قراءة التراث البلاغي عند العرب: حمادي صمود أنموذجا
Reading the rhetorical heritage: HAMMADI SAMMOUD as an example
د/ رضوان كعية ـ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين (جهة مراكش آسفي ـ المغرب)
KAAYA RADOUANE ـ CRMEF Marrakesh Safiـ MOROCCO
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 75 الصفحة 17.
ملخص:
يسعى هذا البحث إلى استكشاف أحد القراءات الحديثة للتراث البلاغي متمثلة في مشروع الباحث التونسي حمادي صمود. انطلاقا من كون القراءة لا تسعى إلى إعادة إنتاج المقروء بقدر ما تكشف تنوع القراءات التي تكون محكومة بمشارب ثقافية مختلفة تدفع بالقارئ إلى اختيار معنى بعينه من النص وأدائه بشكل غير بريء حسب الظروف الذاتية والموضوعية لذلك القارئ.
وعليه، حاولنا في هذا البحث الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هي المنطلقات التي تصل الناقد بالتراث المقروء في ظل المسافة الزمنية الفاصلة بينهما؟ إلى أي حد نجح الناقد في خلق التوازن بين النظرية النقدية والممارسة التطبيقية على التراث البلاغي؟ إلى أي حد كانت قراءته موضوعية؟
الكلمات المفاتيح: التراث – البلاغة – القراءة – النظرية النقدية – الحداثة
ABSTRACT
This research aims at discovering one of the modern readings of the rhetorical heritage represented in the project of the Tunisian researcher Hammadi Samoud. Starting from the fact that reading does not seek to reproduce what we read in a direct way because it aims at discovering the diversity of readings, and this encourages the reader to choose a specific meaning of the text and to interpret it in an uncleared way, according to the subjective and objective contexts of the reader.
So, we try in this article to answer the following questions: What are the starting points that link the researcher to the heritage despite the time gap that separates them? how successful has he been in creating a balance between critical theory and applied practice on rhetorical heritage? how objective is his reading?
Key words: heritage – rhetoric – reading – critical theory – modernity
تقديم
عرفت قراءة التراث البلاغي حضورا كبيرا في الدراسات النقدية الحديثة، وذلك لاعتبارات أهمها الثراء الذي يتسم به هذا التراث من حيث تعدد مصنفاته بشكل يعكس اختلاف المشارب الثقافية لأصحاب تلك المصنفات. وأيضا نظرا لتعدد مرجعيات مشاريع القراءات الحديثة. الشيء الذي نتج عنه تنوع في إدراك الذات القارئة للموضوع المقروء، مما يعني تنوع فهم التراث وتأويله واتخاذ موقف منه. وعليه فقد غدا التصور السائد للقراءة قائما على “تصور يبدأ بتأكيد ما يقوم به القارئ من اختيار لمعنى بعينه داخل التتابع المتضام لمساق الكلمات في النص المقروء، وينتهي بأداء القارئ لهذا المعنى المختار، بما يكشف عن خصوصية فهم هذا القارئ”[1]. ومعنى هذا أن كل قراءة هي غير بريئة، قد تضيف إلى النص المقروء وقد تحذف منه حسب الظروف الذاتية والموضوعية للقارئ.
ومع ذلك فهناك مؤلفات كثيرة في الساحة النقدية الحديثة، لا تنفذ إلى صلب القراءة، وإنما “تنحصر في أهون الدوائر العملية، التطبيقية، نقلا وتقليدا، تلخيصا وعرضا، تعليقا وحاشية، استدراكا وتعقيبا”[2]. الشيء الذي أنتج قراءات متشابهة للتراث، وجعل صورة الأعمال الأدبية التراثية واحدة في أذهان بعض الدارسين[3]. وفي المقابل نجد قراءات تتجاوز الشرح والتفسير فتقدِّم قراءة خلّاقة تتأسس على وعي نظري بموضوعها، بشكل يمكّنها من خلق توازن بين جهاز قراءة التراث وأجهزة النقد العربي المعاصر، مؤكدة بذلك كون قراءة التراث هي “جزء لا ينفصل عن فاعلية جهاز القراءة الأعم للنقد العربي المعاصر كله، وأن العلاقة بين (نظرية القراءة) و(علم الأدب) ليست علاقة وثيقة تقوم على التفاعل فحسب، بل هي علاقة يميل البعض إلى جعلها علاقة اتحاد على أساس أن (علم الأدب) هو نظرية في القراءة ابتداء”[4].
