وغيرها من الانتقادات[37]. ولعل المتفحص لهذه الانتقادات يجد فيها من الإيجابيات أكثر مما يجد من السلبيات، حيث إن الثقافة، كملابسة لموضوع الدراسات الثقافية، أعلى وأرحب من أي حد أو تعريف، بل هي في تشكل دائم ومنفتح على المستجدات المتسارعة، كما أن غياب تعريف دقيق لها في الدراسات الثقافية لا يشكل استثناء في ظل غياب تعريف دقيق وموحد في المقاربات السوسيولوجية والتاريخية السابقة. إضافة إلى أن رفض هذه المقاربة لإقحام الالتزام السياسي يعطيها من العلمية الموضوعية أكثر مما يعطيها من سمات المفارقة لمبادئها في الانفتاح السياقي، إذ يسهم هذا الرفض في إبقاء المسافة بين الذات والموضوع أثناء الدراسة. فضلا عن أن تهمة صرامة منهجها فيه رد على القائلين باتساع منهجها وانفتاحه على مباحث ومقولات متعددة، وهي تهمة رافقت جل الناهج النقدية السابقة في بحثها عن علم الأدب.
وعليه، فقد تشبثت الدراسات الثقافية بنزعتها الزئبقية في الانفلات من ربقة النظرية الواحدة أو المقاربة الواحدة من مفهوم الثقافة نفسه. غير أن إغناءها بمقولات السيميائيات سيكسبها دعامة علمية مضبوطة تربط الجهاز المفهومي بخلفية فكرية مضبوطة تغنى خلفيتها الأصلية وتؤطرها. إذ تتبنى الدراسات الثقافية نظرة جديدة لعلاقة الشكل بالمضمون، وكذا لغاية الأدب. ذلك أن الشكل عنده ليس تعبيرا عن مضمون، بل خلق له. إن الموضوع لا يتمظهر إلا عبر سيرورة تدليلية جدلية تنتج عن الشكل وتفعل فيه في الآن ذاته. كما أن الغاية من الأدب لا تقتصر على تحليل الخطاب واستهلاكه أو إنتاجه، بل تكمن في الكشف عن مضمراته وطبيعة تمثيله للموضوع. فهذا “النقد الذي يؤسس الدراسات الثقافية هو ذو طبيعة جدلية، فهو يتجاوز من جهة النزعة الماركسية التقليدية التي تقوم على الشرط الاقتصادي وتمجد الطبقة، ومن جهة ثانية يتخطى الفهم الشكلاني الذي يفصل بين الأشكال الأدبية والجمالية وأبعادها التاريخية والاجتماعية”[38].
وبذلك تكون فاعلية الدراسة الثقافية ممتدة لتتجاوز التقوقع الفكري (الماركسي أو الجمالي المحض)، ولتنفتح على آليات نقدية تسعف المحلل في الكشف عن علاقة الموضوع بالشكل بطريقة تظهر آليات بناء الخطاب. إنها قراءة “تبني استراتيجيتها في تشابك هذه المسارات وتجاذباتها، بقدر ما تستكشف استطيقا السرد وآلياته السردية، فإنها تفكك سياسات التمثيل فيما وراء الحكاية، بما يسمح لها بتفكيك بؤر إنتاج المعنى وزحزحة مراكز إنتاج الصور والتمثيلات، باكتشاف مضمراتها الثقافية الإديولوجية المبثوثة بشكل واعٍ أو لا واعٍ، حيث يتم استحضار سياقات الهوية واشتباكات المتخيل والقوة في التأويل”[39].
ومهما اختلفت تقويمات النقاد لتوظيف الدراسات الثقافية من حيث طبيعة الخلفية الفكرية والإطار المنهجي والجهاز المفهومي، فإن الحاجة لهذا النوع من الدراسة تبقى قائمة في ظل عالم فعلت العولمة فعلها فيه، وأصبحت الثقافة سؤالا ملحا في خطاباته. وبذلك وجد فيه بعض النقاد محطة لتوسيع دائرة الفهم واحتمالات الاختلاف وتوسيع طبائع المتون[40].
حديث الختم
شكلت الدراسة فرصة للنبش في إحدى أبرز الانتقادات التي وجهت للنقد الثقافي، ألا وهي هلهلة منهجه ومن ثم انطباعية أحكامه. وقد عملنا على جسر الهوة بين تصوراته النظرية وأوالياته المنهجية من خلال بسط تصوره المعرفي لمفهوم الخطاب؛ أي ذلك المفهوم الجديد للخطاب (فوكو) في علاقته بالسلطة (فرانز قانون) وبالهيمنة (غرامشي). وقد توجه اشتغالنا نحو تبين السمة المميزة لغاية النقد الثقافي والمتمثلة في تفكيك مظاهر الإخفاء والمخاتلة في مقابل الإظهار والشفافية.
