التوجّه الإصلاحي في فكر الفقيه المنوني
The Reformist Orientation in the Thought of the Faqih Al-Mununi
ط.د. عبد العزيز المحمدي/جامعة محمد الخامس، المغرب
D.s.Abdelaziz El Mohamadi/Mohammed V University, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 80 الصفحة 177.
ملخص :
ينتمي الفقيه والمؤرخ المنوني إلى المرجعية التقليدية، في التكوين وفي الانتماء الفكري، إلا أنه من داخل المدرسة السلفية، اشتهر بنزوعه إلى التجديد والإصلاح، ويظهر ذلك من خلال نصوصه الفقهية والدينية، ومن خلال كتابته التاريخية، وكذلك من خلال انتمائه السياسي في إطار الحركة الوطنية، حيث كان عضوا نشيطا في حزب الشورى والاستقلال، ذو التوجه الليبرالي، رغم أن مرجعيته الفكرية ترشحه للانتماء إلى حزب الاستقلال، بزعامة علال الفاسي، مما يؤكد أن السلفية المغربية لم تكن خصما للتيار الليبرالي، أو مناهضة للإصلاح والتجديد.
الكلمات المفتاحية: الفقيه المنوني، الإصلاح، التجديد، الاجتهاد، السلفية، الوسطية، الاعتدال، الفقه.
Abstract: The jurist and historian Al-Mununi belongs to the traditional reference in formation and intellectual affiliation, but from within the Salafi school, he was famous for his tendency to renewal and reform. In the liberal-oriented Shura and Independence Party, although its intellectual reference nominated him to belong to the Independence Party, led by Allal El Fassi, which confirms that Moroccan Salafism was not an opponent of the liberal current or opposed to reform and renewal.
Keywords: Al-Manuni jurist, reform, renewal, ijtihad, Salafism, moderation, jurisprudence.
مقدمة :
اشتهر الفقيه المنوني باهتماماته التاريخية، التي حجبت إنتاجه الفقهي، رغم أنه ظل يعرف بين النخب الفكرية والأكاديمية بلقب الفقيه دونما سواه. ومن خلال إطلالة سريعة على ما كتبه المنوني من أبحاث دينية وتاريخية، يمكن استنتاج بعض ملامح الفكر الإسلامي الذي ينتمي إليه، لعل أبرزها إيمانه العميق بقيمة الوسطية في الإسلام، وبعده الشديد عن كل مظاهر الغلو والتشدد في الدين، فإلى أي حد التزم الفقيه المنوني بالمنهج الإصلاحي في مشروعه الفكري والتاريخي.
الدعوة إلى الوسطية والاعتدال :
لا يمكن لباحث في تراث المنوني الفقهي، أن يتجاهل الروح الوسطية التي يؤمن بها، فقد استهل مقاله “مقاصد التشريع الإسلامي” بإبراز أهمية الوسطية في الإسلام، بقوله: “من مميزات التشريع الإسلامي في سلوك الطريق الوسط في التكليف، فلا جنوح إلى مذهب الشدة، ولا انحدار إلى طرف الانحلال.” ثم استشهد على هذه الوسطية بقوله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا”([1])، وبقول الإمام الشاطبي: “الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الأخذ من الطرفين بقسط لا يميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال”.([2])
من خلال قراءة الفكر الديني للفقيه المنوني، نجده متأثرا بفقه المقاصد والموازنة بين المصالح والمفاسد، كما وضحها الشاطبي في الموافقات، وقد حاول في مقاله “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي” تطبيق هذا المنهج الوسطي في مسألة دقيقة، تتعلق بـ “تنظيم نفقات الأسرة على طريق الاعتدال في المطعم والملبس والمسكن وأثاثه، وفي التجمعات العائلية عند المناسبات.”([3])
اجتهد الفقيه المنوني في استخراج الأدلة الشرعية التي تدعو إلى مراعاة الاعتدال في الإنفاق، من غير إسراف أو تقتير، وجاءت هذه الأدلة متنوعة من الكتاب، والسنة وسيرة الصحابة، وأقوال العلماء قديما وحديثا، مما يبرهن على سعة علمه، ومتانة تكوينه الشرعي، واجتهد المنوني في تبيان أوجه الإسراف ومضاره، ومقاصد الشرع في تحريمه، من خلال استحضار عدد غير قليل من الأدلة العقلية والعلمية والشرعية، وذلك بهدف تسليط الضوء على المقاصد النبيلة للشريعة الإسلامية، تلك المقاصد التي غايتها تحقيق سعادة الإنسان ومصلحته.
يعبر الفقيه المنوني عن سمو المقاصد الكبرى في الاسلام بقوله: “ذلك أن التشريعات الإسلامية التي يزاولها المسلمون في أعمالهم اليومية، الدينية والدنيوية، في عباداتهم ومعاملاتهم، كلها تهدف إلى غايات حميدة، ومقاصد معقولة، وتنبني على حكم سامية، وترمي إلى مصالح عائدة على العاملين بها بالنفع الكثير والخير العميم، دينا ودنيا، معاشا ومعادا.” ([4])
ولا يخل هذا النص، الذي كتبه المنوني منذ سنة 1959، من أحكام مطلقة، فقوله بأن جميع “التشريعات الإسلامية التي يزاولها المسلمون تهدف إلى غايات حميدة ترمي إلى نفع كثير.” فيه نوع من التعميم الذي لا يصمد أمام الواقع، ومرد ذلك إلى غيرته الدينية العارمة، فروحه السلفية منعته من توجيه النقد إلى بعض الأحكام التي يزاولها المسلمون، وتتعارض مع مصالحهم، بسبب غلبة التقليد وغياب الاجتهاد، خاصة فيما يتعلق بقضايا مستحدثة، تتعلق بقضايا الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق المرأة، وغيرها.
