الأنا والغيرية في أدب الرحلة المغربية: “رحلة محمد الحجوي الأوروبية أنموذجًا”
The self and the other in Moroccan travel literature: Muhammad al hajwi’s European journey as case study
د. أنس الصنهاجي/جامعة ابن طفيل القنيطرة، المغرب
Anas Senhaji/ University Ibn Tofail/ kenitra/ Morocco
مقال منشور في 78مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 78 الصفحة 19.
Abstract:
Al-Hajawi’s trip to Europe was an occasion to answer the question of the Renaissance, and an opportunity to extend the pillars of his reform project, which is based on science, order and economy, using in this project the European compass and legal purposes, as anchors to fight the sources of corruption, uproot the nutrients of the backward system and disrupt the engines of its production.
This is in conjunction with the establishment of the rules for the State of institutions, and modern scientific thought based on facts and its strict cognitive controls in dealing with issues and developing programs and plans.
The openness to European civilization does not mean in his project the absolute adoption of its values and principles, or the call to consume its model or the desire to alienate and break with the heritage and obliterate the identity, but rather to be inspired by the incentives of modernity and the forms of its cultivation in a way that suits the state of society and raises its position among nations.
Keywords: Renaissance, the Self, the Other, Journey.
ملخص :
شكلت رحلة الحجوي إلى أوروبا مناسبة للجواب عن سؤال النهضة، وفرصة لبسط أركان مشروعه الإصلاحي الذي يتأسس على العلم والنظام والاقتصاد، مستعينا في هذا المشروع بالبوصلة الأوروبية والمقاصد الشرعية، كمرتكزين لتجفيف منابع الفساد واجتثاث مغذيات منظومة التخلف، وتعطيل محركات إنتاجها، وهذا بالتعالق مع إرساء قواعد دولة المؤسسات، والفكر العلمي العصري القائم على حقائق وضوابط معرفية صارمة في معالجة القضايا ووضع البرامج والمخططات، فالانفتاح على الحضارة الأوروبية لا يعني في مشروعه الإطلاقية في تبني قيمها ومبادئها، أو الدعوة لاستهلاك نموذجها بِزِئْبَرِه وعِتْيَرِه، أو الترغيب في التغريب والقطع مع التراث وطمس الهوية، وإنما استلهام لمحفزات الحداثة وأشكال استنباتها بما يصلح حال المجتمع ويرفع قدر إيالة المغرب بين الأمم.
الكلمات المفتاحية: النهضة، الأنا، الآخر، الرحلة.
تقديم :
يستمد المتن الرحلي جاذبيته من سردياته المفعمة بالعجيب والغريب والطارف والفريد، ومن سبْكه النميق الناظم بين الحبكة والإبداع، والاثارة والامتاع، ومعجمه الفصيح المفصح عن ذهنية الرحالة وهمومه وخلفيات وعيه الثقافي، مداخل ومعطيات تجعل من الرحلة خامة فكرية مستباحة للحفر في منحنيات أفكارها وآرائها وتمثلاتها، وحدود وعيها بالأنا والاخر، خاصة حينما تصدر الرحلة في ظروف احتدام الصراع مع هذا الآخر، أو طفق هذا الأخير يشكل للأنا هاجسا حضاريا مقلقا ينذر بزوال توازنها أو تفوقها على الغير، فتجتهد المشاهد والصور المنتقاة بعناية في بسط معايناتها وتقريبها مِمن يهمهم الأمر، عبر خلفية إيديولوجية تستلهم محدداتها وموجهاتها من السياق والبيئة التي تصدر عنهما، بخطاب تتشابك فيه المعارف بالمواقف والهواجس بالنواكس ومؤرقات العصر.
ودون الخوض في حدود الذاتية والموضوعية التي تظل محط استشكال كل إنتاج علمي، فإن الرحلة تظل شهادتها ذات قيمة معتبرة، بحكم معايشتها لتموجات الصراع وظروفه، وتفاعلها مع مجرياته، وتسجيلها لمواقفها المصرّحة أو الملمّحة، وهي مواقف تعكس في عمقها رؤيتها لذاتها وغيرها في الآن نفسه، وتجليات قوالب الفهم والصراع والتعاون القائم بينهما، وحدود قدرتها على اتخاذ المسافة من الدّارج وتخطّي الأحكام الجاهزة.
وتعد رحلة محمد الحجوي الثعالبي الموسومة بالرحلة الأوروبية أنموذجا في هذا الصدد، وانْخِواطا للمشاعر والتأملات في الذات والغير، وتقييما لواقع الأنا بمعايير الآخر، وتشخيصا لبواعث انحطاطه وأسباب ومسببات ضعفه وهوانه وإفلاسه الحضاري، وغِرارا للرحلة الداعية للانفتاح على الغير بما يفيد إصلاح الأمة وبعثها من جديد، من خلال استلهام تجربته ومكتسباته الحضارية، واستقاء ما لا يناصب الثوابت الدينية.
ولا غرو أن رحلة الحجوي إلى البلاد الأوروبية شاطرت همّ النهضة مع تجربة رفاعة الطهطاوي، وكأن مطارحته للموضوع تحيين لسؤال المعنى، وتصور متقدم لأوليات الإصلاح وآلياته، واستشكال يبني علاقة جديدة مع مسلمات الذات وثوابتها، ويبدو أن هذا الانشغال استبد باهتمام الرحالة وتدبّراته، حتى بات عنصرا نامّا وهامّا في فكره وتطلعاته، ولا جرم أن محك الوظائف المخزنية السامية والمكاسب العلمية وتراكمات الخبرة التجارية، أسهمت بقوة في خط قواعد الإصلاح وتدابيره الإجرائية، وهي وظائف ومسؤوليات ساعدت الحجوي على فقْه بواطن الأمور ومجرياتها، وفهم المنطق الداخلي المسؤول عن الإنتاج السّاجي لنظيمة التخلف وبنيته العاهنة، وبواعث الاحتضار الحضاري وواقعه، ورصد المداخل الكفيلة والمسارات الذليلة التي من شأوها إنضاج مشروع الإصلاح وشروطه.