ومن هذا المنطلق، بحثنا عن توليف منهجي تؤطره الخلفية الفينومينولوجية والتأويلية معرفيا والسيميائيات منهجيا، من خلال ثلاثة مناحٍ متوازية ومتزامنة في الدراسة: سيمياء الموضوعة وسيمياء التلقي وسيمياء الثقافة من جهة، وثلاثة مستويات في تفكيك النص: المستوى الدالي والمستوى الدلال والمستوى التداولي من جهة أخرى..
الببليوغرافيا
مراجع باللغة العربية
-إدريس الخضراوي، الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار، سلسلة السرد العربي 4، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012.
-بعلي حفناوي، “أفاق الأدب المقارن العالمية في تصور الناقد إدوارد سعيد”، مجلة عالم الفكر، مجلد35، عدد 4، أبريل يونيو، 2007.
-سعيد بنكراد، “التأويل بين إكراهات التناظر وانفتاح السيميوز”، ضمن: “السيميائيات بين السرد والخطاب والأيقونة”، إشراف: المصطفى شاذلي، منشورات فكر، سلسلة مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد 10، 2013.
-سعيد بنكراد، النص السردي: نحو سيميائيات للإديولوجيا، دار الأمان، الرباط، ط1، 1996.
-سعيد بنكراد، مدخل إلى السيميائيات السردية، تانسيفت، مراكش، ط1، 1994.
-سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1989.
-عبد الفتاح أحمد يوسف، لسانيات الخطاب وأنساق الثقافة: فلسفة المعنى بين نظر الخطاب وشروط الثقافة، منشورات الاختلاف (الجزائر) والدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، 2010.
-عبد الواحد المرابط، السيمياء العامة وسيمياء الأدب- من أجل تصور شامل-، دار الأمان (الرباط)، الدار العربية للعلوم ناشرون (بيروت)، منشورات الاختلاف (الجزائر)، ط1، 2010.
-محمد الدغمومي، “نحن والنقد الثقافي”، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، عدد 2، خريف/ شتاء، 2014/2015.
-محمد بوعزة، “المنعطف الثقافي وتحولات النظرية”، ضمن: النظرية الأدبية والمنهج النقدي: قضايا وإشكالات، مؤلف جماعي، تنسيق: عبد الواحد المرابط ومحمد مساعدي وابراهيم عمري، منشورات الكلية متعددة التخصصات، تازة، 2015.
-محمد بوعزة، سرديات ثقافية، منشورات ضفاف (بيروت) ودار الأمان (الرباط) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، ط1، 2014.
المراجع المترجمة
-ادوارد سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000.
-فولفغانع إيزر، فعل القراءة، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، د.ت.
-يوري لوتمان وبوريس أوسبينسكي، “حول الآلية السيميوطيقية للثقافة”، ترجمة عبد المنعم تليمة، ضمن: “مدخل إلى السيميوطيقا”، (مؤلف جماعي)، ج2، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، منشورات عيون، الدار البيضاء، ط2، 1987.
المجلات
-عادل بوحوت، “جمالية التجاوب في الأدب: الأسس والمفاهيم والإشكالات”، مجلة عالم الفكر، عدد 3، مجلد 42، يناير/ مارس، 2014.
-كونتر جريم، “التأثير والتلقي: المصطلح والموضوع”، ترجمة أحمد المامون، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، دراسات سال، عدد 7، 1992.
مراجع باللغات الأجنبية
– A.J.Greimas et J.Courtés, Sémiotique : dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Tome2, Hachette univérsité, Paris, 1986.
– Jan BAETENS, « études littéraire, études culturelles : pour un permanent aller retour », dans Interférences littéraire/ Literature interferenties, nouvelle série, n 6, mai 2011.
– Roland BARTHES : «le degré zéro de l’écriture: suivi de nouveaux essais », coll: points, éd: seuil, Paris,1972.
–[1]إدوارد سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة عبد الكريم محفوظ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص 225.
-[4] بعلي حفناوي، “أفاق الأدب المقارن العالمية في تصور الناقد إدوارد سعيد”، مجلة عالم الفكر، مجلد35، عدد 4، أبريل يونيو، 2007، ص 23.
-[5] إدوارد سعيد، مرجع سابق، ص 269.
