اللّغة العربية في زمن العولمة: الحال والحلول
The Arabic language in the era of globalization: (case and solutions)
د. مولاي أحمد رضا/جامعة محمد الخامس الرباط، المغرب
Dr.Moulay Ahmed Rida/ University Mohmmed V/Rabat/Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 79 الصفحة 129.
ملخص:
يعدُّ التفكير في حال ومستقبل اللغة العربية أمراً بالغ الأهمية في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، له صلة وثيقة بسيادة الأمة العربية الإسلامية على ثقافتها وفكرها. فبالمعنى الشامل ليست اللغة مجرد قضية لغوية وأدبية وثقافية فقط، بل تخضع لتقلبات الزمن نتيجةً للتطورات التي تقع، وللمتغيّرات التي تحدث.
وتهدف هذه المقالة إلى الكشف عن تأثر اللغة العربية بالأشياء المحيطة بها، وحالها المزري أمام تعاظم المشاكل والتحديات الكثيرة التي تواجهها من جراء الاندفاع الغير مدروس نحو العولمة خاصة إن لم توجد قوانين رادعة لحفظ اللغة.
الكلمات المفتاحية: اللغة، اللغة العربية، العولمة.
Abstract :
Thinking about the state and future of the Arabic language is crucial in contemporary Arab-Islamic thought, and is closely related to the sovereignty of the Arab-Islamic nation over its culture and thinking. In a comprehensive sense, language is not only a linguistic, literary and cultural issue, but is subject to the vicissitudes of time as a result of developments and changes.
This article aims to reveal that the Arabic language is affected by the things surrounding it, and its dire state in the face of the growing problems and challenges it faces as a result of the ill-considered rush to globalization, especially if there are no deterrent laws for the preservation of the language.
Key words: Language, Arabic, Globalization.
تقديم:
تعبر اللغة وعاءً للفكر والثقافة العربية وللحضارة الإسلامية، وأداة الاتصال بين الماضي والحاضر، ولا يستطيع الإنسان مهما كان أن يقف على كنوز الفكر الإنساني من تاريخ وشعر ونثر بدون اللغة. فاللغة لها وظائف للفرد ووظائف للمجتمع، وهي جزء لا يتجزأ من السيادة، والحفاظ على اللغة هو حماية لهذه السيادة .وتعد لغتنا العربية من الثوابت الأساسية للأمة العربية الإسلامية، فهي رمز هويتها، وأداة إبداعاتها الفنية، ومعْلَم من معالم النتاج الفكري والأدبي، كما أنها وسيلة من وسائل التواصل بين الأفراد، وهمزة وصل فعالة في بوتقة المجتمع وصهر جميع أفراده من أجل تحقيق كيان الأمة، والسير بها قدماً إلى مصاف الدول المتقدمة، والوقوف بها على عتبات التاريخ شامخة قديماً وحديثاً. بيد أن هذه اللغة تعيش اليوم، أكثر من ذي قبل، أخطاراً وتحديات تتفاقم باطراد، تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة العالم الجديد متعدّد الأقطاب والمراكز والثقافات.
ومن أهم التحديات التي تواجه اللغة العربية ظاهرة العولمة، التي تعد من أهم الحروب الممنهجة على جميع اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية، والتي تعني سرعة تدفق اللغة الأقوى التي تملك مقوّمات القوة والهيمنة والسيطرة على اللغات الأخرى، بسب التطور السريع لوسائل الإعلام والاتصال.
- مفاهيم أولية: اللغة والعولمة:
- تعريف اللغة:
تعددت التعاريف التي أعطيت للغة حسب العلوم التي اهتمت بدراستها، فهي موضوع مشترك للعديد من العلوم كاللسانيات والأدب وعلم النفس وغيرها، ومن بين التعاريف ما يلي:
جاء في لسان العرب: اللغة: اللٍّسْنُ .. وأصلها لُغْوة على وزن فُعلة من لَغا إذا تكلم، ولغوت إذا تكلمت، والجمع: لُغات ولُغُون، والنسبة: لُغَوِيٌّ[1].