وقد انقسمت هذه الرحلة إلى قسمين: رحلة سفارية دبلوماسية إلى فرنسا، أعقبتها أخرى إلى إنجلترا رامت السياحة ومعاينة أحوالها العامة، ومخطوطة الرحلة الأوروبية[1] ليست المخطوطة اليتيمة لدى الفقيه الحجوي في أدب الرحلة، بل له صِنواتها في وصف الأندلس وبلدان عربية مشرقية حج إليها وعاين أحوالها مثل الجزائر وتونس والأندلس والحجاز وسمت بعناوين مختلفة من قبيل: مسامرة الزائر برحلة الجزائر، وحديث الأنس عن تونس، والرحلة الأندلسية الفيشية، والرحلة الحجازية، والرحلة المصرية. وهي رحلات أسهمت في صياغة الوعي بذات النّحن، واستُثمرت حين الموازنة مع الآخر.
والحق أن رحالتنا كان شغوفا بمطالعة رحلات سفارية مغربية وعربية دَلفَت على أوروبا، وتلخيص بعضها مثل رحلة ابن عثمان المكناسي إلى إسبانيا ونابولي ومالطة، المدرجة في مؤلف تحت عنوان: “أنس السائر في اختصار البدر السافر” وزعم الحجوي في هذا المؤلف أن رحلة المكناسي كان بإمكانها أن تسهم في إحداث نهضة مغربية تخرجه من غياهب الظلمات إلى نور المدنية لو أنها كتبت بأدب يسهل فهمه واستيعابه من لدن السلاطين وأولياء الأمور، الأمر الذي يحيلنا على الفهم أن الرحلة بالنسبة للحجوي لا تعدو مجرد وسيلة للتسلية والترويح عن النفس، بل غاية للإصلاح والتنوير، وهذا ما حذا به إلى الاجتهاد في تبسيط أساليب الوصف والتعبير وتلافي اللغة العالمة و الفظاظة في توصيف ما بدا من السلوك الموصوم في ثقافته، و غَرْز الانتباه إلى التباين الحضاري وتطويع المستعرض خدمة لأفق خطاب الإصلاح والتنهيض، وتنغيض أهل الحل والعقد وتحريضهم على تيميم جهودهم شطر تشييد سبل النهضة ورسم مساراتها السديدة، فنجده في هذا السياق مغتاظا أسفا على حال المغرب الذي يراه مشدودا إلى درك الارتكاس والتخلف، بنبرة شديد اللهجة ينقشع عنها سؤال الهوية، وتطغى بأسلوب لافت ثنائية التقدم والتخلف، وتنفرج فيها قنوات تتعدد مداخلها وتأويلاتها.
أولا: الرحالة محمد الحجوي: الفقيه والمصلح المخزني
ولد محمد بن الحسن العربي الحجوي الثعالبي في 22 من شتنبر سنة 1874 بفاس، يعود نسبه إلى عترة جعفر بن أبي طالب وزينب بنت علي رضي الله عنهما. بعد أن نال شهادة العالمية من جامع القرويين، انبرى لتدريس طلبتها سنة 1898، وإلى جانب عمله بالتجارة والفلاحة وانشغاله بالتدريس والتأليف وارتياد الآفاق، شغل عدّة مناصب مخزنية سامية من قبيل:
أمين ديوانة وجدة سنة 1902.
نائب السلطان على حدود المغرب مع الجزائر.
عضو المجلس الأعلى للتعليم.
مندوب المعارف (وزير المعارف) ما بين1912-1914و 1921-1939.
رئيس مجلس الاستئناف الشرعي.
وزير العدل سنة 1944.[2]
ولعل من أبرز مؤلفاته:
- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي.
- المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات في الديار المغربية.
- التعاضد المتين بين العقل والعلم و الدين.
- مستقبل تجارةالمغرب.
- النظام في الإسلام.
- الفتح العربيّ لإفريقيا الشمالية.
- مختصر العروة الوثقى.
- الرحلة الأوروبية عام 1919.
- توفي بالرباط يوم الاثنين 8 أكتوبر سنة 1956 ودفن بفاس.
