العولمة ومباحث الأدب المقارن –الأدب والديدكتيك نموذجا– مقاربة ثقافية مقارنة
globalization and comparative literature aspects Literature and didactic as example Comparative cultural approache
العربي قنديل باحث بمختبر الدراسات المقارنة، جامعة محمد الخامس، الرباط ـ المغرب
Larbi qandil Researcher in comparative studies laboratory, Mohammed five university, rabat ـ Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 71 الصفحة 97.
ملخصشكلت العولمة ظاهرة حضارية مركبة ترفع التحديات في وجه عديد المجالات والمفاهيم الإنسانية. ومن المفاهيم التي فرض عليها مواجهة هذه التحديات: مفهوم الثقافة، ومفهوم الهوية، ومفهوم التربية. وسعيا إلى بنينة هذه التحديات التربوية بشكل ديدكتيكي، ننطلق من أن تدريس الأدب وفق منظور تقني وأحادي يلغي أي حضور لبناء القيم وللتفاعل بينها، بينما يسهم تدريس الأدب وفق منظور جمالي فني مقارِن في بناء القيم الإنسانية المروجة من خلال الأدب عبر آلية التحيين، وكذا المتضمنة في بنيته من خلال تذوق الجمال، والاستمتاع بالقراءة، والانفتاح على الآخر.
كلمات مفتاحية: العولمة- ديدكتيك- الأدب- المقارنة- تربيةabstract
Globalization has been a complex cultural phenomenon that raises challenges in many fields and human concepts such as culture, identity, and education. In order to build these educational challenges in a didactic way, we proceed from the fact that teaching literature according to a technical and unilateral perspective eliminates any presence of values and interaction between them. While, teaching literature contributes an aesthetic comparative artistic perspective to build human values that are promoted through literature throughout the mechanism of revival, as well as embedded in its structure by tasting beauty, enjoying reading, and being open to others.
Keywords : globalization- literature- didactic- comparison- education.
مقدمة
تطرح العولمة عديد التحديات المنبثقة من سياق ظهورها التاريخي الذي وسمها بالسلطوية والامبريالية والسعي نحو التنميط. ولعل من أبرز المفاهيم التي فرض عليها مواجهة هذه التحديات: مفهوم الثقافة، ومفهوم الهوية، ومفهوم التربية. لقد تعدد المفاهيم المقدمة لكل مفهوم بتعدد زاوية النظر التي تحكم كل دارس، ولعل زوايا النظر نفسها ترتبط بمفاهيم التواصل والتراث والعولمة باختلاف السياقات التاريخية. وعليه، نجد أن ثمة اتجاهان في تحديد المفاهيم: أحدهما؛ يسمه الانغلاق في تعريف الثقافة والهوية والتربية، والآخر؛ يطبعه الانفتاح والتعددية والتنوع.
وسعيا إلى تفعيل هذه التصورات بشكل ديدكتيكي، ننطلق من أن تدريس الأدب وفق منظور تقني وأحادي يلغي أي حضور لبناء القيم وللتفاعل بينها، بينما يسهم تدريس الأدب وفق منظور جمالي فني مقارِن في بناء القيم الإنسانية المروجة من خلال الأدب عبر آلية التحيين، وكذا المتضمنة في بنيته من خلال تذوق الجمال، والاستمتاع بالقراءة، والانفتاح على الآخر. إننا نطرح الديدكتيك الالتقائية كسبيل قد يكون ناجعا في تدريس الآداب المختلفة لغة وثقافة بشكل يمكن المتعلم من الوعي بخصوصيته الثقافية من جهة، ويتفاعل مع الثقافات الأخرى من منظور التكافؤ من جهة أخرى. وبذلك، يتحقق مفهوم موسع وشمولي ومتوازن لمصطلح العولمة كحامل لسمات التعدد، لا صفة التنميط.
وبناء على ذلك، نسعى إلى بسط تصورنا لتدريس الأدب في عصر العولمة بمنظور مقارن وفق محورين:
1-المحور الأول: تحديد المفاهيم (العولمة/ الثقافة/ الهوية/ التربية).
2-المحور الثاني: تدريس الأدب التقائيا (التقائية الأدب- التقائية الديدكتيك).
- العولمة وتعالق المفاهيم
أ- الثقافة/ الهوية والعولمة
ارتبطت الدراسات الثقافية بصفة مميزة لها، ألا وهي صفة “الثقافي”. ولعل راهنية “الثقافة” وإلحاح طرحها في المجتمعات المعاصرة التي تعيش ظواهر العولمة والهوية والثقافة والهجرة وغيرها، تجعل هذا النقد مناسبا لطبيعة ومستجدات مجتمعاتنا التي أصبحت محكومة بالاتصال بالآخر. غير أن هذا الاتصال اختلفت دوافعه وتعددت بين السياسي والعسكري والاقتصادي وغيرها؛ حيث إن سياقاته هي التي حددت مظاهره، لأن “التثاقف لا يحدد خارج السياق، الذي يتميز بظروف خاصة بنمط تاريخي (عبودية /استعمار) أو اقتصادي (هجرة) أو سياسي (تبعية الدول). فالتثاقف يختلف باختلاف السياق وعلاقات الهيمنة الواقعية أو الرمزية ” .
وإذا كانت السياقات التاريخية والاقتصادية والسياسية ذات أهمية في حصول التثاقف فإن المعطى الثقافي الحاضن لمختلف تجلياتها جعل هذا الاتصال المتزايد بين الثقافات محط تموقف بين مؤيد وداع لتعميقه، ومتحفظ وداع للحيطة في النظر إلى دوافعه وتجلياته. ذلك أن “الاتصالات بين الناس وثقافتهم- أفكارهم وقيمهم وأساليب حياتهم- تتزايد وتتعمق على نحو غير مألوف. فالتلفاز يصل اليوم إلى الأسر في كل مكان (…) وفيما يتعلق بكثيرين يعد استقبال ثقافات جديدة أمرا مثيرا، فيما ينظر آخرون إلى ذلك بقلق. لأنهم يحاولــــون التأقلــم مع عالم يتغير بســــرعة” .
ولعل مصدر القلق الذي يعبر عنه المتحفظون على فعل العولمة في الثقافة يرجع إلى نزوع العالم نحو النمطية في بعض التجليات الثقافية. غير أن العولمة لم تستطع توحيد القيم الثقافية كلية، لأن الفاعلية الإنسانية حيوية ومنفلتة من التنميط، فـ”المثاقفة ما بين ثقافتنا وثقافة العولمة شأن حاصل ويحصل وسيحصل، ولكن الموقف الفيصل في هذه العلاقة هو العقل النقدي، الذي يتعامل مع المناخ العربي والغربي بكثير من التمثل والهضم والإيمان بالذات والهوية، بعيدا عن أي استنساخ مشوه أو أي استلاب ثقافي” .