إذا كان المنوني يرى أن التشريعات الإسلامية التي يزاولها المسلمون في حياتهم، كلها عدل ورحمة، فإن زميله في القرويين عبد الهادي التازي، الذي يتقاسم معه نفس المرجعية المحافظة، يرى رأيا آخر، حيث كتب مقالا بعنوان: “الاسترشاد بروح النصوص قديما وحديثا”([5])، عبر فيه عن الشكوك التي تراوده مع تيار من الشباب المغربي المؤمن، ذلك أن المرء، “مع حذره وتبصره يقف في بعض الأحيان موقف المتشكك من بعض التعاليم التي يتلقاها، هل ما صلح للناس منذ أربعة عشر قرنا صالح لنا، ونحن في هذه الحقبة من التاريخ؟ كيف؟ ولما لا نقتدي بهؤلاء المتحررين من الديانات الأخرى؟ أو لم يدركوا هم بأن التغني بالدين تماد في الباطل، وإصرار على الانتحار؟(…) هل أن الإسلام يعتمد على النصوص، أو على العكس من ذلك يعتمد على روح النصوص؟”([6])
هل كان المنوني واحدا من هؤلاء الشباب، الذين تراودهم الشكوك من بعض تعاليم الشريعة الإسلامية، من أمثال عبد الهادي التازي؟ يصعب الجواب على هذا السؤال، إلا أن المنوني بالرغم من نزعته المحافظة، التي يعكسها فكره وسلوكه ومظهره، كان فقيها متنورا، مدافعا بشدة على الاجتهاد، الذي يهدف إلى تحقيق المقاصد العليا للدين، وخدمة مصالح الإسلام، و”معقولية الشريعة”، بحسب عبارة المنوني نفسه.
هذه المعقولية يشرحها، مقتبسا كلام ابن القيم الجوزية، بما يلي: “الشريعة مبناها، وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل”، فشرع الله ودينه إنما جاء معتبرا للمصلحة، وحيث ما كانت المصلحة فثمة شرع الله، كما يقول ابن القيم.
ولا شك أن قضية الاجتهاد والتأويل أسالت مدادا كثيرا، وكانت وراء تعدد المذاهب والفرق الإسلامية، فالكل مع الاجتهاد من حيث المبدأ، لكن الاختلاف يقع في المعايير والضوابط التي تؤطر هذا الاجتهاد، والمعايير التي تميز المصالح من المفاسد، ولعل الاجتهاد هو السبيل إلى تطوير الدين، بما يتلاءم مع روح العصر، دون أن يفقد الإسلام روحه وجوهره، وحول هذه المسألة يعلق عبد الهادي التازي بالقول: “علينا أن نواجه واقعنا بروح فقهية رياضية، ولكن من غير أن نمس بجوهر الإسلام، أو نقصد الإجهاز عليه.”([7])
السلفية والإصلاح
عاش المنوني طفولته وشبابه في كنف نظام الحماية، وعاش مرحلة الكهولة والشيخوخة في مغرب الاستقلال، وكان معاصرا للتحولات الكبرى التي طرأت على البنيات الاجتماعية والثقافية، بحيث تراجعت القيم الدينية التقليدية، وانتشرت القيم الغربية الحديثة، ولا شك أن النخبة التقليدية تضررت من هذه التحولات التحديثية في البلاد، وفي مقدمتهم الفقهاء الذين انقسموا بين مطالب بالتجديد والاجتهاد، وبين مناصر للتقليد ومقاومة التغيير.
كانت السلفية الوطنية واعية بالحاجة إلى الإصلاح والتجديد في الفقه لمسايرة التحولات الاجتماعية، وذلك من خلال فتح باب الاجتهاد ومحاربة الابتداع، والعودة إلى الأصول، وتكييف النصوص مع الواقع. ويعد محمد بن الحسن الحجوي من كبار الفقهاء الذين دعوا إلى تجديد الفقه الإسلامي، لكي يتأقلم مع التطورات التي طرأت على البيئة المغربية خلال العصر الحديث، من خلال الدعوة إلى تجاوز التقليد وتبني الاجتهاد لأن: “الشريعة بصفة عامة صالحة لكل أمة وكل زمان، فلا بد أن تتبع أحكامها الدنيوية الأزمان والأمم، لحفظ المصالح العامة، وحفظ البيضة، وارتقاء نظام المجتمع، وإن لم نعمل بهذا، جنينا على الشريعة جناية لا تغتفر.”([8])
أورد الحجوي عدة أمثلة من الواقع، ليبرهن على أن الأمة في أمس الحاجة إلى الاجتهاد، لأن تغير الحياة الاجتماعية يستدعي بالضرورة تغيير الأحكام الفقهية المرتبطة بها، “مثلا الرقيق كان تملكه والجزية مباحا لا واجبا في صدر الإسلام، حيث كان الإسلام يعامل الأمم الأجنبية بمثل عملها، أما الآن فمنعه واجب لمصلحة عامة، ولا معنى لتعصب بعض العلماء في ذلك، فليس منعه خرق لقاعدة من قواعد الإسلام الخمس. وأين هو الرقيق الذي يجادلون فيه هو كشيء محال.”([9])
وحرصا على تحديث الاسلام، وإدماج التقاليد في المجتمع الحديث، يدعو الحجوي الفقهاء التقليديين إلى مراجعة فهمهم للنصوص، تجنبا للاحراج والعزلة، وحفاظا على هيبة الإسلام، الذي يجب أن يساير العصر، “فأمثال هذه الأحكام هي جارية اليوم أحب الفقهاء أم كرهوا، ولأن نجعل لها مخرجا وتجري على النظام، وباسم الشريعة، خير من تعصب لا فائدة منه سوى العزلة، وسقوط هيبة الإسلام، ونبذ أحكامه كليا.”([10])
وسيرا على منهج الحجوي، يعتبر الفقيه المنوني من أنصار التيار الفقهي الذي ينتصر للعقل والاجتهاد، بما يضمن تحقيق إنسانية الإسلام، وعقلانية الشريعة، ولعل نزعته الشورية تؤكد هذا الانتماء، فقد اصطف إلى جانب الجناح الليبرالي في الحركة الوطنية، الذي كان يمثله حزب الشورى والاستقلال، في مقابل التيار السلفي الذي كان يمثله حزب الاستقلال، حتى وإن كانت مرجعيته الدينية ترجح انتماءه إلى حزب علال الفاسي، “الذي ينتمي إلى بيئة القرويين، باعتباره عالم من علمائها، وإن كان يعد عالما مجددا منفتحا وغير متطرف، على عكس محمد بن الحسن الوزاني، الذي درس في فرنسا، وكان له فكر منفتح على الغرب والحداثة، وله علاقة بالأحزاب اليسارية، من بينها الحزب الاشتراكي”.([11])
ومعلوم أن قطبا الحركة الوطنية بالمغرب، اللذان عملا معا في “كتلة العمل الوطني”، اضطرا إلى الافتراق بسبب اختلاف رؤيتهما وتكوينهما، لقد كان علال الفاسي “مؤمنا بالإصلاح السلفي، من منطلق أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، في حين أن محمد بن الحسن الوزاني كان متأثرا بالغرب، لكنه لم يكن لائكيا ولا ملحدا، فاشتهر الحزب بمواقفه الإيجابية من الحداثة والغرب، ودافع عن قيم الحرية والمساواة والديمقراطية، وإقرار التعددية والحريات العامة، واحترام حقوق المرأة.([12])
وإذا كان انتماء المناضل الوطني محمد المنوني لحزب الشورى والاستقلال مسألة محسومة، بما يحمله هذا الحزب وزعيمه محمد بالحسن الوزاني من أفكار ليبرالية، فإن تجريد الفقيه المنوني من قناعته السلفية، مسألة غير واقعية، لأنه ينبغي التمييز بين القناعات السياسية للمنوني، وبين معتقداته الفكرية والدينية، التي يغلب عليها الطابع السلفي المستنير، على اعتبار أن السلفية في المغرب، كان يغلب عليها الاعتدال، لا تقبل التطرف والغلو، بحيث كانت إيديولوجيا تبنتها الحركة الوطنية، باعتبارها عقيدة إصلاحية دينية، تدعو إلى العودة إلى الإسلام الأصلي، أي إسلام السلف الصالح، وأن النهضة من منظور سلفي، لا تتحقق إلا عبر تصفية المعتقدات، مما علق بها من بدع وانحرافات.([13])
ورغم سلفيته، فقد اشتهر المنوني بأنه من بين الفقهاء القلائل في جيله، الذين أعلنوا عن تعاطفهم مع قضايا المرأة، وخاصة فيما يتعلق بحقها في التعليم والمساواة في الحقوق والواجبات، إلا أن قناعته الدينية فرضت عليه، في نفس الوقت، تبرير تعدد الزوجات، باعتباره مصلحة يسعى الإسلام إلى تحقيقها.