وقد حمل الحجوي مشروعا تحديثيا لم يفتر قيد حياته عن الصدع به في معظم المناسبات والمدبّجات التي نافت عن المائة مؤلف، والتي تمطّت ميادين التعليم والاقتصاد والأصول والتفسير والحديث والسيرة والأدب والتصوف[3]، متوسلا في العديد منها القفز بالمغرب إلى رحاب النهضة والتمدّن، بمساعدة الحماية الفرنسية ومناهج تَسنُّمها الحضاري، عبر أنابيق لا تقبل عدا ما يمكن أن يتناغم مع القيم المغربية و مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى هذا الأساس حاول في مطارحاته التوفيق بين الدين والدخيل، على اعتبار أن الدين لا يتناقض مع الحداثة والتجديد فهناك كما قال: “تعاضد متين بين العقل والعلم والدين”.[4] فالنهوض بالمغرب من كبوته –ظل في تمثله- ينبني على استمداد قيم ونظم حديثة ترتكز على النظام والتعليم كنواتين لمشروع الإصلاح و التحديث، مسندا هذه المهمة للحماية الفرنسية التي تعهدت القيام بإصلاحات بنيوية شاملة، تخرج بها المغرب من شرنقته القرسطوية [5]، وقد قرّ في فكره أن ذلك لن يتسنّى إلا بعملية قسرية تُجرى بمشارط نظام الاحتلال[6]، بعدما تأكد له بالملموس غياب الإرادة والهمة من لدن المؤسسة المخزنية وتواطؤها مع الفساد، ويظهر ذلك بجلاء من خلال انتقاده الشديد للمولى عبد الحفيظ، الذي ندد بتقاعسه عن الجهاد وإبرامه للاتفاقيات المجحفة مع أوروبا والتي تسببت في تعميق أزمة المغرب، وإغفاله معاقبة المفسدين وتنظيم هياكل الدولة، حيث لفت انتباهه في هذا الشأن من خلال الرسالتين التي بعثهما مع الشيخين الخضر الشنقيطي وأبي شعيب الدكالي من مغبة المنتفعين وأزلامهم الذين يبيعون البلاد أقساطا وجملة للأجانب وشذاذ الآفاق، وفي هذا السياق ترجى السلطان إدخال إصلاحات دستورية وسياسية تقوي البلاد وتجعلها عصية على الأجنبي، كما ناشده الصوم عن إبرام أي اتفاق أو معاهدة مع أوروبا إلا بمشاورة الأمة وموافقتها،[7] واستنكر في الرسالة الأولى إغفال النهوض بالتربية والتعليم، ما فسح المجال لهيمنة عائلتي المقري والكلاوي على الوظائف المخزنية، وممارسة الاستبداد على الرعية التي “باتت بين مطرقة أسد ومنجل ذئب”… فالأسد تسلط على الداخلية والذيب على الخارجية والمالية.“[8] وفي هذا الصدد أعرب قائلا: “ننصح مولانا، أيده الله، ثانيا برفع الحجاب عن أمته والنظر فيما قد أضر برعيته، فقد أضر بها أسد وذيب(…) وجالت الأيدي الضارية في أشلاء الأمة الفقيرة الضعيفة الجاهلة، وقطّعت أوصالها ومزقت أحشاءها، ففرقت كلمتها وبغضتها لأميرها وأميرها إليها، كل هذا بالظلم الفادح وعدم انتظام الأحكام واللعب بالرقاب والدماء، وبيع الوظائف جهارا وبيع رقاب العمال ومن دونهم(…) وإني أؤكد عليك محبة في جدك(…) ومنصبك الشريف أن تسترضي أمتك وتستجلب خاطرها وتسالمها وتزيل سوء التفاهم بينك وبينها ولو بما يسخط أوربا في الوقت الحاضر، فإن أوربا تعذرك إذ أنهيت الفتنة وتحاميت إراقة الدماء وأثبت جانبك لرعيتك، وقلبت سياسة الاستبداد والاستعباد بالعدل والشورى“
وعقب إمهار المولى عبد الحفيظ لمعاهدة الحماية، انتقد الفعل انتقادا لاذعا لدرجة أنه حمّل السلطان مسؤولية الاستعمار بسبب سوء تصرفاته، ناعتا إياه بالجاهل والمتعصب والشغوف بالنهب والسلب،[9] واستهجن أيما استهجان استقبال السلطان وحاشيته للجيوش المحتلة وإكرام وفادتها بالحفلات والولائم، “وكأنهم لم يفقدوا نجلا كريما واستقلالا عظيما”.[10]
ولما توثّق الحجوي أن الاحتلال بات أمرا واقعا، وأمام تعهد “اليوطي” بتحديث المغرب وإلحاقه بقاطرة الأمم المتقدمة، وتأكيده بأن المغرب محمية وليست مستعمرة، ارتأى أنه لا خيار سوى المراهنة على فرنسا لتطوير البلاد وتحديث هياكلها، بعدما خاب رجاؤه في المخزن، وهو الأمر الذي شجعه على التعاون مع الاحتلال والدعوة إلى ذلك.
ثانيا: أهداف الرحلة
دامت الرحلة شهرا وعشرين يوما من 2 يوليوز/ تموز إلى 24 غشت/ آب، سنة 1919. انطلقت عشية الأربعاء في الثالث من شوال سنة 1337ه، بأمر من السلطان المولى يوسف لحضور حفل انتصار فرنسا في الحرب العالمية الأولى، المزمع انعقاده في 14 من يوليوز، والذي تساوق مع العيد الوطني للجمهورية الفرنسية، في وفد التأم في عشرة أعضاء، ترأسه الوزير الأكبر محمد المقري، وقد كان الحجوي ممثلا فيه باعتباره نائبا عن فاس والمغرب الشرقي[11]. فضرورة حضور وفد يمثل المغرب في هذه المناسبة جاء بطلب وتمويل من الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، بصفته داعما للمجهود الحربي الفرنسي ومشاركا في تحقيق النصر على أعدائها.[12] وهو ما جاء على لسان رحالتنا وهو يصف استقبال الوفد المغربي من قبل رئيس الجمهورية الفرنسية بقصر الإليزيه قائلا: “ثم أعرب لنا عن سروره بمشاركتنا في حفل النصر وصرح بأن المغرب كما شارك فرنسا في ضراء الحرب سيشاركها في سراء النصر(…) وأثني على عساكر المغاربة البواسل ومعونة السلطان وأعوانه بحسن الإدارة وصدق المحبة“[13]
وما إن أنهى الوفد السفاري المهمة الموكولة إليه، حتى عقد الحجوي العزم على السفر إلى انجلترا التي ظل يهفو إلى زيارتها من فرط ما سمع عن عجائبها من أبيه وبعض التجار الذين ارتادوها وصبْوة في إمعان النظر في أحوالها التجارية، واللاّفت أن الرحّالة كلما شاهد معلما أو تقليدا إلا قارنه مع النظيرة الفرنسية، مستعرضا في غمرة المفاضلة بين البلدين السمات والخصوصيات الثقافية التي تميز الحضارتين، مجملا في هذا السياق بتفوق فرنسا على مستوى الفنون ودماثة السلوك، وجارتها على صعيد الصناعة والتجارة والعناية بالصحة والبدن[14]