وعليه، سنسعى في هذا البحث إلى الوقوف عند مشروع حمادي صمود في قراءته للتراث البلاغي، محاولين الإجابة عن الأسئلة الآتية: ما هي المنطلقات الأصولية التي تصل الناقد بالتراث المقروء في ظل المسافة الزمنية الفاصلة بينهما؟ إلى أي حد عمل الناقد على خلق التوازن بين النظرية النقدية لمنهجه المعتمد والممارسة التطبيقية على التراث البلاغي؟ إلى أي حد كانت قراءته موضوعية في مقاربة التراث البلاغي عند العرب؟
1 ـ قراءة التراث البلاغي عند حمادي صمود: المنطلقات الأصولية
ينطلق حمادي صمود في مشروعه لقراءة التراث البلاغي العربي، من نقد الدراسات السابقة؛ إذ يرى أنها “لم تتوصل إلى إقحام البلاغة في حقل العلوم الأدبية ولم تستطع أن تقنع بفعاليتها في ممارسة الأدب ونقده فتعود إليها مكانتها السالفة باعتبارها نظرية في فن القول تولدت عن ممارسة النص من جهة بنيته اللغوية”[5]. معنى هذا أن جل القراءات الحديثة للتراث البلاغي القديم لم تُنزّل البلاغة مكانتها في الأدب الحديث والمعاصر، مثلما كانت عليه عند العرب القدامى، حينما كانوا يعُدونها أساس التفكير في جمالية اللغة عندهم. وإنما اكتفى الدارسون بتقديم صورة متشابهة “في هيكلها العام وحتى في مواقف أصحابها من بعض المسائل الجزئية، فتراها تعيد النصوص نفسها وتوظفها بنفس الكيفية، وهي في كل ذلك تُعرض عن استكناه مخزونها الفكري والأدبي فتبقى صامتة مغلقة على أسس النظرية الأدبية”[6].
يكشف كلام الناقد السابق عن إيمانه بالقراءة التي لا تكتفي بتلخيص التراث وشرحه، لأن كل قراءة لا تتجاوز هذا الحد فهي النص المقروء نفسه. وعلى هذا الأساس فقراءة التراث “حدث معرفي نسبي، نسبيته قرينة تاريخيته، وتاريخيته قرينة شروط إنتاج معرفته في عصر القارئ”[7]؛ أي أنه لا يمكننا الحديث عن قراءة بريئة أو محايدة، لأن القارئ لا يمكنه أن يتجرد من ذاته وهو يمارس فعل القراءة، باعتباره جزءا من الموضوع وفاعلا لحدث القراءة وموجِّها للمعنى بشكل يتجاوز إعادة إنتاج المقروء إلى تقديم قراءة يندغم فيها بعدان يحددان قيمتها التأويلية: “بُعد يجعل دلالة المقروء دالة في السياق (الفكري الاجتماعي السياسي الأدبي) الذي أنتج هذا المقروء، ومتسقة مع أنساقه المعرفية المستقلة، غير متناقضة مع علاقاتها وشروطها. وبُعد ثان يجعل من دلالة هذا المقروء _ في الوقت نفسه _ دالة في سياقنا (الفكري الاجتماعي السياسي الأدبي) وناتجة عن شروط إنتاج المعرفة فيه”[8].
وعليه فإن أكبر عائق تسبب في ركود قراءة التراث في أوساط بعض الدارسين المحدثين يعود إلى غياب جدلية (التراث) و(الحداثة)؛ ففي الحقل البلاغي مثلا، لاحظ حمادي صمود قراءات تتصدى “لدراسة التفكير البلاغي، في الغالب، من منظور أحادي البعد يقع على هامش النقاش الجوهري المطروح، اليوم، في أغلب التيارات النقدية الحديثة والدائر حول إمكانية إعادة قراءة البلاغة في ضوء المكتسبات المنهجية الجديدة ولاسيما مكتسبات اللسانيات أو عدم إمكانية ذلك”[9]. الشيء الذي يدعو إلى إعادة القراءة في ضوء الشروط السابقة. وهذا ما سيدفع بالناقد إلى اختيار المنهج البنيوي لقراءة التراث البلاغي العربي، “قصد فهمه في ذاته واستجلاء أبعاد النظرية الأدبية التي يتضمنها، ثم لمحاصرة مظاهر المعاصرة فيه التي يمكن استحضارها، اليوم، للمساهمة بها في تغذية النقاش القائم، حولنا، في هذه القضايا”[10].