وعرف ابن جني اللغة بكونها ” أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”[2]. أما ابن خلدون فيرى ” أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئة عن القصد لإفادة الكلام، فلا بد أن تصير ملكة متفردة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم “[3].
ولم ترد لفظة “لغة” في القرآن الكريم، وإنما ورد مكانها اللسان قال تعالى: ]فإنما يسرناه بلسانك[[4]، وقوله تعالى: ]بلسان عربي مبين[[5] وقوله تعالى: ]فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون[[6].
وهناك من يرى بأن كلمة “لغة” قد تكون مأخوذة من “لوغوس” اليونانية ومعناها كلمة[7].
ويرى البعض أن مفهوم اللغة أشمل وأوسع، إذ لا يقتصر على اللغة المنطوقة، بل يشمل المكتوبة أيضا، والإشارات، والإيماءات، والتعبيرات الوجهية التي تصاحب عادة سلوك الكلام[8].
وأّكد العالم اللغوي السويسري فردينان دي سوسير أن اللغة، والصوت، والمعنى جزء من الكلام. وعّرفها “بأنها نظام من الرموز المختلفة، تشير إلى أفكار مختلفة”[9]. فاللغة نظام صوتي، رمزي، تستخدمه جماعة في التفكير، والتعبير، والاتصال، فهي لا تعبر عن الأفكار فقط بل تشّكلها، والتفكير ليس إلا لغة صامتة – كما يقال – واللغة تولّد الفكر. وهي ظاهرة بشرّية وجدت مع جود الإنسان وهي من مكونات الهوية الثقافية، فهي هوية للناطقين بها وهي نسب المرء إلى أمته، ورمز انتمائه إلى قومه، وهي أداة صنع المجتمع وثقافته، فلا حضارة إنسانية من دون نهضة لغوّية.
ورغم تعدد التعاريف حول مفهوم اللغة إلا أن تعريف اللغة عند ابن جني من التعريفات الدقيقة إلى حد بعيد. بقوله:”حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”، ودقة هذا التعريف تأتي من إحاطته الشاملة للجوانب المميزة للغة. حيث أكد فيه أولا الطبيعة الصوتية للغة، كما ذكر وظيفتها الاجتماعية في التعبير ونقل الفكر، وذكر أيضا أنها تستخدم في مجتمع فلكل قوم لغتهم. ويقول الباحثون المحدثون بتعريفات مختلفة للغة، وتؤكد كل هذه التعريفات الحديثة الطبيعة الصوتية للغة والوظيفة الاجتماعية للغة، وتنوع البنية اللغوية من مجتمع إنساني لآخر.
- تعريف العولمة:
- العولمة لغة:
العولمة مشتقة من كلمة التعولم أو العالميّة أو العالَم، إذاً كلمة “العولمة ” نسبة إلى العَالم- بفتح العين- أي الكون، وليس إلى العِلم -بكسر العين-. وهذه الكلمة بهذه الصيغة الصرفية لم ترد في كلام العرب، والحاجة المعاصرة قد تفرض استعمالها، وهي تدل على تحويل الشيء إلى وضعية أخرى ومعناها: وضع الشيء على مستوى العالم.
ولفظة العولمة هي ترجمة للمصطلح الإنجليزي(Globalization)وباللغة الفرنسية (Mondialization) وبعضهم يترجمها عربياً بالكونية، وبعضهم يترجمه بالكوكبة، وبعضهم بالشوملة، إلا إنه في الآونة الأخيرة اشتهر بين الباحثين مصطلح العولمة وأصبح هو أكثر الترجمات شيوعاً بين أهل السياسة والاقتصاد والإعلام. وتحليل الكلمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله[10].
ومن خلال المعنى اللغوي يمكننا أن نقول بأنّ العولمة إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني: تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع أي العالم كله[11].
ب- العولمة اصطلاحا:
تعرف العولمة اصطلاحا على أنها توحيد العالم بصبغة واحدة شاملة للجميع ومن جميع النواحي والمجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، بغض النظر عن الدين والعرق والجنسية وكذلك الثقافة.
