الجسد في الخطاب الديني: دراسة أنثروبولوجية مقارنة بين المسيحية والإسلام
Body in Religious Discourse Anthropological Study Comparison between Christianity and Islam
ادريس الدعيفي/جامعة الحسن الثاني، المغرب
Driss Daifi/ University of Hassan II, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 80 الصفحة 33.
ملخص:نَرُومُ من خلال هذه الدراسة إلى الوقوف على مستويات حضور الجسد ضمن الخطاب الديني، تحديدا داخل الديانتين المسيحية والإسلام، من منظور مقاربة أنثروبولوجية مقارنة، وما تقتضيه هذه المقارنة من رصد لأوجه الائتلاف والاختلاف القائمة بينهما، وذلك من خلال الحفر في النصوص الدينية (الكتاب المقدس، كتابات الآباء المسيحيين، القرآن، الحديث…)، من أجل الكشف عن مستويات حضور الجسد الإنساني في هذين الخطابين. زيادة على ذلك، سنحاول في هذه الدراسة تبيّن مختلف مستويات الرقابة الدينية على الجسد، كما تراهن هذه الدراسة أيضا على تجاوز بعض مظاهر القصور الذي يطبع مقاربة واقع الجسد في العلوم الاجتماعية، من خلال رصد موضوع الجسد من منظور سوسيولوجيا الخطاب الديني، بالنظر إلى الأهمية التي يحظى بها هذا الخطاب، من حيث أنه يساهم بشكل كبير في تحديد رؤية الإنسان تجاه جسده، وأجساد الآخرين.
الكلمات المفتاحية: الجسد،المسيحية، الإسلام، دراسة مقارنة، سوسيولوجيا الخطاب الديني.
Abstarct :
This study revolvers around standing on the presence of body in religious discourse namely Christianity and Islam from comparison anthropological approach taking into consideration facets of similarities and differences between then depending on both (Bible, The Writings of Christian Fathers, Koran and Hadith…), so as to detect the coverage of humans body in both discourses. In addition to this, I will try to demonstrate levels of religious censorship on body. This study will also cover some aspects of shortcomings of body presence and study in social sciences approach through considering body from sociological perspective within the framework of religious discourse, knowing that this discourse is of great importance in determining both People vision towards their bodies and other.
Keywords: Body, Christianity, Islam, Comparative Study, Sociology of Religious Discourse.
مقدمة:
تمثل هذه الدراسـة محاولة سبر، أكثر ما تمثل تحليلا منهجيا، للكيفية التي يحضر بها الجسد ضمن الأنساق الدينية، وبذلك فهي تستهدف بيان مستويات حضور الجسد الإنساني داخل الخطاب الديني؛ وتحديدا داخل الديانتين المسيحية والإسلامية، مع تعيين أوجه التشابه والاختلاف القائمة بينهما. أي أننا سنحاول المقارنة بين الخطاب المسيحي والخطاب الإسلامي حول الجسد، من خلال تحليل النصوص الدينية (الكتاب المقدس، كتابات الآباء المسيحيين، القرآن، الحديث النبوي…). على اعتبار أن سؤال الجسد لا يمكن مقاربته من زوايا محدودة وضيقة، لأنه ينفتح على خطابات دينية عديدة كاليهودية، المسيحية والإسلام، علاوة على حقول معرفية متنوعة، منها السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، الفلسفة، الطب…
على هذا الأساس، فاختيارنا لدراسة الجسد في الخطاب الديني يرجع بالأساس للأهمية الكبيرة التي يحظى بها هذا الجسد ضمن الخطاب الديني بمختلف أنواعه وتشعباته، طالما أن الخطاب الديني يشكل محددا أساسيا لتمثلات وتصورات الإنسان تجاه جسده وأجساد الأغيار. ومن هنا تأتي ضرورة أن نسائل الجسد باعتباره موضوعا محوريا في الحقل الديني، وفي نفس الوقت موضوعا مهملا، ومهمشا ومكبوتا، وذلك بمحاصرته في الثالوث المحرم المتمثل في الجنس والدين والسياسة.
إشكالية البحث:
يجرنا الحديث حول الجسد باعتباره رأسمالا ثقافيا، أو بالأحرى دينيا، إلى مساءلة موقع هذه القوة المادية (الجسد) داخل الخطاب الديني (المسيحية والإسلام)، وكذا مساءلة مختلف مستويات الرقابة الدينية التي يفرضها هذين الخطابين على الجسد. ومما تقدم نحاول طرح التساؤل عن المستويات والكيفيات التي يحضر بها الجسد الإنساني داخل المنظومة الدينية للمسحية والإسلام.