يبدو أن مشروع حمادي صمود قائم على خلفيات معرفية ونظرية تستمد أصولها من فهم التراث البلاغي العربي من منظور حداثي قوامه اللسانيات، من حيث هي حدث اتصالي، “ويعني ذلك النظر إلى نصوص التراث بوصفها شكلا من أشكال الاتصال، حسب النموذج البنيوي الذي يتقابل به المؤلف (المقروء) والقارئ تقابل مرسل الرسالة ومستقبلها، في حدث اتصالي يقوم على حضور شفرة أو أكثر بين المرسل والمستقبل، على نحو تغدو معه قراءة النص عملية (فك) لدلالة ما كان من قبل مشفرا في النص”[11]. وبذلك يمكننا القول إن قراءة النصوص تختلف حسب الخلفيات المرجعية للقارئ، التي تمكِّنه من استقبال النص وتفكيك شفرته، بشكل يجعله يفهم النص التراثي في ظروف أخرى غير ظروف إنتاجه، سعيا إلى خلق تواصل بين التراث والحداثة، عوض إعادة النصوص نفسها وتوظيفها بالكيفية نفسها.
2 – البعد الحداثي في التراث البلاغي العربي
لما كان الحيز الزماني للتأليف البلاغي عند العرب ممتدا إلى ما يزيد عن ستة قرون، فقد رأى الناقد أن الجاحظ (255 هـ) يمثّل نقطة ارتكاز في البلاغة العربية، فمؤلفاته هي “بمثابة ذاكرة حفظت لنا أطوار العلم الأولى، وفتحت السبيل إليها كما حملت ملامح ما تلاها وتولد عنها وبذلك تكون قد قامت بوظيفة مزدوجة: استقطاب ما سبق وتمثله ثم الزيادة عليه، ونشره ليستفيد منه اللاحق ويبني عليه”[12]. ولذلك فقد قسم فصول بحثه إلى ثلاث محطات: ما قبل الجاحظ، الحدث الجاحظي، ما بعد الجاحظ.
وعليه، انطلق الناقد في قراءته للتراث البلاغي من تتبع آثار العرب الأوائل إثر تلقيهم للشعر والنص القرآني، وذلك بالتركيز على مواقفهم التي كانوا يصرفون فيها وعيهم اللغوي لأغراض فنية تتجاوز الإبلاغ العادي في لغة الاستعمال. ولذلك فقد كشفت المدونة التراثية القديمة – باختلاف مصادرها – أن التفكير البلاغي عند العرب ظهر نتيجة تفاعل عوامل ثقافية وتاريخية وحضارية، تميزت بها بنية المجتمع العربي الإسلامي، “فحملت الناس على التفكير في اللغة تفكيرا معياريا جماليا يترصد عناصر الجودة فيها ويصف الأساليب ويصنفها معتمدا ما بينها من تفاضل”[13]. وقد كان تلقي العرب الأوائل للشعر، أبرز عامل في نشأة هذا التفكير، وذلك لما له من أهمية في البنية الثقافية للمجتمع، إلى درجة أن الشعر أصبح “نمط التعبير الذي شغلهم عن التفكير في أنماط أخرى”[14].
ونتيجة لذلك، واكبت نشأة الشعر عند العرب الأوائل حركة (نقدية) في إطار المفاضلة بين شاعر وآخر، وهي عبارة عن أخبار وروايات لا تتجاوز الانطباع والتعبير عن الانفعال الذاتي. وقد كانت غالبا ما تأتي في عبارات مقتضبة تتخلل المصادر المختلفة التي اهتمت بالتراث العربي من كتب أدب وتراجم وطبقات وغيرها.