وقد كثرت الأقوال حول تعريف معنى العولمة حتى أننا لا نجد تعريفاً جامعاً مانعاً يحوي جميع التعريفات وذلك لغموض مفهوم العولمة، ولاختلافات وجهة الباحثين حوله، وسر الخلاف الواقع بين الدارسين في تحديد ماهية العولمة مرده إلى زئبقية هذا المصطلح ، وتغلغله في جميع النواحي والأصعدة، مما أفرز لكل صعيد نوعاً من العولمة، فألفينا العولمة الاقتصادية، والعولمة السياسية، والعولمة الثقافية، والعولمة اللغوية، وغيرها…
ومن هذه التعريفات كونها: ” اصطباغ العالم بصبغة واحدة شاملة لجميع الأقوام وكل من يعيش فيها في ظل توحيد الأنشـطة الاقتصـادية والاجتماعيـة والفكرية والسياسية دون اعتبارٍ لاختلاف الدين والثقافة والجنسية والعرق”[12].
وأنهـا: “التـداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك دون اعتـدادٍ يـذكر بالحـدود السياسية للدولة ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية”.[13]
ويعرف الدكتور محمد عابد الجابري العولمة بقوله[14]: ” هي العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية على بلدان العالم أجمع”، وهي أيضاً ” أيديولوجياً تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته”. أي محاولة الولايات المتحدة إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويتركز أساسا على عمليتي تحليل وتركيب للكيانات السياسية العالمية، وإعادة صياغتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا وبشريا، وبالطريقة التي تستجيب للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
ويرى صادق جلال العظم أن العولمة هي تسليع كل شيء بصورة أو بأخرى، وفـي كـل مكان، فالعولمة كما يقول هي: “حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء، في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ”[15].
وهو بذلك يرى أن العولمة تحقق الانتصار لنمط معين من إنتـاج الثـروة وتوزيعهـا وتداولها وتبادلها في كل مكان على سطح الكرة الأرضية.
أما عبد الإله بلقزيز[16] فيرى: ” أن العولمة هي الدرجة العليا من درجـات الهيمنـة والتبعيـة الإمبريالية، وتشكل المرحلة النهائية لانتصار النظام الرأسمالي العالمي كونياً”.
وذهب عدد من الكتاب إلى أن العولمة تعني: تعميم نموذج الحضارة الغربية، وخاصة الأمريكية وأنماطها الفكرية والسياسية الاقتصادية والثقافية على العالم كله[17].
هذه التعاريف وغيرها توضح على أن العولمة تسعى إلى جعل العالم قرية موحدة، وصهر جميع المجتمعات في بوتقة واحدة، ومحاولة القضاء على الحواجز والفواصل بين الدول، وتنميط الحياة العامة ضمن قالب واحد، وبالتالي فما هي إلا تكريس للهيمنة و السيطرة من قبل الشعوب القوية الغنية على الشعوب الضعيفة الفقيرة في جميع المجالات.
ومن خلال ذلك نستشف أن العولمة اللغوية ما هي إلا انتشار وسيادة اللغة الأقوى التي تملك مقوّمات القوة والهيمنة والسيطرة على اللغات الأخرى، ونقصد اللغة الانجليزية بسبب التطور السريع لوسائل الاعلام والاتصال، مما أثر سلباً على اللغات الوطنية، وبالتالي طمس الهوية اللغوية للشعوب والحضارات والقضاء على التنوع اللغوي والثقافي في العالم.
- أهمية اللغة العربية:
تعتبر اللغة العربية ركناً أساسياً من أركان وحدة أمتنا العربية والإسلامية، وعموداً محوريا من أعمدة قوتها، إنها دعامة بقاء وعنصر تفوق لهذه الأمة. وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية فعندما أوحى الله عز وجل وعلى رسالته إلى رسوله الكريم محمد(ص) انزلها قرآنا عربيا والله يقول لنبيه (ص): ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾[18].