ولإثراء التساؤل المطروح قمنا سنقوم بطرح مجموعة من التساؤلات التي تمثل ركائز أساسية لتفكيك هذه الإشكالية وتتمثل فيما يلي:
- ما هو التصور الذي قدمه الخطاب الديني المسيحي عن الجسد؟
- وما هو تصور الإسلام حول مفهوم الجسد؟
- هل هناك تساو في القوانين الدينية بين المسيحية والإسلام، التي تؤطر حرية التصرف في الجسد؟
- وما هي الحدود القائمة بين المنظورين المسيحي والإسلامي حول الجسد الإنساني؟، بمعنى آخر ما هي أوجه التشابه والاختلاف القائمة بينهما؟
أهمية البحث:
عرفت السوسيولوجيا في المغرب تراكما معرفيا هاما من حيث الكم والكيف، منذ بداياتها في العقد الرابع من القرن العشرين[1]، فتعددت مواضيعها وأبحاثها، لكن رغم ذلك ظل موضوع الجسد على هامش المشاريع السوسيولوجية المغربية. وهذا ما يُمَثِّلُ بالنسبة إلينا فجوةً تتصل بغياب الاهتمام بالمشكلات التي تطرحها مسألة الجسد بالمغرب، سواءَ تعلق الوضع بدراسات الجسد في إطار تفاعلاته في الحياة اليومية، أو بدراسات تتعلق بالخطابات والمحتويات حول الجسد، وما بالك إذا تحدثنا عن الدراسات المقارنة مثلما هو الحال للموضوع الذي أشتغل عليه؛ حيث كم الأبحاث يظل محتشما، بل وشبه غائب. وعلى هذا الأساس، فأهمية هذه الدراسة تكمن في كونها تتناول موضوعا قليل التداول في الدراسات الإنسانية، وذلك للخصوصية التي يتمتع بها هذا الكيان.
أهداف البحث:
تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن مستويات حضور الجسد الإنساني داخل الخطاب الديني لكل من المسيحية والإسلام من خلال الدراسة التطبيقية للنصوص الدينية (الكتاب المقدس، القرآن، الحديث النبوي…). وتتحدد أهداف البحث في التالي:
- إظهار مختلف النصوص المتعلقة بالجسد في المسيحية والإسلام.
- استنطاق مختلف المعاني والدلالات الظاهرة والخفية في النصوص الدينية المسيحية والإسلامية عن الجسد.
- التعرف على نظرة الخطاب الديني للجسد الإنساني.
- التطلع إلى التحديدات الدينية للجسد الإنساني.
- الكشف عن حدود المباح والممنوع عندما يتعلق الأمر بالجسد واستعمالاته.
- إبراز أوجه التشابه والاختلاف بين المنظورين المسيحي والإسلامي حول الجسد الإنساني.
- المساهمة في تأسيس تراكم نظري وميداني في حقل سوسيولوجيا الجسد.
منهجية البحث:
لقد تم استخدام منهجين في هذه الدراسة، الأول: المنهج التحليلي إذ حاولنا من خلاله تحليل النصوص الدينية لكل من المسيحية والإسلام (الكتاب المقدس، القرآن، الحديث النبوي…). أما الثاني فهو المنهج المقارن الذي سعينا من خلاله إلى تعيين الحدود بين المنظورين الدينيين المسيحي والإسلامي بخصوص مسألة الجسد.
أولا: التصور المسيحي للجسد
الحديث عن تصور الدين المسيحي حول الجسد، يدفعنا إلى الحديث عن التراكمات المعرفية السابقة على ظهور المسيحية، وأقصد هنا؛ الإرث الفلسفي اليوناني، خاصة التصور المثالي الأفلاطوني حول الجسد، بحيث كان لهذا التصور أثر كبير في أفكار رجال الدين المسيحيين. ضمن هذا السياق، وبالعودة إلى التصور الأفلاطوني للجسد، وبالتحديد إلى محاورته “فيدون”، التي يتحدث فيها أفلاطون على لسان أستاذه سقراط خلود النفس والروح، مقابل فناء الجسد وزواله، ودعا إلى التقليل من الاهتمام بالجسد حتى تتمكن الروح من الخلود[2].وعلى هذا الأساس فالجسد الأفلاطوني ليس سوى سجن عقابي للروح. وهو التصور الذي سيكون له امتداد مع الديانة المسيحية التي تصورت الجسد في ارتباط وثيق بجسد المسيح، ومن ثمة فالجسد المسيحي يتميز بالتقشف والقمع والتهميش لارتباطه بالخطيئة، وذلك عكس الروح، ويظل جسد المسيح هو رمز التخلص من الخطيئة الملتصقة به.