والملاحظ أن هذه الأخبار قد شكلت “اللبنة الأولى في العمل النقدي والبلاغي، وتشير إلى بداية الاهتمام بقضية الصياغة”[15]، مثال ذلك ما روي عن أم جندب لما احتكم إليها زوجها امرؤ القيس وعلقمة فقالت لهما: قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد. فقال امرؤ القيس: (الطويل)
خليليّ مرّا بِي على أمّ جُنْدُب ** لنقضي حاجات الْفُؤَاد المعذب
وقال علقمة: (الطويل)
ذهبت من الهجران فِي كل مَذْهَب ** وَلم يَك حَقًا كل هَذَا التجنب
ثم أنشداها جميعا. فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف ذلك: لأنك قلت: (الطويل)
فللسوط ألهوب وللساق درّة ** وللزجر مِنْهُ وَقع أهوج منعب
فجهدت فرسك بسوطك ومريته بساقك وقال علقمة:
فأدركهن ثَانِيًا من عنانه ** يمرّ كمرّ الرّائح المتحلّب
فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه لم يضربه بسوط ولا مراه بساق ولا زجره قال: ما هو بأشعر مني ولكنك له وامق. فطلّقها فخلف عليها علقمة فسمّي بذلك الفحل”[16].
يبدو من خلال هذا الخبر تفوق علقمة على امرئ القيس في نظر أم جندب، لتعبيره الأكثر مناسبة لبيئة المجتمع الجاهلي، وذلك من خلال اعتماده لغة هادئة تعكس مدى ارتباط الإنسان العربي بفرسه، وهو ما لا نجده عند امرئ القيس.
إن هذا الخبر – وغيره – يدل “على بداية الوعي بضرورة انطلاق الأحكام من الشعر نفسه بالنظر إلى خصائص لغته، والاقتناع بأن الألفاظ وإن كانت من نفس الحيز الدلالي فإن بعضها ألصق بالموضوع من بعضها الآخر وأكثر ملاءمة للمعنى الذي قصده الشاعر ومن هنا أتت ضرورة التفكير فيها واختيارها طبق الغرض”[17].
من خلال ما سبق، يبدو أن منطلق قراءة التراث البلاغي في مشروع حمادي صمود هو المنهج البنيوي؛ فعبره حاول خلق حوار تفاعلي بين التراث والحداثة كما وعد في المقدمة، وذلك انطلاقا من الكشف عن أبعاد النظرية البنيوية، والمتجلية في حديثه عن مفهومي (الحيز الدلالي) و(الاختيار)[18]. وهو المنطق نفسه الذي نجده في معرض حديث الناقد مثلا عن تصور الجاحظ للبيان الذي يحتل معنى واسعا يضم طرق الدلالة والوسائل التي تمكن المتكلم من أداء المعنى، وذلك في قوله: “وهذا معنى عام يتسع للغة ولغيرها، ويدخل في مشغل علاميّ تمخض، اليوم، عن علم قائم الذات يطلقون عليه (علم العلامات)”[19].
إلى هنا نتفق مع الناقد في تصوره الحداثي عن التراث البلاغي، لكونه وقف عند أبعاد تتقاطع مع النظريات الحديثة فيه ولم يقع في الإسقاط. وهو ما يؤكده قوله عقب تحليله لبعض روايات العرب الأوائل وأخبارهم: “فبيّنٌ من هذه الروايات أن العرب تجاوزت مجرد التذوق والانفعال إلى ربط البراعة في نظم الشعر بالبراعة في صياغة الصورة الفنية، ولكن بدون أن يتحول ذلك إلى دراسة منظمة وتحليل وتعليل لهذه الصور والأساليب، والتعريف بها والإشارة إلى أسباب الحسن. وهي مباحث لم تهيئهم حياتهم العقلية البسيطة في ذلك الوقت إلى خرقها مما سيتوفر لغيرهم بمفعول حوادث أخرى تجدّ في المجتمع العربي الإسلامي”[20].