وتستمد اللغة العربية قيمتها، فضلا عن أنها لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، من أنها الوعاء الذي يجمع تراثنا الفكري والحضاري. وقد أصبحت بفضل الله ثم القرآن الكريم والحضارة الإسلامية وجهود علماء المسلمين على مر العصور، في مقدمة لغات العالم الحية، مما لها من حضارة خاصة ساعدت على بقائها وانتقالها من جيل إلى جيل واكتسبت بذلك ملامح مميزة.
إن اللغة عموما والعربية على وجه التحديد، ليست مجرد أداة للتواصل فقط بل هي وعاء للفكر وأساس التفاهم وأداة للجمال، وهي كذلك جزء من هويتنا، ودعامة أساسية من دعامات نهضتنا، وركن متين من أساسات اجتماعنا.
ويمكن أن نتبين أهمية اللغة العربية في كونها:
- لغة مختارة، اختارها خالق اللغات – عز وجل.
- لغة مصطفاة، اصطفاها معدِّدُ الألسنة – جَلَّ جَلالُهُ.
- لغة متميزة، انْفرَدتْ بأشياءَ ليست في غيرها.
- لغة عالمية، استمدت عالميَّتَهَا من عالمية رسالة الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾[19].
- لغة مقدسة، استمدت قدسيتها من قدسية القرآن الكريم.
- لغة محفوظة، تعهد الله – جَلَّ وعَلا – بحفظها في حفظ كتابه حين قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾[20]، ومن حفظ الذكر الحكيم، حفظ أداته التي نزل بها، وفي هذا النّزول تكرِيم للسان العربي، وتشريف للناطقين به؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾[21].
- لغة العبادة، بها يتعامل المسلمون في أمور دينهم سواء كانوا يتكلمونها، أم لا. فقراءة القرآن لا تتم إلا بها، ومعنى هذا أن قراءة القرآن أمر مطالب به كل مسلم على اختلاف جنسه ولونه ولذا كان عليه أن يلم ببعض اللغة العربية[22]. كما أن العربية لغة الصلاة التي يجب أن يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم. وبالتالي تتحقق الغاية التي خلق الله الخلق من أجلها، وهي العبادة، قال – جَلَّ شَأْنُهُ -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾[23].
- لغة الجمال: إن اللغة العربية من أبرز اللغات على الإطلاق وأكثرها جزالةً في الألفاظ وقدرة على استيعاب المعاني الجلية، إذ تُدعى بلغة الضّاد، وهي لغة فضفاضة واسعة المدى والبيان. وتمتاز العربية بما ليس له مثيل من اليسر في استعمال المجاز، وإنما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أفضل اللغات في إيصال المعاني وفي النقل إليها، وفي التعبير عن جمالها وسموها.
ونخلص من ذلك كلّه إلى القول بأن عالمية اللغة العربية لا جدال فيها، وليست في حاجةٍ إلى إثبات؛ لأنها ليست من صنع البشر.
من هنا، فنحن جميعا مدعون إلى العودة إلى تراثنا، واستنطاقه، والغوص في أعماقه، وسبر أغواره من أجل معرفة لغتنا معرفة حقة، والوقوف عند معالم جماليتها، ومكامن الإبداع فيها، ومواطن الإعجاز في اللغة التي شرفها المولى أن تحمل الرسالة الخالدة. وحمايتها مما يحاك ضدها من المكائد للإطاحة بها، ورمي أهلها بالتخلف والتحجر، حتى ينسلخوا عنها، وتطمس بذلك هويتهم، ومن أهم ما يعيقها تحديات العولمة.
- تحديات اللغة العربية في زمن العولمة:
تواجه اللغة العربية اليوم تحديات جمة داخلية وخارجية مثلما ظلت عبر عصور التاريخ المختلفة، وإن كانت تحديات اليوم ذات طبيعة ضارية، لاسيما وأنها تهدف إلى تشويهها، إن لم نقل طمسها، وذلك لأهداف ومآرب ليست بريئة على الإطلاق. وسنحاول تلمس بعضاً من هذه التحديات علنا نضع الأصبع على مكمن الداء بهدف تشخيصه ووضع بعضا من وسائل الرد والردع– إذا صح التعبير –. هذا مع الإشارة إلى أن هذه التحديات تتزايد في زمن العولمة وانتشار وسائل الاتصال واتساعها على نطاق كبير.
