الحجاج في الشعر العربي القديم عند سامية الدريدي
Argumentation in ancient Arabic poetry With Samia Al-Deridi
الدكتور محمد الغرافي، المملكة المغربية
Dr. Mohamed El-gharrafi, Kingdom of Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 74 الصفحة 45.
ملخص:يخوض البحث في دراسة التصور النقدي والأدبي للباحثة التونسية سامية الدريدي بخصوص استجلائها للبنيات الحجاجية، والأغراض الإقناعية الثاوية في المدونة الشعرية العربية القديمة؛ إذ إن ربط الشعر بالحجاج يخرج النصوص الشعرية من دائرة التخييل والإمتاع، ويلحقها بعالم المنطق والإقناع والتحاجج الأمر الذي أدى إلى نوع من التمحل في النظر إلى بلاغة النص الشعري العربي القديم عن طريق القول بإسقاط المقولات الحجاجية الجاهزة على القصيدة العربية القديمة، والانتقال من التخييل إلى التصديق.
الكلمات المفاتيح: الشعر- الحجاج – الإقناع – الحجج: Absract
The research delves into the study of the critical and literary perception of Tunisian researcher Samia Al-Daridi regarding her elucidation of argumentative structures, and secondary persuasive purposes in the ancient Arabic poetic code; Linking poetry with pilgrims takes poetic texts out of the circle of imagination and enjoyment, and attaches them to the world of logic, persuasion and argumentation, which led to a kind of ambivalence in looking at the eloquence of the ancient Arabic poetic text by saying that the ready-made argumentative statements were dropped on the old Arabic poem, and the transition from imagination to belief. .
Key words: poetry – arguments – persuasion – arguments
تـقـديـم:
تنطلق الدراسة في هذه الأطروحة من فرض منهجي مؤداه أن الحجاج حاضر في الشعر حضوره في النثر على حد سواء. وقد مثل هذا الفرض عصب البحث وقطب الرحى فيه؛ حيث جاءت أبواب البحث وأقسامه جارية إلى غاية واحدة أساس تمثلت في تحقيق هذا الفرض ومحاولة الاقتناع به.
– تخليص مسالك الحجاج والإقناع بموضوع البحث.
لقد تحصل للباحثة وعي منذ المبتدأ بأنها تفترع سبيلا في البحث جديدة عندما اختارت “الحجاج في الشعر العربي القديم” موضوعا لأطروحة جامعية، وقد نبهت إلى صفة “الجدة” التي وسمت بحثها بها في المقدمة عندما أشارت إلى أن الشعر قد قرئ قراءات كثيرة ومن زوايا مختلفة لكنها اختارت أن “تنظر في الشعر العربي القديم من زاوية جديدة تعنى بالحجاج”([1]).
لقد أدركت الباحثة أن هذا الموضوع لن يسلم لها في يسر لما استقر عند نقادنا الأقدمين من أن “مسلك الشعر غير مسلك العقل لا يخاطب في المتلقي غير عاطفته ولا يحرك فيه إلا أحاسيسه، بل لا يصور من العالم إلا ما يطرب فيحصل الإمتاع، ويتأكد الإلذاذ دون أن يكون للعقل دور في حصول الإمتاع و الإلذاذ”([2]). وهي آراء ترتفع في نظامنا النقدي والبلاغي إلى مستوى “المسلمات” التي لا تقبل الشك أو المراجعة. فقد نظر إلى الشعر على أنه “تخييل” كما يظهر من تحديدات حازم مثلا المستندة إلى اجتهادات الفلاسفة المسلمين ممن عنوا بشعرية أرسطو وخطابته. وإذا كان هذا حال الشعر عند نقادنا المتفلسفين الذين عرفوا تراث المعلم الأول في “المنطق” و”الجدل” و”الخطابة” فلنا أن نتوقع أن حد الشعرية عند نقادنا الخلص لن تخرج عن هذا التصور ويكفي أن نستحضر هنا مقالة ابن رشيق المشهورة في العمدة التي يربط فيها الشعر بالشعور؛ إذ الشاعر إنما سمي شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، وهو ما استدعته الكاتبة([3]) بما يدل على أن جنس الشعر قد ارتبط عند نظامنا النقدي والبلاعي بـ “الشعور” والانفعال، أي مجال المشاعر والعواطف بعيدا عن نطاق العقل والتعقل.