وإذا كان العقل النقدي والإيمان بالذات وبالهوية مصدر الحفاظ على تميز الهويات فإن بنية الثقافة ذاتها يكمن فيها من التعقيد والتركيب ما يجعل إمكان انحلالها أو ذوبانها أمرا صعبا. فالثقافة في أبسط تعريفاتها هي “مجموع مركب من المواصفات والعادات ومخزونات الفعل والتمثلات المكتسبة من لدن الإنسان باعتباره فردا داخل مجتمع ما” . وعليه، تشكلت الثقافات المختلفة ومنها الثقافة العربية ونظيرتها الغربية، فاختلفتا في بعض المظاهر والتصورات، واتفقتا في البعد الإنساني الذي يجمع كل الثقافات. وفي هذا الإطار شكل التعليم فرصة للتعرف على ثقافة الأنا وثقافة الآخر والوعي بآليات اشتغالهما. وقد مثل تدريس المؤلفات الفرنسية بالمدرسة المغربية مناسبة لاحتكاك المتعلم بالثقافة الغربية والتفاعل معها وفق سياقات مخصوصة؛ فالتفاعل مع المؤلفات الفرنسية من لدن متعلم مغربي تحكمه تمثلات هذا المتعلم حول الثقافة الفرنسية، والتي تشكلت من خلال اطلاعه الشخصي على التجارب الفرنسية عبر وسائط التواصل والاتصال. إضافة إلى اطلاع التلميذ على التاريخ الفرنسي في مادة التاريخ، وعلى الفكر الفرنسي في مادة الفلسفة وغيرها من المعطيات الثقافية الغربية التي تتقاطع في تشكيلها مجموعة من المواد الدراسية بشكل قريب من النسقية.
إن قوة الموروث الحضاري تجعل من مفهوم الهوية مفهومها قريبا من الانغلاق إلى حد كبير. بينما تشكل الهوية سيرورة مستمرة من التحولات والتشكلات التي تميز بين قوة الماضي والحاضر، بل تخلق تراثا تركيبيا تندغم فيه ملامح الماضي والحاضر معا.
ولعل ما يدعونا إلى تبني هذا التوجه في تحديد مفهوم الهوية هو ما انحرف المفهوم السائد نحوه من تبن للقيم الثابتة والجامدة، ورفض للحركية والتفاعل. بل وصل الأمر إلى استخدام البعض للهوية بمفهوم الماهية. وهذا ما نبه إليه علاء عبد الهادي في قوله: “(…) مفهوم جامع النظير “Archosotope” الذي يقوم دائما بخلق فضاء من المفاهيم والتصورات، والقيم الثقافية التي تؤدي دورها في مقاومة أي خروج طموح ومؤثر نحو السيطرة، لتبدأ بالهوية في تحولها من كينونة متغيرة إلى وهم متخيل يدفعه فهم ما إلى حسبانها ماهية” .
ب- التربية والعولمة
لطالما اعتبرت التربية فعلا ممارسا على الطفل لإكسابه قيم التعلم والثقافة؛ بمعنى أنها تحوله من حالة الطبيعة، والتي تلتها حالة “الثقافة الأسرية”* التي تزامنت مع حالة “الثقافة المجموعية”* (المقصود هو مجموعة الأقران والمحيط القريب في الحي أو القرية)، إلى حالة “الثقافة المؤسسية”* التي تخضع لفعل القصدية. ذلك أن أنواع التثاقف الأولى تقع بشكل عفوي، وتتحكم فيها البنية الثقافية الكائنة والثابتة في الأسرة والمحيط القريب. أما التثاقف التربوي المؤسسي فيخضع لإرادة جهات سياسية تسعى لإقرار بنية ثقافية تنسجم وتوجهاتها الإديولوجية. فالمربي لا يعدو أن يكون منفذا لتلك التوجيهات وصانعا لمواطن الغد وفق ملمح سطر سلفا من لدن جهات عليا.
إن ما تم رصده في الملمح ليكشف عن الهرمية التي تخضع لها المنظومة التربوية منذ التعليم الأولي، ومرورا بالتعليم الابتدائي، ثم الثانوي الإعدادي، ووصولا إلى التعليم الثانوي التأهيلي. وبذلك تكون الأهداف التعليمية التي تحققت في كل حصة على حدة بمثابة جدول ينضاف إلى أمثاله خلال السنة الدراسية قصد تحقيق كفاية أساس مرجو تحققها في نهاية كل سنة دراسية، والتي تنضاف إلى كفايات أساس أخرى لتفضي إلى تحقق “هدف نهائي للإدماج” في نهاية كل سلك من الأسلاك التعليمية (الأولي والابتدائي الإعدادي- الثانوي). وبذلك نصل في نهاية التعليم العام إلى تكوين ملمح متعلم/ مواطن مغربي بمواصفات محددة من قبيل التشبع بقيم الحوار والتسامح والانفتاح، والتشبث بالقيم الإنسانية والإسلامية والوطنية…
إن هذا النموذج التربوي ليستمد واقعيته وسلامة طرحه من النماذج التاريخية التي وطدت إديولوجيتها من خلال نظم تربوية منسجمة مع إيديولوجية الطبقة السياسية كما هو الشأن بالنسبة للدول الليبرالية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وكذا الدول الشيوعية كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية كالصين. وهذا ما أشار إليه محمد عابد الجابري في كتاب “من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا التربوية”.
وهكذا فمتى ما اختلفت طبائع الدول إلا واختلفت النظم التربوية لتسايرها وتسهم في توطيد وإعادة إنتاج الإيديولوجية نفسها. وبذلك تتحول التربية إلى فاعلية التنشئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية. وفي هذا الصدد يقول محمد عابد الجابري: “التربية بوصفها عملية اجتماعية، تتلون من حيث أهدافها ووسائلها ومعرفتها للطفل بلون مجتمعها بلون عصرها، فلا النظريات التربوية، ولا الطرق البيداغوجية، ولا معارف المربين بالطفل، لا شيء من ذلك يعلو على المجتمع، على تناقضاته وصراعاته” .
من خلال ما سبق، نلمس التداخل الحاصل بين الثقافة الأولى (والتي أشرنا إليها سلفا) باعتبارها مستقاة من الأسرة وجماعة الأقران، والثقافة الثانية التي روج لها داخل المؤسسة التربوية حيث إن تناقضات الواقع وصراعاته تلج، شئنا أم أبينا، عالم المؤسسة التربوية وتؤثر فيه. وقد ميزت جوسلين جياسون (Jocelyne Giasson) بين ثقافتين، كذلك، في قولها: “الأولى [تقصد أقسام أو أنواع الثقافة] هي تلك المرتبطة بحياتنا اليومي، ثقافة العائلة بخاصة، بل كذلك الثقافة السائدة في محيطينا الحياتي: جماعة الأقران، ثقافة عامة، وسط العمل. أما الثقافة الثانية، فهي تلك التي تنقل إلى درجة ثانية ما نعيشه؛ إنه الثقافة العالمة أو الثقافة المتضمنة في المؤلفات والإنجازات الكبرى للبشرية” .
