تدريسُ الفلسفة بين التنظير و الممارسة:قراءة في التجربة المغربية
Teaching philosophy between theory and practice: Reading in the Moroccan experience
د.محمد شرقي/المركز الجهوي لمهن التربية و التكوين، مراكش- المغرب
D.Mohammed Cherké, Regional Center for Educationand Training Professions Marrakech
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 81 الصفحة 53.
ملخص:يتمثل موضوع هذه الدراسة في الوقوف على مجموعة مداخل لتعلم الفلسفة و تدريسها منذ ظهورها كنمط من التفكير له ميزاته الخاصة خلال القرن السادس قبل الميلاد إلى اليوم، و كيف تطور هذا التقعيد لتعلمها و كيف انتقل من حديث في المنهج بشكل عام إلى حديث في الديداكتيك، و في هذا الإطار تم تناول التجربة المغربية و كيف تم إدماج درس الفلسفة داخل المؤسسات التعليمية و كيف ظل تدريسها يراوح مكانه و يعرف مفارقة واضحة بين خطاب نظري متقدم نسبيا و ممارسات أفقدت درس الفلسفة حيويته و رسالته الإنسانية باعتباره فكرا ر نقديا، عقلانيا حرا و ذا أبعاد إنسانية.
الكلمات المفتاحية: تدريس- تعلم – منهج – ديداكتيك- فلسفة- تفلسف-تنظير-ممارسة.
Abstract:
The subject of this study is to find an entry point for learning philosophy and teaching it from its emergence as a mode of thought that has its own characteristics during the sixth century BC to today, how this recklessness has evolved to learn it and how it has gone from a methodology in general to a didactic talk. In this context, the Moroccan experience and how the philosophy course was integrated into educational institutions and how the teaching of philosophy continued to take place is marked by a clear paradox between a relatively advanced theoretical discourse and practices in which the philosophy lesson lost its vitality and its human mission as a critical, rational, free and humane concept.
Key words: Teaching, Learning, method, Didactic, Philosophy, philosophize, Theory, Practice.
مدخل عام:
مازال درس الفلسفة و طريقة تدريسها في المغرب يطرح أكثر من سؤال. ففي الوقت الذي تطور فيه علم أو فن التدريس: الديداكتيك، العام منه والخاص، و تطورت المناهج و التقنيات و كثر فيه الحديث عن التنظيم و المهننة و ربط التعلمات بالحياة و جعل المتعلم يعطي دلالة و معنى لتعلماته وفق استراتيجية التدريس المعتمدة في بلادنا: استراتيجية التدريس بالكفايات، نجد درس الفلسفة مازال تائها لم يحقق مبتغاه بعد ، وهنا كان لابد من التساؤل: هل الأمر يتعلق بمادة الفلسفة نفسها وعدم إمكانية إخضاعها لإكراهات البيداغوجيا و لديداكتيك معين ؟ هل وضعها مرتبط بتخليها عن دراسة ماضيها تاريخ الفلسفة جريا وراء مطلب تعلم التفلسف؟ أم أن الأمر مرتبط بمحددات و شروط أخرى تتجاوز البيداغوجيا conditions extra-pédagogiques؟
تلك هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها من خلال هذه الدراسة و التي وجدنا فيها أنفسها ملزمين بالعودة للإبحار داخل تاريخ الفلسفة لنلاحظ كيف تمت معالجة هذه الإشكالات وكيف أن مسألة تعلم الفلسفة و تعليمها إشكال قديم عولج في البداية عند الحديث عنها كمنهج ل ومن ثم اقتراح مداخل معينة ممارستها و ذلك ما سنقف عليه مع التجربة السفسطائية و مع سقراط و أفلاطون أو من خلال الحوار الكانطي الهيجيلي ومنظور كل منهما للمسألة و علاقة الفلسفة بتاريخها و مدى إمكانية تدريسها، لنقف في الأخير على اجتهادات بعض المحدثين في إطار البحث في ديداكتيك الفلسفة و ما الذي يتعين أن يتعلمه المتعلم داخل المؤسسة، وكان لابد في هذا الإطار كذلك أن نستحضر كيفية دخول الفلسفة إلى المؤسسة التعليمية المغربية و في ظل وضعية إشكالية: وضعية الاستعمار .كيف أدمجت داخل المناهج التعليمية ؟ و كيف كانت تدرس؟ وصولا إلى وضعيتها الحالية وكذا جملة الخلاصات التي سجلناها بهذا الخصوص، والتي ستبين كيف أن الفلسفة مثلها مثل باقي المواد التعليمية المدرسة ببلادنا هي الأخرى تعيش نوعا من المفارقة بين خطاب نظري يغري بتطبيقه و جملة ممارسات، عوض أن تجعل المادة التعليمية تتقدم و تتحقق الغايات منها المتمثلة في إرساء فكر نقدي و حر، نجدها تغرقها في التقليد وما ينتج عن ذلك من رتابة تجعل المتعلم ينفر منها و ينسى بسهولة ما تلقاه خلال حصصها بمجرد اجتياز الاختبارات النهائية.
تعتبر إشكالية التعلم بشكل عام وإشكالية تعلم الفلسفة بشكل خاص إشكالية قديمة يمكن التاريخ لها مع الإرهاصات الأولى لظهور الفكر الفلسفي، بخصائصه المعروفة، كفكر جديد خلال بداية القرن السادس قبل الميلاد، و الذي كان من بين غاياته الكبرى التأسيس لطريقة جديدة في التفكير تتجاوز طريقة التلقي السلبي التي أسس لها الفكر الأسطوري السائد آنذاك، و التي كانت تبقي الفرد أسيرا للدوكسا doxa و الحس المشترك. ستبشر الفلسفة، من جهتها، بميلاد فكر جديد من أهم ركائزه العقل الذي يشك، ينتقد، يتأمل و يحاجج ولا يقبل إلا ما يتوافق مع مقولاته. و كان لابد لإرساء هذا النمط من التفكير، التفكير أيضا في طريقة تحصيله و تعليمه للشباب و التفكير كذلك في مقدمات و أسس بناء ذلك الفكر.
منذ هذه اللحظة يمكن أن نتحدث عن بداية التفكير في منهجية تعليم الفلسفة و تعلمها، و لو بشكل محتشم، إما على شكل شذرات أو بشكل مبطن داخل المتن الفلسفي لهذا الفيلسوف أو ذاك، حيث لم تفرد كتابات متخصصة لمنهج تعلم الفلسفة، باستثناء ما نعثر عليه عند أفلاطون في الجمهورية حيث كما سنلاحظ ذلك في حينه و بشكل مفصل نوعا ما، نجد بعض التدرج الضروري لدى الطلاب لحصول تعلم الفلسفة و تحديد بعض الشروط التي يلزم أن تتوفر لدى الفرد لحصول ذلك التعلم، ولكن ومع امتداد الزمن ومع دخول الفلسفة إلى المؤسسة المدرسية و أخذ مكانها إلى جانب مواد دراسية أخرى، سيبدأ التنظير لتدريس الفلسفة مع الاستمرار في التساؤل هل من الممكن تنظيم تدريس الفلسفة و سن خطوات لذلك؟ إلى أي حد يمكن إخضاع هذا الفكر الحر المتعدد الأبعاد إلى إكراهات البيداغوجيا؟ ألا يعتبر ذلك تقييدا للفكر الفلسفي النقدي و قتلا له ؟ ثم ما الذي نعلمه للمتعلم؟ هل نعلمه أفكارا و نظريات صاغها الفلاسفة عبر مرور الزمن، و من خلالها قاربوا قضايا متعددة شغلت تفكيرهم آنذاك؟ أم نعلمهم التفلسف؟، أي نعلمهم كيف يفكرون بطريقة فلسفية ، كيف يطرحون أسئلة فلسفية وكيف يأشكلونها، كيف يحددون مفاهيمهم و كيف يحاججون ويدافعون عن أفكارهم و مواقفهم ؟ ثم بالنسبة لمدرسي الفلسفة كذلك ” كيف نجعل من الدرس الفلسفي ممارسة ديداكتيكية معقلنة، مقننة و و متفننة…دون أن نخضعها للتأليل و الجمود و برودة المناهج التي تتنافى من هذه الناحية مع ما يميز روحها من مبادرة و حرية و خلق و إبداع ؟”[1]