ولما كانت الأطروحة الأساس التي تقوم عليها الدراسة ادعاء الباحثة أن الشعر يقوم على الجدال والحجاج ويستدعي فنون القياس وضروب الاستدلال دون أن يفقد شعريته، وأن مقتضيات المنطق ومقولات العقل لا تخرج الشعر إلى دائرة الخطابة فقد اقتضى ذلك الباحثة سوق عديد من الحجج المتساندة أرادتها مرافعة عن الادعاء الذي أدارت عليه بحثها: الحجاج لا يتناقض وخصوصية الشعر.
وقد جاءت هذه الحجج متنوعة منها ما يتعلق بمفهوم الحجاج ومنها ما يتصل به بالعلاقة بين الأجناس الأدبية فيما يخص بعضها منشئ الشعر ومتلقيه على حد سواء، وقد أجملت الباحثة هذه الحجج في ست هي:
1- مماهاة القدامى بين الحجاج والجدل:
تقوم هذه الحجة عند الباحثة على أساس مكين مؤداه استدراك على تصورات القدامى النازعة إلى نفي الحجاج عن الشعر. وهو نهج فاسد فيما تقرر الباحثة مأتاه خلط القدامى بين مباحث الحجاج ومطالب الجدل. فقد ميز القدماء وخاصة الأدباء المتفلسفون بين الأقاويل الجدلية والأقاويل الخطبية والأقاويل الشعرية مستندين في ذلك إلى الإبستمولوجية الأرسطية التي تفصل فصلا قاطعا بين “الشعر” و”الخطابة” و”الجدل” آية ذلك أن أرسطو يختص كل جنس من أجناس القول الثلاثة هذه بكتاب مستقل. وقد كان حاصل ذلك أن وجدنا الفلاسفة المسلمون يتابعون “الحكيم” في هذا التقسيم فجعلوا الأقاويل الجدلية ركيزة لميادين ثلاثة هي الرياضة والمناظرة والعلوم النظرية، أما الأقاويل الخطبية، فقد مثلت عندهم أساس الخطابة عندما جعلوا الأقاويل النظرية طرائق مخصوصة في القول أساسها “التخييل” الذي يفرقها تماما عن الطرق الخطبية والجدلية الناحية إلى “التصديق”. لكن الباحثة ترى في تصور القدماء تضييقا لمفهوم الحجاج الذي يختص عندها بالخطابة والجدل، لكنه يشمل مناحي عديد من المخاطبات بما فيها التواصل اليومي. مستندها في ذلك مقررات علماء الحجاج المعاصرين التي تجعل الحجاج مباطنا لكل ممارسة تواصلية تعتمد اللغات الطبيعية.
وبذلك تخلص الباحثة إلى توسيع مفهوم الحجاج الذي لم يعد خاصا بالاستدلال العقلي ولكنه يمتد ليشمل كل ممارسة لغوية. ولما كان الشعر في أساسه تشكيلا لغويا فقد استقام لها أنه “قد ينهض بوظيفة الحجاج والجدل خلافا لما يعتقده البعض”([4]).
2 – في العلاقة بين الشعر والخطابة:
تختص هذه الحجة عند الباحثة بفحص العلاقة بين الأنواع الأدبية بحثا عن الحدود الفاصلة أو الواصلة بينها. وقد تلمست هذه الحدود في العلاقة بين القصيدة والخطبة. وقد انتهت الباحثة من فحص هذه القضية لدى القدماء إلى نتيجة هامة مؤادها أن اهتمام القدامى بالقوانين العامة للكلام العربي دفعهم إلى التمييز بين الخطابة والشعر على أساس الدرجة وليس خصائص النوع، وعلى هذا الأساس رفضوا الحجاج في الشعر لأن الحجاج عندهم خصيصة في الخطابة، وإذا استعمل في الشعر فإن ذلك يتهدده بأن يتحول إلى خطبة.
وقد وجدت الباحثة في بعض النصوص المبثوث في نظامنا النقدي والبلاغي ما يقرر التداخل بين الشعر والخطابة؛ أبرزها تنظيرات حازم في “المنهاج” التي تقر المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطبية استراتيجية تعبيرية تمكن الشاعر من تحقيق مقاصده. وقد رأت الباحثة في مثل هذه الشذرات الواصلة في تراثنا بين الشعر والخطابة حلا لإشكال تحول الشعر إلى خطابة حيث استقام لها أن الحجاج الذي ارتبط بمقام الخطابة يمكن أن يوظف في المقام الشعري.