إذا كنا فعلا أمام نوعين من الثقافة (كما ورد سلفا) التي تعمل على بلورة فكر المتعلم/ المواطن وشخصيته، فإن الفعل التربوي قد ساير هذا التنوع في الثقافة الأولى التي ترتبط بالمستوى الفكري والاجتماعي للأسرة. وبذلك سيعمل على إعادة إنتاج النمط نفسه في الثقافة الأولى. وعليه، تُفَيَّأُ الثقافة المؤسسية لتتلون بلون الثقافة الأولى. وهذا ما اعتبره الجابري فعلا طبقيا قائلا: “والنتيجة هي أن الهدف من التربية سيكون، لا تحقيق التقدم الاجتماعي للمجتمع ككل، بل الحفاظ على الوضع القائم، وإعطاء كل فرد نوعا من التربية يتناسب مع مستوى الفئة التي ينتمي إليها، مستواها المادي والفكري” . وقد استشهد الجابري بما كان سائدا عند الرومان واليونان من فئوية اجتماعية تتلاءم والفئوية التربوية؛ حيث يُهَيَّأُ بعض المواطنين للعمل الفكري، والبعض الأخر للعمل اليدوي (الفلاحون- العمال- العبيد…).
غير أننا نرى في العملية التربوية مناسبة للانفلات من ربقة إعادة الإنتاج التي تسعى التربية التقليدية إلى تكريسها. فعملية دراسة المؤلَّفات الفرنسية في حد ذاتها تتيح للمتعلم اكتشاف الآخر بما هو وجود، والخروج من فكرة مركزية الأنا والعربي والإسلامي. إنها مناسبة لتحقق التفاعل الثقافي والإبداعي؛ حيث يلتقي الحس الإنساني بين ثقافتين في ظل تمايزهما المشروع والطبيعي، كما تلتقي طرائق التعبير عن القيم والموضوعات والحالات في شكل إبداعي سردي لا يلغي الاختلاف في زوايا النظر وفي المقومات الفنية الحاملة لتراكم فكري معبر عن تاريخية كل ثقافة.
وإذا كانت للنظرية الماركسية تأثيرات كبيرة في الأدب والتربية بالدول الاشتراكية والشيوعية فإن لفكر جان جاك روسو (Jean Jacques ROUSSEAU) في “إميل” أو “عن التربية”، وجون لوك (John LOCKE) في “مقال خاص بالفهم البشري”، وإدموند سبنسبر(Edmund SPENSER) في “مبادئ علم الأخلاق”، تأثيرا كبيرا على الفعل التربوي الأوروبي الذي تشبع بالمبادئ الليبرالية فأصبح فعلا حرا لا تدخل للمربي فيه. كما كانت أفكار ديوي (DEWI) التربوية ذات الطبيعة البراغماتية منسجمة والفكر الفلسفي النفعي الذي تبلور وتطور في أمريكا.
أما مجتمعاتنا العربية الإسلامية فقد تشوه ملمحها الفكري بعد أن وجدت نفسها أمام موجة الحداثة وقد خرجت للتو من مرحلة انحطاط عمقها واقع استعماري. فكان أن اختل منطق الانسجام بين الإيدولوجيا الإسلامية والنظام التربوي. وهو ما جعلنا أمام تشوه أو تلاقح ثقافي غير متكافئ عمق واقع التشرذم الفكري عند العرب. فـ”الواقع أن المشكلة بالنسبة إلينا هي أضخم وأكثر تعقيدا. فنظامها التعليمي الحالي لم يكن نتيجة تطور ذاتي لنظامنا التعليمي القديم، بل هو نظام منقول إلينا مع الاستعمار (…) هذا إلى جانب بقايا من تعليمنا القديم الذي ورثناه من فترة الانحطاط الطويلة التي عرفتها حضارتنا” .
إن أهم ما يثير الاهتمام في القولة السابقة هو حضور الفكر الاستعماري في الدول العربية. وهذا ما يستدعي منا- وفق بنية التناظر بين الإيدولوجيا والبنية التربوية- أن ننتظر منتوجا يوافق الإيدولوجيا الاستعمارية. غير أن العكس هو ما وقع، فقد ظهر جيل يعارض الاستعمار ويكافح من أجل الاستقلال، وهو ما عبر عنه الجابري في قوله: “ولكن هذا جانب واحد من الصورة، وهناك جانب آخر، الجانب النقيض نعم، إن لكل أطروحة نقيض ومن صلب المدرسة يخرج باستمرار الرفض والتغيير” .
ومادامت المدرسة على هذه الشاكلة من المقاومة فإن ثمة ما يمكن أن يقوي تصورها وآليات عملها. ذلك أن الفكر ما بعد الكولونيالي قد يوفر للمدرسة أرضية فكرية ومنهجية؛ حيث تنفتح المدرسة على تجارب جديدة غير التجارب الأوروبية والأمريكية. فالانحصار في هذه التجارب الغربية إيمان بمركزية هذه التجارب، وتسليم بوجود الحل عندها لا عند غيرها. وفي سياق تدريس المؤلفات بالمدرسة المغربية، نجد تقوقعا في تدريس مؤلفات فرنسية وهيمنة لتدريس مؤلفات عربية مصرية. وإذا كانت الظروف التاريخية قد فعلت فعلها في هذه الوضعية فإن السياق الحضاري المعاصر يستدعي منا إعادة النظر في هذا المعطى. ذلك أن حضور المؤلفات الفرنسية مرتبط بتجربة استعمارية أكثر من ارتباطه بالسياق الحضاري الذي يعيشه المجتمع المغربي، وقوة الإبداع السردي اللاتيني والشرقي الآسيوي يستحق التوجه إليه لاكتشاف العالم الرحب، لا العالم الغربي فقط. كما أن تدريس مؤلَّفات مصرية مرتبطة بريادة الإبداع السردي المصري عربيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، وقوة الإبداع السردي المغربي تؤهله ليكون موضوع دراسة من لدن متعلم مغربي يتقاسم معه الهوية الجماعية أو المجموعية نفسها.
وفي ظل هذا الاتصال المتعدد، تتفاعل المرجعية الثقافية العربية مع هذا الوافد الجديد بأشكال مختلفة باختلاف أنشطة التعليم وممارساته الصفية. ذلك أن تدريس مؤلَّف فرنسية كما هو الشأن بالنسبة لـ”اليوم الأخير في حياة مدان” و”كانديد” سيؤدي إلى تعبئة موارد المتعلم في جل المواد الدراسية وفي كل مراحل ومناسبات تشكل ثقافته (المسجد- الأسرة…) للتعامل مع معطيات جديدة من مثل: نقد الحكم بالإعدام، والإيمان بالإنسان أولا وأخيرا، والدعوة إلى تغيير جذري في النظام السياسي والاجتماعي. ولعل اختلاف زوايا النظر ستحيلنا إلى نفس الموقف الذي عبر عنه مثقفو العالم العربي تجاه العولمة؛ حيث سنجد من سيدعو إلى رفض هذه المعطيات المستجِدة، ومن سيفتح المجال أمام التفاعل النقدي والصراع المعرفي الخلاق. وهذا ما سنجده في استطلاعنا لآراء بعض التلاميذ بحصوص بعض الأطروحات الغربية الواردة في المؤلَّفات. ويبقى المعول عليه في هذا الشأن هو ديدكتيك لا يسمح للأستاذ بالتدخل برأيه الشخصي وخلفياته، بل ببسط أرضية للحوار المعرفي والمنهجي الحر والمباشر بين جماعة القسم لبناء قناعاتهم، لا لاكتسابها بشكل مجاني وعمودي.