–[6] عبد الفتاح أحمد يوسف، لسانيات الخطاب وأنساق الثقافة: فلسفة المعنى بين نظر الخطاب وشروط الثقافة، مرجع سابق، ص 62.
-[7] عبد الفتاح أحمد يوسف، لسانيات الخطاب وأنساق الثقافة، مرجع سابق، ص 65.
-[10] عبد الواحد المرابط، السيمياء العامة وسيمياء الأدب- من أجل تصور شامل-، مرجع سابق، ص 173.
-[11] عبد الواحد المرابط، السيمياء العامة وسيمياء الأدب- من أجل تصور شامل-،مرجع سابق، ص 173.
[12]– A.J.Greimas et J.Courtés, Sémiotique : dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Tome2, Hachette univérsité, Paris, 1986, p 107.
-[13] عبد الواحد المرابط، السيمياء العامة وسيمياء الأدب- من أجل تصور شامل-، مرجع سابق، ص 179.
-[14] محمد بوعزة، “المنعطف الثقافي وتحولات النظرية”، ضمن: النظرية الأدبية والمنهج النقدي: قضايا وإشكالات، مؤلف جماعي، تنسيق: عبد الواحد المرابط ومحمد مساعدي وابراهيم عمري، منشورات الكلية متعددة التخصصات، تازة، 2015، ص 94.
-[15] سعيد بنكراد، “التأويل بين إكراهات التناظر وانفتاح السيميوز”، ضمن: “السيميائيات بين السرد والخطاب والأيقونة”، إشراف: المصطفى شاذلي، منشورات فكر، سلسلة مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، عدد 10، 2013، ص 40.
–[16] سعيد بنكراد، “التأويل بين إكراهات التناظر وانفتاح السيميوز”، مرجع سابق، ص 44.
-[19] يوري لوتمان وبوريس أوسبينسكي، “حول الآلية السيميوطيقية للثقافة”، ترجمة عبد المنعم تليمة، ضمن: “مدخل إلى السيميوطيقا”، (مؤلف جماعي)، ج2، إشراف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، منشورات عيون،، الدار البيضاء، ط2، 1987، ص 135.
–[20] يوري لوتمان وبوريس أوسبينسكي، “حول الآلية السيميوطيقية للثقافة”، ص 134.
[21]– Roland BARTHES : «le degré zéro de l’écriture: suivi de nouveaux essais », coll: points, éd: seuil, Paris,1972, p 14.
[22]– Ibid, p 16.
-[23] سعيد بنكراد، مدخل إلى السيميائيات السردية، مرجع سابق، ص 36.
[24]– Roland BARTHES, «Le degré zéro de l’écriture: suivi de nouveaux essais », Op.Cit, p 80.
-[25] سعيد بنكراد، مدخل إلى السيميائيات السردية، مرجع سابق، ص 80.
-[26] سعيد بنكراد، النص السردي: نحو سيميائيات للإديولوجيا، دار الأمان، الرباط، ط1، 1996، ص 8
-[27] كونتر جريم، “التأثير والتلقي: المصطلح والموضوع”، ترجمة أحمد المامون، مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، دراسات سال، عدد 7، 1992، ص 20 وما بعدها.
وكذا: مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية، دراسات سال، عدد 6، خريف/ شتاء، 1992، التقديم، ص 6 وما بعدها.
-[28] عادل بوحوت، “جمالية التجاوب في الأدب: الأسس والمفاهيم والإشكالات”، مجلة عالم الفكر، عدد 3، مجلد 42، يناير/ مارس، 2014، ص16.
–[30] فولفغانع إيزر، فعل القراءة، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، ص 108.
[33]– سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1989، ص 7.
[34] – سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، ص 169، و ص 21 و ما بعدهما.
[35] – سعيد علوش، النقد الموضوعاتي، مرجع سابق، ص 12.
[36] – إدريس الخضراوي، الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار، سلسلة السرد العربي 4، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2012، ص 52.
[37]– Jan BAETENS, « études littéraire, études culturelles : pour un permanent aller retour », dans Interférences littéraire/ Literature interferenties, nouvelle série, n 6, mai 2011, p187-188.
-[38] إدريس الخضراوي، الرواية العربية وأسئلة ما بعد الاستعمار، المرجع السابق، ص 52.
-[39] محمد بوعزة، سرديات ثقافية، منشورات ضفاف (بيروت) ودار الأمان (الرباط) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، ط1، 2014، ص 39.
–[40] محمد الدغمومي، “نحن والنقد الثقافي”، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، عدد 2، خريف/ شتاء، 2014/2015، ص 135.