لقد عدّ الباحث التراث البلاغي قبل الجاحظ خاليا من التحليل والتعليل والتنظيم إلى طبيعة الحياة التي عاشها العرب وقتئذ، وهو ما نفهم معه عدم إمكانية توسيع الزاد الثقافي للعرب الأوائل بشكل يسمح بالتنظير للأدب الذي كان يهيمن عليه الشعر قبل عصر التدوين. بيد أنه ألمح إلى أن الظروف ستتوفر لاحقا في المجتمع الإسلامي، فهل ستتبلور النظرية الأدبية في العصور الموالية؟
يجيبنا حمادي صمود في القسمين المواليين من كتابه موضوع هذا البحث، وذلك حينما جعل الجاحظ متربعا على عرش الحداثة في عدة مواطن، إذ “لا تقتصر أهمية ما تفطن إليه على ما فيه من مظاهر الحداثة والمعاصرة، فقد اهتدى، في وقت مبكر من تاريخ العلوم اللغوية والبلاغية إلى ما يحف بظاهرة الكلام من الملابسات، وهو أول مفكر عربي نقف في تراثه على نظرية متكاملة تقدر أن الكلام هو المظهر العملي لوجود اللغة المجرد، ينجز بالضرورة في سياق خاص يجب أن تراعى فيه، بالإضافة إلى الناحية اللغوية المحض، جملة من العوامل الأخرى كالسامع والمقام وظروف المقال وكل ما يقوم بين هذه العناصر (غير اللغوية) من روابط”[21].
كما أن الباحث جعل عددا من الآراء البلاغية التراثية فتحا مبينا في الدرس اللساني الحديث، ففي معرض حديثه عن أصول نظرية النظم، يرى أن أصول هذه النظرية “مبنية على أسس لغوية متطورة قوامها التمييز بين اللغة والكلام تمييزا يضاهي في دقته واستحكام نتائجه ما وصل إليه علم اللسانيات الحديثة من آراء في هذه المسألة التي تعتبر من المشاغل المنهجية الكبرى التي حظيت بنصيب وافر من مجهودات اللسانيين الغربيين”[22].
لعل الناقد سقط في شَرك إسقاط الحداثة على التراث، على الأقل في هذين الموطنين، فكونه زاخرا بالأسس اللغوية المتطورة التي تختفي وراءها نظرية متكاملة يحتاج إعادة نظر، خصوصا وأننا لاحظنا في عدد من المواطن أن الباحث يدافع عن عدم تأثر التراث البلاغي بالثقافات الأجنبية[23] ومع ذلك تمكن هذا التراث من تحقيق سبق تاريخي حسب رأيه، مع العلم أن أي تطور يتطلب توسيع المعرفة والانفتاح على الآخر. فضلا عن كون الحداثة التي نعيشها الآن رهينة بشروط تاريخية واجتماعية وثقافية واقتصادية لم تتوفر في العصور السابقة، وبالتالي يصعب إسقاطها على التراث لهذا السبب أيضا. كما أن مظهر الحداثة الذي بنى عليه الناقد بحثه والمتمثل في علم اللسانيات، لم يكن قد بلغ حد العلم المتكامل في الحقبة موضوع البحث، فلم تكن المصطلحات قد وُضعت، ولم تكن الفلسفة التأسيسية للعلم قد تبلورت بعد، ولم يكن التنظير لهذا العلم الجديد بشكل مفصل[24]. ولنا في التجربة الغربية خير مثال على تأسيس هذا العلم انطلاقا من إعادة قراءة التراث الغربي (الهندي، اللاتيني، اليوناني). الأمر الذي نرى معه أن التأسيس لنظرية أدبية عربية يمكن أن يتم من خلال استمداد أصولها مما يزخر به تراثنا، مع الانفتاح على النظريات الغربية التي لا يمكن حصر إنتاجها في مجتمعات دون أخرى، بدليل أننا نعثر في تراثنا على إشراقات بمناهج تضاهي تلك النظريات.