ولعل ما سلف ذكره يستدعي منا التساؤل عن موقع الهوية من المنظومة التربوية ويصبح السؤال أكثر إلحاحا في ظل تدريس نصوص أدبية تمتح من ثقافات/ هويات مختلفة. فهل الاختلاف أمر واقع يجب تعزيزه برسم حدوده؟ أم أن الاختلاف ما هو إلا مظهر سطحي لوحدة الحضارة الإنسانية القائمة على المشتركات القيمية والعلمية؟
ج- العولمة .. وحدة الفكر المتعددة (التعدد في ظل الوحدة)
يشكل الصراع بين التلاقح الثقافي كاستجابة لروح الانفتاح والحوار والذوبان الثقافي- كتحد يواجه المتلاقح ثقافيا- أبرز النقط التي خاض فيها المشتغلون بقضايا الثقافة والهوية والعولمة وغيرها. ويقترح علينا الخطاب التأويلي نظرة أكثر عمقا في النظر إلى الموضوع، ففي المقاربة التأويلية “نجد أن مفهوم الهوية الثقافية ينبثق من “قرار استراتيجي” هو قرار “فعل الفهم” ذاته، المتمثل في قدرة المؤول على “استملاك” ما هو “أجنبي غريب” وفي فعل الاستملاك هذا، تنتفي الحدود الصارمة بين ما هو من صميم الهوية (الانتماء إلى تراث ثقافي ما) وبين ما هو من قبيل الاختلاف والغيرية” .
ينزع هذا الطرح المقدم سلفا إلى نوع من الانفتاح المتصالح مع الذات ومع الآخر، وإلى إعادة النظر في الحدود الصارمة بين الهويات الثقافية. ويستمد هذا التصور مشروعية أقوى في ظل مجتمعاتنا المعاصرة التي تتوافر فيها وسائل الاتصال والتواصل بشكل غير مسبوق في الثقافات الإنسانية الماضية. فـ”بناء على هذا التصور للحقيقة من منظور التأويل، أي من منظور الفهم والمشاركة- ينحل مفهوم الهوية ذاته ويتفكك حتى لا يصير مدركا إلا في علاقته بـ”الغيرية”، فيغدو- تبعا لذلك- القول بالهوية الثقافية معادلا للقول “بالهوية- بين ثقافة”، الأمر الذي يفرض على كل ثقافة- على اعتبار كونها ضمن الفضاء التأويلي للحقيقة- أن تستدعي غيرها من الثقافات- أو على الأقل عناصر ثقافية أخرى- لا كعناصر »خارجة عن ذاتها« ، بل كمكون جوهري وشرط أساسي لإمكان وجودها، وهذا بين متى تأكد لنا بأن أية هوية هي حصيلة مهارة تاريخية، لا مكتملة يحكم تاريخيتها بالذات، أي اعتبار كل هوية بمثابة مشروع « لا » معطى« ” .
غير أن الانتماء إلى ثقافة ما واستبطان معطياتها الثقافية المركبة لا يشكل صمام أمان للكائن الثقافي. ذلك أن منعطفات التاريخ وتلاقح الأنساق الثقافية قد يؤدي إلى انشطار الهويات ثقافية وخلق مركزية ثقافية متسلطة كما يذهب إلى ذلك محمد برادة في قوله: “إن الفضاء المؤطر لثقافتنا يحيل جروحا وندوبا منها ما حَفَرَهُ الوجود الأجنبي، ومنها ما ترسخ بتأثير من الفكر المتجمد أو المحاكاة المتهافتة .. من ثم انشطار الهوية و تشظيها وهي تلاحق نموذجية وهمية في المسكن و الزي و اللغة والعادات والأذواق والاستهلاك …” .
ومنه، فإن اتباع تيار من التيارات الفكرية (المتجمدة أو المقلدة) في بناء سيرورة ثقافية ما من خلال التحكم في السلطة يؤدي إلى تشكل ثقافة رسمية تتشظى فيها الهوية الثقافية ويفعل فيها التاريخ واللاوعي والإيديولوجيا. وقد أثار انتباهنا التصور الذي يتبناه محمد برادة لمفهوم “اللاوعي الثقافي” من حيث العلاقة الجدلية التي يكشفها بين التأثر بالثقافة والتأثير فيها، وهذا ما نلفيه في قوله: “لا يقتصر استعمالي لهذا المصطلح (يقصد اللاوعي) على التحديد النفساني، وإنما يقترب أكثر من معنى اللاوعي الثقافي الذي يفترض أن الثقافة التي نملكها، تمتلكنا بدورها، وتكون هي شرط الإمكان على مستوي الإنجاز الملموس لنوايانا الفنية والفكرية ” . إن المقاربة المقدمة تجعل “اللاوعي الثقافي” آلية من الآليات التي تخدم الدراسة الثقافية، ولعل المعجم الذي وظفه برادة يحيل على ذلك (الثقافي، التملك، النوايا، الفنية، الفكرية). ويتعزز الربط الذي ذهبنا إليه عندما نجد برادة وقد أوغل في البحث عن علاقة الممارسات الأدبية بالإرث الثقافي، وهو ما يكشفه قوله: “(…) إلا أن قيمة الاهتمام باللاوعي الثقافي لا تتجلى فقط في تفسير طرائق و أشكال استبطان الإرث الجماعي الذي تحول من خلال مناهج التعليم والتلقين إلى لاوعي فردي، بل تتجلى أساسا في إظهار ما تخفيه الممارسات الأدبية والفكرية المؤطرة “للخبرات” الرمزية في حقلنا الثقافي” . ولعل ذلك ما يحكم فاعلية القارئ التأويلية التي تحكم قراءته وتوجهها، كما حكمت ووجهت فاعلية الكاتب أثناء إنتاجه للنص.