ثالثا: علّة تخلف الذات وتفوق الآخر في وعي الرحالة محمد الحجوي
1-النظام وعاء الإصلاح
انْشَدَه الحجوي من نمط النظام المعتمد في أوروبا وخصائصه الفريدة، معتبرا انسيابه في كل مناحي الحياة المياسم السافرة لأسباب التقدم التي ترفل فيه أوروبا، والنسق الذي تنتظم في طياته باقة من المكونات والعناصر المؤسسة لوجوه المدنية ومعالمها، والمتأمل في متن الرحلة الأوروبية يسترعه السياق الذي وظف فيه الحجوي خطاب النظام، موحيا بأهميته كمرتكز أساس لا مندوحة عنه في بعث الأمم والنهوض بأوضاعها، وهو ما أعرب عنه في مختلف محطات الرحلة قائلا: “فباريز معدن المدنية العصرية والنظامات الأوروبية(…)” “وأهل الذوق الرفيع وأهل الأناقة والكياسة(…) ” “أعانهم على هذا اقتدار رجالهم العظماء وسعة معارفهم مع علومهم، وكمال النظام في الإعمال والأحكام وما فطر عليه أهلها عموما من الشغف بالنظام في كل شيء (…) “شوارع باريز وطرقها غاية في النظافة والنظام(…)”[15] ولتمام نظام البليس ]الشرطة[ وكمال طاعة الناس واحترامهم لأوامره فإنه يقف في ملتقى الطرق ولا يتكلم وإنما يرفع يده فيقف الصادر والوارد دفعة واحدة لا يتقدم أحد بقدم حتى كأن بيده كهرباء توقف الجميع وهذا في لندة أكثر منه في باريس”[16]
فالنظام في أوروبا كما فهمه الحجوي هو حس سلوكي تربوي، وأسلوب حياة اجتماعي يضبط كل مؤسسات الدولة من النظام السياسي إلى نظام المرور، في امتثال تام لكل مكونات المجتمع دون تمييز، ومن أجلى صور ذلك المجلس البلدي الباريسي، الذي يعكس أبهة باريس ورونقها الباهر، فلا يباهي نظامها التمثيلي والتدبيري إلا كفاءة ولباقة القيمين على شأنها العام، “فتجد شيخ المدينة مثلاً أزيد أدباً ولطفاً ممن تحته في الرتبة إذ لا يرشح للمناصب الكبار عندهم إلا الكبار وليس المراد الكبار الجثة أو العمامة أو، أو، بل الكبار قلباً وعلماً وأخلاقاً(…) واجمع لك وصف هذا المجلس بان نقول إنه على قدر عظمة المدينة ورفاهيتها” والقياس في هذا المضمار لا تستقيم معه المقارنة مع بلديات الوطن “فلا تقسه ببلدية فاس مثلا[17] كما أنه لم يجد غضاضة في التعبير بأسلوب الانبهار على سلوك التواضع وحسن الضيافة وكرم الوفادة الذي حف به رئيس الجمهورية الفرنسي الوفد المغاربي، واصفا ذلك بالقول: ” وسلمنا على الرئيس وهو قائم على قدميه واحدا بعد الآخر(…) باسما هاشا(…) ثم ودع الجميع والألسنة تثني عليه الثناء الجميل وعلى أخلاقه الجميلة وتواضعه الزائد حتى يظن الظان أنه ليس رئيس جمهور أمة تعدّ بأربعين مليونا ومستعمراتها بستين مليونا.[18]“
وفي غمرة هذه اللهجة امتزجت مشاعر الإعجاب بالحسرة التي ظلت لازمة لازبة لمتن الرحلة وملازمة له كالقول: “وهنا لا مجال لقياس ذلك بما لدينا في المغرب” مصرا على مواتنة جلد الذات بزرِية تخلفها عن إحراز قصب السبق الحضاري في غفلة وغشمرة، وانسحابها من صراع التفوق والظهور، بعدما ظلا ردحا من الزمن كفرسي رهان في ندية وتناظر.
والمطالع لمؤلفات الحجوي يجد فيها صدى لأهمية النظام ودوره في عتق الشعوب من ربقة العتاقة والتأخر، فهو في تمثله توليفة متّسقة لا تكتمل أركانها إلا باتساع المشارب المعرفية، في ظل سيادة العدالة والقانون، وشيوع رَصافة الترتيب وفُرشة التصفيف والنظافة، وهذا لا يعني في مشروعه اجترار نظام السلف وسحب ذيله من جديد، وإنما إبداع نظام منسجم مع طبيعة العصر وتحدياته، قابل للبلورة والتبييء وفق مقتضيات الزمان والضرورة، في عروة متصلة بالاجتهاد الفقهي والمقصد الشرعي، بما يخدم أفق التمدّن والازدهار، وفي هذا الصدد أعرب قائلا:” لقد غاب نجك الحق في سحاب التقليد والتعصب المذهبي ولاسيما في فروع المعاملات البينية على مصالح تليق بزمن مضى ولا توافق الزمن الحاضر وتصلح أحكامها لأحوال دون أحوال وبيئة دون بيئة مع ما تجدد في عصرنا من مبتكرات ومخترعات ونشأت معاملات لم يكن لها نظير في الزمن الغابر“[19]. فعامل النظام عدّه الحجوي قطب الرحى في التفوق الغربي،[20] لذا شدّد أن على “الكل أن يدخل النظام في كل شيء ليحفظ وقته الذي هو أنفس ما يحفظ”.[21] ” فتخلف المسلمين في اعتقاده لا يرتبط فقط بالابتعاد عن الفهم الصحيح للدين الإسلامي، بل أيضا بتكلس بنية العبث والفوضى وغياب النظام، “فأقبح الخصال التي أوردت بالإسلام هو جمود متأخرهم عن كل قديم وتفريطهم في حفظ النظام وإهمالهم إصلاح الأنظمة التي لم تبق مناسبة للأحوال المتجددة وغلبة الوهم على أفكارهم حتى عدوا المحافظة على القديم من فروض الدين… فالدين يقدم فيه حفظ المصلحة العامة وصون البيضة وارتقاء الأمة”[22]وهذا ما جعله يغرو كثيرا بأسس النظام الأوروبي ومظهره الديمقراطي، ويدعو بنهم لتبني نظام يواكب العصر، متوافق مع خصوصيات المجتمع المغربي، كُفء لخوض غمار التحديات الراهنة، وهو ما أشار إليه قائلا: “إن نظام المجالس الشورية الانتخابية الموجودة في أوروبا وإن لم يكن بعينه عند الإسلام، لكن كان لهم نظاما كافيا بحاجاتهم الوقتية مناسبا لأفكار أمم ذلك العصر، لكون هذا النظام العصري لم يتكون دفعيا، بل نتيجة قرائح أمم أوجدته تدريجيا في أجيال متطاولة.[23]” “نعم كل نظام قابل للتغيير في حياة المجتمعات بمعنى أن أحوال الأمم لا تستقر على حال بل تكون مرغمة على التجديد حيث تتأثر بالتغيرات الظرفية المحيطة بها وتؤثر فيها (…) نعم كل نظام قابل للتطور بحسب تطور الأحوال والأزمان والعوائد والمألوفات وتغير الأفكار فكم من نظام يكون صالحا لأمة في وقت لا يكون صالحا لها وقت آخر”[24] .