ولا شك أن الإمساك بتلابيب التصور المسيحي للجسد وفهمه، يمر عبر معالجة دلالات الخطاب التي تستند مباشرة إلى تأويل مخصوص لنصوص الكتاب المقدس المتعلقة بمسألة الجسد.
فما الجسد في الكتاب المقدس وما الدلالة التي يحملها؟
- الجسد في الكتاب المقدس أي دلالات؟
وردت عبارة جسد في غير ما سفر من أسفار “الكتاب المقدس”، يمكن الإشارة إليها كما يلي:
- “أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟”[3].
في هذه الآية واضح أن الكتاب المقدس يدعو إلى التعامل مع الجسد كما لو أنه هيكل للروح القدس، أي هيكل للرب، فجسد الإنسان ليس ملكا له، إنه يستضيف حضور الرب ذاته، ومن ثم فإن الجسد له قيمة عليا وعلى الإنسان أن يهتم بهذا الجسد من خلال تنظيفه وتطهيره.
- “لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ”[4].
كما هو ملاحظ فالكتاب المقدس يعتبر أن اهتمام الجسد هو موت، أي أن الجسد معرض للزوال والفناء، وكل مهتم به سيتعرض للزوال بدوره، في مقابل الروح الأزلي الذي هو أصل الحياة والسلام.
- “اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ، عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ”[5].
واضح أن الآية تضع تعارضا بين الجسد والروح، أو بالأحرى الجسد هو ضد الروح، لذلك كانت الدعوة إلى اتباع طريق الروح باعتباره رمزا للمحبة والفرح والسلام واللطف والصلاح والإيمان… وعدم اتباع شهوات الجسد، ما دام أن هذا الأخير يشتهي ضد الروح.
- “بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا”[6].
يتضح من خلال هذه الآية أن المؤمن الذي لا يقمع جسده ويستعبده سيصبح مرفوضا، لذلك تم التشديد على أهمية قمع الجسد لكيلا يهلك ويرفض.
- “لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً”[7].
ففي هذه الآية استمرار الكتاب المقدس في تفضيله للروح على الجسد، وذلك حينما أورد أن كل من يهتم بشهوات الجسد ونزواته فلن يحصد منها إلا الفساد، أما من يهتم بالروح، أي من يعمل وفق الهدف الأسمى الذي خلقه الله من أجله فسوف يحصد حياة أبدية.
- “فَالَّذِينَ هُمْ فِي الْجَسَدِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُرْضُوا اللهَ”[8].
من خلال الآية فالذين يعيشون في الجسد، أي الذين يسعون وراء الملذات الجسدية ويتبعون رغبات الجسد وشهواته لا يستطيعون أن يرضوا الله، بمعنى أنه لا يمكنهم أن يسعوا وراء مرضاة الله.
- “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَادًا”[9].
يتضح من الآية أن جسد المؤمن هو جزء من جسد المسيح، وبذلك فلا يحق له التصرف في هذا الجسد كما يريد، فلابد أن تكون له سلطة على هذا الجسد لا أن يتبعه في أهوائه ورغباته.
- “وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ”[10].
يتبين من خلال هذه الآية؛ أن المؤمن بالمسيح، يجب أن يصلب الجسد وشهواته، بمعنى أن الإنسان المسيحي يجب أن يقبل بالصليب كمعيار حياة، وبالتالي أن يحيا مصلوبا عن العالم ويعيش عيشة منفصلة عن أهواء الجسد وشهواته وملذاته.
- “لأَنَّنَا نَحْنُ الْخِتَانَ، الَّذِينَ نَعْبُدُ اللهَ بِالرُّوحِ، وَنَفْتَخِرُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، وَلاَ نَتَّكِلُ عَلَى الْجَسَدِ”[11].
وفي هذه الآية أيضا إعلاء من قيمة الروح على حساب الجسد، بحيث أن كلمة ختان في الآية ترمز إلى الموت عن الجسد، فإذا الختان الجسدي يعني قطع اللحمة الزائدة عند الذكور، فإن الختان الروحي هي مرتبة يصل إليها المؤمن المسيحي الحقيقي الذي سكن فيه الروح القدس.
نستخلص مما تقدم، أن كل الأسفار التي وردت فيها عبارة “الجسد” في الكتاب المقدس، تذهب في اتجاه قمع الجسد وكبث شهواته ورغباته، بل ذهبت أحيانا إلى تحقيره وإهانته من خلال إخصائه وصلبه. في مقابل الإعلاء من قيمة الروح ومكانتها باعتبارها سبيل الخلاص من خطيئة الجسد الأولى. فتطهير الجسد من الخطيئة يمر عبر قمع رغباته وشهواته، وتحرير الروح منه، والإكثار من التنسك والصوم والزهد.