إن قول برادة ليدعو إلى البحث في الأطر التي تحدد/ تكبل طريقة الإنتاج والتلقي في ظل المواضعات الثقافية في الفكر والأدب وغيرها من الحقول. وهو ما يتقاطع و ما يذهب إليه عبد الله الغذامي حول مفهوم “المؤلف المزدوج”، على اعتبار أن “الثقافة ذاتها تعمل عمل مؤلف آخر يصاحب المؤلف المعلن، وتشترك بغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف، ويكون المؤلف في حالة إبداع كامل الإبداعية حسب شرط الجميل الإبداعي(…)، إننا نقول بمشاركة الثقافة كمؤلف فاعل و مؤثر، والمبدع يبدع نصا جميلا فيما الثقافة تبدع نسقا مضمرا، ولا يكشف ذلك غير النقد الثقافي” . وعليه، تتضح ملامح الفعل الجدلي الذي يحكم علاقة الإنتاج الإنساني بالثقافة، على اعتبارها أنها علاقة مركبة لا يستقل فيها أحد الطرفين بفاعلية الإنتاج أو التحكم بقدر ما تتقاطع خيوطهما. وفي هذا الإطار، تشكل المقاربة الثقافية آلية من الآليات الواعية بطبيعة هذه العلاقة الجدلية التي تنزع نحو فاعلية التنبيه والكشف عن مكامن فعل السلطة والهيمنة ومختلف مراوغات الخطاب.
وإذا كانت الثقافة محورية في الفعل الإنساني فقد شكل مفهوم الهوية مفهوما مركزيا في المنظومات التربوية المختلفة. ومادامت الإيديولوجيات مختلفة فإن الهويات الكائنة والمعاد إنتاجها (تربويا) مختلفة كذلك، وقد تكون متعارضة مع بعضها. وبذلك تحتفظ “الهوية” بالمقومات والخصوصيات التي تميز كل مجتمع أو مجموعة بشرية عن مجتمع آخر أو مجموعة بشرية أخرى. وعليه فـ”لفظ الهوية- من منظورنا الثقافي- تصبح لفظة مقاومة لسياسات التعميم، ولكثير من المقولات الثابتة لخطابات الإرث الغربي في عصر التنوير مثل الليبرالية والماركسية. وإن ظل المصطلح في العموم معبرا عن جماعة لها مصدر متفق عليه من مصادر الانتماء، فغالبا ما تتسم بوجود خصائص مكتسبة من ميراث معرفي يمنحها خصوصيتها” .
وهكذا نخلص إلى وجود فرق بين الهوية كسيرورة دائمة التشكل بتطور المجتمعات وتبلور المستجدات، وبين الماهية كخصائص جوهرية وبنيوية تمايز بين المجموعات الإنسانية. فإذا كانت الهويات المجتمعية متزامنة مع بعضها، فإن إمكانية التلاقح تبقى واردة بشكل كبير، بل إن التاريخ يؤكد هذا التثاقف بين الحضارة اليونانية والعربية والفارسية والهندية وغيرها. وهذا ما أكد عليه علاء عبد الهادي في قوله: “ترتبط بنية الهوية على المستوى المعرفي بما نسميه الحقل الثقافي” (cultural Field) وهو الحقل الذي يشكله تقاطع مجموعة محددة من المجالات في زمن بعينه” .
وبذلك فإن هذا الحقل ليتسع للعديد من الهويات أو الأنوات التي تتفاعل مع بعضها بشكل مباشر ومتزامن أو بشكل غير مباشر وغير متزامن. ومن هنا، تتأكد لنا العلاقة التلازمية بين الأنا والآخر “فالأنا في هذا الطرح حضور لا يتحقق إلا بوجود ما نعتقده أنا أخرى نبدأ منها؛ هي نظير مستحضر لذاته ولمن يسميه آخر، وهو جزء منه- في الآن ذاته- لا يمكن إغفاله” .
وبناء على المعطيات السابقة، فإن كل هوية مجموعية ترتبط بالهويات الأخرى في ظل الحقل الثقافي، وتنفصل عنها في الآن ذاته. وإذا كان الانفصال يتم على مستوى ما يرتبط بالماهية في كل هوية، فإن الاتصال يتم على مستوى ما يرتبط بالحقل الثقافي العام.
وهكذا نلفي أن الماهية محدد جوهري لخصائص كل مجموعة على حدة بشكل نوعي متميز، فيما تشكل “الهوية المجموعية” مختلف القيم والسمات التي تسم بشكل حركي ومتغير مجموعة بشرية عن أخرى في ظل معطى التأثير والتأثر المتبادل بينهما وفي ظل الحقل الثقافي. فيما تتشكل الهوية الجماعية من القيم الإنسانية التي لا تتطلب تأثيرا أو تأثرا لتتبلور في هوية جماعة ما، بقدر ما تعتبر معطى طبيعيا وإنسانيا موجودا بالقوة والفعل.
وبذلك نجد أن ما يسميه علاء عبد الهادي بالهوية الجزئية هو ما سميناه بالماهية، وأن ما يسميه “بالهوية الكلية” هو ما سميناه “بالهوية الجماعية”. بينما نضيف مفهوم “الهوية المجموعية” كمرحلة وسيطة بين “الماهية” و”الهوية الجماعية” لتؤشر على حركية التطور والتغير التي تسم الهوية الثقافية لمجموعة بشرية ما.
ويظهر التعالق بين هذا التقسيم الثلاثي والمنظومة التربوية في أن ثقافة المتعلم يتجاذبها قطبان محوريان: أحدهما، يتمثل في مقومات ماهيته الفردية في مستوى أول، ثم في هويته المجموعية في مستوى ثان. أما الثاني فتحكمه الهوية الجماعية حيث تلاقح الهويات المجموعية في حقل ثقافي واحد. وبذلك تكون مقاربة الخطاب الفرنسي أو العربي في النصوص السردية مقاربة لهويتين جماعيتين ولماهيتين فرديتين تتمايزان أكثر مما تتقاربان. فيما يعكس الخطابان هويتين مجموعيتين تتنازعهما مؤثرات الجماعة وتفرد الذات المتفاعلة مع العالم، وهو ما يجعل الخطابين في حيز الحقل الثقافي الإنساني الذي تتفاعل فيه الذوات مع بعضها وتخرج من وحدة الجماعة واستهلاكها. وهذا ما عبرت عنه جياسون في قولها: “وبكلمات أخرى، فالثقافة المباشرة للتلميذ ترتبط بفضائه العائلي، بينما تعود الثقافة العامة إلى التراث المبني من لدن الإنسانية عبر القرون” .
غير أن الاختلاف بين ما ورد عند جوسلين جياسون، وما أوردناه في خطاطتنا، يكمن في أن جوسلين جياسون اشتغلت على المكون الثقافي فقط، فاعتبرت الثقافة نوعين: ثقافة قريبة أو مباشرة ترتبط بالإرث الأسري، وثقافة عامة ترتبط بالإرث الإنساني. وبذلك حصرت وظيفة الأستاذ في التمرير الثقافي، باعتباره ممررا ثقافيا (passeur culturel) من الثقافة الأولى إلى الثقافة الثانية. وهذا ما يتوافق والطرح الذي قدمه الجابري، نسبيا، في كتابه “من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا التربوية”.