3 – الشعر بين التخييل والإقناع:
تتصل هذه الحجة عند الباحثة بخاصة أساس من خصائص الشعر أي “الغموض” وهي الخاصة التي تجمع الشعر بالحجاج.
ولما كان غموض الشعر متأت من “التخييل” الذي هو مفهوم يوناني بالأساس، فقد حاولت الباحثة فحص هذا المفهوم من خلال شروح الفلاسفة المسلمين الشعرية أرسطو (ابن سينا – الفارابي). وقد خلصت من ذلك إلى أن “التخييل” لا يناقض “الإقناع”. حيث الشعر في المحصلة مراوحة بين الصدق والكذب.
4 – سلطة النص:
تقوم هذه الحجة على “فعل النص” في متلقيه. والشعر ليس بدعا في ذلك. فقد حدد القدماء للنص الشعري وظيفتين هما الإلذاذ والنفع. حيث الإلذاذ يحدث الإطراب. أما النفع فيتمثل في الحث على القيم الفاضلة والردع عن المعايب والنقائص. وقد استقام للباحثة عن طريق هذا الربط الذي تقيمه بين النص الشعري وقدرته على الفعل تسويغ أطروحتها الناحية إلى شد الشعر إلى الحجاج. ذلك قدرة النص على الفعل والتأثير إنما ترتد إلى مقومات الإقناع والحجاج.
5 – فعل الخطاب في المتلقي والواقع:
عماد هذه الحجة مجاوزة مفهوم الحجاج وقضاياه إلى الواقع. فتكون له آثار عملية ملموسة تتجاوز الاستجابة الجمالية إلى الاستجابة العملية والسلوكية. وقد استندت الباحثة للإقناع بهذه الدعوى إلى أخبار ثلاثة تظهر كلها سطوة الشعر التي قد تؤدي إلى شن الحروب كما هي الحال مع أشعار الكميت. ولم يكن ذلك ممكنا بالجماليات وحدها ما لم تتعاضد فيها ـ تستخلص الباحثة ـ المقومات الجمالية بالمقومات الاستدلالية والحجاجية.
6 – الشعر والحجاج بين الإبداع والابتذال:
قوام هذه الحجة رد على بعض المحدثين ممن يرون أن استخدام البنيات الحجاجية في الشعر يؤدي إلى ابتذاله. لأن الحجاج من المعارف الشائعة والمبتذلة التي تجافي الإبداع. لكن الباحثة ترى في هذا الرأي بعض غلو، إذ النص الشعري في المحصلة تجربة فردية مقدودة من اللغة، وبالتالي فكل قصيدة تعبير عن رؤية جديدة للعالم والأشياء واللغة أيضا. ومن هنا يكون استخدام الشاعر لمقومات الحجاج استخداما خاصا يرتفع بمقومات الإقناع من الابتذال إلى الإبداع.
لقد أرادت الباحثة هذا الجزء من الكتاب تأصيلا نظريا رامت من خلاله “الاحتجاج” لاختيارها “الحجاج في الشعر” موضوعا لأطروحة جامعية. وبعد أن آنست من نفسها أنها قد حشدت من المسوغات ما رأت فيه مقنعا للقارئ فقد انتقلت في الجزء الثاني من الكتاب إلى تجريب مسلك آخر قدرته مسعفا في إثبات أطروحتها. ويتعلق الأمر بالبحث في حجاجية النص الشعري أي المقومات الاستدلالية والبرهانية التي يتوسل بها الشاعر لتحصيل مطلوبه. وقد أدارت الباحثة هذا الجزء على مطالب ثلاثة هي:
1- أفانين الإقناع أو روافد الحجاج:
لقد اختصت الدارسة هذا المطلب ببحث “مختلف الفنيات التي يعمد إليها الشاعر للإقناع أو الحمل على الإذغان… على مستوى المعجم والتركيب وأزمنة الأفعال وصيغ الكلمات وأنواع الصور ومصادر التصوير”([5]). ولما كانت هذه “الفنيات” قد بحثت في سياق علوم أخرى مثل البلاغة والصرف والنحو، فقد نبهت الدارسة إلى أن بحثها هذه “الفنيات” إنما ينصرف إلى تلمس طاقتها الحجاجية والاستدلالية التي تساعد النص الشعري على الفعل والتأثير.