إن ” مركزية سؤال المنهج و قيم الحس النقدي في الفكر الفلسفي لا ينبغي أن توهمنا- كما يعتقد البعض- بان الفلسفة لا تحتاج إلى تطوير ديداكتيكي لنقل مفاهيمها و تصوراتها و معارفها، بل إن ذلك التطوير شرط لتحصيل تعلمات نوعية و كفايات شمولية تجعل من المتعلم قادرا على أن ينخرط في مجتمع المعرفة و التنوع الثقافي و العرقي و المذهبي، بروح الحوار و النقد و التسامح .[2]
إن الفلسفة مثلها مثل باقي الحقول المعرفية تحتاج إلى تطوير مستمر في محتواها، و في أدوات تدريسها. ومن هنا فان التفكير في مستجدات حقل التربية و البيداغوجيا ضروري لتطوير ديداكتيك الفلسفة، من أجل تجويد نقل الخطاب الفلسفي النقدي العقلاني إلى الذوات المتعلمة، مع الأخذ بالحسبان النمو النفسي و الذهني للمتعلم، بتصريف. اللغة الفلسفية و مبادئها و مرتكزاتها عن طريق مبدأ التدرج المتناسب مع نمو الكفايات.[3]
1-تعليم الفلسفة: من المنهج إلى الديداكتيك:
نعرض من خلال هذا المحور إلى مختلف التنظيرات التي تناولت مسألة تعليم الفلسفة وتدريسها بدءا من المرحلة اليونانية حيث كان الفكر الفلسفي مازال يتلمس طريقه إلى اللحظة الحاضرة حيث أصبح للفلسفة مكانها الطبيعي داخل المؤسسة المدرسية.إنها أفكار و تنظيرات سيتم و بشكل تدريجي، بموجبها الانتقال من الحديث عن المنهج إلى الحديث في الديداكتيك و كيفية تدبير الدرس الفلسفي وفق خطوات محددة.هكذا سنعرض للحديث على مستوى المنهج إلى الجدل بتمظهراته المختلفة، وكما تناوله كل من السفسطائيين، سقراط ثم أفلاطون، لننتقل بعد ذلك إلى التساؤل عن مدى إمكانية تدريس الفلسفة ثم ما الذي يتعين تدريسه هل الفلسفة و تاريخها ومن ثم استكشاف منطقها الداخلي وتعلم التفلسف من خلال التعامل المباشر مع المتون الفلسفية؟ أم أن أقصى ما يمكن لمدرس الفلسفة القيام به هو التفلسف بعيدا عن فلسفة الفلاسفة؟ إن هذا الإشكال يضعنا في صلب ما يمكن أن نسميه بالحوار الكانطي- الهيجيلي و الذي سيجد استمراره و تأثيره إلى اليوم و لكن تحت مسمى جديد مسمى الديداكتيك؟
–الجدل السفسطائي: يذهب ويليام جيمس ديورانت في كتابه: قصة الفلسفة إلى القول أن السفسطائيين هم أول من أرسى أسلوبا للتعليم هو التعليم الجدلي فقد كان الجدل هو أسلوب التعليم الذي خطه السفسطائيون إذ تكلموا في الخطابة والبلاغة وأثرها في الفرد والمجتمع وقد جادلوا في طبيعة الإنسان وجادلوا في اللغة أهي وضعية أم طبيعية وكذلك جادلوا في الأخلاق أهي وراثة اجتماعية أم غريزية؟. إلا أن ما يعاب عليهم هو اهتمامهم المبالغ فيه بالبلاغة و فن الخطابة الذي، عوض أن يؤسس لمنهج سليم في التفكير، سيؤدي إلى إرساء قياس مغالطي ما يهم فيه هو الإقناع و لو بما هو ليس حقيقي .
–الجدل السقراطي أو فن التوليد: يعتبر سقراط من أهم السوفسطائيين أيضا الذي شاركهم الاهتمام بالإنسان و حده و بالمجادلة عن الآراء ثم خالفهم في أنه جعل قيمة الأشياء مطلقة و لم يوافقهم الرأي في كون “الإنسان مقياس كل شيء”. و قد جعل جدله محاذيا للمنطق “فامتاز عنهم في الجدال بأنه جعل رد السؤال من جنسه ليثير التفكير عند السائل ثم مزج الجد في الجدال بشيء من التهكم. و كانت غاية العلم عند سقراط هي إدراك ماهيات الأمور و الأشياء كإيجاد حدود تامة تساعد الإنسان على أن يتبين معاني الأشياء في أوج صورها و دقائقها و ذلك بأن يكون للكلمات مدلولاتها الدقيقة و للمعاني نطقها الخاص بها بخلاف بعض المغالطين الذين يتعمدون استعمال الكلمات المتقاربة في اللفة و المشتركة في المعنى و الغامضة في الدلالة الذين أطلق عليهم المغالطين في ذلك الوقت و الذين كانوا يميلون في جدالهم إلى الإبهام في الألفاظ و الإيهام في المعاني”.
و لعل عبارة ” اعرف نفسك بنفسك ” التي قرأها على معبد “دلف” والتي تترجم إحساسا صادقا بالمسؤولية إزاء روح الفلسفة و غايتها النبيلة، تختزل هدفا بيداغوجيا رفيعا مفاده أن التفلسف لا يكون حقا، إلا إذا مورس بكيفية ذاتية. لا غرابة إذن أن ينشغل المهتمون بحقل التدريس الفلسفي بكيفية صياغة هذا المبدأ على المستوى الديداكتيكي و المنهجي، باعتباره معلمة و معيارا لمدى نجاح كل ممارسة تربوية هادفة في هذا المجال”[4]
إن الفلسفة عند سقراط لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك و البحث الدائم : إنها تبدأ فقط عندما يبدأ الإنسان بتعلم الشك خصوصا الشك في المعتقدات و الحقائق و البديهيات أو الحقائق المقررة التي يومن بها و يقدسها . و من يعرف كيف أصبحت هذه المعتقدات العزيزة علينا حقائق يقينية بيننا، و فيما إذا كانت لم تلدها خلسة رغبة سرية ملبسة الرغبة ثوب الفكرة؟ ومن ثم فلا وجود لفلسفة حقة من دون أن يتجه العقل إلى فحص نفسه.
وهنا يظهر بجلاء أن القضايا الفلسفية هي قضايا منهجية بالأساس، و أن قول الحقيقة لا ينفصل عن كيفية تبليغها، و التفكير في قضية ما يتوقف على معرفة كيفية التفكير فيها.[5]
تعلم الفلسفة إذن من المنظور السقراطي يفترض التمرن على تصنع الجهل بالأشياء و صياغة أسئلة دقيقة و خلق حوار مع الآخرين و إجادة الإنصات إلى أجوبتهم و السخرية منها وتأزيمهم عبر الكشف عن التناقضات الثاوية وراء تلك الإجابات و في الأخير وبمعيتهم أيضا الوصول إلى حقيقة تكون مبنية عبر التفاعل بين الطرفين. ذلك هو فن التوليد أو المايوتيك، المنهج الجدلي الذي يرتكز على بيداغوجية الحوار القائم على أساس السّؤال والجواب والمقدّمات والنتائج في اتّجاه تأكيد منطق الإلزام، باعتبار أنّ الحوار لغة العقل نفسه. وهو ما عناه سقراط من أنّه حامل لرسالة إلهيّة تقضي بممارسة التّفلسف وحثه الآخرين على ذلك. فحسب أفلاطون حدّد “أبولون” (Apollon)إله النّور والفنون لسقراط مهمّة العيش متفلسفا من خلال فحص ذاته و فحص الآخرين. إن الجدل السقراطي ليس مجرد حوار بين أشخاص كما نعتقد بقدر ما هو “حوار العقل لذاته والنفس لنفسها” على حد تعبير محمد سبيلا.
–الجدل الصاعد الأفلاطوني: ترجع أصالة “الحل” الأفلاطوني في تناوله لمسألة المعرفة و التعلم إلى كونه يجعل من التعلم نوعا من “التذكر المبهم” وهنا نستحضر قولته المشهورة “المعرفة تذكر و الجهل نسيان” فالذات عندما تعرف، فهي لا تقوم بشيء جديد بل فقط تتذكر وضعها عندما كانت في عالم المثل، عالم الحقائق الثابتة و الأبدية.أما الجهل فهو مرتبط بنسيان تلك الحالة الأبدية، غير أن فعل التذكر ذاك المرادف للمعرفة يستلزم هو الآخر مرانا طويلا و منهجا تعليميا يلزم أن يتبعه الفرد لكي يصل إلى مرحلة المعرفة الحقة، معرفة “الخير الأسمى”. و يحظى تعلم الرياضيات في هذا المسار بأهمية خاصة لأنها تعلمنا كيف نراقب أقوالنا وكيف لا نخطو أية خطوة إلى الأمام من دون أن نبرهن عليها. لهذا، وإن كان أفلاطون لم يعتبرها أبدا علما، فقد اعترف بها كبيداغوجيا تعلمنا كيف نفكر بطريقة برهانية ومن ثم فلا محيد عنها لمن يريد تعلم الفلسفة.