تحدث المنوني مدافعا عن تعدد الزوجات في الاسلام، بما نصه: “هذا التشريع كثيرا ما نقمه على الإسلام خصومه، وشنعوا عليه من أجله، ومن حسن الحظ، أن نجد ضد هؤلاء الخصوم، عددا من أهل أوروبا، يحبذون هذا النظام الإسلامي (إباحة التعدد عند الحاجة مع العدل)، وينتقدون نظام الاقتصار على زوجة واحدة، وممن حبذ تعدد الزوجات، الفيلسوف الألماني الشهير شوبنهاور (A.Schopenhauer)، وكذلك الأستاذ غوستاف لوبون (Gustave Le Bon) الذي أكد على أن تعدد الزوجات، على مثال ما شرعه الإسلام من أفضل الأنظمة وأنهضها بأدب الأمة، التي تذهب إليه وتعتصم به. وقال: “ولست أدري على أي قاعدة يبني الأوروبيون حكمهم بانحطاط ذلك النظام، عن نظام التفرد المشوب بين الأوروبيين بالكذب والنفاق”.([14])
وإذا كان المنوني بهذا المعنى من أنصار التيار السلفي بالمغرب، إلا أنه حتما من رواد المدرسة التجديدية من داخل هذا التيار، ومن مظاهر تجديده للفكر الديني، دعوته الصريحة إلى استعمال العقل في فهم النصوص الدينية، لذلك لم يتورع في شرح أحكام الإسلام بأدلة عقلية ومنطقية، تستلهم روح الإعجاز العلمي، في الدفاع عن أحكام الشريعة ومعقوليتها.
وفي هذا الإطار، استعمل المنوني الأدلة العقلية، للبرهنة على صدق ما ورد في “حديث الذباب”([15])، حين قال: “هذا الحديث تعرض غير ما مرة للطعن عليه، حتى ارتاب في صحته بعض المتأخرين، الذين ظنوا أنه مخالف للنواميس الطبية، ومعارض للقواعد الصحية، ثم تبين أخيرا خطأ الطاعنين وضلال المعترضين، بما أثبتته تجارب الطب الحديث، فقد قررت أن هذه الحشرة المعروف عنها أنها تأكل الجراثيم المولدة للأمراض، يوجد داخل جسيمها أيضا مادة للشفاء، وهي جسيمات مفترسة للجراثيم، وبهذا صار في الذباب مادتان متعاكستان، مادة للشفاء وأخرى للداء.”([16])
وإذا كانت هذه الحقيقة العلمية واحدة من أوجه الإعجاز العلمي للإسلام المعروفة اليوم، فإن تلقفها من طرف الفقيه المنوني منذ فترة مبكرة، ترجع إلى الخمسينات من القرن الماضي، يعتبر ملمحا من ملامح النزعة العقلانية في الفكر الديني عند الفقيه المنوني.
وبنفس المنطق العلمي، دافع عن العلة من تحريم أكل لحم الخنزير، بقوله: “فقد تبين أن الخنزير يصاب في كثير من الأحيان، بديدان تمر منه إلى من يأكل لحمه، وتتربى في جسده، فتكون الدودة الوحيدة الخطيرة، التي تطول أحيانا أمتارا عديدة، وتمنع التبرز لسدها المحل، وفي الخنزير ديدان أخرى تتربى في لحمه، وتتسرب إلى معدة آكله، فتؤدي إلى أقبح الأمراض وأشنعها.”([17])
وبنفس الأسلوب العقلاني أيضا، دافع عن التطبيقات العلمية لبعض التشريعات التعبدية في الإسلام، فمما قاله عن الوضوء: “وفي الوضوء فوائد أخرى: ففي تأكيد البدء بغسل الكفين ثلاث مرات، فائدة طيبة جليلية، ذلك بأن الكفين اللتين تزاول بهما الأعمال، يعلق بهما من الأوساخ الضارة، ما لا يعلق بسواهما. فإذا لم يبدأ بغسلهما يتحلل ما يتعلق بهما، فينقع في الماء الذي به يتمضمض المتوضئ، ويستنشق ويغسل وجهه وعينيه، فلا يأمن أن يصيبه من ذلك ضرر، مع كونه ينافي النظافة المطلوبة. ومن حكمة تقديم المضمضة والاستنشاق، على غسل جميع الأعضاء، اختبار طعم الماء وريحه، فقد يجد فيه تغيرا يقتضي ترك الوضوء به.”([18])
واعتمد الفقيه المنوني المنطق العلمي نفسه، في تبرير حجية ومشروعية أركان الإسلام، من صلاة وزكاة وحج وصيام، في مقاله الفقهي المنشور في مجلة دعوة الحق بعنوان: “مقاصد التشريع الاسلامي”. بينما خصص المنوني للركن الأخير في الاسلام بحثا فريدا، سماه: “أسرار الصيام الروحية والمادية”، وذلك لإبراز فوائده الصحية والروحية بأسلوب علمي رصين.([19])
ملامح التجديد والاصلاح في فكر المنوني
من مظاهر التجديد في الفقه عند المنوني، تسليط الأضواء على القضايا الاجتماعية، والاجتهاد من داخل فقه المعاملات، تطبيقا لشمولية الإسلام، ودوره في حل المشاكل الإنسانية، ولذلك جاءت مقالاته الفقهية تعبيرا عن هذا الفهم الإنساني للدين، وهذا ما يمكن استنتاجه من مقالاته المنشورة في دعوة الحق، ومنها: “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي”([20])، و”هدي الإسلام في التربية والتعليم”([21])، و”هدي السيرة النبوية في التربية والتعليم”([22])، و”هدي الإسلام في القصد إلى يسارة التكليف”.([23])
إن اختيار عبارة “هدي الإسلام”لم يكن أمرا اعتباطيا، فهي توضح ملامح المشروع الإصلاحي الذي يؤمن به المنوني، وتنهض دليلا على أن الإسلام قادر على إبداع الحلول التي تعتري الأمة الإسلامية، بله الحضارة الإنسانية جمعاء، شريطة قراءة النصوص الدينية قراءة تجديدية وعقلانية، بعيدة عن كل أشكال الغلو والجمود.