وهكذا توقفت الباحثة عند جملة من “الفنيات” ونظرت فيها باعتبارها “أفانين الإقناع أو رافد الحجاج”([6])، ومن هذه الفنيات:
أ/ المقام:
لم تتناول المقام كما أشارت من وجهة بلاغية صرف، ولكن من زاوية حجاجية تعنى بأهمية مراعاة المقام في الرفع من الطاقة الحجاجية للنص الشعري. وهكذا توقفت الباحثة عند جملة من القصائد ذات أغراض مختلفة (فخر، هجاء، غزل…) لتبين أن حرص الشعراء على مراعاة المقام قد ساعدهم على تحقيق مقاصدهم الإقناعية.
ب/ وسائل الإثارة والتأثير:
توقفت الباحثة في هذا المطلب عند الوسائل التي يصطنعها الشعراء من أجل إثارة المخاطبين والتأثير فيهم. وقد جلت الطاقة الحجاجية لهذه الوسائل على مستوى اللغة (الاختيارات اللفظية والتركيبة التي يعمد إليها الشاعر لغاية حجاجية أو مستوى البلاغة (أساليب الكلام التي تمكن من تأدية المعنى واضحا فصيحا. أو مستوى الموسيقى (مختلف ضروب موسيقى الشعر الداخلية والخارجية باعتبارها رافدا من روافد الحجاج في النص الشعري).
ج/ الأساليب المغالطية:
توقفت الباحثة عند بعض الأساليب المغالطية التي يعتمدها الشاعر لخداع المتلقي وإيهامه بصدق ما يقول. وقد رصدت جملة من الأساليب المغالطية في الشعر مثل الاستدراج المغالطي والافتراضات الضمنية ومغالطة التجهيل.
د/ الأساليب الإنشائية:
ترى الباحثة ـ متابعة في ذلك علماء الحجاج المحدثين ـ أن الأساليب الإنشائية هي “حجج قائمة الذات لما توفره من إثارة وما تستدعيه من عواطف وأحاسيس… تشحن بطاقة حجاجية هامة”([7]). وقد توقفت عند بعض الأساليب الإنشائية التي وظفها الشعراء لأغراض حجاجية ومقاصد إقناعية. مثل السؤال والأمر والنهي.
هـ/ الضمير المجهول:
لما كان الخطاب الحجاجي متميزا عن سائر المخاطبات الأخرى بتعدد الأصوات فإن الشاعر يستخدم الضمير المجهول لدعم تصوراته في مقابل آراء المعارضين (الآخرين).
ز/ الحجاج بالسخرية:
السخرية مسلك حجاجي يروم من خلاله الشاعر تشويه صورة خصومه والتقليل من شأنهم. إنها حملة ساخرة تقوم حجة على فرضية.
و/ التكرار:
التكرار عند الباحثة مقوم حجاجي لدوره الفعال في تثبيت المضمون المعرفي أو العاطفي الذي تفرضه القصيدة. فإذا ردد المحتج الفكرة رسخت في ذهن المتلقي وزادت وضوحا.
2 – بنية الحجاج:
اختصت الباحثة هذا المطلب بفحص البنية الحجاجية في النصوص الشعرية، الأمر الذي اقتضاها تصنيف الحجج. وقد صرحت الباحثة بأنها اعتمدت تصنيف بيرلمان وتيتيكا في مصنفهما الشهير “مصنف الحجاج: الخطابة الجديدة” كما استخرجه ووضحه عبد الله صولة في مقالته المنشورة في الكتاب الجماعي الذي أصدرته كلية آداب منوبة بعنوان “أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم”، ويضم تصنيف بيرلمان خمسة أصناف من الحجج هي:
1/ حجج شبه منطقية.
2/ حجج تؤسس على بينة الواقع.
3/ حجج تؤسس بنية الواقع.
4/ حجج تستدعي القيم.
5/ حجج تستدعي المشترك.
وبعد تقديم تعريف موجز لكل صنف من هذه الحجج مضت الباحثة تحشد تحت كل صنف جملة من الشواهد تنتخبها من مدونة الشعر العربي وترى فيها “تطبيقا” للحجج التي رصدت. بما يدل على أن الباحثة تتعامل مع بنيات الحجاج باعتبارها “مقولات فارغة” لا تحتاج من الجهد إلا إلى رصدها أولا ثم ملئها بما يتوافق وتحديداتها.
ولذلك كنا نرى في هذا النوع من الدرس ضربا من “المصادرة” حيث النتائج محددة سلفا: هناك حجاج في الشعر العربي ولا يحتاج الأمر إلا إلى ترصد الشواهد.