3 – سؤال الموضوعية في قراءة حمادي صمود للتراث البلاغي
يبقى سؤال الموضوعية في قراءة التراث البلاغي عند حمادي صمود حاضرا يستدعي مناقشة بعض القضايا التي خرج بها في مشروعه. ولعل أهمها البحث عن مقياس تكون درجة الفن فيه صفرا، حتى يتمكن القارئ من التمييز بين نظام اللغة ونظام النص. وقد اهتدى إلى أن تحديد هذا المقياس هو أمر صعب، “تقف دون الوصول إليه صعوبات عملية وأخرى موضوعية. فهو يتطلب أن تجمع كل مستويات اللغة وأن تدرس دراسة وصفية كاملة، وهو مستبعد، ثم إننا حتى في حالة قيامنا بهذا العمل فلن نجد مستوى خاليا تماما من مظاهر التفنن في العبارة ولذلك نُضطر إلى المواضعة والاصطلاح والبناء على العرف”[25]. معنى هذا الكلام، أن الناقد لا يدّعي وجود مقياس يميز بين الكلام العادي والكلام البليغ في التراث، ولذلك اقترح المنهج البنيوي لكشف درجة الانزياح في الأدب، لكنه توصّل إلى أن الصعوبة لن تزول، لأن الخطاب الأدبي يعتمد لغة عصية على المعالجة العلمية، وبذلك يبقى المنهج البنيوي في هذه القضية نسبيا.
ولم تقتصر النسبية على المنهج، بل شملت التراث المقروء أيضا، فقد توصّل الباحث إلى أن البلاغيين القدامى كانوا منشغلين بضبط بلاغة اللغة العربية ووجوه بيانها لا بوصف التجارب الأدبية الشخصية والأساليب الملائمة لها. وهم في ذلك أشبه بمنهج النحاة في تقعيد اللغة العربية من زاوية الخطأ والصواب لكن من زاوية القبح والجودة، وذلك مقارنة بنموذجين بلاغيين هما: القرآن والشعر[26]. مثال ذلك ما ذكره المبرد حينما اهتم ببعض الأساليب التي درسها النحاة قبله كـ (التضمين): فقد درس الظاهرة “من وجهة نظر نحوية إعرابية بحت، فوصفها من حيث هي شكل في التعبير تنقل فيه حركة المضاف إلى المضاف إليه، دو أن يلاحظ دورها الأسلوبي ومفعولها في تقوية الفن وتوكيده”[27].
ويبدو من خلال هذا الموقف أن الناقد يدافع عن فاعلية المناهج الحديثة في قراءة التراث، وذلك من خلال تطوير ما توصل إليه البلاغيون القدامى في ضوء البنيوية أو الأسلوبية على الخصوص، بعيدا عن التأويلات المعيارية أو الإغراق في ضبط البلاغة العربية بالحدود والتقسيمات كما نجد في بعض المصادر القديمة.
خاتمة
نخلص مما سبق إلى مجموعة من النتائج نوردها على الشكل الآتي:
1 – تقتضي كل قراءة للتراث تجنب إعادة النصوص بالكيفية نفسها شرحا وتلخيصا، لأن هذه القراءة لا تعدو في أحسن الظروف أن تنتج النص المقروء نفسه. أما البديل فهو قراءة منتجة قادرة على استكناه المخزون الفكري والأدبي للنصوص، قراءة لا تدعي الحياد أبدا لأن القارئ لا يمكنه التجرد من ذاته وهو يمارس فعل القراءة، بل يكون موجها للمعنى بشكل يسعى من خلاله إلى خلق تواصل مثمر بين التراث والحداثة؛
2 – يكشف مشروع حمادي صمود في قراءة التراث البلاغي عند العرب عن وجود أبعاد حداثية في هذا التراث في بعض المفاهيم التي تبلورت أساسا في النظرية البنيوية. وقد بدا لنا أن الناقد لم يقع أحيانا في إسقاط النظرية على التراث، حينما بين أن هذه الأبعاد لم تتحول في المراحل الأولى للتفكير البلاغي إلى دراسات منظمة وتحليل وتعليل للصور والأساليب نظرا لعدم توفر الظروف لذلك.
لكنه وقع في إسقاط الحداثة على التراث حينما عدّ بعض الآراء البلاغية فتحا مبينا في الدرس اللساني الحديث؛
3 – يبقى المنهج البنيوي نسبيا في مقاربة الخطاب الأدبي الذي يعتمد لغة عصيّة على المعالجة العلمية. كما أن هذه النسبية لا تقتصر على المنهج بل تشمل التراث المقروء أيضا، حيث نبّه الباحث إلى أن البلاغيين القدامى توقفوا عند ضبط بلاغة اللغة العربية ووجوه بيانها لا بوصف التجارب الأدبية الشخصية والأساليب الملائمة لها، مما يتطلب إعادة قراءة هذا التراث في ضوء المناهج الحديثة.