ويمكن تبسيط نظرة المسيحية لعلاقة الجسد بالروح من خلال الجدول الآتي:
الروح | الجسد |
نفس | مادة |
خالد | زائل |
فائقة | دنيوية |
ذكر | أنثى |
طاهر | نجس |
الصلاة، الزهد | غفران حسي |
يتضح من خلال الجدول أن العلاقة بين الجسد والروح عند المسيحية تظل ثنائية الاتجاه، وتنظر إليهما كعنصرين متناقضين، فالروح هي شيء خالد وغير مادي، كما أنها تمثل الجانب الطاهر في الإنسان، في حين يشكل الجسد الجانب المدنس في الإنسان، وهو عنصر مادي، دنيوي، ويمثل مصدر الخطيئة. لذلك فالمسيحية تميل إلى الروح وتهمش الجسد.
توافقت نظرة الدين المسيحي حول الجسد مع تصور “القديس أوغسطين”، فالمطلع على كتاب “الاعترافات” الذي قدمه “أوغسطين”، يجد أنه يحاول أن يقدم وصفا لرحلة التطور الإيماني. فمن خلال التدرج من الخطيئة إلى الفضيلة، فإن الذات تتحرر من خطيئتها حينما تستمتع بالإذلال والقهر والاضطهاد وتعذيب الجسد الذي يكون هو الحاوي للروح وسجنها.
يرى أوغسطين أن النفس هي الجوهر غير المادي الذي يتباين عن البدن، والذي فيه يلعب التفكير دورا محوريا في عملية الإدراك، وهو ما يجعل النفس مرهونة بوجود الفكر، إذ يكون جوهرها ماهية حسية ذا صفة طينية. إنه حسب ذلك فإن النفس هي الإنسان الباطني، وأن الجسم هو الإنسان من الناحية الظاهرية.
كما توافقت نظرية أوغسطين، مع التصور الأفلاطوني، يتمثل ذلك في التقسيم الذي وضعه للعالم، ففي كتابه الأساسي “مدينة الله”، تحدث أوغسطين عن عالمين: عالم الحس وهو عالم البشر وهو عالم غير مطهّر، والعالم المطهّر وهو عالم الكنيسة وهو أيضا عالم الروح، أو بتعبير أوغسطين عالم الرب وعالم الشيطان. حيث يرى أنه بسبب الخطيئة الأولى انقسم العالم أي أصبح هناك “نظام مختص بأناس يعيشون حسب الجسد، وآخر مختص بأناس يعيشون حسب الله، فإحداهما مهيأة أن تعيش إلى الأبد مع الله، والأخرى تعيش العذاب مع إبليس[12].فكل شخص حسب أوغسطين لديه حرية الاختيار والعيش في إحدى المدينتين، إما أن يعيش في مدينة متعالية عن شروط الجسد ورغباته، أو في المدينة الأرضية ومن ثمة الانغماس في الملذات والشهوات. وهي فكرة تحاكي أطروحة أفلاطون القائلة بوجود عالمين: عالم المثل وهو عالم الحقيقة، والعالم المادي أو الحسي وهو عالم الوهم. وهي الفكرة التي من خلالها همش أفلاطون الجسد باعتباره مكونا ماديا، في حين أولى النفس مكانة أعلى وأسمى.
بناء على ما تقدم، فالإنسان وفق تصور أوغسطين، مكون من عنصرين؛ عنصر الروح وعنصر الجسد، لذا فهو ينتمي إلى وطنين أولهما الأرض والآخر السماء. بمعنى أن الإنسان يتكون من جانبين روحي وجسدي فالروحي يميل إلى مدينة الله، والجسدي يميل إلى مدينة الشيطان (نفسه)، وبذلك فالجسد حسب أوغسطين هو مصدر الشر في العالم، ومن ثمة دعا إلى كبح الرغبات والميول الجسدية. وهي الفكرة التي دافعت عنها المسيحية بشكل صريح، حيث أكدت أن الجسد هو مصدر الخطيئة، وأن الخلاص الحقيقي، أو التطهر الحقيقي؛ يكون بالخلاص من الجسد الذي يمثل أساس الشرور الموجودة في هذا العالم.