كذلك، ولكي نعيش بشكل مناسب، لا بد لنا، كما يعتقد أفلاطون، من التعليم ليس فقط تعلم الرياضيات و العلوم بل كذلك أن نتعلم كيف نكون شجعانا و عقلانيين و معتدلين. و لتحقيق ذلك سيقترح نموذجا تعليميا يبدأ منذ الصغر و يمتد إلى مراحل متقدمة من عمر الإنسان وخلال هذه الفترة يجب أن يتلقى الأطفال في الأغلب التعليم الجسدي حتى سن العاشرة تقريبًا للتأكد من أنهم في ذروة الصحة الجسدية واللياقة البدنية، ولمحاربة الأمراض والأوبئة بشكل أفضل أيضا. و يطلعون على الفن والأدب والموسيقى، لان ذك سيعزز شخصيتهم و يعلمهم الأخلاق و قيم الفضيلة . وفي الوقت ذاته، يتلقى الأطفال دروسا في بعض المواد العملية مثل الرياضيات والتاريخ والعلوم. و يمثل هذا الجزء الأول من المنهاج الدراسي الذي يقترحه أفلاطون و المخصص للمرحلة الابتدائية و التي قد تمتد إلى السن العشرين. أما المرحلة الثانية فينتقل فيها الفرد إلى التعليم العالي بعد النجاح في الاختبار المؤهل لذلك وعندها ينفتح على علوم أخرى مثل علم الفلك والهندسة في السنوات العشر القادمة إلى حين خضوعه لاختبار آخر، من شأنه أن يحدد ما إذا كان بإمكانه تلقي تعليم إضافي أم لا. و بعد ذلك يمكن للمتفوقين أن يصبحوا أوصياء على الدولة لأنهم الأنسب لحكم و سياسة المدينة. وذلك ما يتوافق مع تصور أفلاطون لتقدم المدينة – الدولة حيث ينبغي في نظره “أن يحكمها الفلاسفة أو أن يتفلسف الحكام”. لابد لتعلم الفلسفة إذن من مقدمات و شروط هي تلك التي يتضمنها النموذج التعليمي الذي سنه أفلاطون و الذي يضم منهاجه و بشكل متدرج مختلف المواد التعليمية و تقويماتها، وهو منهج يتوج بدراسة الفلسفة و التي، فقط بفضلها، يكتسب ما يسميه بالجدل الصاعد و الذي بواسطته و بمقتضاه تدرك الحقائق العليا و تتذكر الذات عالمها الأول و تلامس الخير الأسمى.
كانط :إمكانية التفلسف بدون فلسفة:
يتلخص موقف كانط من الفلسفة وتدريسها في قوله:”لا يمكن تعلم أي فلسفة، إذ أين هي؟ و من تملكها ؟ و كـيـف نتعرف عليها ؟ لا يمكننا سوى تعلم أن نتفلسف، أعني أن نمرن العقل في تطبيق مبادئه الكلية على بعض المحاولات التي تمثل لنا دائما هذا التحفظ لجهة الحق الذي للعقل في أن نفحص هذه المبادئ حتى في مصادرها فيؤكد عليها أو يرفضها…”[6]
يلاحظ كانط أنه لكي “تحفظ” الفلسفة وتنطبع في الذاكرة أو الذهن لا بد أن توجد أولا وجودا عينيا وبصورة تجعلنا نستطيع أن نقرر ما يلي: “…إن هذا علم ومعارف يقينية، تدربوا على فهمه واحفظوه ثم ابنوا عليه فيما بعد، وستصبحون فلاسفة” . يستفاد من ذلك أن “الفلسفة لا تعلم” لأنها ليست علما بعد، كما سيقول هوسرل؛ فقد “كان يحلو لكانط القول إننا لا نستطيع أن نتعلم الفلسفة وإنما فقط التفلسف. وهذا إن كان يعني شيئا، فهو الإقرار بالطابع اللاعلمي للفلسفة، فبقدر ما يكون العلم علما حقيقيا، بقدر ما نستطيع تعليمه وتعلمه، وهذا ينطبق على جميع المجالات”[7]
إن الإشكالية الأساسية إذن، بالنسبة لكانط تكمن في تحول تعليم الفلسفة من مسألة يمكن أن تناقش على مستوى بيداغوجي إلى مسألة ينبغي حسبه أن تناقش فلسفيا، حيث ستصبح مسألة تدريس الفلسفة أو عدم تدريسها مرتبطة بوجودها من عدمه، مما سيخلق من جهة توترا بين تعليم الفلسفة والتفكير فلسفيا، ومن جهة أخرى فصل الفلسفة عن العلم أو المعرفة، الأمر الذي سيؤدي إلى وضع التراث الفلسفي بكامله موضع سؤال: هل هذا التراث،بما يشمله من نصوص ومذاهب فلسفية، يقدم مادة علمية، أي معرفة تصلح للتعليم، أم أنه مجرد مادة مصاحبة للتعلم، يتمرن عليها المبتدئ إلى أن يصبح قادرا على التفلسف بذاته” ؟ إن النقد كما فهمه كانط ومارسه في دروسه ليس نقدا لتاريخ الفلسفة وليس نقدا للكتب أو الأنساق والمذاهب وإنما هو نقد العقل ذاته وبذاته، أي مثول العقل أمام محكمة النقد ليكتشف إمكانياته فيستغلها ويعرف حدوده فيلزمها.
إن التلميذ الذي يلج الجامعة يعتقد أنه سيتعلم “الفلسفة”، وهذا أمر مستحيل، لأن ما يتوجب عليه تعلمه آنذاك هو التفلسف. وتأكيدات كانط بهذا الشأن متعددة ومتكررة في جميع مؤلفاته النقدية: “لا يمكننا تعلم الفلسفة لأنها لم توجد بعد…”، “ما الفلسفة إلا مجرد فكرة لعلم ممكن..”، “لا يمكن للمرء لحد الآن تعلم أية فلسفة، إذ أين هي؟ ومن يمتلكها وأية علامة تدل عليها؟”[8]إن من يعتقد في تعليم الفلسفة هو بالتأكيد من لم يفهم ماهيتها؛ لأنه بذلك يعتبرها علما قائما بذاته، في حين أنه من “الادعاء أن يسمي المرء نفسه فيلسوفا وأن يزعم أنه وصل الى مضاهاة النموذج الذي لا وجود له إلا وجود فكرة”[9].
لا وجود إذن للفلسفة ولا للفيلسوف إلا وجود “فكرة: أو “نموذج”. لكن ماذا يتبقى تحت اسم “الفلسفة” في هذه الحالة؟ ثم ماذا نفعل بركام المعارف المحشورة داخل ما يطلق عليه “تاريخ الفلسفة”؟ ليست الفلسفة إذن حقيقة واقعية قائمة بذاتها، مثلها مثل العلم، حاضرة في مجال معطى مباشر وإنما هي ممارسة فكرية وعمل متميز يسميه كانط: التفلسف[10] وهو عملية يمكن تعلمها من خلال ترويض واستخدام عقلنا بأنفسنا…
إن من لا يقوى على التفلسف ليس جديرا بأن يسمى فيلسوفا. إذ من الواجب على الفيلسوف أن يقوم باستخدام عقله بصورة حرة وشخصية، بحيث يفكر بذاته فلا يكون مقلدا لغيره بصورة حرفية كما يجب عليه أن يتجنب استخدام عقله بصورة جدلية، فلا يتوخى من معرفته الحقيقة وظاهر الحكمة، وإلا كان مجرد سفسطائي، الأمر الذي لا يليق بكرامة الفيلسوف الذي يعرف الحكمة ويعملها[11].
إن من يعلم التفلسف لا “يلقن” تلامذته الأفكار المطلقة ولا يقوم مقام الوصي على عقولهم. بل يرشدهم إلى طرق العمل والتفكير الشخصي، بحيث لا يكون التراث الفلسفي أمامه إلا كتجل من تجليات “استخدام العقل، وبمثابة موضوعات لترويض الموهبة الفلسفية[12]“
إن هذه المقاربة لمسألة تعلم الفلسفة و تعليمها مرتبطة أشد الارتباط بجواب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ الذي انشغل من خلاله بالحاضر، فالأمر لا يتعلق بمعرفة جاهزة و مكتملة و كلية قابلة للتعلم و إنما بالدعوة إلى الخروج من الوصاية و الحجر و إلى التحلي بالجرأة على استعمال العقل في قضايا الحاضر.