2- التعليم الركن الركين للنهضة والتمكين
كشف الحجوي أن سر نهضة أوروبا وعلو سهمها يعزا في المقام الأول إلى ما حفّته من عناية لمناهج التعليم ومؤسساته ومحافله العلمية، وما أفردته من اهتمام للعلم والعلماء في مختلف المجالات والتخصصات، وخصته من مبالاة للشأن الثقافي بكل أشكاله وصنوفه، معتبرا ذلك جوابا على ما تَبْرُغ فيه أوروبا من بذخ حضاري، وما يكتنفها من مأد اجتماعي وثأد في العيش والمعيش، ونماقة في الأجواء والعمران وكل ما يعتريها من رقيش، مسوّرا باريس السِّدرة على هذا الصعيد، فلا يضارعها أريم ولا يضاهيها عريم، إذ “إنها لأول المدائن العظمى معارف وفنون جميلة، بل يحق لها أن تعد مدرسة للفنون الجميلة في العالم، وإنها لأعظم المدائن مدارس ومستشفيات ومتاحف ونواد وعلوم ومطابع وقاعات وصناعات وملاهي ومراسح وحانات. فهي بؤرة اللطف والرشاقة ومطمح الذوق السليم العالي والاختراع المثمر للمعالي. ولقد أعانهم على هذا وذاك اقتدار رجالهم العظماء وسعة معرفتهم مع علومهم وكمال النظام في الأعمال والأحكام(…) وإتقان كل عمل يأتونه وعلو الهمة في الترفه وحب الجمال والتظاهر بالكمال والهيام بالعلوم والمعارف وأساس ذلك كله هو العلم، فالتعليم عندهم إجباري على الرجال والنساء(…) بذلك القدر ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم الغير متمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابة ولا أدبا ولا حسابا ولا ولا(…) كأهل المغرب الاقصى مثلا(…) فكل مدارس مدينة أو قرية أوروبية ترى فيها المدارس مشيدة ونوادي العلم عامرة (…) لكن أهل باريز أزيد علما وأدبا من غيرهم للطف طباعهم ولما فيهم من القابلية الزائدة عما في غيرهم. ولهذا استبحر العمران في باريز وازداد عدد سكانه وكثرت قصائده من الأفاق البعيدة“[25] وفي وصفه لخزانة الأمة الفرنسية بباريز انبهت قائلا: ” وهي آية في الاتساع والضخامة(…) وكيف لا يدهش الإنسان إذا رأى ما ينيف على ثلاثة ملايين من الكتب المطبعية وما أناف عن مائة ألف كتاب خطية وقالوا إن العدد أكثر من ذلك(…) وقد دخلنا لغرفة فقالوا: هذه فيها الكتب التي ألفها علماء أمريكا وهي تعدل بمكتبة القرويين ومراكش معا إلا أنها مطبعية. فقلت في نفسي: هذه أمة جاءت في الزمن الأخير ألف علماؤها هذا العدد من الكتب وما استقلت إلا منذ نحو مائة وخمسين سنة (…) وإن اللغات الموجودة كتبها في هذه الخزانة تبلغ اثنين وخمسين لغة. وقد دخلنا لغرفة فقيل: هذه لعلم الموسيقى، فتأمل[26].