- الاستعمار: رأى المستعمرون أن العربية تعدُّ العامل الرئيس في وحدة الأمة العربية واتحاد شعوبها، لذا عملوا على إضعاف لغات الشعوب التي وقعت تحت سيطرتهم. وقد حدث ذلك بشكل بارز في المغرب العربيّ في تعميم اللغة الفرنسية، التي فُرضت عليهم بالقوة، وبشكل جزئي في نشر اللغة الانجليزية في المشرق العربي. وبالرغم من جلاء المستعمر وحصول جل الدول العربية الإسلامية على الاستقلال إلا أن مخلّفاته الامبريالية في مظاهرها المختلفة، ومنها اللغوية-الثقافية، ما زالت حاضرة ومؤثرة بقوّة في الحيّز العربي العام بكل مكوناته.
- تحديات العولمة: تعد العولمة من أهم الحروب الممنهجة على جميع اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية، وسعت وتسعى، بكل ثقلها ووسائلها وآلياتها، إلى تنميط اللغة والثقافة عموما ضمن قالب موحد هو النموذج الغربي المتقدم، أي سرعة تدفق وانتشار وسيادة اللغة الأقوى التي تملك مقوّمات القوة والهيمنة والسيطرة على اللغات الأخرى، بسبب التطور السريع لوسائل الإعلام والاتصال، وهي تحديداً اللغة الإنجليزية. ولو حاولنا معرفة تأثير العولمة على اللغة العربية قد نذهل بالنتائج، فنجد الانتشار الرهيب لبعض الكلمات الأجنبية على حساب اللغة العربية، والأدهى من ذلك انتشار الأسماء الأجنبية على واجهات المحلات التجارية، كما أننا نلاحظ أن اللغة العربية يجري إزاحتها من الحياة اليومية لصالح اللغة الإنجليزية سواء في الكلام أو وسائل الإعلام بل حتى في لغة التعليم، وفي مجال التوظيف… وقد نتج عن ذلك شيوع الكثير من المظاهر الغربية سواء من ناحية الملابس أو الأكل أو السلع الاستهلاكية، وبالتالي لم يقتصر تأثير العولمة على اللغة فقط بل تعداه ليطمس ثقافة بأكملها وضرب هوية أمة بعينها، من خلال الاتجاه نحو تسطيح الوعي واختراق الهوية وتعليب الثقافة[24].
- وسائل الاعلام: إن الإعلام – بما يملك من إمكانات التواصل المذهلة، وبسبب تأثيره البالغ في المتلقين – يمكن أن يكون من أنجع وسائل الازدهار اللُّغوي، وتقريب المسافة بين المواطن العربي ولغته القومية، وإنه لقادرٌ على خدمة اللغة العربية خدمةً لا حدود لها، ولا سيما في عصر ثقافة الاستماع، ثقافة الصورة المصاحبة بالكلمة المنطوقة، واستعلائها على الكلمة المقروءة. بيد أن الواقع الذي تعيشه وسائل الاعلام اليوم يجسد عكس ذلك، حيث ساهمت باختلافها – المكتوبة والمسموعة والمرئية- في إيذاء اللغة العربية والترويج للأفكار والألفاظ التي تحرف كلماتها وتغير معانيها. وقد أدى الابتذال واستخدام ألسنة الممثلين وغيرهم إلى تأثر جماهير أجهزة الإعلام ولاسيما الأجهزة السمعية والبصرية، بما يسمعون ويشاهدون شيوع الكلمات المحرفة والمصطلحات المبتذلة بين هذه الجماهير.
- انتشار العامية: ظهرت بالعالم العربي مجموعة من الأصوات المنادية بترك الفصحى لصالح العامية، لأنها حسب اعتقادهم لا تفي بمتطلبات العصر وهي “لغة الربّ” فقط، وآخرون ادعوا أنها لغة متخلفة. والناظر في الصحف يجد على صفحاتها دعايات إعلانية قد كتبت باللغة العامية المبتذلة. وهذه الإعلانات التي قد كتبت باللغة العامية نراها منتشرة في كل مكان في الصحف والإذاعة والتلفاز وفي اللافتات المنصوبة على جوانب الطرق من قبل مؤسسات الإعلان التي لا هم لها سوى الكسب المادي.