وبخلاف ما تقدم، فإن “توما الأكويني” يقدم طرحا مختلفا لعلاقة النفس بالجسد، فيرى أنهما متحدان في الحياة، أما بعد الموت، فإنهما يفترقان، حيث يفنى الجسد وتبقى النفس خالدة. وقد عالج ذلك في مجموعة من كتاباته، منها: “شرح لكتاب النفس الأرسطي”، “الخلاصة اللاهوتية”…
يرى الأكويني أن النفس غير مستقلة عن الجسد، كما قالت بذلك الأفلاطونية والمسيحية، بل إنها صورة الجسد وتؤلف معه وحدة متكاملة، يقول توما الأكويني: ” إن النفس جوهر ناقص، وليس من الممكن تصورها دون البدن…والإنسان مؤلف من مادة وصورة، أي من جسد وروح متكاملين…”[13]. يتضح من خلال ما تقدم، أن توما الأكويني يعرف النفس بأنها هي جوهر الإنسان، لكنها مرتبطة بالجسد، فلا يمكن أن تكتمل من دونه، وباتحادهما تتحقق ماهية الإنسان. وبهذا الطرح يكون الأكويني قد توافق مع تصور أرسطو، الذي أكد على أن النفس هي صورة الجسد، ويكونان معا وحدة متكاملة.
نستشف مما تقدم، أن الجسد والنفس حسب توما الأكويني، ليسا ثنائية منفصلة، بل يشكلان وحدة متصلة، رغم أنه يؤكد انفصالهما خلال لحظة الموت، لكنه يرى أن البعث سيكون بالأرواح والأجساد معا. وبالعودة إلى لحظة الانفصال، أكد الأكويني أنه عندما يموت الجسد لا تموت معه النفس، فهذه الأخيرة هي جوهر عاقل قائم بذاته ولا يفنى بفناء الجسد، فهي غير قابلة للفساد، بل إنها عنصر خالد، وخلودها هذا صادر عن ماهيتها.
انطلاقا مما سبق، بوسعنا القول، أن تصور توما الأكويني بخصوص علاقة النفس بالجسد، ذو طابع تركيبي؛ بحيث أنه يوافق أرسطو من ناحية كون الجسد والنفس يكونان وحدة متصلة وغير منفصلة، كما يوافق طرح الأفلاطونية والمسيحية أيضا من خلال برهنته على خلود النفس.
نستنتج بناء على ما سبق، أن الفكر المسيحي ينظر إلى الجسد الإنساني نظرة سلبية؛ باعتباره مصدر كل الشرور، إنه يمثل مصدر الخطيئة الأولى، في حين تم النظر إلى الروح نظرة إيجابية، لأنه هو طريق الخلاص من خطيئة الجسد، وسبيل السمو الرباني. وكما هو ملاحظ كان لتصور المسيحية حول الجسد في العصور الوسطى، تأثير واضح على تصورات الفلاسفة آنذاك، ومادام أن نظرة المسيحية حول الجسد تأثرت بنظرة الفلسفة اليونانية، فقد مس هذا التأثر نظريات الفلاسفة، فمنهم من كان أفلاطونيا كالقديس أوغسطين ومن هم من كان أرسطيا كالقديس توما الأكويني.
ثانيا: التصور الإسلامي للجسد:
يعد موضوع الجسد من أكثر المواضيع إثارة للاهتمام والنقاش داخل الإسلام، قد يعود ذلك إلى كثرة المحاذير التي أحيط بها بوصفه موضوعا شرعيا، وضمن هذا السياق أثيرت العديد من الإشكالات حول مسألة الجسد، من قبيل؛ علاقة الروح بالجسد والنفس، ومسألة المصير الذي ينتظر الروح بعد فناء الجسد، وغيرها. فاختلفت الرؤى والإجابات حول هذه الإشكالات. و في هذا السياق لا يمكن أن نغفل ما رسمه القرآن والحديث النبوي للجسد، وكذا التأويلات التي خلفتها النصوص المؤسسة للإسلام، بناء على ثنائية الجسد والروح.
ولضبط وتفكيك الآليات النصية التي تحكمت في الجسد ارتأينا الرجوع بهذا الأخير إلى النص القرآني والسنة، باعتبارهما المؤطران الأساسيان للتشريع الإسلامي.
وعلى هذا الأساس، وبالعودة للقرآن والحديث النبوي؛ نجد أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المخصصة للجسد، تبقى محدودة رغم أن الخطاب القرآني جاء موجها بالدرجة الأولى للإنسان. ومن بين الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة “جسد” بشكل صريح؛ نذكر:
- “وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ من حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا له خُوَارٌ ألم يَرَوْا أنه لا يُكَلّمهم ولا يَهْدِيهِمْ سبيلا اتَّخَذُوهُ وكانوا ظالِمِينَ”[14]. والجسد هنا هو الذي لا يعقل ولا يميز.