والمتأمل في وصف رحالتنا لباريس ومعالمها يحسبها فَانْتازم شرد به الحجوي عن جادة التمييز ومليّة التركيز، بيد أنها على الحقيقة شكلت في وعيه آية في الحسن والكمال لا شَروى لِفَراهتِها فنا وأدبا وعلما ونظاما وعمرانا وسلوكا، وبقدر ما يجد فيها من أسباب القوة والدعة أجلى الصور وأنظر العِبَر، بقدر ما يستحضر الوطن في أَرَثّ بِجاد وأَسْمَل الثياب، فتفرض المقابلة نفسها دون عيّ أو مركب نقص، بائحة بعُجرها وبُجَرها على إيقاع يهجو الذات ويكْبر الآخر، فلا يفتر كلما طفق يزهو بما صوب ناظريه من البدائع والمنجزات الأوروبية عن مطابقتها بما يَمْثُل في بلاده، بنفَس مفعم بتبكيت الأنا وتقريظ الآخر من قبيل قوله: “وهذه الخزانة هي في الأصل دار للوزير الأكبر للملك لويز الرابع عشر المتقدم، وهي آيه في الاتساع والضخامة. ولا يسبق إلى وهمك إذا سمعت لفظ دار الوزير أنها كدار الوزير أحمد بن موسى في فاس أومكناس أو مراكش، بل لو وجمعت جميع هذه الديار الثلاث في مقابلتها ما وفيتها حقها لأن القباب والصروح هنا لا يوجد لها مثيل في الدور الثلاث، بل المقاعد التي جعلت للمطالعين لا يوجد لها نظير عندنا في المغرب”. وفي السياق ذاته قال: “هذه فيها الكتب التي ألفها علماء أمريكا وهي تعدل القرويين ومراكش معا(…) فما أعظم مدارك البشر إذا كان عائشا في جو صاف يستنشق فيه هواء الحرية المطلق ويتغذى بلبان العلم والتهذيب. ليت شعري ماذا ألفه علماء المسلمين في هذه المدة؟!. وقوله ” ثم إن رفقائي ملوا كثيرا وضجروا من كثرة ما رأوا وأرادوا الخروج فقلت لهم : ألستم طلبتم رؤية الكتب الخطية فنحن ننتظر وصول المكلف بها؟ عجبا لكم : ما حصل ملل لمن ألف آو كتب أو طبع أو سفر أو ادخر أو بنى أو رصف أو جنس ولا لمن يرينا ويطلعنا فلا أمل في ارتقاء من به داء الملل، فالملل آفتنا العظمى وسبب من أسباب تأخرنا وتقدم غيرنا إنا إذن لمن العاجزين ولو كنتم في ملهى ما مللتم[27]“
ولا تكاد تخلو مؤلفات رحالتنا ومحاضراته[28] من التنبيه إلى أهمية التعليم ووجاهته في القطع مع حالة الانكفاء والنكوز التي تسلّطت على الواقع المغربي وأسّت تطلعاته، داعيا إلى تأسيس مدارس عصرية تحافظ على الشخصية المغربية وثوابت الأمة، وفي الوقت نفسه تنفتح على علوم الكولونيالي وثقافته[29]، وهو النهج الكفيل في تصوره على تصيير الحال من الوضارة الى النظارة ومن الهوان إلى العنفوان، ولا يمل في معرضها من التفطين إلى ضرورة تحديث البرامج والمناهح التعليمية، والاحتفاء بالمجالس والمحافل العلمية والحرص على الاعتناء بها، باعتبارها الكنف الذي ربت في أحضانها حضارة الإسلام وأزهرت بين ظهرانيها فراقد العلم وأفكار العلماء، ومن غيض فيضها قوله: ” بالعلم ارتقت الفلاحة والصناعة والتجارة، وبه وصلت الدول أوج المعالي[30]” قوله: “وغير خفي عن أحد أن منتديات أوروبا هي السبب الأكبر في رقي أفكار أهلها وبالمنتديات يبتدئ الرقي الفكري في كل الأمم قبل المدارس بل هي بذور المدارس، وبتلك المسامرات والمحاضرات التي تكون بتلك المنتديات زخرت أوروبا بالعلوم وعمت الحركة العلمية سائر الطبقات“[31] .
ولم يأل رحالتنا جهدا في توجيه الملتمسات و الرسائل إلى سلطان البلاد رجاء فتح مدارس ليلية لتعليم الكبار و الاهتمام بالعلم ورجالاته وتجويد مؤسساته” وفي هذا الشأن قال:” فلا أزال أقرع الأسماع لعله يحصل الإسماع ويتحقق الأمل. “[32]وما إن تولى مسؤولية المعارف (وزير التربية و التعليم)، على عهد الحماية الفرنسية، حتى انكب رحالتنا على تأسيس المدارس والمعاهد العصرية، واستغلال المجامع العلمية التي كان يحضرها والخطب والدروس الدينية التي كان يلقيها في مختلف المناسبات، لإقناع المغاربة بإرسال أبنائهم للتعلم في المدارس الحديثة، بعدما استقر في ذهنهم أنها وسيلة لتوطيد الوجود الفرنسي ونشر ثقافته الخليعة ومسخ هوية المغاربة الرفيعة، وفي هذا الصدد أشار إلى الصعوبات التي صادفته في سبيل ذلك بالقول: “وكم تحملت من مصادمات وشتائم ممن هم ضد التعليم وهم كثر” [33]
أما فيما يخص تعليم المرأة فقد كان له قصب السبق في الدفاع عن حقها في التعليم، ليس فقط باعتباره حقا شرعيا من حقوقها، بل باعتباره أيضا واجبا دنيويا يساعد بشكل وازن في الحفاظ على الهوية و التسريع من رهان التقدم بخلق مجتمع خلاق ومنتج، ولهذا القصد قام بتقديم برنامج بيداغوجي متنوع يجمع بين العلم وتهذيب الأخلاق،[34] فإلى جانب ما تحفظه المرأة مما تيسر من القرآن الكريم، اقترح الحجوي أن تتعلم المرأة ما يلي:
– القراءة و الكتابة و الخط و الرسم.
– ضروريات الحياة من عقائد و عبادات و مبادئ النحو و الآداب العربية.
– تعلم الحساب و الجغرافيا و التاريخ و مبادئ العلوم والهندسة العملية.
– الأخلاق الإسلامية تعلما و تخلقا.
– تدبير شؤون المنزل و الاقتصاد و الرشد في الأحوال.
– تدبير الصحة والتربية البدنية.
– فن التربية لتحسن تربية أبنائها.
– تعلم حرفة أو أكثر من قبيل الخياطة والفنون الجميلة.