هيجل تعلم الفلسفة مرتبط بمعرفة تاريخها:
في المقابل رفض هيجل هذا التصور الكانطي المصر على الفصل بين تعلم التفلسف و الفلسفة لأنه، في اعتقاده، فصل تعسفي و خطأ فادح تسببت فيه البيداغوجيا.ومن ثم يؤكد د هيجل، و بشكل قطعي، أنه لا يمكننا التفلسف خارج الفلسفة و بعيدا عن تاريخها أن الفصل بينهما هو مجرد وهم فالمدرس لا يمكنه أن ينتج الأفكار لوحده فثقافته لا تسمح له بذلك ما دام احتكاكه بمؤلفات العباقرة غير كاف أو منعدم تماما. و نقف في كتابه ” فينومينولوجيا الروح” « La Phénoménologie de l’esprit » على نقده الجذري لكل الأطروحات الرافضة لتعليم الفلسفة و التي مثل كانط أهم مثليها، إن موقف كانط، حسب هيغل ، يرجع بالأساس إلى جهله المطلق بتاريخ الفلسفة، فقارئ أعماله يندهش لامتناع هذا الأخير عن الإشارة إلى أي فيلسوف آخر في مشروعه الفلسفي، بالإضافة إلى رفضه بصورة جذرية لكل تقليد فلسفي. إن الفلسفة بالنسبة إلى كانط تهتم بتشخيص الحاضر لا بإعادة إنتاج الماضي، إنها لا تتعامل و لا تشتغل على أفكار تعاني تمزقها و تناقضها. إن فكر كانط حسب هيغل يفكر في الخارج، إنه يقيم حيث الخارج، و لم يحاول الذهاب به إلى حيث العمق، وحده هيغل تمكن من الذهاب إليه عبر منهجه الجدلي الصارم، القائم على جدل الداخل مع الخارج، المفهوم مع الفكر، الذات مع الموضوع، العقل مع التجربة، التفلسف مع الفلسفة[13].
يؤكد هيغل إذن على وجود إمكانية لتدريس الفلسفة وممارسة التفلسف و تعلمه من خلالها و لا يمكننا أبدا عزل تعليم التفلسف بمعزل عن تاريخ الفلسفة و عن راهنها، فكل ممارسة فلسفية مشدودة بالضرورة إلى حركة التاريخ. و لاحظ هيغل أن عدم الاعتقاد بهذا التصور أدى بالتفلسف إلى توريطه في محاولات ذاتية فردية لا غير، تبعدنا عن مضمون الفلسفة. و في تقرير هيغل سنة 1812 أثناء قيامه بمهام تدريس الفلسفة بالجيمناز أكد على ما يلي: “بقدر ما تكون دراسة الفلسفة في ذاتها و لذاتها نشاطا شخصيا، بقدر ما تكون تعلما، تعلما لعلم قائم و منشأ مسبقا، هذا العلم هو كُثُرْ يحتوي على مضمون مكتسب تم إنشاؤه و تشكيله، هذه الشروط الموروثة المتوفرة ينبغي للفرد أن يكتسبها أي أن يتعلمها”.[14]و لتوضيح هذه العلاقة الجدلية بين الفلسفة و تاريخها يؤكد هيغل أنه عبر تدريس الفلسفة ترتقي الروح إلى أفق وحدتها مع حركة التاريخ إذ بفضله يتم التحقيق الكامل لـ “وعي الذات لذاتها” و لن يحدث هذا التجلي إلا بعد أن يتم اعتماد الفلسفة و تدريسها داخل كل المؤسسات التربوية دون استثناء، لحظتها يتم بناء النسق المتماسك و بإحكام تام تنبني الأنماط التعليمية الصارمة. لقد تمكن هيغل من خلال تجربته في التدريس من أن يجعل منها قرارا فلسفيا Une décision philosophique، لأجل الإبقاء عليها داخل المؤسسات التربوية، و منه ضرورة تدريسها، ذلك أن هيغل و على خلاف كانط Kant كان يعتبر الذات نفسها لا يمكنها أن تكون ثابتة، فهي بدورها، أي الذات، حركة تكون و التاريخ لا ينفصل عن الموضوع.فالمفهوم، بالنسبة إليه يتعين النظر إليه باعتباره لحظتين مزدوجتين، فهو، من جهة، لحظة الفكر العائد إلى ذاته، والفكر الحر الذي وعى الضرورة فيه، و تجاوزها وفقا لتطور محايث و لمسار داخل من التحديدات والتعيينات الذاتية، كما أن المفهوم لا يمثل جزءا مستقلا عن التعيينات السابقة له، أعني عن الكينونة و عن الماهية، فما اكتشفه هيغل هو أن الموضوعية التي أصبحت من بين أهم خصوصيات التفلسف و الفلسفة في ذات الوقت، إذ لم يعد شيئا آخر سوى تعيين المفهوم داخل الأشياء نفسها، فسواء تعلق الأمر بذاته (الذاتية) أو بالآخر(الموضوعية) فإن المفهوم هو دوما بنية الأمر و موطن الحقيقة فيه، وعلى هذا المستوى من النظر يمكن أن نقول أن المفهوم و الموضوع هما الشيء نفسه.
إن هذا التصور الهيجيلي الذي يدعو الى عدم الفصل بين الفلسفة و التفلسف يعد إحدى النتائج التربوية لموقفه الفلسفي الذي ينر الى الفلسفة كعلم مطلق مكتمل التحقق باعتبار أن المطلق وحده هو الذي يكون حقيقيا و يتطور كذات ليأخذ شكل نسق و بالتالي فالفسفة هي الفلسفة الهيجيلية القابلة للتعلم بما أن هيجل تمكن بفضل المنهج الجدلي من أن يجعل من السبيل الموصل للعلم جزءا من العلم نفسه وهو بذلك يحرص على أن يسلم للمتعلم السلم الذي ينقله من لحظة ما قبل الفلسفة إلى لحظة الفلسفة ومن ثم فنحن أمام تصور مخالف تماما للتصور الكانطي الذي اعتبر الفلسفة تلك الفكرة البسيطة التي لم تتحقق عند أي فيلسوف وأنها تفتقد مكونات إمكانية تدريسها لأنها ببساطة ليست علما.
سيجد هذا النقاش امتدادا له مع الدراسات الديداكتيكية الحديثة و التي انطلقت جلها في كون الفلسفة و باعتبارها مادة تعليمية تدرس داخل المؤسسة التعليمية فيجب عليها أن تخضع كباقي المواد الدراسية الأخرى لنوع من التقنين و لتنظيم ديداكتيكي معين يضبط طريقة اشتغال المدرس و يحدد كذلك آليات تقويم منتوج المتعلم. والمتأمل لمختلف الإسهامات النظرية في هذا الإطار يلاحظ أن جلها انتصرت للموقف الكانطي[15](نخص بالذكر هنا أعمال ميشيل طوزيو فرانس رولان انظر: فما دام الأمر يتعلق بتعلم التفلسف أي جملة مهارات و قدرات تميز التفكير الفلسفي و تمثل خصائصه الثابتة منذ تبلوره كنمط من التفكير والتي هي النقد و التأمل و البرهنة و الشك والقطع مع الحس المشترك والشمولية و النسقية..الخ فهذه الخصائص يمكن تعلمها و استحضار تاريخ الفلسفة وكتابات الفلاسفة يمكن أن يمثل مناسبات مهمة لتعلم تلك المهارات و حيث إننا لا نتصور أنه يمكننا ممارسة التفكير و التفلسف دون فلسفة، و بالمثل لا يمكننا الحديث عن فلسفة دون تاريخها، و من ثم فكل تفلسف لا تقوم له قائمة إلا بالعودة إلى البدايات الأولى للفكر، و الذهاب إليها، و العودة إلى الراهن لدراسته.
في نفس الإطار هناك من تبنى هذا النهج – النهج الكانطي- ولكن نبه في نفس الوقت من خطر الانزلاق وراء تقنيات إجرائية قد تفقد درس الفلسفة غناه المعرفي “فمادام أن الهدف من تدريس الفلسفة هو تمكين المتعلمين من تعلم فكر حر و تأملي و نقدي و نظري، فالأمر لا يتعلق إذن بتزويدهم بمعرفة جاهزة(أي مضامين فكرية:أطروحات)، و لا ببعض التقنيات الإجرائية، التي سيرتبط استخدامها غير المضبوط و غير المتبصر بالبلاغة وليس بالفلسفة”[16]. من ثم ” ينبغي الحفاظ على نوع من التوازن بين رفض كل انشغال بيداغوجي و كل مساهمة تأتي مما يسمى داخل علوم التربية باسم الخصوصية النوعية لمادتنا (مادة الفلسفة كمادة تعليمية)، و نوع من النزعة التقنية التي، دون مراعاة سمات الطريقة الفلسفية، تختزل فعل التدريس في مجرد تطبيق بعض التقنيات البيداغوجية، اعتمادا على بعض المعارف التقريبية، و التي ينبغي على الفلسفة أن تتساءل حول مفترضاتها و غاياتها. و يتعلق ذلك التوازن بضرورة تقدير ما يمكن لعلوم التربية أن تقدمه لنا، و ربطه بالمتطلبات النوعية للتفكير الفلسفي[17].