- مقترحات وحلول للنهوض باللغة العربية:
على اعتبار أن اللغة العربية هي لغة القرآن، وذلك الاسمنت الذي يضمن وحدة بنيان الأمة الإسلامية وتلاحمها، وأمام هذا التيار الجارف للعولمة والذي أضر بها، نقدم بعض الحلول التي من شأنها أن تُسْهم من جهة في مواجهة التحديات التي تواجهها في ظل العولمة، ومن جهة أخرى في إغناء هذه اللغة الروحية والسمو وبها لترقى للمرتبة التي شرفها بها الله، لأنها لغة الوحي المنزل على خاتم النبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وخاتم الرسالات الإسلام:
- إعادة تخطيط مناهج تدريس اللغة العربية في سلك التعليم في مراحله المختلفة بقسميه العام والخاص، نظريا وعلى مستوى الممارسة العملية.
- تعريب المناهج العلمية والعملية التطبيقية في كل الفروع العملية والثقافية، والعمل على حرية تنقل الكتاب، ووسائل المعرفة بين البلاد العربية. ورفع الحظر عن ذلك لتعميق الوحدة الثقافية بين البلاد العربية، وتقوية الأواصر بين الناس والمصادر الأصيلة في تلقي اللغة، ومنها الأسرة والمدرسة.
- تعميم استعمالات اللغة العربية السليمة والارتقاء بها في جميع وسائل الإعلام المختلفة، والحرص على فرضها كلغة رسمية حاضرة في البرامج والمسلسلات الدرامية إذاعيا وتلفزيونيا وفي شبكات التواصل الاجتماعي، لأنها اللغة القومية المشتركة بين الشعوب العربية التي تجعل من شعوبها اتحاداً عالمياً أمام التكتلات الأجنبية المهيمنة.
- الحرص على استعمال الفصحى في وسائل الإعلام، وفي المجالات السياسية والدينية والثقافية والعلمية. وتفعيل دورات لغوية للتكوين المستمر للعاملين بجميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تكسبهم المهارة في النطق والأداء الصحيح باللغة العربية السليمة.
- تسهيل مناهج وقواعد تعليم اللغة العربية للناطقين بها من ناحية، ولغير الناطقين بها من ناحية أخرى وعلى وجه الخصوص تلك الشعوب التي تعتنق الدين الإسلامي. ووضعها في كتاب واضح يأخذ بيد محبي العربية إلى الاستعمال اللغوي الصحيح في سهولة ويسر.
- تعميم استعمال اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة، وفي جميع التخصصات: الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة… إلخ. وجعلها مادة إجبارية تدرس في جميع دول العالم الإسلامي؛ لأن اللغة العربية هي الوسيلةُ الوحيدة التي تتم بها العبادة، وتقود الأمة المسلمة إلى الْوحدة التي أُمرت بها.
- أن تكون الفصحى الميسرة هي اللغة المستعملة في برامج الأطفال وبرامج الرسوم المتحركة وفي في مجلات الأطفال حرصاً على التنشئة اللغوية الصحيحة للطفل العربي.
- القضاء على الثنائية اللسانية ( الفصحى و العامية ) لأنها معطل يحول دون نهوض برامج تهدف للارتقاء بالعربية تداولا وتنظيراً.
- توسيع اللغة العربية، بإدخال المصطلحات العلمية والحضارية، ولكن بطريقة علمية، تعتمد النحت والقياس والاشتقاق، فلا تدخل اللفظة إلى اللسان العربي، إلا إذا تزيّنت بالزّي العربي، وانسجمت مع قواعد اللغة العربية .
- تشجيع الترجمة الآلية من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لسد الفجوة العلمية الناتجة عن تضخم الإنتاج العالمي الثقافي بالقياس إلى نظيره العربي. وتسهم الترجمة الآلية إسهاماً فعالاً في تضييق هذه الفجوة بشكل كبير وفي زمن قياسي.