ولبلورة هذا البرنامج، طالب الحجوي بتطوير مدارس البنات والرفع من مستواها، وتكوين مدرسات مغربيات مسلمات يساهمن في ترقية التعليم، الذي يخضع لمنافسة قوية وغير متكافئة من طرف الكنائس والمؤسسات التابعة لها.[35]
3-الاتجار القويم رهين بالنظام والتعليم
أَبَّهَ رحالتنا على أن أضلاع النهضة لن تكتمل إلا بتطوير أنظمة التجارة وعلومها، وإيفاع دارسيها ومزاوليها على شمائل الصدق وقواعد الالتزام، رابطا في هذا السياق بين تقدم أوروبا وإجادتها لشؤون التجارة، وحرصها على تجويد أساليب المتاجرة وضبط المعاملات، حتى باتوا مضرب المثل في إتقان فنون التجارة، وقبلة للراغبين في النهل من علومها وتجاربها وخبراتها في هذا المجال، وقد خص بالذكر في هذا المقام تجار الانجليز، ناعتا إياهم ب “المشهورون في العالم بمعرفة طرق التجارة وأساليب الإيراد والإصدار، وأعانهم على ذلك ما عليه تربيتهم من صدق المعاملة والقناعة بالربح القليل ليباع العدد الكثير. ويقولون: القليل في الكثير كثير، وهذه قاعدة مطردة ضرورية. فصدقهم في المعاملات الصدق التام الفائق في غيرهم هو الذي مهد لهم الاستيلاء على معظم تجارة العالم، فالانجليزي إذا سمى لك الثمن فخذ أو ترك ولا تفاتحه في المهاودة. هذا خلق كثير منهم أو الكل فيما سمعنا ممن طال مكثه بين ظهورهم الآماد الطويلة، مع صدق لهجتهم وعدم خداعهم في التجارة لا في السياسة، فحصلت للعالم بهم ثقة تامة أعانتهم على اتساع متاجرهم مع أقطار العالم“[36].
نفهم مما ذكر أن رحالتنا أرشد للأواليات الرئيسة التي تؤسس لتجارة عالية الجودة في الأداء والمصارفة، والمداخل المحكمة التي من شأوها النهوض بالقطب التجاري والقطاع الاقتصادي برمته، وذلك لاعتباره ركنا لا مندوحة عنه لتشكيل صرح النهضة وترصيف مسارها، ففي محاضرة ألقاها في محفل التجار المغاربة، طرح الحجوي سؤالا استفهاميا بيانه على الصيغة الآتية:” فلأي شيء تقدموا وتأخرتم؟” مجيبا في الوقت نفسه في حوار تداخلت فيه ديالوجيا بالمونولوجيا قائلا: “تقدموا لأنه قدمهم العلم بالتجارة وأخرهم الجهل بها” فالتجارة في تصور الحجوي علم قائم الذات يرتكز على ثلاثة مبادئ رئيسة يتجلى الأوّل في: العلم بقواعد التجارة وقوانينها الحديثة” من محاسبة وإمساك الدفاتر واستعلام عن أحوال السوق في الجرائد والمجلات المتخصصة وتقص الأخبار. بل تجد منزل كل تاجر نابه منتدى من منتديات الأدب والسياسة، فتجد فيه مجلات الشرق والغرب، وكل كتاب حدث في الاجتماع أو الاقتصاد أو غيرهما. “[37] في حين ينجاب الثاني في: التحلي بحس اللياقة واللباقة في الابتياع والتسويق، وحسن الأناقة والنظافة في هيئة التاجر والمتجر، وترتيب السلع والبضائع وتنسيقها في إشراقة ورونقة، ومتاجر إنجلترا وتجارها في هذا الشأن مثال يحتذى به، إذ “يبهت طرفك في نضارة المحل وزخرفته وجمال منظره، ثم في منظر البضاعة وتنسيق وضعها: كل جنس مع جنسه ونوع من نوعه(…) وإذا نظرت إلى من يبيع وجدته نظيفا ظريفا ذا كسوة جميلة ووجه بشوش وأخلاق كريمة وتربية حسنة وصبر وحذق، فيكون ساحرا لك فتشتري منه رخيصا وغاليا “. أما الثالث فيتبدّى في: تحري الوفاء والإخلاص في المتاجرة، والاجتهاد في الرفع من منسوب البيع وكم المردود، وذلك يتأتى عن طريق “صدق المعاملة والقناعة بالربح القليل ليباع العدد الكثير[38]”
وإلى جانب هذه المرتكزات، وكّد رحالتنا في مختلف المناسبات على الانفتاح على اللغات الأجنبية والعمل علـى إتقانها، ولاسيما اللغة الفرنسية، وألح من جهة أخرى على ضرورة الاهتمام بالتعليم التقني وربط التكوين النظري بالتطبيق، والأخذ بالعلوم الحديثة الرياضية منها والطبيعية، وإبداع مناهج تساعد على تكوين التاجر المسلم وتأهيله وصقل مواهبه حتى يصبح قادرا على منافسة التاجر اليهودي و النصراني، وذلك بالعمل على إشاعة مدارس متخصصة في التعليم التجاري، يلقن فيها الطالب أدبيات التعامل وأسسها السليمة في المحاسبة وإمساك الدفاتر وملاحظة إيقاع السوق وحركته داخل البلاد وخارجها[39].