يتعين على الديداكتيكا بهذا المعنى، أن تميز ما يمكنها أن تعرفه، و الذي يهم شروط “التفلسف “، عما يجب عليها أن تحدثه، و الذي يهم فعل ” التفلسف ” نفسه. فإذا احترمت ذلك التمييز الأساسي، فنحن على يقين من أنه سيكون بإمكان تدريس الفلسفة…أن يساهم في بناء الإنسانية في الإنسان. و لأن تدريس الفلسفة، يعرف كيف يجمع بين ” بيداغوجيا المرافقة”، التي تخلق الإمكان و ليس التبعية، و” بيداغوجيا المخاطرة” التي تمنح الثقة دون أن تصادر الحرية، فبإمكانها ربما – من يدري؟- أن تكون لنا بمثابة طوباوية مرجعية، قد تساعدنا على التقدم نحو إجراء مجموعة من التبادلات، إن لم تكن بدون سلطة، فعلى الأقل بدون عنف”[18].
الثابت إذن هو ضرورة التفكير في ديداكتيك للمادة يؤطر و يوحد طريقة تدريسها ويستدعي في نفس الوقت تاريخها من جهة لكسب المتعلم ثقافة فلسفية ولكي يتعامل مع كتابات الفلاسفة ويلاحظ كيف يشتغلون كيف يطرحون إشكالياتهم وكيف يدافعون عن أطروحاتهم . و في هذا الإطار ظهر برنامج مفاهيم conceptsفي فرنسا و الذي تم اعتماده بالمغرب ليتم التخلي عنه مع ظهور استراتيجية التدريس بالكفايات والتي تنهل بيداغوجيا من النظرية البنائية البياجوية وتصورها للتعلم والمعرفة كعملية تتم عبر التفاعل الدائم بين الذات العارفة و العالم الخارجي وما يصاحب ذلك التفاعل من مراوحة بين اللاتوازن وإعادة التوازن. وفي هذا الإطار سيتم الحديث عن أربع مستويات أو لحظات في بناء الدرس الفلسفي في أفق تحقيق كفاياته الأساسية والتي تم تلخيصها في ثلاث كفايات أساس هي المفهمة و الأشكلة و المحاجة ككفايات خاصة أو نوعية تضاف إليها كفايات أخرى عرضانية يتقاسمها درس الفلسفة مع مواد دراسية أخرى. و قد شكل هذا المنحى إجابة كذلك على ضرورة راهنة، ضرورة ربط القضايا الفلسفية بحاضر التلميذ و انشغالاته خاصة و أن الفلسفة الثاوية وراء بيداغوجيا الكفايات المعتمدة في مدارسنا حاليا تكمن في جعل المتعلم و الدفع به لكي يعطي دلالات للتعلمات التي يتلقاها داخل المدرسة . فلكي يهتم بدرس الفلسفة يجب أن يجد فيه مبتغاه و أن يجد إجابات شافية للأسئلة التي تؤرقه و تشغل باله. و تشمل هذه المستويات :
–المستوى التمثلي لدى المتعلم: إن الانفتاح على المتعلم ومساعدته في الكشف عن تمثلاته الخاصة، سواء كانت أفكار مهيأة، معتقدات أو صور نمطية و تصنيفها و الانطلاق منها في بناء درس الفلسفة يعتبر مدخلا ضروريا لتجاوزها “و يبدو لنا أيضا أنه من الأهمية بمكان تنظيم القطيعة، نظرا لأن الخطاب الفلسفي ليس مجرد إعادة إنتاج للخطاب الاجتماعي السائد و للرأي الشائع، وإنما هو قطيعة معهما. و يجب لتحقيق ذلك، أخذ ما يراد القطع معه بعين الاعتبار و ” الاشتغال”عليه”، أي إخضاعه للنقد. و “يبدو لنا كذلك أن مواجهة التلميذ للآخرين، تساهم في إبعاده عن ذاتيته المحددة و عن أرائه، أي مواجهته للمؤلفين-طبعا و دوما-، ولكن أيضا لأقرانه، شريطة أن يكون لذلك غايات فلسفية.[19]
–المستوى الدلالي: بعد تحديد تمثلات المتعلمين حول الموضوع المدروس يتم الانتقال الى المستوى الدلالي و البحث عن الدلالات المختلفة للمفهومconcept أو الموضوعة notion المدروسة اشتقاقيا، اصطلاحيا و فلسفيا . و الغرض من هذه العملية هو دفع المتعلم لكي يقارن بين معاني و دلالات المفهوم المدروس في مستواه الأول التمثلي و المستوى الثاني الدلالي، المستوى العامي والمستوى العالم، إذا جاز لنا هذا التعبير، ومن ثم الوقوف على جانب المفارقة التي يحملها التقابل بين هذه المعاني و الدلالات، و هي وضعية يمكن أن يستغلها الأستاذ للمرور بشكل سلس الى المستوى اللاحق، مستوى صياغة الأسئلة التي سيجيب عنها الدرس.
–المستوى الإشكالي: اعتمادا على التقابلات و الاختلافات التي يشعر بها المتعلم يصيغ الأستاذ بمعية المتعلمين الإشكالية التي يطرها تناول المفهوم أو الموضوعة.
–مستوى المواقف و التصورات: في هذا المستوى يتم الانفتاح على مواقف و تصورات الفلاسفة حول الإشكالية المدروسة، وهي مناسبة كذلك لاكتساب مفاهيم أخرى و اكتساب قدرات كالتحليل و التركيب و الاستدلال و أشكاله والبرهنة…الخ.
غير أن هذه الطريقة أن كانت نظريا تبدو مقبولة و تغري بتطبيقها، فإنها للأسف عمليا تبقى صعبة التطبيق نظرا لمجموعة من العوائق من أهمها ضعف المكتسبات السابقة لدى المتعلم وصعوبة التعبير لديه، إضافة إلى الشروط التي تتم فيها عملية التعلم الاكتظاظ، تضخم البرنامج و هاجس إنهاء البرنامج المقرر في موعده إلى جانب إكراهات أخرى سنعود إليها في حينها.
2-مسار تدريس الفلسفة بالمغرب:
يتفق جل المهتمين بالموضوع أن إدراج الفلسفة كمادة دراسية داخل مؤسساتنا التعليمية تزامن مع المرحلة الاستعمارية و تم بفعل التأثير الفرنسي، و أن هناك اختلاف بين ظروف وحيثيات الاهتمام بالفلسفة في فرنسا و اعتبارها مادة مدرسية أساسية لها عمق في تاريخ المجتمع الفرنسي و تراثه الثقافي الممتد إلى عصر الأنوار، و بين ظروف ظهورها في المدرسة المغربية. و حتى لا نجاري من يقول إن الفلسفة في بلادنا ليس لها عمق تاريخي بدليل غياب تدريسها داخل مؤسساتنا العريقة ورفض الفقهاء لها وبعض السياسيين أيضا، لأننا ا نكون بذلك قد تجاهلنا مفكرين كبار مارسوا الفلسفة بل و ألفوا كتبا فيها، خصوصا خلال بعض المراحل المشرقة من تاريخنا السياسي أي خلال الحكم ألموحدي وتحت تأثير مفكري الغرب الإسلامي آنذاك.نكتفي بالقول أن ما ظل غائبا و ما ميز وضع الفلسفة في بلادنا مقارنة مع وضعها في فرنسا ، حسب ما نعتقد، هو مسألة الاعتراف و الإيمان بالأدوار المستقبلية التي يمكن أن تقوم بها الفلسفة كمادة دراسية في أفق التوحيد بين مكونات الدولة الفرنسية خلافا للوضع داخل المجتمع المغربي آنذاك و الذي كان يتوجس من كل ما هو أجنبي و دخيل خصوصا إذا كان مخالفا للعقيدة و المعتقدات المشتركة ” فتدريس الفلسفة في فرنسا في البداية ارتبط بايديلوجيي الثورة الفرنسية (كوندورسي، كوندياك، ديستوت دوتراسي الذين كانوا من أبرز المدافعين عن تدريس الفلسفة بالمدرسة العمومية من أجل تحقيق الوحدة الوطنية و إجماع الرأي العام الوطني . فأن تكون الفلسفة موضوع لتدريس معمم فذلك يستجيب لمطلب حقوقي كذلك : تأسيس الديمقراطية على أساس شعب يفكر، مستنير فلسفيا بواسطة التربية التي يتلقاها في مدرسة الجمهورية: في الوقت الذي شهد تدريس الفلسفة في التجربة المغربية مفارقات كبيرة ترجع إلى وضعيات التهميش و الإقصاء التي عرفها الفكر الحر في الماضي السياسي والاجتماعي العربي…”[20]. ارتبط تدريس الفلسفة في فرنسا إذن برؤيا مستقبلية تروم تحقيق وحدة الشعب الفرنسي واستمرارية الثورة ” فقد وحدت الفلسفة الوعي العمومي باعتبارها خلاصة روحية لكل الأنشطة العقلية للإنسان، و هي مؤهلة لتحقيق هذه الوحدة بفضل نزعتها الكونية و الشمولية التي تسمح لها بتركيب مختلف الإنتاجات الفكرية داخل رؤية عامة.”[21] فرض “المحيط الايديلوجي” بلغة غاستون باشلار قبول درس الفلسفة داخل المدرسة العمومية و هو أمر لم يكن مستساغا داخل مجتمع مغربي محكوم بفكر تقليدي يرمي كل فكر يعارضه في هامش موحش و لا يعترف به. و ربما هذه الولادة المتعثرة و غير الطبيعية للفلسفة في بلادنا هي التي تفسر وضعها الحالي داخل بلادنا و جملة الصعوبات التي رافقتها منذ زمن النشأة ذاك، وهو ما يفسر أيضا جملة التمثلات التي ظلت مرتبطة و مقترنة بها إلى اليوم عند الكثير من الناس عامتهم بل و عند البعض من خاصتهم ..