- “وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وما كانوا خالدين”[15].أي وما جعلناهم ذوي أجساد إلا ليأكلوا الطعام.
نستخلص من هذه الآيات القرآنية التي ذكر فيها الجسد بطريقة صريحة بعض الخاصيات التي تميز الجسد في القرآن: أولها الخصاص، فالجسد في حاجة دائمة للتغذية للحفاظ على الحياة. الخاصية الثانية هي أن الجسد كنقيض للعقل هو أبعد ما يكون أن يهدي أو أن يهتدى به. والخاصية الثالثة هي أن الجسد دلالة على الشر المتجسد في رمز الشيطان. لهذا يوصى الإنسان بالبسملة حين القيام بأي شيء ما، كدلالة على طرد الشيطان. فذكر الله تغييب للشيطان[16].هذا ما يؤكده أيضا الحديث النبوي التالي: “يا غلام سمّ الله وكل بيمينك، وكل مما يليك”[17]. وهذا يجعلنا إزاء فكر متمركز حول ثنائيات الخير والشر والصواب والخطأ، الروح والجسد باعتبارها ثنائيات كانت حاضرة في جميع الثقافات الإنسانية ما قبل الديانات التوحيدية.
ومن جهة أخرى، فإن نحن افترضنا أن الخطاب القرآني أولى للروح أهمية خاصة مقارنة بالجسد، فذلك لأن العلاقة المفترضة بين الإنسان والله مبنية على نظافة وطهارة الجسد، لكي يقابل الله (في الصلاة مثلا أو غيرها من الشعائر الدينية الأخرى)، وهذا لا يعني احتقار الجسد كما حدث في المسيحية، فالجسد ليس محتقرا في النص القرآني وإنما هو ناقص وهذا ما أبقاه مكبوتا في الثقافة الإسلامية.
نلاحظ أيضا أن الجسد في الإسلام لا يمكن أن يفهم إلا من خلال مجموعة من الوضعيات (الجسد المتحرك، الجسد المتجه للصلاة، المتجه للحرب، الجسد الصائم، في الحياة اليومية…). فالصلاة مثلا تقتضي الوضوء والطهارة خمس مرات في اليوم على الأقل:
- “يا أَيها الدين آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَيْن وإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وإن كُنتُم مرضى أو على سفر أو جاء أَحَدٌ منكم من الْغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وأَيْدِيكُم منه ما يرِيد اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم من حَرَجٍ ولكن يرِيد لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون”[18].
واضح أن الإسلام خص تشريعا خاصا لطهارة الجسد، خاصة في لحظة لقائه مع الله (الصلاة)، حيث ينبغي أن يكون المؤمن في كامل نقائه أمام الله. وإذا كانت الصلاة فرصة للتوجه إلى الله لإراحة النفس فهي أيضا مناسبة لتطويع الجسد من أجل ضمان الانسجام الروحي والجسدي[19]. ويتجلى الاهتمام بضبط الجسد أيضا في اللباس، فلم يترك هذا الأخير للصدفة، وهذا تؤكده الآية الآتية :
- “يا بني آدم خذوا زينَتَكُم عند كل مَسْجِدٍ وكلُوا واشربوا ولا تُسْرِفُوا إنه لَا يُحِب الْمُسْرِفِينَ”[20].
كما اهتم القرآن أيضا بمسألة العلاقة بين الأجساد، أي بين الجسد الأنثوي والجسد الذكوري:
- “نِسَاؤُكُم حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُم أَنَّى شِئْتُم وَقَدِّموا لِأَنْفُسِكُم وَاتَّقوا اللَّهَ وَاعْلَموا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ”[21].
- “وَإِن خِفْتُم أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَاب لَكُم مِّن النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاع فَإِن خِفْتُم أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة أَوْ مَا مَلَكَت أَيْمَانُكُم ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا”[22].
وكذلك تنظيم العلاقات بين هذه الأجساد في الحياة اليومية:
- “قل للْمؤمنِين يَغُضُّوا من أَبصارِهم وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلك أَزكى لَهم إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بما يَصْنَعُونَ”[23].
- ” قل للْمؤمنِات يَغضضن من أَبصارِهم وَيَحْفَظُن فُرُوجَهُن ولا يبدين زينَتَهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينَتَهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الدين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينَتَهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”[24].