وبهذا المعني، فالمنوني ينتمي ثقافيا وفكريا إلى الجماعة التي تعتبر أن الإسلام هو الحل، الكفيل بالقضاء على جل المشاكل التي تتخبط فيها الأمة، على اعتبار أن الإسلام قادر على إبداع الحلول في كل الأزمنة والأمكنة، بشرط رفع راية الاجتهاد، ومراعاة فقه المقاصد والمآلات، والالتفات إلى روح النصوص.
هل كان المنوني إسلاميا أصوليا بهذا المعنى؟ لا يمكن إلا أن نجيب بالإيجاب، صحيح أنه لم يعلن انتماءه إلى أي تنظيم من تنظيمات الإسلام السياسي، وكان في حياته الاجتماعية والسياسية أقرب إلى الإسلام الصوفي، منه إلى الإسلام الحركي، بل كان مناصرا للنظام المغربي، مدافعا عن مشروعيته الدينية والسياسية، ولكنه في الوقت نفسه، كان يتقاسم مع الإسلاميين مشروعهم الفكري، الداعي إلى ضرورة التمسك بالأصول الإسلامية، كما جاءت في الكتاب والسنة، والدعوة إلى تحكيم الشريعة، واتخاذها منهجا لحياة الأفراد والمجتمع، وكان متسقا في هذه المرجعية مع قناعاته السياسية والدينية.
إن الظروف التاريخية والدينية والسياسية، فرضت على الدولة المغربية أن تعتمد نظاما سياسيا يجمع بين التقليد والحداثة، ويمزج بين البيعة الدينية والوثيقة الدستورية. وبذلك فإن المرجعية الدينية للدولة المغربية مؤطرة دستوريا وسياسيا. ألم يقل الحسن الثاني ذات يوم: “أن المغرب بالتأكيد إحدى الدول الأكثر أصولية، لأنه لم يحتفظ إلا بالمذهب المالكي وحده، الذي جاء مباشرة من المدينة المنورة، حيث عاش رسول الله (ص)”.([24])وفي حديث صحفي آخر قال: “أما بالنسبة لنا في المغرب، فإننا أصوليون بالنسبة لديننا الإسلامي الحنيف، فنحن السنيون، وخاصة أتباع المذهب المالكي.” ([25])
بالرغم من هذا التقارب في المرجعية الفكرية والدينية للمنوني مع حركات الإسلام السياسي، إلا أنه كان يختلف معهم في طبيعة المشروع السياسي الذي يصبون إليه، خاصة فيما يتعلق بموقفهم من النظام المغربي، وسعيهم إلى تحكيم الشريعة الإسلامية، لأنه كان يرى أن النظام الحاكم في المغرب، يظل إسلاميا في مجمله، رغم ما يشوبه من نقائص. ودور العالم هو تقديم النصح للحاكم، من باب التعاون على الإصلاح، لدفع هذه النقائص.
لم يكن المنوني يتأخر في تقديم النصيحة للحكام وغيرهم، ولعل قراءة في مقاله الذي كتبه على هامش زلزال أكادير، “موقف الإسلام إزاء الضوائق العامة” يؤكد هذا الرأي، فقد استغل هذه المناسبة الحزينة، للتعبير عن معاني الوطنية الصادقة التي تخالجه، والكشف عن نزعته الإنسانية العميقة، وأعطى بذلك المثال والنموذج الذي ينبغي أن تكون عليه النخبة، من زعماء الرأي والفكر، وخاصة الفقهاء منهم، ليكونوا قدوة لغيرهم في نشر قيم الإسلام، التي تدعو إلى التضامن والتكافل والبذل.