- تدريس الأدب في عصر الالتقائية/ العولمة
1-التقائية الأدب
إن دراسة الأدب تخضع لمسارات ائتلاف واختلاف من حيث اللغة والمقومات الفنية والجمالية والثقافة ونمط التلقي وغيرها من المعطيات. وهذا ما سنحاول بسط نموذجه الثقافي، في رواية “اللص والكلاب” وحكاية “كانديد” (Candide)، وفق محوري التمايز والتقاطع الثقافيين كالتالي:
أ- التمايز الثقافي
إيمانا منا بأن الرواية “تسهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم، لما لها من قدرة على تشكيل التصورات العامة عن الشعوب والحقب التاريخية والتحولات الثقافية للمجتمعات” ، فإننا سنعمد إلى الكشف عن هذا الاختلاف الثقافي انطلاقا من زاويتين اثنتين: تصوير الشخوص والرهان…
– تصوير الشخوص/ الشخصيات
أسهم تصوير شخوص النصين الأدبيين في الكشف عن منظوريين ثقافيين مختلفين. فإذا أخدنا البطل كنموذج، نجد أن صورته قد اختلفت بين النصين كالآتي:
بطل “كانديد” (كانديد) بطل اللص والكلاب (سعيد)
-اسمه يؤشر على حالة فكرية (السذاجة) ( قابلية التعلم) -اسمه يؤشر على حالة نفسية (السعادة)
-يحمل دوافع واضحة (الحب: حب المرأة والمعرفة) -يحمل دوافع متضاربة (حب- كراهية…)
-مساعدوه يحملون فكرا (مارتان”martin “”le vieillard “) -مساعدوه يوفرون عونا ماديا (نور: مأكل-مسكن- طرزان: سلاح)
-شخصية نامية قادرة على التعلم والتطور -شخصية مسطحة لا مرونة في مواقفها.
-حقق هدفه وأريحيته النفسية -لم يحقق هدفه ولا راحته النفسية.
إن الأوصاف، السالف ذكرها، لتكشف عن التمايز الثقافي الواقع بين النصين وهو تمايز راجع إلى الظرف التاريخي والثقافي الذي أفرز كل منهما؛ إذ “ليس ثمة مقارنة مجردة، فالمقارنة التي لا تتقيد بسياق ثقافي تفقد قيمتها المعرفية” . فمجتمع كانديد كان في أمس الحاجة إلى شخصية تنير الفكرة المراد إيصالها، وهذا ما جعل من السذاجة قيمة إيجابية تحمل في طياتها سمة القابلية للتعلم، مما يسهم في تحويل القارئ المعايش لنفس الظرف إلى ساذج- بمفهوم فولتير- يتعلم ويتشبع بقيم عصر الأنوار. أما بطل “اللص والكلاب” فاسمه يحيل على وضعية نفسية، ألا وهي وضعية السعادة التي تدخل في علاقة مفارقة وتضاد مع واقع الشخصية في سياق المؤلف الذي يتسم بعدم الرضا والحزن والحسرة. وبالتالي، فهي سعادة نفسية لها وجه اجتماعي مادي يكمن في العدالة الاجتماعية.
ولعل ما يعزز هذا الاختلاف بين البعد الفكري والفلسفي والبعد المادي الاجتماعي هو الاختلاف الذي رافق الشخصيتين على مستوى الدوافع والعوامل المساعدة. فإذا كانت دوافع كانديد واضحة ومساعدوه من الفلاسفة ليتمكن من التطور ليصل إلى مبتغاه، فإن دوافع سعيد المتضاربة وغير الواضحة ومساعديه من البسطاء والفئات الشعبية ستبقيه على الموقف نفسه ليبقى في الوضعية نفسها (الاستسلام والعودة إلى السجن).
– الرهان
راهن المؤلف العربي على كشف زيف إيديولوجية سياسية ترتبط بأحداث معينة (الثورة_ القمع…)، بينما راهن المؤلف الغربي على دحض أطروحة إيديولوجية لها امتدادات مجتمعية؛ حيث يحاور رجال فكر- لا رجال سياسة فقط- ويعدد عناصر حجاجية تفند القول بالتفاؤل والقدرية، وتدعو إلى العمل.
لقد راوغ الخطاب السردي في مراوحته بين التشخيص والتعميم؛ حيث عمد الكاتب العربي إلى تشكيل أطروحة فكرية بطريقة أدبية ممتعة ومشوقة ينتظر من القراء أن يتبنوا موقفا مدعما لها. غير أن بعض الخطابات المباشرة قد تجعل القراء يتموقفون من الأشخاص، لا من الأفكار. ذلك أن التبرير قد يكشف عن دعم للبطل/ الشخص وعن تعاطف معه، لا عن اقتناع بفكره وإيديولوجيته. ومن تلك الخطابات المباشرة نجد:
-“لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص (…) ولكن يحدث أن يكون السلك الموصل للكهرباء قذرا ملطخا بإفرازات الذباب…” .
-“أنا لم أقتل خادم “رؤوف علوان”، كيف أقتل رجلا لا أعرفه ولا يعرفني (…) وأمس زارتني روحه فتواريت خجلا (…) ملايين هم الذين يقتلون خطأ وبلا سبب” .
إنها خطابات مباشرة تجعل الغاية من المؤلف التأثر والتعاطف مع البطل وخطاباته التبريرية (لست كغيري- السلك الموصل للكهرباء-ملايين هم الذين يقتلون خطأ…) التي لا تترك مجالا للارتفاع عن المشخص لمعانقه القيم الإنسانية النبيلة. وهو ما كشفته نتائج الاستمارة سالفة الذكر.
أما الخطاب الفولتيري، فكان خطابا غير مباشر وغير مشخص، نظرا لحاجة الأطروحة الفكرية لقوة تجريدية ترفعها من الجزئي لتعانق الإنساني.
كما حضرت الإديولوجيا كنقطة تمايز أخرى بين المؤلّفين؛ يكشف الرهان الذي راهن عليه نجيب محفوظ في مؤلف “اللص والكلاب” عن صراع إديولوجي حاد تؤججه الرغبة في الانتقام والكراهية. وإذا ما ارتفعنا عن المؤلف ونظرنا إلى البيئة الفكرية التي وسمت مرحلة كتابة المؤلف، فسنجد تصارعا قويا بين إديولوجيات مختلفة، منها: السلفي، والاشتراكي، والليبرالي.
لقد شكل المؤلف موطن الإعلان عن إيديولوجية “فولتير”، وهي العمل والإيمان بالإنسان، في مقابل إيديولوجيتي التشاؤم والتفاؤل ، وذلك من خلال ثلاث شخصيات ممثلة للأيديولوجيتين السالف ذكرهما وهي شخصيات (derviche) و( (le vieillardو(Pangloss). ويبقى محور هذا الدرس هو التغير الذي طرأ على كانديد.؛ حيث تحول من ساذج ومفرط التفاؤل إلى شخص حكيم ومجرب، يمتلك حسا نقديا يمكنه من مقاطعة أستاذه ومعارضة أفكاره.