يتبين من خلال الآيتين، أن المؤمن لا يملك حرية التصرف في جسده، بل يجب أن يضبطه ويتحكم فيه، فكما هو مبين في الآيتين؛ هناك دعوة صريحة لغض البصر، وكذلك دعوة لوضع مسافة بين الأجساد الأنثوية والذكورية، بالإضافة إلى المسافة الموضوعية من خلال اللباس. علاوة على عدم التشبه أي منهما بالطرف الآخر، كما يوضح ذلك الحديث النبوي التالي:
- “لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء”[25].
وفي سياق الحديث عن الجسد الأنثوي هنا، بوسعنا القول، أن الإسلام خص جسد المرأة بتشريعات خاصة تؤطر حضوره في الفضاء العام، وفي هذا الصدد نجد أن كلمة “العورة” مرتبطة أساسا ببروز الجسد الأنثوي كمصدر للإثارة أمام الآخر، بل إن ملامسة هذا الجسد قد ينقض طهارة جسد الرجل، لذلك تم نص العديد من التشريعات الدينية التي تضبط السلوك الجسدي الأنثوي وتحد من تصرفاته. ولعل هذا ما تؤكده الآيات والأحاديث التالية:
- “يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما”[26].
- “وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ”[27].
- “قل للْمؤمنِات يَغضضن من أَبصارِهم وَيَحْفَظُن فُرُوجَهُن ولا يبدين زينَتَهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينَتَهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الدين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينَتَهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”[28].
- “ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين”[29].
- “لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله”[30].
- “إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا فإنه أنشط في العود”[31].
واضح أن هناك العديد المفارقات فيما يخص المساواة الجسدية بين الجسد الأنثوي والذكوري في الإسلام، فإذا كان الذكر والأنثى مدعوان ويتشاركان نفس الوعي بضرورة حفظ الأجزاء الحساسة من جسديهما والتي تتمثل في الأعضاء التناسلية، فمجالات الطابو عند الذكر تتركز على الجزء السفلي من الجسد – تحت السرة وفوق الركبة- أما بالنسبة للأنثى فالجسد في شموليته يمثل “عورة” لأنه يحمل إيحاءات جنسية، وأي إظهار له يعتبر بمثابة “عري”، لذلك تم تشريع الحجاب باعتباره جلد ثاني للأنثى.
يتضح إذن، أن الإسلام سعى إلى تدبير الجسد الإنساني عبر تطويعه وإخضاعه، فقد صاغ مجموعة من التشريعات التي ترسم للفرد كيفية التعامل مع جسده والتصرف فيه، وتحثه على الاهتمام به سواء في العبادات أو في المعاملات، في البيت أو في الخارج، في علاقة الجسد بذاته، أو في علاقته بالآخرين، في المسجد أو في أمكنة أخرى. بل دعا الإسلام إلى الاهتمام بالجسد حتى في أدق جزئياته (التبول، التغوط، النظافة، الطهارة، النكاح، اللباس، الصلاة، الصوم وغيرها). وفي هذا السياق يمكننا القول، أن جسد الرسول يشكل عموما النموذج الجسدي/ المثال الواجب اتباعه. إنه النموذج الذي يحدد جسد المسلم وفق مجموعة من الطقوس والشعائر، وما على المسلم سوى الامتثال للأوامر الإلهية وتنفيذها دون مساءلتها أو البحث في ماهيتها.
يمكننا الحديث بهذا المعنى إذن عن تشريع سياسي للجسد، تتجلى أساسا في انضباطه التام لهذه السلطة الدينية، فإذا زاغ وانفلت من هذا الانضباط فإن مصيره العقاب. وهكذا وجب تقنين الجسد كي لا يكون فريسة للفوضى ومسكنا للشهوة والشيطان الذي يجري حسب المعتقد في الإنسان مجرى الدم. “إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم”. (صحيح مسلم).
يمكننا القول، أن هذا التدبير الديني للجسد يهدف بالأساس إلى الحفاظ على ديمومة واستمرارية المقدس.