استهل المنوني هذا المقال بقوله: “تنتاب البشرية في كل عصر وحين، كوارث مهلكة وفواجع أليمة: مجاعات، أزمات اقتصادية، زلازل، والإسلام، كدين إنساني، أولى هذه النوازل كثيرا من العناية، وعظيما من الاهتمام، بقوانين مكتوبة سنها، وأعمال تطبيقية قام بها. وقد سلك في هذا الميدان سياسة حازمة، فجعل أولي الأمر مسؤولين في الدرجة الأولى، وبالغ في إلقاء المسؤولية على كواهلهم، ثم أشرك معهم في كثير من الأحيان الموسرين على اختلاف طبقاتهم.”([26])
ومن نافلة القول، أن هذا الحديث يدل على رجاحة رأي قائله، فهو يؤكد على إنسانية الدين الإسلامي ابتداء، باعتباره جاء لخدمة مصلحة الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، لاسيما في أوقات الشدة والمحن، من خلال اقتراح الحلول لمواجهة الكوارث والأزمات، ليس من خلال المواعظ والأحكام، و”القوانين المكتوبة” وحسب، ولكن من خلال “الأعمال التطبيقية”، وتحمل المسؤوليات، كل بحسب قدرته وموقعه، “فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.([27])
إن المنوني يعتبر فقيها إصلاحيا، سخر حياته وقلمه لخدمة قضايا الأمة والوطن، فلم يكن يتورع أبدا عن تقديم رأيه لإصلاح أوضاع البلاد، استجابة للواجب الأخلاقي والديني، بما في ذلك حرصه على تقديم النصح لأولياء الأمر، من خلال تحميلهم كامل المسؤولية في محاربة الضوائق العامة والخاصة، وتذكيرهم بقول الرسول (ص) في هذا الشأن: “من ولاه الله أمور المسلمين شيئا فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم، احتجب الله دون خلته وحاجته وفقره يوم القيامة.”([28]) ثم علق على هذا الحديث بقوله: “ومعنى هذا الوعيد بالنسبة للدنيا قبل الآخرة، تعظيم شأن الاهتمام بحاجيات الشعوب، حتى أن الإخلال به يعد من أعظم المخالفات وأكبر الجرائم.”([29])
لا شك أن هذه الجرأة في قول الحق، والانحياز إلى مطالب الشعوب، وعدم التملق للحكام مما يؤكد عليه الشرع، في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم النصح لأولياء الأمور، بل إن أعظم أنواع الجهاد “كلمة حق في وجه سلطان جائر”، كما جاء في الحديث. هل هذه الجرأة في مخاطبة أولياء الأمور قناعة راسخة في سلوك ومواقف المنوني، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خطابا عاما أملته المناسبة.
ترجع أسباب استماتة المنوني في الدفاع عن الدولة المغربية، إلى التزام الدولة بالشرعية الدينية، واعتماد نظام الحكم على أساس الشريعة الإسلامية، واتخاذ البيعة الشرعية وسيلة له، إلى درجة جعلت مؤرخا مرموقا مثل عبد الله العروي يقول: “إن كل فعل سياسي جوهري في المغرب كان من جوهر ديني”، ثم استدرك قائلا: “وهناك رأي وسط، يرى أن قيام الدول المغربية كان يلبي هدفا مزدوجا دينيا وسياسيا.”([30]) ومهما يكن، فإن الهاجس الديني كان من أهم مبررات نشوء الدولة المغربية، وإن كان دور العصبية القبيلة لا يمكن تجاهله أيضا، كما خلص إلى ذلك ابن خلدون، الذي خصص فصلا من مقدمته للتفصيل في أسباب نشأة الدولة المغربية، تحت عنوان: “فصل في أن الملك والدولة العامة، إنما يحصلان بالقبيل والعصبية.”([31])
إن تعلق المنوني بتاريخ المغرب وحضارته ونظامه، يرجع إلى خلفيته الدينية، التي تعتبر أن “حب الأوطان من الإيمان”، وأنه “من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”، ولسنا بصدد التأصيل الشرعي لنظام الحكم في الإسلام، وليس من شأن هذا البحث استدعاء مواقف العلماء من مختلف المذاهب، في مسألة الإمامة وشؤون السياسة الشرعية، ولكن المتفق عليه عند جمهور علماء السنة، بما في ذلك علماء المذهب المالكي، أن المسلم ملزم شرعا بمبايعة إمام يدافع عن بيضة الإسلام ويقيم الشريعة، وهي المهمة التي تجند لها الفقهاء الذين ألفوا في باب السياسة الشرعية، وغيرهم ممن كتب في الآداب السلطانية، مثل أبي حامد الغزالي وأبي بكر الطرطوشي، والماوردي وغيرهم.
ولا يخفى على الباحثين، أن المغرب ظل متشبثا في نظمه وقوانينه وأحكامه، بالشريعة الإسلامية إلى عهد الحماية، كما أنه يعتبر من الدول الإسلامية القليلة، التي حافظت على نظام الحكم الإسلامي، إذ ظلت البيعة أساس اختيار الملوك المغاربة وخلفائهم وأمرائهم، منذ الدولة الإدريسية إلى اليوم، وظل هذا النظام السياسي قائما عليها، على مر العصور وتعاقب الدول.([32]) وتعج المصادر بالشواهد التاريخية التي تؤكد على هذا المعنى، ولعل أبرزها نصوص البيعة ومراسلات الملوك وتوجيهاتهم، للحفاظ على الشرع والذود عن الأمة. وهذا سبب مقنع كاف، يبرر دفاع الفقيه المنوني عن مثل هذا النظام.
كان المنوني مثقفا مقربا من الحسن الثاني، حيث أسند إليه رئاسة مجموعة من اللجان، التي تهتم بشؤون الخزائن المغربية، وكلفه بترتيب وفهرسة محتويات العديد من المكتبات العامة، ومنها الخزانة الوطنية والخزانة الحسنية، ووضعه على رأس اللجنة المكلفة بإحياء خزانة القرويين، وأرسله إلى الديار المقدسة مع مجموعة من الوفود الرسمية، كما كان أثناء مرضه تحت الرعاية الملكية. وعينه الحسن الثاني أستاذا للتعليم العالي مدى الحياة بكلية الآداب بالرباط، حيث ظل بها محاضرا وموجها إلى حين وفاته.
لكل ذلك لا نستغرب إخلاص المنوني لنظام الحسن الثاني، الذي تكلف، غير ما مرة، بطبع كتبه ضمن منشورات المطبعة الملكية، ومنها كتابه: وثائق ونصوص عن أبي الحسن علي بن منون وذريته، فقد ختم هذا الكتاب بقوله: “ولا يفوتني أن أسجل هنا أن الكتاب الذي أذيل عليه بهذه الخاتمة، قد استمر مخطوطا مدة ليست باليسيرة، حتى علم بشأنه مؤرخ المملكة ومدير الوثائق الملكية العالم الأستاذ عبد الوهاب بن منصور، فاستحسن نهجه الوثائقي ومهد لنشره بالمطبعة الملكية.” ثم استرسل في الدعاء للحسن الثاني، الذي وصفه بالعاهل العالم، بما نصه: “ومسك الختام، هو الدعاء بالنصر والتأييد لمقام العاهل العالم، جلالة الملك الحسن الثاني أبقى الله سبحانه عصره مزدهرا بالعلم والعرفان، والعزة ورفعة الشأن.”([33])
إن ارتباط المنوني بالنظام الملكي مسألة مبدئية، تتعلق بقناعاته الدينية والسياسية الراسخة، ولا يمكن أبدا وضع هذه العلاقة في إطار مسلك الانتهازية الضيق، لما عرف عن الرجل من زهد في المناصب، وترفع عن الألقاب، ولما اشتهر به بين الباحثين من ابتعاده عن دائرة الضوء والشهرة، فهو لم يكن أبدا مؤرخا رسميا للدولة، فرغم إسهاماته الكبرى في بناء المدرسة التاريخية الوطنية، لم ينل أبدا عضويته في أكاديمية المملكة، ولكن هذا لم يمنعه من الدفاع عن الحضارة المغربية، لاسيما في ما يتعلق بإنجازات ملوك الدولة العلوية.