الثابت إذن أن درس الفلسفة دخل إلى المدرسة المغربية و تم إدماجه داخلها ضمن هذه الظرفية الاستعمارية ليستفيد منه أبناء الفرنسيين و أبناء الأعيان بالخصوص في بداية الأمر. لقد كان تدريس الفلسفة بالمغرب على عهد الاستعمار يتم على الطريقة الفرنسية؛ بدءا من البرامج الدراسية إلى الأساتذة ولغة التدريس. فقد أدمج الدرس الفلسفي شكلا ومضمونا ” كمادة معرفية في مرحلة أولى داخل المدرسة الاستعمارية التي كانت مخصصة لأبناء الفرنسيين ولعدد ضئيل من أبناء الأعيان.” ولم تكن الثانويات التي أنشئت في بداية الحماية تستقبل أبناء المغاربة عند تأسيسها، بل اقتصرت فقط على المتفوقين منهم إلى حدود السنوات الأخيرة من الاستعمار، حيث سيتم إدماج الدرس الفلسفي في بقية الثانويات العمومية والخاصة. ثم سيعمم بعد ذلك في عموم المدارس العصرية و كذلك المدارس الحرة التي كان قد أسسها بعض الوطنيين المغاربة آنذاك . و يميز بعض الباحثين المغاربة[22]في هذا الإطار بين 5 مراحل مر منها تدريس الفلسفة في المغرب وهي كالآتي:
–المرحلة الأولى: تمتد من المرحلة الاستعمارية إلى حدود أواخر الستينيات و كانت لغة التدريس هي اللغة الفرنسية وجل الكتب المدرسية كانت مستوحاة من الكلاسيكيات الفرنسية التي تستلهم في توجهها العام مقرر فيكتور كوزان.[23]
و قد أوكلت هذه المهمة في البداية إلى مدرسين فرنسيين.أما بالنسبة للمدارس الحرة فقد تم اعتماد مقرر معرب من تأليف أساتذة مصريين وهو قرار سيتم التراجع عنه سنة 1963 مما احدث فراغا كبيرا على مستوى تأطير مادة الفلسفة و تدريسها .لننتظر حتى منتصف الستينيات حيث سيظهر أو مقرر مغربي من تأليف محمد عابد الجابري، أحمد السطاتي ومصطفى العمري. وقد شكل هذا الكتاب نقلة نوعية في تاريخ تدريس الفلسفة بالمغرب إذ وضع أمام الأستاذ و التلميذ لأول مرة أداة علمية و مادة أولية تجنبهم التيهان و التشتت على مستوى الممارسة التعليمية. غير أنه ظل مجرد نسخة من المقرر الفرنسي سواء في محاوره أو موضوعاته(الوجود، المعرفة، القيم)أو الزمن المخصص لذلك. و أهم ما يميز هذه المرحلة كذلك هو غياب شبه منعدم للتأطير و التكوين….
–المرحلة الثانية: تمتد هذه المرحلة من بداية السبعينيات إلى منتصفها، و قد عرفت هذه المرحلة تعريب تدريس الفلسفة بشكل نهائي و توحيد المقرر على المستوى الوطني. ومع بداية الموسم الدراسي 1971/ 1972ظهر مقرر آخر من تأليف المرحوم الجابري و جماعته بالإضافة إلى مقرر خاص بالفكر الإسلامي لنفس المؤلفين. و كانت المقاربة التاريخية هي المعتمدة في تدبير درس الفلسفة.
–المرحلة الثالثة: تمتد من أواخر السبعينيات إلى الثمانينيات حيث تم إدماج الفلسفة و الفكر الإسلامي ضمن كتاب مدرسي واحد و أوكلت عملية التدريس لخريجي كليات الآداب، قسم الفلسفة، علم الاجتماع وعلم النفس الموظفين منهم إما في إطار الخدمة المدنية، ودون تكوين مهني يذكر، أو خريجي المدارس العليا للأساتذة الحديثة الظهور آنذاك حيث بدأ التخلص بشكل تدريجي من المقاربة المضامينية و تاريخ الفلسفة إلى الاشتغال وفق إشكالات ومفاهيم و قد بدا في هذه الفترة التأثر واضحا بالمنحى الفرنسي خصوصا برنامج مفاهيم الذي سبق تجريبه في المدرسة الفرنسية بحكم ما يتيحه من اهتمام لدى المتعلم بالقضايا الفلسفية مما يسمح له بالانخراط في ممارسة التفلسف و تحقيق التوازن بين تعلم آليات التفكير الفلسفي و معرفة مضامينه.
–المرحلة الرابعة:تمتد هذه المرحلة من 1991 إلى 1995 و هي مرحلة التدريس بالنصوص الفلسفية و التي كانت تمثل فقط مناسبات لتنمية مهارات التفكير لدى المتعلم وفق المقاربة البيداغوجية المعتمدة رسميا آنذاك داخل المؤسسات العمومية: بيداغوجيا الأهداف واعتماد صنافات تنتظم داخلها المهارات المرجوة خاصة صنافة بلوم التي تشمل المعرفة، الفهم، التطبيق، التحليل التركيب و النقد. وقد ساهمت هذه الطريقة في العمل في تعويد المتعلمين على التعامل مع انتاجات الفلاسفة و التمرن على بعض الآليات العقلية ومن ثم تعلم التفكير ولو أن ذلك كان يتم على حساب اكتساب معرفة فلسفية تنهل من تاريخ الفلسفة والقضايا التي عالجتها عبر تاريخها و قد تميزت هذه المرحلة بغياب ملخصات أو دروس يمكن أن يعود إليها المتعلم مما انعكس سلبا على مستوى منتوج المتعلم خصوصا خلال الامتحانات الإشهادية امتحانات البكالوريا آنذاك…
–المرحلة الخامسة: وفي سنة 1995 ستطرأ تعديلات على المقرر الدراسي لمادة الفلسفة، حيث سيتم اعتماد برامج تقوم على مفاهيم كانت عبارة عن عناوين للوحدات الدراسية المعتمدة في هذا المقرر، تجعل من النصوص فضاء لتناول هذه المفاهيم وتبيان الإشكالات التي تعالجها، كمفهوم اللغة والعقل والحقيقة والنظرية والشخصية والسعادة والحق… مرفقة بعرض موسع يشتمل على تصور إشكالي للموضوعة ومفاهيم ومواقف أساسية في معالجة تلك الموضوعة وتأطيرا موجها لاستعمال النصوص التي تتوزع بين التحليل والتي تدخل في بناء الدرس داخل الفصل وأخرى للاستثمار لأجل توسيع أفق الدرس أو التمرن على التحليل أو التدريب على إنجاز الإنشاء أو رصد حصيلة الدرس بالنسبة للتلميذ.