خاتمة:
لقد حاولنا من خلال هذه الدراسة تحليل طبيعة العلاقة القائمة بين الجسد والفكر الديني، أو بالأحرى تسليط الضوء على الجسد الإنساني في الخطاب الديني، وتحديدا داخل الديانتين المسيحية والإسلام، وفي هذا السياق قمنا بالعودة إلى النصوص الدينية المؤطرة للديانتين التي تناولت الجسد، أقصد؛ الكتاب المقدس وكتابات الآباء المسيحيين بالنسبة للمسيحية، والقرآن والأحاديث النبوية بالنسبة للإسلام، باعتبار هذه النصوص مؤطر أساسي للتشريع الديني حول الإنسان بشكل عام، والجسد بشكل خاص. وفي هذا الصدد استخلصنا عدة نتائج هامة تمحورت في أن مفاهيم وتصورات الديانتين حول الجسد جاءت مختلفة نسبيا، فكل خطاب من هذه الخطابات تناوله وفق منظوره الأخلاقي والميتافيزيقي. فإذا كان الفكر المسيحي قد قلل من مكانة وقيمة الجسد، حيث نظرت الكنيسة إليه على أنه مولد الشر، وعين الخطيئة عكس الروح، نظرا لسيادة الفكر اللاهوتي خلال العصر الوسيط، وقد بلغ هذا القمع أشده بالنسبة للجسد الأنثوي الذي ارتبط في المسيحية بخطيئة حواء الأولى. لذلك يمكن القول أن هناك لا مساواة جسدية، بحيث تتمثل المسيحية الجسد الأنثوي في مرتبة دون مرتبة الجسد الذكوري. فإن الإسلام بدوره أعطى الجسد مرتبة أدنى من الروح والنفس، وسعى إلى تطويعه وتدبيره دينيا واجتماعيا… وركز على البعد العباداتي، أي اهتم بجسد المؤمن وعلاقاته التعبدية بالخالق وكذا روابطه الاجتماعية. وعندما يتعلق الأمر بالجسد الأنثوي فنجد أن التصور الإسلامي يختلف في هذا الشأن عن نضيره المسيحي، صحيح أن الجسد الأنثوي هو أكثر تقنينا وخضوعا لمسألة المراقبة والضبط، مقارنة بالجسد الذكوري، لكن لم نعثر على آيات قرآنية أو أحاديث نبوية تبخس من قيمته أو تحتقره.
قائمة المراجع:
- أوغسطين، (2007)، مدينة الله، ترجمة: الخوري يوحنا لحلو، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، ج.
- تيبس يوسف، (2009)، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 37.
- الزاهي فريد، (1999)، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء.
- الغزالي أبو حامد، (2005)، إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى.
- قاسم محمود، (1962)، في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة.
- MONTAGNE R,(1930),Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc, Paris : Félix Alcan.
[1]عَرَفَت سنة 1930 ميلاد أول بحث سوسيولوجي يَهُمُّ المغرب، من إنجاز الفرنسي روبير مونطاني تحت عنوان “البربر والمخزن بجنوب المغرب”:
MONTAGNE Robert, Les Berbères et le Makhzen dans le sud du Maroc, Paris : Félix Alcan, 1930, 427 p.
[2]تيبس يوسف، (2009)، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر، العدد: 4، المجلد: 37، ص40.
[3]الكتاب المقدس، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 6: 19.
[4] نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، الإصحاح 8: 6.
[5]نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطة، الإصحاح5: 16.
[6]نفسه، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 9: 27.
[7]نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطة، الإصحاح6: 8.
[8]نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، الإصحاح 8: 8.
[9]نفسه، رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح 12: 27.
[10] نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطة، الإصحاح5: 24.
[11]نفسه، رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 3: 3.
[12]أوغسطين، (2007)، مدينة الله، ترجمة: الخوري يوحنا لحلو، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، ج2،ص215.
[13]قاسم محمود، (1962)، في النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثالثة، ص161.
[14] القرآن، سورة الأعراف، الآية 148.
[15] نفسه، سورة الأنبياء، الآية 8.
[16]الغزالي أبو حامد، (2005)، إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ص196.
[17]رواه عمر بن أبي سلمة، وأخرجه أبو داود والترمذي، صحيح الجامع، ص251.
[18] القرآن، سورة المائدة الآية 6.
[19]الزاهي فريد، (1999)، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص46.
[20] القرآن، سورة الأعراف، الآية 31.
[21] نفسه، سورة البقرة، الآية 223.
[22] نفسه، سورة النساء، الآية 3.
[23] نفسه، سورة النور، الآية 30.
[24] نفسه، الآية 31.
[25]رواه البخاري من حديث ابن عباس، (1936)،المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، ليدن، مطبعة بريل، ج6، ص123.
[26] القرآن، سورة الأحزاب، الآية 59.
[27] نفسه، الآية 53.
[28]نفسه، سورة النور، الآية 31.
[29]نفسه، سورة البقرة، الآية 222.
[30]حديث نبوي، أخرجه البخاري في صحيحه، فتح الباري، كتاب التفسير، حديث رقم 4886.
[31]أخرجه الترمذي وابن ماجه، المعجم المفهرس، ج1، ص9.