3- العلاقات الحجاجية:
لما كانت دراسة خطاب الحجاج عند الباحثة لا يقتصر على استخراج الحجج وتصنيفه فقد عمدت في هذا المطلب إلى البحث في “العلاقات الحجاجية: انطلاقا من تصورها لخطاب الحجاج” شبكة معقدة من العلاقات”([8]).
ومن أهم “العلاقات الحجاجية” التي توقفت عندها الباحثة:
1/ علاقة التتابع.
2/ علاقة السببية.
3/ علاقة الاقتضاء.
4/ علاقة الاستنتاج.
5/ علاقة عدم الاتفاق أو التناقض.
كما عمدت الباحثة إلى بحث العلاقات الحجاجية في مستوى “بنية القصيدة” من خلال “الترتيب” الذي ينهض في هذا المقام بوظائف حجاجية وإقناعية. وقد توقفت الباحثة إجلاء لهذا الفهم عند جملة من القصائد الشعرية يائية علقمة – ميمية تميم بن مقبل – نونية كعب بن مالك…) وحاولت النظر في بنيتها الدلالية من زاوية حجاجية أساسها ترصد الغاية التي يريد الشاعر قيادة مخاطبه إليها من خلال النظر في ترتيب أجزاء القول التي يعتمدها للإقناع بمقاصده حيث انصب جهد الدارسة على فحص العلاقات الحجاجية بين الأبيات وبين الصدور والأعجاز. وقد تمثل قصد الباحثة في هذا المطلب في الاستدلال على فرض نقدي مؤاده وحدة القصيدة رغم تشتتها الظاهر وكثرة موضوعاتها.
بالرغم من الجهد الخصيب الذي بذلته الباحثة في الدفاع عن أطروحتها الناحية إلى إثبات “الحجاج” في الشعر سواء في التاصيل النظري الذي وقفت فيه عند مفهوم الحجاج وقضاياه، أو الجانب التطبيقي الذي انصرفت فيه إلى استقصاء المقومات الحجاجية في جملة من قصائد الشعر العربي. فإننا سجلنا أثناء قراءتنا المتدبرة لأطروحتها جملة من الملحوظات التي لا تمس بأية حال من الأحوال قدرة الباحثة على عرض الفكرة والدفاع عنها.
– قد نتفق مع الباحثة في المنطلقات الكبرى التي وجهت بحثها والقاضية بوجود مقومات حجاجية في الشعر إلى جانب التخييل الذي يشكل المقوم المهيمن والأساس في جنس الشعر. وهي الفكرة التي أقرها بعض نقادنا ممن أتوا قدرا من الحصافة ونفاذ البصيرة مثل حازم القرطاجني الذي نعثر في “منهاجه” على نظرات نقدية حصيفة أساسها الإقرار بتداخل الشعر والحجاج مثل قوله:
“ولما كان علم البلاغة مشتملا على صناعتي الشعر والخطابة”([9]) لكن حازم إذ يقر بالتداخل بين التخييل (الشعر) وبين التصديق (الحجاج) فإنه يميز بين هذين الجنسين تمييزا دقيقا حيث “التخييل” عنده “عمدة” الشعر، أما “التصديق” قيبقى تابعا وفضلة. كما يمكن أن نتبين من قوله: “قد تقدم أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية والإقناع هو قوام المعاني الخطابية واستعمال الإقناعات في الأقاويل الشعرية سائغ إذا كان على وجه الإلماع في الموضع بعد الموضع وإنما ساغ لكليهما أن يستعمل يسيرا فيما تتقوم له الأخرى لأن الغرض في الصناعتين واحد هو إعمال الحيلة في إلقاء الكلام من النفوس بمحل القبول لتتأثر بمقتضاه فكانت الصناعتان متؤاخيتين لأجل اتفاق المقصد والغرض فيهما فلذلك ساغ للشاعر أن يخطب لكن في الأقل من كلامه وللخطيب أن يشعر لكن في الأقل من كلامه”([10]).