وعليه، فإذا كانت لحظة اللقاء الأولى بالمؤسسة الدينية لحظة انفعال، فإن اللحظة الثانية كانت لحظة انتقاد مبطن بدلالات نسقية وثوريات ثقافية توجه الجمل والعبارات والكلمات إلى خانة انتقاد وضعية اللامبالاة، والزهد، وغياب الصلة بالواقع، وترسيخ ثقافة الجمود والاستمرارية، والخطابات غير المنسجمة مع خطاب الواقع والحياة.
أما مؤلف “كانديد”، فيجمع عدة حالات ومواقف ومواضيع وتيمات تعكس سياق الإنتاج المتمثل في معارك فولتير في القرن الثامن عشر؛ حيث تحتاج هذه المحطة إلى سند ثقافي يضيء الأحداث التاريخية والاجتماعية والدينية التي تؤشر عليها بعض الفصول من مثل: المحرقة ومحاكم التفتيش- زلزال لشبونة- الرق وعلى ضوء ذلك يمكن ربط هذه المعطيات ببعض المواقف الواردة في المؤلف كالموقف من اللاتسامح الديني” والخرافات (superstitions) ووصف الطقوس الدوغمائية على مستوى مناسبات الكنيسة.
ب – التقاطع الثقافي
إذا كانت المعطيات السالف ذكرها تكشف عن مواطن تمايز بين المؤلفين فإن هناك مظاهر للتقاطع من قبيل: الأستاذية والقيم الإنسانية المشتركة، وهذا ما نوضحه في الآتي:
– مظهر الأستاذية
يشكل هذا المظهر نقطة ائتلاف بين المؤلفين. حيث تجلى في علاقة الأستاذية التي جمعت بانكلوس بـكانديد بشكل صريح، وفي علاقة كل من مارتان (Martin) والشيخ التركي (le vieux turque) والعجوز (la vieille) بكانديد (Candide) بشكل ضمني، فيما تبرز علاقة الأستاذية بشكل صريح بين رؤوف علوان وسعيد مهران وبشكل ضمني وعرفي بين الشيخ الجنيدي وسعيد مهران، كما تظهر في علاقة الشيخ الجنيدي بأتباعه، وعلاقة المعلم بالمتعلمين.
وبذلك، تكون هذه العلاقة نقطة مشتركة بين ثقافتين، غير أن الأستاذية لم تنحصر في بعدها الإيجابي بل كشفت عن أستاذية سلبية في بعض الجوانب؛ حيث مررت خطابا تفاؤليا مزيفا (بانكلوس- كانديد)، فكانت المادة التعلمية ذات طبيعة فلسفية تنسجم وطبيعة المواضيع المثارة في محيط الكاتب الفكري. أما الصراع السياسي، فلم يكن إلا مظهرا من مظاهر الصراع الفكري، ولذلك اكتفى بالدفع نحو إصلاحه لا تغييره جذريا. بينما مررت الأستاذية خطابا اشتراكيا مغريا للطبقات البسيطة من الشعب، وسرعان ما انقلب الأستاذ على خطابه، مثيرا الحقد والكراهية وحب الانتقام لدى تلميذه (علوان ≠مهران)، وهذا ما ينسجم والسياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي واكب كتابة المؤلف حيث الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية وتفشي قيم الانتهازية والفساد، وتضارب الرؤى الإديولوجية بين ديمقراطية وليبيرالية واشتراكية وإسلامية مما ولد رغبة في الثورة والتغيير الجذري للأوضاع، وإن كان ذلك يعوزه التنظيم والتخطيط والتفكير.
– منظومة القيم الإنسانية المشتركة
يختلف المؤلفان في طبيعة الأطروحة المدافع عنها تبعا لسياقيهما التاريخيين والثقافيين والسياسيين المختلفين. غير أن الطموح إلى الرقي والازدهار والدفاع عن الإنسان جعل كلا الكاتبين يدافع عن منظومة قيم إنسانية مشتركة تتضمن الحرية، والمساواة والعدالة والفصل بين السلط/ الأجهزة. وفي المقابل، نلفي اتفاقا على محاربة نقيض تلك القيم الإنسانية من قبيل: الحكم الشمولي والسلطوي والعنصرية والسلبية واللاتسامح والفكر الخرافي…
غير أن القول بالاتفاق على مستوى منظومة القيم لا ينفي وجود اختلافات في زاوية النظر إلى بعض القيم بين عين عربية وأخرى غربية. فالموقف من الخطاب الديني كان أكثر حدة وصرامة عند فولتير في رفضه لطقوس شكر الإله الذي لا يحتاج هذا الشكر بقدر ما يحتاج أن يرى قيم التسامح والعدالة سائدة بين الناس، وإن كان هذا الموقف سيصبح أكثر لينا وتصالحا فيما سيؤلف فولتير من مؤلفات بعد 1776م حول الاسلام مثلا ، فيما نجد أن هذا الموقف كان مهادنا وفاقدا للوضوح عند نجيب محفوظ في تصويره لخطاب الشيخ الجنيدي كخطاب بعيد عن مجريات الواقع السياسي والاجتماعي، ومفارق للغة العامة (اللغة الصوفية).
2-التقائية الديدكتيك
تشكل الديدكتيك الالتقائية أساس اشتغال كل المواد الأدبية من حيث نصوصها السردية. وهذا ما يتمثل عناصر الالتقاء بين الآداب في ما يمكن تسميته بالأدبية العامة، غير أنه يعكس- في الآن ذاته- ما يميز كل أدب/ ثقافة في ما يمكن تسميته بالأدبية الخاصة. وسنعرض أهم خلاصاتنا في الآتي:
-التقائية في الخلفية الديدكتيكية
تتسمت منهجيتا تدريس النصين الأدبيين- “اللص والكلاب” و”كانديد”- بنوع من الالتقائية في مراحل وأنشطة تدبيرهما. ذلك أن كلا منهما استند في تحليل مكوناته إلى مرجعية ديدكتيكية التقائية واحدة. فديدكتيك النصين يستندان على خلفية نقدية متعددة الأبعاد (سيميائيات)، كما يعتمدان على عناصر القراءة التي وردت عند ألان فيالا(Alain Viala) وميشيل شميت ((Michel Schmit ؛ أي على عناصر المنظورات الستة التي وردت في التوجيهات التربوية كمؤطرة لتدريس المكون، وهي على الشكل التالي: الأحداث والرهان والقوى الفاعلة والرؤية السردية والأبعاد النفسية والأبعاد الاجتماعية والأسلوب والبنية. لكن تناولها يتجاوز نواقص المنهجية المتبعة من حيث إعادة ترتيب المنظورات السابقة وإضافة أنشطة إدماجية (السردية- الوصفية…) لخلق وحدة مرجعية ومنهجية ونسقية بين المقومات الجمالية من جهة، وبين المقومات ومعطيات الدلالات والتداول من جهة أخرى.