خلال الموسم الدراسي 2005-2006، سيتم اعتماد تعددية الكتاب المدرسي و القطع مع مرحلة الكتاب الواحد وحيث سيظهر جيل جديد من الكتب يتضمن نفس المواضيع و إن اختلفت طرق التناول و تركت مسألة اختيار أحدها إلى أساتذة المادة والمفتشين وممثلي آباء و أولياء التلاميذ. و استمر العمل بالمفاهيم لكن داخل مجزوءات مختلفة. إذ بات الدرس الفلسفي الراهن يتأسس على الاختيارات والتوجيهات التربوية المحددة في الكتاب الأبيض، وخاصة منها اعتماد المقاربة بالكفايات، والمقاربة التفاعلية، والعلاقة التكاملية بين المواد الدراسية، واعتماد المجزوءة كوحدة للمنهاج وصيغة لتدبير التعلم. وقد ركز الدرس الفلسفي في تناوله لموضوع المجزوءة على مسألة التدرج ليناسب المستويات العمرية وقد تزامن ذلك مع اعتماد الفلسفة في مستوى الجذع المشترك لأول مرة وصولا إلى السنة الثانية من سلك الباكلوريا وذلك بالاشتغال على وضعيات تعلمية محفزة تسهل وتحقق انخراط التلميذ في التفكير والتعلم حول موضوع المجزوءة، وكذا الاشتغال على النصوص الفلسفية وربطها بالتفكير الشخصي للتلاميذ مع استدعاء معارف متنوعة رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية، سياسية، تاريخية…)، وكل مجزوءة تتضمن مجموعة من المفاهيم أو المحاور ذات صلة مع بعضها البعض يتم معالجتها، كمجزوءات: الفلسفة والطبيعة والثقافة والإنسان، والوضع البشري، والمعرفة، والسياسة، والأخلاق…
كما أن المنهاج الجديد للفلسفة يتميز بوحدة الإطار المرجعي الملزم وطنيا،وفق التوجيهات التربوية لتدريس المادة التي تفصل الحديث في الكفايات و القدرات المستهدفة من البرنامج الدراسي ومجزوءاته الثمانية خلال المرحلة التعليم الثانوي ألتأهيلي، و كذا منهجية تدبيره و إن تركت لكل أستاذ حرية التصرف بما يتناسب و الوضعيات التعليمية التي يشتغل فيها وكذا إمكاناته المعرفية و مؤهلاته المهنية.
على مستوى تكوين الأساتذة فبالإضافة إلى المدرسة العليا للأساتذة بالرباط تم إنشاء كلية علوم التربية التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط والتي عهد إليها بتكوين أساتذة المادة. وكان جل المكونين آنذاك قد عادوا لتوهم من كليات أجنبية بلجيك،ا فرنسا و كندا وسبق للبعض منهم أن
تتلمذ على يد بيداغوجيين كبار آنذاك مثل دولاندشير، فاندفيلد و آخرون وبالتالي ستمثل كلية علوم التربية مشتلا لتكوين مربين و تأهيلهم لممارسة مهنة التدريس وفق منظور بيداغوجي حديث، ومن ثم المساهمة في التجديد التربوي. وقد تراوح التكوين بين تكوين نظري يشمل استكمال التكوين في المادة التخصصية، في فلسفة التربية و الديداكتيك و التربية التجريبية والإحصاء و التشريع المدرسي مع أعمال تطبيقية كملاحظة القسم و حصص التعليم المصغر للتمرن على مهارات محددة يفترضها تدريس الفلسفة مثل مهارة التمهيد،التقديم، السؤال، التشخيص، التركيب …الخ و يتوج ذلك التكوين النظري بتدريب عملي مغلق داخل إحدى المؤسسات التعليمية ينتهي بتقديم درس تطبيقي بمقتضاه ينال الطالب المتدرب الكفاءة المهنية و بعدها يجتاز امتحان التخرج ليتم تعيينه بشكل رسمي داخل مؤسسة تعليمية معينة. وكان هذا التكوين يعتبر تكوينا أوليا تتلوه تكوينات أخرى من طرف مفتش المادة وأساتذة قدامى على امتداد السنة الدراسية.
مع ظهور المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين بموجب مرسوم 2012 سيعهد إلى البعض منها خصوصا تلك التي تتوفر على موارد بشرية متخصصة( أساتذة التعليم العالي ومبرزون وأساتذة الثانوي التأهيلي) تكوين أساتذة لتدريس المادة وفق براديغم جديد في التكوين: تطبيقي- نظري – تطبيقي. وكانت مدة التكوين تستغرق سنة كاملة . هذه المرحلة ستمتد إلى حدود سنة 2018 ولم تخل من الكثير من الإيجابيات خصوصا المراوحة بين مركز التكوين و المدارس التطبيقية والتنسيق والمشاورات الدائمة بين طاقم التكوين ( المكونين و أساتذة التطبيق) الشيء الذي كان يضمن نسبيا اكتساب نوع من المهنية للأساتذة المتدربين و يهيؤهم لممارسة المهنة على الأقل دون ارتباك . غير أنه ومع ظهور تجربة التعاقد سيعرف التكوين نوعا من التراجع و حيث أننا أصبحنا نخرج تقنيين و ليس أساتذة مربين، فالمجزوءات في جلها تقنية كالتخطيط و التدبير و التقويم وما إلى ذلك و حصص التطبيق قليلة وجلها يقضيها المتدرب رهن إشارة مدير المؤسسة، وتم إرجاء التدريب الممهنن إلى السنة الثانية من التكوين وكل ذلك ستكون له تبعات على مستوى تدريس المادة ووضعها مستقبلا وكذلك تأثيراتها المباشرة على مستوى أداء المدرسين في غياب تكوين مستمر ومواكبة من قبل المؤطرين الذين أصبحوا هم الآخرين يعدون على رأس الأصابع و أصبح دورهم إداريا أكثر منه تربويا و توجيهيا كما كان في الماضي القريب.
3-تدريس الفلسفة اليوم بالمغرب و واقع الحال :
لم أجد ابلغ و أدق توصيف لحصيلة ما يجنيه التلميذ وما يخرج به بعد دراسته لمادة الفلسفة خلال المرحلة الثانوية من هذا الوصف الذي قدمه مصطفى كاك في إحدى مقالاته التي حاول فيها رصد تدريس مادة الفلسفة في الثانوي لذلك أورده حرفيا كما دونه صاحبه:
“يبدو تلميذ البكالوريا، في نهاية المطاف، وبعد سنتين من دراسة الفلسفة(حاليا ثلاث سنوات)، كمن دخل الغابة وخرج منها، دون أن يعرف ماهية الغابة وحقيقتها؛ فهو يجهل أسماء الأشجار التي رآها ولا يعلم أسرار الدروب التي مر منها، وحتى تلك الإضاءات الخاطفة التي تنبلج حوله من حين لآخر، بين صفوف الأشجار، لا تثير انتباهه واهتمامه.
لقد رأى ذلكم المتعلم العابر، أشجارا كثيرة ولمس جذوع بعضها، وربما جذب فرعا صغيرا أو ورقة قريبة من رأسه، لكنه لا يفهم لماذا رتبت الأشجار بتلك الطريقة، ولماذا زرعت بالضبط في تلك الأماكن، وربما تساءل، ذات يوم، بينه وبين نفسه عن الفائدة من تلك الأشجار، وعن حياتها، وهل هي خالدة أم فانية، وربما فكر حتى في مشروع مستقبلي، عندما يكبر، لإحراقها واستعمال أوصالها للتدفئة أثناء شتاء قارس. من المعلوم أن الشجرة التي كان ديكارت يتحدث عنها بوصفها “شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسية هي الطب والميكانيكا والأخلاق..”. هذه الشجرة المشهورة أصبحت اليوم غابة”[24] .
كيف نفهم هذا الوضع إذن و ما الذي يتعين فعله في أفق تأهيل مهني يضمن على الأقل تحقيق الكفايات الدنيا المستهدفة من تدريس الفلسفة؟
من الأكيد أن ثمة عوامل متعددة فوق بيداغوجيةextra pédagogiques أو تتجاوز البيداغوجيا هي من ساهم في إنتاج كذا وضع، خصوصا تلك المرتبطة بالشرط أو السياق التي تتم فيه التعلمات، و الذي يمتد تأثيره لينعكس سلبا على مختلف المواد الدراسية وليس فقط مادة الفلسفة مثل : طول البرنامج الدراسي، عدد التلاميذ ، نقص الدافعية لدى غالبية المتعلمين…الخ غير أن ما يهمنا في هذا المقام هو الطريقة التي يشتغل بها أساتذة المادة و كيف يدبرون درس الفلسفة و هم واعون بشكل مسبق ما نتوخاه من درس الفلسفة في حياتنا وما يتهدد هذا الدرس الذي كنا، إلى حين، نعتبره محررا للذات و مخلصا لها من أسر الحس المشترك و اليومي؟
تكتب إحدى الباحثات الممارسات في هذا الشأن:”
“فأما من الناحية التربوية، في بعديها البيداغوجي و الديداكتيكي، فيمكن القول أن الطريقة التي ندرس بها داخل الفصول الدراسية، و ان كانت تخضع لتشريع خاص بكل مادة على حدة، يوحد رؤانا كفاعلين تربويين، فهي لا تزال تخضع للذاتية، خاصة فيما يتعلق بمادة الفلسفة، نظرا لطبيعتها. الخاصة التي تطرح إشكالا كبيرا يتمثل في قبولها أو رفضها الخضوع للديداكتيك باعتبارها نمط تفكير حر و مستقل. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن الدرس الفلسفي ما زال يخضع و يعكس تصورات و انتظارات خاصة بكل مدرس على حدة. و بالتالي الطريقة التي يفهم بها كل مدرس منطوق التوجيهات الخاصة بالمادة[25] “وهي نفس الخلاصات التي توصلنا إليها في عمل جماعي هم تحليل الممارسات المهنية لدى بعض أساتذة المادة[26] حيث خلصنا إلى أن درس الفلسفة ما زال يهيمن عليه الطابع الإلقائي وحيث إن الهاجس المهيمن بالنسبة للأستاذ هو استعراض المواقف و التصورات المختلفة المرتبطة بالإشكاليات التي تطرحها المجزوءات المدروسة ومن ثم لا يستطيع جل الأساتذة التخلص و القطع مع تقليد استعراض المعرفة و حيث يبقى حضور المتعلم حضورا شكليا و لا يساهم بشكل فعلي في بناء الدرس .و من ثم نجد أن درس الفلسفة في كثير من الحالات لا يختلف عن درس المواد التعليمية الأخرى حيث يتم التركيز و بشكل مبالغ فيه باكتساب المعارف.