من الواضح تماما أن حازم يصل بين الشعر والحجاج (الخطابة) على مستوى المقتصد (التأثير والتفعيل)، ولكنه يفرق بينهما على مستوى الخصائص النوعية، وهو ما يظهر ميل حازم إلى وضع حدود دقيقة بين الشعر والحجاج بحيث يجوز للشاعر أن يخطب (استعمال مقومات حجاجية) ولكن في الأقل من كلامه كما يجوز للخطيب أن يشعر (استخدام مقومات الشعرية من مجازات واستعارات) ولكن في الأقل من كلامه، أي كل جنس يمكن أن يستخدم مقومات جنس آخر ولكن “على وجه الإلماع” باصطلاح حازم.
نستفيد من ذلك أن “التخييل” أس في الشعر أما “الحجاج” فتابع وفضلة، أي أن المقومات النوعية التي يستقيم بها الشعر جنسا أدبيا مخصوصا إنما هي “التخييل”. وإذا أكثر الشاعر من استخدام المقومات الحجاجية فإن ذلك يتهدد جنس الشعر بأن يخرج من “الشعرية” إلى “الخطابية” فيصبح “خطبة” أو “حكمة” أو أي شيء آخر ولكنه لن يكون “شعرا”. وهو ما يظهر واضحا من تقديم القدماء للمتنبي وأبي تمام باعتبارهما حكيمين، في حين كان الشاعر عندهم هو البحتري. وما ذاك إلا أن الأولين كانا يكثران من الصور الحكمية في أشعارهما (الحجاج والتصديق) أما الثاني فكان يعتمد الصور التخييلية ويرى أن “المنطق” لا يستقيم وجنس الشعر، وأبياته في مهاجمة الشعراء المتفلسفين شهيرة في ديوانه، حيث يتضح منها أن البحتري لا يقر المنطق والحجاج مقومين شعريين، فهما في رأيه أليق بـ “الخطبة” وأشكل. وهو يستند في ذلك إلى طريقة امرئ القيس، مقصد القصيد، الذي أرسى للشعراء بعده “تقاليد النوع” ووطأ لهم طريقه. وبالتالي فإن استدعاء امرئ القيس والاحتجاج بطريقته تكتسي في هذا المقام طاقة حجية رفيعة لأنه يمثل طريقة “العرب” في إنشاء الشعر وتلقيه.
وها هنا ملاحظة أخرى جديرة بالتدبر والاعتبار. فقد استحق البحتري المكانة الرفيعة التي حازها شعره بين النقاد بأنه لم يفارق عمود الشعر قط، أي طريقته الناحية إلى تغليب المقوم التخييلي هي الطريقة المرضية عند نقاد الشعر ودارسيه. وعندما نتفحص العناصر السبعة المكونة لعمود الشعر كما فصلها المرزوقي نجدها تخلو تماما من أي إشارة إلى الحجاج بما يؤكد أن نقاد الشعر لم يكونوا يعتبرون “الحجاج” شرطا في “الشعرية” الحقة. ومن هنا أخرجوا من يكثر من الحجاج في شعره من دائرة الشعراء ليدخلوه دائرة “الحكماء” وهي حال المتنبي وأبي تمام، أو دائرة “الخطباء”.
إن ما يحسب للباحثة محاولتها الجادة افتراع سبل في البحث جديدة ومؤذنة بنتائج واعدة. فمما لا شك فيه أن اختيار البحث في الآليات الواصلة بين الشعر والحجاج أمر محمود باعتباره فرصة ثمينة تتيح لجمهور الدارسين وناشئة الباحثين اختبار جملة من الفروض النقدية المتركزة حول العلاقة بين بلاغة الإمتاع وبلاغة الإقناع. وقد أبانت الباحثة عن معرفة موسعة بنظريات الحجاج وتطبيقاته عند الغربيين كما عند العرب. وحاولت جاهدة تلمس مواطن الحجاج في الشعر العربي. لكل ذلك كنا نعتبر هذه الدراسة قيمة مضافة في سلسلة الدراسات الجادة والرصينة التي تناولت شعرنا القديم بالدرس والتحليل.
لائحة المصادر والمراجع:
المصدر:
سامية الدريدي، الحجاج في الشعر العربي، بنيته وأساليبه، عالم الكتب الحديث، 2008.
المراجع المترجمة:
البلاغة القديمة، رولان بارت، تر. عبد الكبير الشرقاوي، نشر الفنك للغة العربية، المغرب،1994
المراجع العربية:
حازم القرطاجني: منهاج الأدباء وسراج الأدباء، تح محمد الحبيب بن خوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 3، 1986.
[1] – سامية الدريدي، الحجاج في الشعر العربي، ص: 1.
[3] – نفسه، ص: 53.