– التقائية في توظيف الخلفية النقدية
إن ما نقترحه من ديدكتيك التقائية تشتغل على خلفية سيميائية في جميع أطوار التحليل؛ حيث تنطلق من ممكنات/ تداولات وظيفية أو اجتماعية أو نفسية وغيرها، ثم تجد لها تحيينات في الدوال الاجتماعية أو النفسية أو الفنية وغيرها، ليتم بناء الدلالات بشكل تفاعلي وحر ونسقي وبالاستراتيجية نفسها في المادتين معا.
– التقائية في الأنشطة الديدكتيكية
تعرف التمظهرات الديدكتيكية حضورا قويا لمنطق التماثل والالتقائية. ولعل أول ملمح لهذا الالتقاء هو الحضور المشترك لثلاث مراحل أساسية في التدريس، ألا وهي: المرحلة التوجيهية والمرحلة التحليلية والمرحلة التركيبية. ذلك أن السيرورتين تقدمان فرشا توجيهيا للنص، قيد التدريس، من حيث التجنيس والتعريف بالمؤلف وقراءة صورة الغلاف (إن وجدت) وغيرها من العتبات، ثم يعمد التلاميذ إلى تحليل المؤلف تحليلا يزاوج بين الدراسة الكلية والجزئية، لينتهي الأمر بتركيب المعطيات سالفة التحليل، وربط سياق النص بسياق المتعلمين (التحيين). وقد حاولنا إقامة نوع من التقاطع الأقرب إلى التطابق في المنهجية المقترحة سلفا، من خلال التوليف بين المستويات التالية:
– مستوى التداولات.
– مستوى الدوال.
– مستوى المدلولات.
– التقائية في الخلفية النقدية
إن ثمة اختلافا بين المنهجيتين القديمتين- العربية والفرنسية- في توظيف المناهج النقدية أثناء تدريس المؤلفات؛ إذ تكون بسيطة وأحادية في النص العربي، حيث يطغى منهج ما على بعد من الأبعاد أو منظور من المنظورات الستة، فيما تتقاطع مناهج متعددة في رسم بعد من الأبعاد المراد تحليلها في المؤلف الفرنسي. غير أن خصوصية تدريس مؤلَّفين مختلفي اللغة والثقافة يتطلب استحضار خصوصية فعل التلقي وتحول الموضوعة واشتغال الثقافة عند المتلقي/ المتعلم المغربي ذي الثقافة العربية المغربية. وما دام الأمر كذلك، فقد اقترحنا الأرضية السيميائية كمرجعية نقدية مشتركة وجامعة تخول إمكانية توظيف جل اتجاهات التلقي والموضوعاتية والثقافية وفق منظور نسقي يكشف عن صريح النصوص وعن مضمرها نقديا، وعن قراءة حرة ومبررة مدرسيا.
– التقائية في المقومات الفنية والجمالية
إن التوظيف المشترك للمناهج النقدية يؤدي إلى بروز تقاطع في بعض المقومات الفنية التي وسمت بعض المناهج. ومثال ذلك الاشتغال على النموذج العاملي وعلى تطور البطل وفق مقتضيات المنهج السيميائي، وكذا على البنية السردية…
غير أن الإقرار بوجود تقاطع في المقومات الفنية والجمالية لا يعني أن ثمة تطابقا في طبيعة العناصر المجسدة لهذه المقومات ظاهريا، ولا في أبعادها الوظيفية داخل سياق النص. فعناصر النموذج العاملي تكشف عن خصوصية في كل نص على حدة، إذ إن المرسل في النص العربي (الانتقام وحب سناء) تمتزج فيه الدوافع والقيم النبيلة بالدنيئة، فيما تقتصر على القيم النبيلة في النص الفرنسي (l’amour). كما أن المرسل إليه يختلط فيه الصالح بالطالح في النص العربي (سناء- الخونة)، فيما يقتصر على الصالح في النص الفرنسي (l’amour de Cunégonde). غير أن توسلنا بسيمياء الثقافة كشف لنا عن مضمرات النص الفرنسي في جوانب متعددة، ومن أمثلتها المرسل والمرسل إليه اللذان حُدِّدا في الحب “l’amour” الذي لم يكن حبا حقيقيا بقدر ما كان سطحيا يوحي بمظهر من مظاهر النفعية والتعارف المجتمعي التراتبي.
خاتمة
بناء على ما سبق، قد تمثل الديدكتيك الالتقائية في درس الأدب دعامة من دعامات منهاج تربوي يطمح إلى بناء ملمح متعلم/ مواطن منفتح على الآخر بمنطق التكافؤ، وواع بوضعيته ووضعية مجتمعه، ومتفاعل مع مستجدات الحياة المعاصرة بحس نقدي، وغيرها من المعطيات التي تصب في مرمى بناء شخصية متوازنة ومبدعة وقادرة على التغيير. إن التربية التي نسعى إليها هي تربية التغيير والكونية والإبداع والتكامل والاستباق، لا تربية المحافظة والانغلاق والتقليد والتخصص وإعادة الإنتاج. ولعل تقديمنا لنموذج مقاربة النص السردي المنتمي إلى ثقافتين من حيث البناء الديدكتيكي الموحَّد، وتفاعل القيم الثقافية بين الاتصال والانفصال خير دليل على أهمية هذا النشاط التربوي في عصر العولمة وما تطرحه من تحديات تجعل التعدد بديلا للتنميط.
لائحة المراجع
المراجع بالعربية
الكتب
– عبد الكريم غريب، “التواصل و التثاقف” (مؤلف جماعي)، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، ط1، 2010،
– عبد الله إبراهيم، السردية العربية الحديثة: تفكيك الحطاب الاستعماري وإعادة تفسير النشأة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2003.
– محمد برادة، سياقات ثقافية (مواقف، مداخلات، مرافئ)، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، ط1، 2003.
– محمد عابد الجابري، من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلتنا الفكرية والتربوية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985.
– نجيب محفوظ، اللص والكلاب، مكتبة مصر، الفجالة، القاهرة، د.ت.
المجلات
– عبد الله الغذامي، “إعلان موت النقد الأدبي: النقد الثقافي بديلا منهجيا عنه”، ضمن: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر المعاصر (بيروت) ودار الفكر (دمشق)، 2004.
– علاء عبد الهادي، “شعرية الهوية ونقض فكرة الأصل”، عالم الفكر، مجلد 36، عدد 2، يوليوز/ سبتمبر 2007.
الوثائق التربوية الرسمية
– البرامج والتوجيهات التربوية للسنة الأولى من سلك البكالوريا- الصيغة النهائية- أبريل 2006.
المراجع باللغات الأجنبية
– jean pierre WARRIER, La mondialisation de la culture, éd : la découverte, Paris, 3eme éd, 2004.
– Jocelyne GIASSON, la lecture de la théorie à la pratique, coll: ouilles pour enseigner, de boeck, 3éme Edition, 2010,
– Djavad Hadidi, Voltaire et l’islam, coll: études, éd : albouraq, Bayrout, 2012.
– Viala (A) et schmitt (M.P), Savoir lire, éd : Didier, 4eme édition, 1984.
-Voltaire, Candide, série classique, éd : Les édition maghrébines, Casablanca, 2009.