- إنتاج برمجيات الحاسب الآلي المتطورة والقادرة على التعامل مع النص العربي لسهولة تسويقه عبر الشبكات العالمية، وأيضا برمجيات لتيسير الترجمة البينية بين العربية واللغات الأخرى، ليحصل التفاعل الثقافي على أساس العالمية العلمية لا العولمية الغربية.
- وضع خطة لغوية مشتركة تهدف إلى المحافظة على اللغة العربية بوصفها لغة المسلمين القومية ولغة دينهم وتراثهم وحضارتهم، مما يوجب الاعتزاز باستعمالها في مختلف مجالات الحياة العلمية والاجتماعية والثقافيـة.
- استغلال الآثار الإيجابية للعولمة في تطوير اللغة العربية ونشرها، بما في ذلك الوسائل الإلكترونية، والعلاقات التجارية الدولية، والطرق الحديثة في تعليم اللغات الأجنبية وتعلمها، مع التمسك بالقيم الثقافية العربية الإسلامية الأصيلة في إطار التطور التقني والثقافي، والتمسك بالمصطلحات الأصلية المعبرة عنها.
- لا محيد عن إنشاء مؤسسة تختص برعاية اللغة العربية ومتابعة وسائل تحقيق نشرها وتطويرها.
- وأخيراً وليس أخراً، يجب أن نعلم جميعا أن الزمان يتطور وأن الدنيا تتغير وأن التحديات تختلف ما بين زمان وأخر، لذا فإن تحديات اللغة أو الثقافة العربية عموما تختلف من زمن إلى أخر ومن عصر إلى أخر؛ فاللغة كجزء من الثقافة لم تعد مشكلة كتاب أو مجلة أو محطة فضائية بل إنها أصبحت تحتاج إلى جهود المجتمع كله بقطاعاته المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية والعلمية، سواء كانت رسمية أم شعبية ومؤسسات مجتمع مدني وقطاعات خاصة، لتتضافر معا وتسهم في تطوير وبناء النسق المتين لصون اللغة العربية والرقي بها كلغة شرف الله قدرها بشرف وسمو كتابه المبين.
خاتمة:
إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، ولا من التيار الجارف للعولمة التي سعت إلى تنميط اللسان اللغوي بلغة العالم الجديد المهيمن، ولا إلـى عالمها الذي يبدو متخلفاً، ليس ذلك فحسب، بل إن محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسياً أمام الزحـف اللغـوي الـداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية. فاللغة تتفاعل مع المجتمع وتؤثر فيه ويؤثر فيها، إلا أنها تتطور ببطء ولا تموت إلا بموت أهلها .وعلى ضوء ذلك فإن العيب في أبناء اللغة وليس في اللغة، فهم أصحابها وحماتها والمدافعون عنها في جميع المواقع من خلال نشر الوعي بأهميتها وتفعيل دورها، لأنها الأساس الروحي والفكري الذي تُشاد عليه نهضة الأمة الإسلامية ووحدتها وبها تصان هويتها الحضارية.
علينا أن نجعل العولمة نعمة على اللغة العربية تسهّل نشرها وتيسّر تعلمها، وذلك بالاستفادة من المعلوماتي المتسارع في صنــع البرامج التعليميـة وتحسينها، ونشــــر الثقافة وتعميم الفائدة، فبتكنولوجيا العصر يمكن أن ننصر اللغة العربية وبها ننشر الدين الإسلامي ونحمي الهوية، وبها يمكن أن يحدث العكس فتندحر العربية وتتقلص حدودها ويقضى عليها، وهذا ما يصبو إليه صناع العولمة و مهندسوها، فالعولمة سلاح ذو حدين إما أن ندافع به عن أنفسنا و إما أن يقطع لساننا عنوان هويتنا.
والتمسُّك باللغة العربية تمسُّك بكتاب ربنا، فالقرآن عربي، والعربية لغة القرآن، والقرآن كلام الله، وصالح لكل زمان ومكان. قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾[25]، وقال أيضًا ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾[26].