عندما فتحنا نقاشا مع الأساتذة المعنيين و أثرنا هذه الملاحظات، بينوا لنا أنه بالرغم من ضغط البرنامج و كثافته و الضغط الزمني كذلك، فإنهم يحاولون بناء كفايات لدى المتعلم و تشجيع التفاعل بين المتعلمين . غير أن فقدان أغلب المتعلمين للكفاية التواصلية و القدرة على التعبير يحول دون ذلك ومن ثم فالأستاذ، و بطريقة ربما لا واعية، في غالب الأحيان يجد نفسه يعتمد على الإلقاء و تقديم الفكرة جاهزة للمتعلم. بل أضاف بعض الأساتذة أن طريقة تقويم المادة تشجع على ذلك لأنه عوض أن نضع المتعلم أمام وضعيات مركبة و نلاحظ مدى قدرته على استثمار موارده و مكتسباته السابقة انسجاما مع منطق التدريس بالكفايات و حيث الكفاية تقوم من خلال الوضعية المركبة، نجد أن أسئلة التقويم في أشكالها الثلاثة (سؤال مباشر-تحليل مقولة – تحليل نص فلسفي) تراهن على المعرفة و مدى قدرة المتعلم على استحضار المواقف و الأفكار الفلسفية الجاهزة حول الموضوع المدروس .ومن ثم فالتلميذ الذي يحفظ المواقف والتصورات هو الذي يحصل على نقط مرتفعة غير أنه و كما جاء في فقرة سابقة لا تبقى لديه سوى علامات قليلة و تأثير ضئيل للمادة عليه، إن لم يخرج وبعد ثلاثة سنوات من تعلم الفلسفة كما كان حاله من قبل.
لذلك يبدو أنه من المستحسن أن يطرح المرء على نفسه السؤال الأساسي الآتي: ماذا الذي يتعين القيام به حتى تتوصل “الذوات الفعلية” في أقسامنا النهائية إلى الحق في الفلسفة؟ كيف يمكن مرافقة المتعلمين طوال السنة – دون أن يعطي المسار الانطباع بأنه يشبه طريق الخروج التوراتي- إلى أن يصبح بإمكانهم المغامرة ” بالتفكير اعتمادا على أنفسهم” بفضل نقط الارتكاز التي ستكون قد قدمت لهم”[27] .
إن ما يهم في نهاية المطاف هو ما الأثر الذي خلفته دراسة مادة تعليمية لدى المتعلم؟ وإلى أي حد تحققت تلك الكفايات، سواء النوعية أو المستعرضة، المعبر عنها في التوجيهات التربوية المرتبطة بتلك المادة و إلى أي حد سينعكس ما تلقاه المتعلم على شخصيته و على مساره العلمي مستقبلا، بل و حتى على حياته و رؤيته للعالم؟.
قائمة المراجع:
- حنان الغوات، تدريسية الفلسفة في الوطن العربي بين الواقع و المأمول، المغرب نموذجا، مجلة باحثون، العدد الخامس، يناير- مارس 2019.
- عبد الله بودومة، فلسفة الأستاذ في مقابل أستاذ الفلسفة: كانط-هيجل-نيتشه، مؤلفات المركز،2004.
- محمد زرنين: هيغل الفيلسوف ـ المدرس بالجمناز، مجلة فكر و نقد ، العدد 48، أبريل 2002.
- مصطفى كاك، مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة، مجلة فكر و نقد، العدد8، أبريل 2002.
- ميشيل توزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة، ترجمة حسن أحجيج، منشورات عالم التربية،ط1،2005.
- يوسف بن عدي و أخرون، في تدريس الفلسفة، سلسلة ملفات بحثية،11 دجنبر2015.
7-Edmond Husserl, la philsophie comme science rigoureuse, trad. G.Lauer, PUF 1955.
8-Emanuel Kant, logique, trad. guillermet, Vrin, 1970.
9-Emanuel Kant, Critique de la raison pure.
10-France Rollin, Apprendre à philosopher, Paris, 1982.
11- Michel Tozzi, Penser par soi-même , Initiation à la philosophie, Imprimerie des Monts du Lyonnais,1994.
[1] – محمد سبيلا، تقديم كتاب ميشيل توزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة،ترجمة حسن أحجيج،منشورات عالم التربية،2005،ط.1،ص4.
[2] – يوسف بن عدي و آخرون، في تدريس الفلسفة،سلسلة ملفات بحثية،11 دجنبر 2015، ص3.
[3] -يوسف بن عدي، مرجع سابق، ص3.
[4] – ميشيل طوزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة، مرجع سابق، ص3.
[5] -ميشيل طوزي، نفس المرجع، ص4.
[6] – مصطفى كاك، مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة، مجلة فكر و نقد، العدد8، أبريل 2002، ص85.
[7] Husserl (Edmund) la philisophie comme science rigoureuse, trad. G.Lauer, PUF. 1955, p52.
[8]– Kant, Critique de la raison pure, op.cité, p.561.
[9] – Kant,Critique de la raiso pure,Ibid, p 562.
[10] – Kant,Critique de la raiso pure,Ibid, p 560.
[11]– Kant,Critique de la raiso pure,Ibid, p.560.
[12] -kan, logique, trad. guillermet, Vrin 1970, p 26.
[13] – عبد الله بودومة، فلسفة الأستاذ في مقابل أستاذ الفلسفة:كانط-هيجل-نيتشه، مؤلفات المركز،2004، صص41-49 بتصرف.
[14] – محمد زرنين: هيغل الفيلسوف ـ المدرس بالجمناز، مجلة فكر و نقد، العدد 48، أبريل 2002، ص71.
[15] – انظر في هذا الإطار بالخصوص:
-France Rollin,Apprendre à philosopher,Paris 1982.
– Michel Tozzi, Penser par soi-meme , Initiation à la philosophie,Imprimerie des Monts du Lyonnais,1994.
[16] – ميشيل توزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة، مرجع سابق، ص16.
[17] – ميشيل توزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة، مرجع سابق، ص18.
[18] – فيليب بيرنو في تقديم كتاب ميشيل توزي، بناء القدرات و الكفايات في الفلسفة، مرجع سابق، ص11.
[19] – فيليب بيرينو، نفس المرجع ، ص17.
[20] – عز الدين الخطابي، رهانات تدريس الفلسفة بالثانوي( التجربتان الفرنسية و المغربية نموذجا)، في تدريس الفلسفة،تقديم وتنسيق الطيب بوعزة و يوسف بنعدي، سلسلة ملفات بحثية 11 دجنبر 2015، ص5.
[21] -عز الدين الخطابي، نفس المرجع، ص6.
[22] – عبد الله بربزي، تدريس الفلسفة بالتعليم الثانوي المغربي من إكراهات البدايات إلى صياغة المنهاج المدرسي،في تدريس الفلسفة ، مرجع سابق ص5-6.
[23] -بيداغوجي و سياسي ارتبط اسمه بتأسيس قسم الفلسفة و الشروع في تدريسها وفق برنامج مفاهيم .و قد ظل برنامجه مرتبطا بالمشروع البيداغوجي للثورة الفرنسية و المتمثل في توسيع قاعدة المنتسبين إلى الفلسفة،و هو ما ينسجم مع فكرة التعميم و التوحيد التي حاولت الثورة الفرنسية تطبيقها في مجال التعليم.
[24] – مصطفى كاك، مشكلة تدريس تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص41.
[25] – حنان الغوات، تدريسية الفلسفة في الوطن العربي بين الواقع و المأمول، المغرب نموذجا، مجلة باحثون، العدد الخامس، يناير- مارس 2019، ص165.
[26] – تمت المعاينة على فترات متقاربة و شملت أربع أساتذة متوسط تجربتهم المهنية 10 سنوات كلهم خريجو المدرسة العليا للأساتذة أو المركز الجهوي لمهن التربية و التكوين بمراكش.
[27] -فيليب بيرينو، بناء القدرات و الكفايات في الفسفة ، ميشيل توزي و آخرون ، مرجع سابق، ص 11.