هذا الدفاع يندرج في خانة إخلاصه للدولة المغربية، لذلك لا يتحرج من تبرير بعض الأخطاء التاريخية التي يقع فيها هذا السلطان أو ذاك، مثل تبريره لضعف السياسية الحربية للمغرب أثناء عرض الأبراج والحصون التي شيدها الحسن الأول بقوله: “وقد تبدو هذه التحصينات تافهة إزاء ما كان يتطلبه المغرب إذ ذاك، ولكن يجب أن نلاحظ أن المغرب في هذه الأوان كانت يده مغلولة عن بناء التحصينات الحربية كما يريد، حسبما أعلنت هذه الحقيقة وزارة الخارجية الحسنية في بعض مكاتبها.”([34])
وتبريره فشل الإصلاحات التي قام بها المخزن خلال القرن 19 بقوله: “إلى هذه الحالة (من الضعف) صار المغرب في هذا الطور. فماذا فعل أولوا الأمر في المغرب حينئذ، وهما بصفة خاصة، الملكان محمد الرابع والمولى الحسن الأول. وحقا إنما بذروا البذور الصالحة، ووضعا اللبنات الأولى للإصلاح الحالة بالمغرب، ولو ساعدتهما الظروف، وساعدت اللذين أتوا بعدهما، لتحول المغرب من ذلك التاريخ إلى أمة لها مكانتها ومقامها، كما صارت اليابان أمة عظيمة، وهي التي كانت بعثاتها تدرس بأوروبا، في الوقت الذي كانت توجد هناك بعثات المغرب، ولكن اليابان كان بعيدا عن أوروبا، فلم تعمل لعرقلته، ما عملت في المغرب الجار القريب لأوروبا.”([35])
واضح أن المنوني يفسر فشل الإصلاحات التي باشرها المخزن خلال القرن 19 بعوامل خارجية، ترتبط بعرقلة مشاريع الإصلاح من طرف الدول الأوروبية الغازية، لذلك تجنب الإشارة إلى دور البنيات التقليدية المحافظة، وعلى رأسهم الفقهاء، الذين وقفوا في وجه التحديث، حفاظا على مصالحهم، لعلها نظرية المؤامرة التي تسكن هواجس المثقف العربي، وهي النظرية عينها التي وظفها المنوني لتبرير ملابسات تحطيم الأسطول المغربي، في عهد السلطان المولى عبد الرحمان.
يقول المنوني بهذا الصدد: “هكذا يختفي الأسطول المغربي من الوجود بعد تاريخ مجيد، وماض حافل بجلائل الأعمال، مليء بآيات البطولة والشجاعة المثالية، وهكذا تنجح المؤامرات الدنيئة في القضاء على قوة المغرب البحرية، بعدا قضت وتقضي على قوات بحرية أخرى، في مختلف بقاع العالم الإسلامي.”([36])
لا يكتفي المنوني بذكر أمجاد الحضارة المغربية، وسرد إنجازات الملوك وإخفاقاتهم، ولكنه أيضا لا يتردد في توجيه النقد لهذه الحضارة، متى دعت الضرورة إلى ذلك، نظرا لميوله الوطنية ونزعته الإصلاحية. إذ عبر عن هذه النزعة في معظم أبحاثه التاريخية، حيث ينتقي من التراث المغربي الأحداث والمواقف والشخصيات، التي قامت بأدوار كبرى في البناء وفي الإصلاح.
ومن مواقف الفقيه المنوني الإصلاحية، حرصه على إبراز دور المعارضة في تاريخ المغرب، من خلال عرض مواقفها السياسية، تأكيدا لمنهجه التاريخي الذي ينتصر لجميع الفئات الاجتماعية، بما في ذلك التيارات المعارضة وتاريخ الأقليات والمهمشين. ومما قاله في هذا الصدد: “ولم تخل هذه الفترة، عهد المرينيين، من معارضة مكتوبة، صدرت عن بعض العلماء الذين تفاوتت لهجتهم في نقد سياسة الحكام المعنيين بالأمر، وترددت بين اللين والشدة.”([37]) ثم اقتبس بعضا من رسالة رفعها الإمام ابن عباد إلى السلطان المريني عبد العزيز الأول.
ومما جاء فيها: “وعليكم أن تتفقدوا عمالكم، وتعتقدوا ذلك من صالحات أعمالكم، ومما يجب لرعيتكم عليكم، فإنه ظهر منهم الغش وعدم النصيحة لكم ولرعيتكم. وحاصل أمرهم أنهم تمكنوا من الرعية كل التمكن، وأحدثوا سننا غير مشروعة، وفعلوا عليه مما يوافق أغراضهم، مما يكسبهم المال والجاه، وتوصلوا بذلك إلى جباية أموالهم والاستيلاء على رقابهم بالجبر والقهر، واشتروا رضا أنفسهم بسخط الله تعالى، ولم يراقبوا فيكم ولا فيهم إلا ولا ذمة، واصطلحوا على ألا يصل إليكم مما يحبون إلا التافه اليسير، فعليكم يا أمير المؤمنين أن تتصفحوا أحوالكم، وتتفقدوا عمالكم، وتكفوا أيديهم، وتستخرجوا منها ما خانوكم فيه، أنتم ومن تقدمكم، وذلك بأن تعرفوا مقدار ما كان يملك أحدهم من المال قبل الولاية، وتأخذوا ما زاد عليه وتجعلوه في بيت مال المسلمين، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون، ولا شك أنكم تملؤون بذلك بيوت الأموال، وتستغنون بذلك الاستغناء التام عما أحدث من المراسم والمغارم الضارة برعيتكم، والعائد ضررها عليكم في الدنيا و الآخرة”.([38])
إن من يقرأ هذه الرسالة التي كتبت في عهد المرينيين، يستنتج أن المنوني كان يختبئ وراءها، للتعبير عن معارضته لما يحدث في المغرب من فساد إداري، واستبداد سياسي، وغياب العدالة الاجتماعية، وامتعاضه من إقصاء الشريعة الإسلامية، وتغول القيم الغربية في الدولة والمجتمع، وإذا كان في هذا الموقف يختبئ وراء نصوص تاريخية، لكنه أحيانا أخرى كان يتحلى بالجرأة، للتعبير عن مواقفه في فضح الفساد، وانتقاد المسؤولين.