قائمة المصادر والمراجع:
- ابن منظور (محمد بن جلال الدين)، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، المجلد 5، بيروت، 1999.
- ابن جني(أبو الفتح عثمان)،الخصائص،طبعة دار الكتب المصرية، الجزء 1، القاهرة، 1952.
- ابن خلدون(أبو زيد عبد الرحمن)، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000.
- بكر السيد يعقوب بكر، العربية لغة عالمية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1966.
- سور من القرآن الكريم (مريم، الدخان، الأنبياء، الحجر، الشعراء، الذاريات، يوسف، الزمر).
- سهيل حسين الفتلاوي، العولمة وآثارها في الوطن العربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2009.
- صادق جلال العظم، ما هي العولمة؟، دار الفكر، دمشق، .1999
- عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟، مجلة عالم المعرفـة، عدد 4، 1999.
- عبد سعيد عبد إسماعيل، العولمة والعالم الإسلامي. أرقام وحقائق، دار الأندلس، 2001.
- علي أسعد وطفة، التربية العربية والعولمة، مجلة عالم الفكر، العدد 2، المجلد 36، دجنبر 2007.
- فرديناند دي سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي ومجيد النصر، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر، 1986.
- لويس معلوف، المنجد في اللغة،المطبعة الكاتوليكية بيروت، نونبر 2009.
- محمود أحمد السيد، في طرائق تدريس اللغة العربية، دمشق، 1977.
- محمد عابد الجابري، “العولمة والهوية الثقافية”، من مجلةفكر ونقد، العدد 6، فبراير 1998.
- محمد عابد الجابري، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998.
- محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية- عشر أطروحات-، دار المستقبل العربي، بيروت، العدد 228، 1998.
[1]– ابن منظور، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1419ه/1999م، المجلد 5، ص 367.
[2]– ابن جني: الخصائص، دار الكتب المصرية، الجزء 1، 1952، ص 33.
[3]– ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000، ص 1254.
[4]– سورة مريم الآية: 97.
[5]– سورة مريم الآية: 97.
[6]– سورة الدخان الآية: 58.
[7]– لويس معلوف، المنجد في اللغة، المطبعة الكاتوليكية بيروت، نونبر 209، ص726.
[8]– محمود أحمد السيد، في طرائق تدريس اللغة العربية، دمشق 1677، ص11.
[9]– فرديناند دي سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي ومجيد النصر، المؤسسة الجزائرية للطباعة، الجزائر، 1986، ص 29.
[10]– محمد عابد الجابري، “العولمة والهوية الثقافية”، من مجلة فكر ونقد، العدد 6، فبراير 1998، ص. 1.
[11]– محمد عابد الجابري، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998، ص.127.
[12]– سهيل حسين الفتلاوي، العولمة وآثارها في الوطن العربي، دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان،2009 ص..40
[13]– المرجع نفسه، ص. 38.
[14]– محمد عابد الجابري، العولمة والهوية الثقافية- عشر أطروحات-، دار المستقبل العربي، بيروت، العدد 228، 1998م، ص137.
[15]– صادق جلال العظم، ما هي العولمة؟، دار الفكر، دمشق، .1999
[16]– عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة؟، مجلة عالم المعرفـة، عدد 4، سنة 1999.
[17]– عبد سعيد عبد إسماعيل، العولمة والعالم الإسلامي: أرقام وحقائق، دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى، 2001ص. 130.
[18]– سورة مريم، الآية: 97.
[19]– سورة الأنبياء، الآية: 107.
[20]– سورة الحجر، الآية: 9.
[21]– سورة الشعراء، الآية: 192- 195.
[22]– السيد يعقوب بكر، العربية لغة عالمية، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1966، ص.16.
[23]– سورة الذاريات، الآية: 56.
[24]– علي أسعد وطفة، التربية العربية والعولمة، مجلة عالم الفكر، العدد 2، المجلد 36، دجنبر 2007، ص. 343.
[25]– سورة يوسف، الآية: 2.
[26]– سورة الزمر، الآيتين: 27- 28.