المصدر:
- صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب (مشروع قراءة)، منشورات الجامعة التونسية، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، السلسلة 6 الفلسفة والآداب، المجلد 21، 1981.
- لائحة المراجع
- البغدادي (عبد القادر بن عمر)، خزانة الأدب ولباب لسان العرب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة 4، 1997.
- جحفة (عبد المجيد)، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة 1، 2000.
- عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، الطبعة 1، 1991.
- فرديناند (دو سوسير)، محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، إفريقيا الشرق، 1987.
- المسدي (عبد السلام)، التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، طرابلس، الطبعة الثانية، 1986.
- ناصف (مصطفى)، قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، د ت.
[1] عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، الطبعة 1، 1991، ص 12.
[2] المرجع نفسه، ص 17.
[3] ينظر: ناصف (مصطفى)، قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، د ت، ص 5 وما بعدها.
[4] عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، ص 18.
[5] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب (مشروع قراءة)، منشورات الجامعة التونسية، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، السلسلة 6 الفلسفة والآداب، المجلد 21، 1981، ص 10.
[6] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 10.
[7] عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، ص 47.
[8] المرجع نفسه، ص 49.
[9] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 11.
[10] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 11.
[11] عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، ص 33.
[12] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 16.
[13] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 21.
[14] المرجع نفسه، ص 24.
[15] المرجع نفسه، ص 65.
[16] البغدادي (عبد القادر بن عمر)، خزانة الأدب ولباب لسان العرب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة 4، 1997، ج 3، ص 284.
[17] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 26 – 27.
[18] يعد مفهوم (الحيز الدلالي) واحدا من مفاهيم البنيوية، وهو يعني السمات الدلالية التي تحدد المحتوى الدلالي للمفردة، وهي تنقسم إلى سمات جامعة وأخرى مانعة بالإضافة إلى قيود الانتقاء (الاختيار). أما السمات الجامعة فهي تعني سمات تتقاسمها المفردة مع المفردات التي تقع معها في نفس الحقل الدلالي. فإذا أخذنا مثلا لفظي (الرؤية) و(الإبصار) وجدناهما يجتمعان في عدد من السمات، وعلى رأسها أنهما يفيدان استعمال حاسة البصر لإدراك شيء معين. أما السمات المانعة فهي سمات تخص المفردة بعينها، وتميزها عما عداها من المفردات التي تحاقلها. إن (الإبصار) يختلف عن (الرؤية) في كونه لا يستعمل إلا في الرؤية المادية، فنقول: (رأيتك في منامي) ولا نقول: (أبصرتك في منامي). وأما قيود الانتقاء فهي تخص المحمولات (الفعل ومشتقاته والحروف، أي كل ما يفرع إلى شيء آخر). ومهمة هذه القيود تحديد ما يشترطه المحمول في المفردات التي تساوقه، فلا نقول مثلا (شرب المصباح الماء) لأن فاعل شرب يشترط فيه أن يكون حيا وهو ما لا يتوفر في المثال.
ونتيجة لهذه الضوابط الدلالية، يكون الشاعر أمام عدة اختيارات تمكنه من التأنق في لغته وصياغة صوره، عن طريق اختيار المعجم اللغوي المناسب، ويقع هذا الانتقاء اللغوي على مستوى محور استبدالي بشكل عمودي من خلال استحضار عناصر غائبة يمكن أن تنوب عن العنصر اللغوي الموجود داخل التركيب.
ينظر: جحفة (عبد المجيد)، مدخل إلى الدلالة الحديثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة 1، 2000، ص 61 – 62.
و: فرديناند (دو سوسير)، محاضرات في علم اللسان العام، ترجمة عبد القادر قنيني، إفريقيا الشرق، 1987، ص 156 وما بعدها.
[19] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 157.
[20] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 29 – 30.
[21] المرجع نفسه، ص 185.
[22] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 500.
[23] المرجع نفسه، ص 82 وما بعدها.
[24] ينظر: المسدي (عبد السلام)، التفكير اللساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، طرابلس، الطبعة الثانية، 1986، ص 13 وما بعدها.
[25] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 403.
[26] ينظر: المرجع نفسه، ص 613.
[27] صمود (حمادي)، التفكير البلاغي عند العرب، ص 358.