ومن ذلك ما كتبه متأسفا على الحالة التي كانت عليها مكتبة الجامع الأعظم بمكناس، فبعد ذكر أمجادها الغابرة، جاء نقده شديدا وساخرا، يقول: “أما حالة المكتبة الراهنة فتبعث على مزيد الأسف والأسى، وإذا شئت أن ترى كيف ضاعت الخزانة المغربية، وإلى أي حد بلغ إهمال المغاربة لكتبهم ومكاتبهم. فتعالى إلى مكتبة المسجد الأعظم بمكناس، فلا شك أنك لا تجد مكتبة علمية، وإنما تجد مخزنا هائلا للغبار، ومرتعا خصبا للحشرات، حيث لا ترى إلا ركاما من الأوراق مبعثرة هنا وهناك، لا تكاد تلمسها حتى تملأ عليك الفضاء عجاجا أكدر، وحيث لا تبصر إلا كتبا روت منها الأرضة نهمها، وأبقتها عبرة للمعتبرين، ولقد يخيل لزائرها إذا أغمض الجفون عن القذى، وأخذ يبحث في كتبها ويقلب أوراقها، أنه يتصفح صفائح من تلك الصحف، التي نجت من غريق الطوفان في عهد نبي الله نوح عليه السلام.”([39])
ولا يكتفي فقط بالنقد الشديد الذي بلغ حد التهكم، بل إن غيرته الوطنية، وخدمته لبلدته مكناس، ونزعته الإصلاحية، دفعته إلى التدخل لدى المسؤولين، لإصلاح حال هذه المكتبة العريقة، وفي هذا الشأن يقول: “وقد كان صرح لي بعض وزراء المعارف السابقين، لما فاوضته في شأن هذه المكتبة، (…) ثم لما أنشئ تنظيم المعهد المكناسي، جددت هيأة مجلسه التحسيني ذلك الطلب (طلب إصلاح المكتبة) مرتين، آخرهما في عيد المولد الفارط، حيث قدمته رأسا للجلالة الشريفة في حملة مطالب أخرى.”([40]) وواضح من عبارة: “مطالب أخرى” أن المنوني كان يستغل قربه من دوائر السلطة، لما فيه خدمة مصالح الوطن، وخاصة لخدمة قضايا البحث العلمي، ومنه البحث التاريخي.
وفي هذا الإطار، لم يغفل المنوني المبادرات التي أطلقها محمد الخامس، في سبيل تشجيع البحث التاريخي، فجاء تنظيم القرويين يقرر لأول مرة تدريس التاريخ بسائر أقسام الدراسة بها، وفي سنة 1941 اقترح تأليف لجنة من ثمانية مؤرخين مغاربة، يعهد إليهم بتأليف تاريخ جديد للمغرب والخلفاء بالمشرق، حتى تكون هذه المؤلفات عمدة دراسة التاريخ في القرويين وكلية ابن يوسف، فضلا عن تنويهه بأعمال ابن زيدان في ظهير منشور بأول السفر الثاني من إتحاف أعلام الناس، إضافة إلى تكفله بطبع كتب تاريخية حول المغرب على نفقته الخاصة، وبإيعاز من المطبعة الملكية، وكلية الآداب بالرباط بعد تأسيسهما.([41])
خاتمة :
كان الفقيه المنوني يحمل مشروعا إصلاحيا، عمل على تنزيله من خلال كتاباته التاريخية والدينية، فهو لم يكن مجاهرا بملامح هذا المشروع، ولكنه كان يتتبع آثار هذا الاصلاح في التراث المغربي، ويبحث عنه في الوثائق التاريخية، وفي النصوص والفتاوى الفقهية، غير أنه كان متكتما إلى درجة التستر، فيما يتعلق بآرائه وأفكاره النهضوية، مما يوحي بأن مشروع النهضة الذي يحمله المنوني، هو نفسه البديل الذي عبرت عنه النخبة المغربية، وعبر عنه في مؤلفه الذائع الصيت: مظاهر يقظة المغرب الحديث، حيث يؤكد محمد عابد الجابري بأن مشروع النهضة الذي يحمله المنوني، “هو نفس المشروع الذي يؤرخ له، المشروع الذي لم يتم، المشروع الذي أجهضته معاهدة 1912”.([42])
قائمة المصادر والمراجع :
- التازي (عبد الهادي)، “الاسترشاد بروح النصوص قديما وحديثا”، دعوة الحق، العدد الثامن، السنة الثانية،
الجابري (محمد عابد)، “محمد المنوني مظهر من مظاهر يقظة المغرب الحديث”، مساهمة في كتاب جماعي، في النهضة والتراكم: دراسات في تاريخ المغرب والنهضة العربية، مهداة للأستاذ محمد المنوني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1986.
العروي (عبد الله)، تاريخ المغرب: محاولة في التركيب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977.
- القبلي (محمد)، وآخرون، تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، الرباط، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 2012.
الكتاني (يوسف): “نظام الحكم الإسلامي أساس استقرارنا واستمرارنا”، دعوة الحق، العدد 273، 1989.
المنوني (محمد) ، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية الرباط، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط 2، 2000.
ـــــــــ،”أسرار الصيام الروحية والمادية”، مجلة دعوة الحق، العدد الخامس، السنة السادسة، 1963.
- ــــــــ، “مقاصد التشريع الاسلامي”، دعوة الحق، العدد الثامن، السنة الثانية، 1959.
ـــــــــ، “موقف الإسلام إزاء الضوائق العامة “، دعوة الحق، السنة الثالثة، أبريل 1960.
ـــــــــ، “نهضة البحث التاريخي في عصر الملك محمد الخامس”، الندوة الدولية حول محمد الخامس الملك الرائد، جمعية رباط الفتح، نونبر 1987.
ـــــــــ، “هدي الإسلام في التربية والتعليم”، مجلة الإيمان، العدد 7 و 8 (مزدوج)، السنة الأولى، يوليوز 1964.
ـــــــــ،”هدي الإسلام في القصد إلى يسارة التكليف”، مجلة كلية الشريعة، العدد 2، السنة الأولى، مارس 1977.
- ـــــــــ، “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي” مجلة دعوة الحق، السنة 19، شتنبر 1978.
ـــــــــ، “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي”، دعوة الحق، السنة 19، العدد التاسع، شتنبر 1978.
ـــــــــ،”هدي السيرة النبوية في التربية والتعليم”، مجلة دعوة الحق، العدد 253.
ـــــــــ، دور الكتب في ماضي المغرب، الرباط، منشورات الخزانة الحسنية، 2005
ـــــــــ، مظاهر يقظة المغرب الحديث، الجزء الأول، الرباط، مطبعة الأمنية، 1973.
ــــ، وثائق ونصوص عن أبي الحسن علي بن منون وذريته، الرباط، المطبعة الملكية، 1976.
- بالحسن الحجوي (محمد)، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الجزء 2، المدينة المنورة، المكتبة العلمية،1977.
- بن خلدون (عبد الرحمان)، المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، بيروت، دار يعرب، 2004.
- بوطالب (عبد الهادي)، هذه قصتي، قضايا وخبايا وأسرار عن المغرب أحداثه ورجاله على مدى ستين عاما، منشورات الأحداث المغربية، 2005.
جريدة العلم بتاريخ 10/12/1988.
جريدة العلم بتاريخ 14/12/1988.
([1])– سورة البقرة، الآية 142.
([2])- محمد المنوني، “مقاصد التشريع الاسلامي”، دعوة الحق، العدد الثامن، السنة الثانية، 1959، ص 23.
([3])- محمد المنوني، “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي” مجلة دعوة الحق، السنة 19، شتنبر 1978.
([4])- محمد المنوني، “مقاصد التشريع الإسلامي”، المرجع السابق، ص 28.
([5])- نشر هذا المقال في مجلة دعوة الحق، في نفس العدد الذي كتب فيه المنوني “مقاصد التشريع الإسلامي”.
([6])- عبد الهادي التازي، “الاسترشاد بروح النصوص قديما وحديثا”، دعوة الحق، العدد الثامن، السنة الثانية، 1959، ص 34 – 35.
([10])- محمد بالحسن الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الجزء 2، المدينة المنورة، المكتبة العلمية،1977، ص 478.
([11])- عبد الهادي بوطالب، هذه قصتي، قضايا وخبايا وأسرار عن المغرب أحداثه ورجاله على مدى ستين عاما، منشورات الأحداث المغربية، 2005، ص 43.
([12])- المرجع السابق، نفس الصفحة.
([13])- محمد القبلي، تاريخ المغرب: تحيين وتركيب، الرباط، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 2012. ص 587.
([14])- محمد المنوني، “مقاصد التشريع الاسلامي”، مجلة دعوة الحق، العدد الثامن، السنة الثانية، ، ماي 1959، 1958، ص 26- 33. جدير بالذكر أن غوستاف لوبون يعد من أبرز المستشرقين الفرنسيين الذين اشتهروا بالحياد والموضوعية، في تناولهم لقضايا العرب والمسلمين، له كتاب ذائع الصيت يسمى حضارة العرب، ومنه أخذ المنوني الاقتباس أعلاه، في الباب الرابع منه حول طبائع العرب ونظمهم. أنظر غوستاف لوبون ، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم الثقافة، 2012.
([15])- جاء في كتب الحديث عن النبي (ص) أنه قال: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء.”، أخرجه البخاري في صحيحه، وأبو داوود عن أبي هريرة.
([16])- محمد المنوني، “مقاصد التشريع الاسلامي”، دعوة الحق، م س، ص 28- 29.
([19])- راجع: “أسرار الصيام الروحية والمادية” لمحمد المنوني، مجلة دعوة الحق، العدد الخامس، السنة السادسة، 1963 ص 34- 37.
([20])- المنوني، “هدي الإسلام في تنظيم الاقتصاد المنزلي”، دعوة الحق، السنة 19، العدد التاسع، شتنبر 1978، ص 34.
([21])- المنوني، “هدي الإسلام في التربية والتعليم”، مجلة الإيمان، العدد 7 و 8 (مزدوج)، السنة الأولى ص 81 – 85، يوليوز 1964.
([22])- المنوني، “هدي السيرة النبوية في التربية والتعليم”، مجلة دعوة الحق، العدد 253، ص 18-21.
([23])- المنوني، “هدي الإسلام في القصد إلى يسارة التكليف”، مجلة كلية الشريعة، العدد 2، السنة الأولى، مارس 1977، 40- 46.
([24])- جريدة العلم بتاريخ 10/12/1988.
([25])- جريدة العلم بتاريخ 14/12/1988.
([26])- المنوني، “موقف الإسلام إزاء الضوائق العامة “، دعوة الحق، السنة الثالثة، أبريل 1960، م س، ص 89.
([30])- عبد الله العروي، تاريخ المغرب: محاولة في التركيب، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1977، ص 106.
([31])- عبد الرحمان بن خلدون، ديوان العبر، تحقيق وافي، ج 2 ، م س، ص 521.
([32])- يوسف الكتاني: “نظام الحكم الإسلامي أساس استقرارنا واستمرارنا”، دعوة الحق، العدد 273، 1989، ص 240.
([33])- محمد المنوني، وثائق ونصوص عن أبي الحسن علي بن منون وذريته، الرباط، المطبعة الملكية، 1976، ص ص 289- 290.
([34])- محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، الجزء الأول، الرباط، مطبعة الأمنية، 1973.ص 42.
([37])- محمد المنوني، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، منشورات كلية الاداب والعلوم الانسانية الرباط، الدار البيضاء، مطبعة النجاح الجديدة، ط 2، 2000، ص 227.
([39])- محمد المنوني، دور الكتب في ماضي المغرب، الرباط، منشورات الخزانة الحسنية، 2005، ص 66.
([41])- محمد المنوني، “نهضة البحث التاريخي في عصر الملك محمد الخامس”، الندوة الدولية حول محمد الخامس الملك الرائد، جمعية رباط الفتح، نونبر 1987، ص 442.
([42])- محمد عابد الجابي، “محمد المنوني مظهر من مظاهر يقظة المغرب الحديث”، مساهمة في كتاب جماعي، في النهضة والتراكم: دراسات في تاريخ المغرب والنهضة العربية، مهداة للأستاذ محمد المنوني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1986.