آمن الرحالة والتاجر والفقيه والوزير محمد بن الحسن الحجوي بأن الإصلاح الذي فشل فيه المخزن لأسباب بنيوية بالأساس، تتوفر شروطه في الحماية الفرنسية، الذي تفرّس فيها القدرة على إحلال إصلاحات عميقة في بنيات المجتمع الرجعية،[40] ونقل المغرب من دَيْجور الانحدار إلى نور الاشْمِخْرار، داعيا إلى إعطاء القوس باريها، والتعاون معها بصدق وإخلاص، للقضاء على مسببات النكبة الحضارية وتجاوز آثارها[41]وذلك لن يتسنى حتى ” نجعل يدنا في يدها وأن نصافيها ونتحد معها حتى ننهض بالمغرب من كبوته إلى المستوى اللائق بمجده التاريخي ومكانته بين الأمم ، تعاون يفرضه العصر بل يفرضه منطق التقدم والقوة اللذان أصبحا إلى جانب فرنسا الدولة الحامية.”[42]
رابعا: تمثيل الهوية في اجتراحات الرحلة الأوروبية
لم يخرم البهاء الحضاري الذي تترف فيه فرنسا ويعكر صفوه في نظر رحالتنا، عدا غياب وازع الغيرة والحمية وانتفاء سلطان العفة، واستشراء سفور المرأة الشّاف لمفاتنها وتنوقها الشّأف المبالغ فيه، وحلولها في الأماكن العامة في وضعيات بذيئة مخلة بالحياء والحشمة “فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرجا لا يتصور فوقه إلا سفاد الحيوانات في الطرق جهرا. فهذا الشيء أفسد الأخلاق ولا تستحسنه ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع[43]” هذه المشاهد التي تعادي بيئة الرحالة الاجتماعية وخلفيته الدينية، آضَت جراءها باريز من حاضرة العلم والآداب والأخلاق والجمال والفنون(…)[44] الى مرابد الدَّرْز والمجون و “كعبة الطائفين للتهتك لا التنسك، وركن التفرج والتفسخ لا التبرك، ومرسح التفنن في الأزياء الكثيرة والزخارف الوفيرة والرفه البارع والتهتك بدون وازع وترتيل آيات الملذات بالتجويد والمد والإشباع[45]” والحق أن رحالتنا لم تنتبه نوبة فصامية حين قدم مدينة باريز بوجهين متنافرين، في ثنائية تقابل أخلاقها الرفيعة/الوضيعة، وتصف الحاضرة بمدينة العلوم/المجون، وإنما تعمد إثارة هذه المشاهد المغضوضة في ثقافة الرحالة، لصرف اهتمام المتلقي إلى ما ينفع ويعين، والتورع عما يخزي ويشين لدى الآخر في تصوره، فليس من الحصافة كما لمّح أن يكون الزائر أو المهتم حاطب ليل ولا ساحب ذيل، فلكل شيء إذا ما تم نقصان، ولا يعدو قمر لا يغشاه جانب مظلم.
وباعتباره تاجرا، راعه سريان الأفكار البلشفية في الطبقة العمالية، التي عدها جهلا بالحكمة الربانية ومدعاة لزعزعة الاستقرار الاقتصادي وإخلالا بالميزان الاجتماعي، مستنكرا دعوتهم إلى “مساواة العملة مع أصحاب المعامل في الإرباح فيعتصبون ويمتنعون عن العمل: يدّعون غلاء المعيشة فيلبي أصحاب المعامل طلبهم ويزيدونهم في الأجور وينقصون من ساعات العمل لكن أصحاب المعامل يزيدون ما زادوه للعملة على أثمان البضائع فيتفاحش ارتفاعها[46]“
خلاصة :
اعترف خطاب الرحلة الأوروبية بوصمة الانتكاسة التي تعتور الذات على جميع المستويات، وعمق الهوة الحضارية الذي تفصله عن الآخر بمسافات، هذا الاعتراف جاء بناء على الاتصال المباشر بفضاء الآخر الذي صَدَّق المسبقات التمثُّلية للرحالة وبرّ وعيه بها، وهذا ما يؤكد أن وعي النفس لا يحصل إلا في تناص مع الغيرية، إذ تسهم عملية المقارنة والاتصال في تبدي وضعية الأنا على حقيقتها، فمن جدل الأضداد ينشأ الوعي بالذات، فكلما سلك الآخر نحوها سلوكا آنس في وعيها إدراكا بالتميز والتمايز. وقد شكلت هذه الرحلة لدى الحجوي مناسبة للجواب عن سؤال النهضة، وفرصة لبسط أركان مشروعه الإصلاحي الذي يتأسس على العلم والنظام والاقتصاد، مستعينا في هذا المشروع بالبوصلة الأوروبية والمقاصد الشرعية، كمرتكزين لتجفيف منابع الفساد واحتناك مغذيات منظومة التخلف وتعطيل محركات إنتاجها، وهذا بالتعالق مع إرساء قواعد دولة المؤسسات، والفكر العلمي العصري القائم على حقائق وضوابط معرفية صارمة في معالجة القضايا ووضع البرامج والمخططات، فالانفتاح على الحضارة الأوروبية لا يعني في مشروعه الإطلاقية في تبني قيمها ومبادئها، أو الدعوة لاستهلاك نموذجها بِزِئْبَرِه وعِتْيَرِه، أو الترغيب في التغريب والقطع مع التراث وطمس الهوية، وإنما استلهام لمحفزات الحداثة وأشكال استنباتها بما يصلح حال المجتمع ويرفع قدر إيالة المغرب بين الأمم، في الحدود التي لا تخالف المقاصد الشرعية الإسلامية.
قائمة المصادر والمراجع
1-آسية بنعدادة، الفكر الإصلاحي في عهد الحماية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003.
2-إسماعيل الحسني، سؤال التحديث والاختيار الاستعماري في شخصية -محمد بن الحسن الحجوي نموذجا-، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003.
3-حميد الصولبي، “نازلة الحماية في نظر الفقيه المغربي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي“، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية مراكش، العددان 16 و17، 2001- 2002.
4-الطيب بياض، رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنيين السابع عشر والعشرين، المطبعة السريعة، القنيطرة، 2016.
5-محمد الحجوي، الرحلة الأوروبية، المكتبة الوطنية بالرباط ، قسم الوثائق والمخطوطات، الرقم التسلسلي ح 4/ 115.
6-محمد الحجوي، كلمة ألقاها بحضور تلاميذ مدرسة أولاد الأعيان بالرباط سنة 1942، عنوانها: مستقبل التجارة بالمغرب نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت رقم ح118.
7-محمد الحجوي، النظام في الإسلام ، مطبوعات معهد المباحث العليا المغربية، الرباط، 1928.
8-محمد الحجوي، تجديد علوم الدين ، مطبعة الثقافة، سلا، 1357ه.
9-محمد الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الجزء الرابع، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.
10-محمد الحجوي، مختصر العروة الوثقى في مشيخة أهل العلم والتقوى، تحقيق محمد بن عزوز، سلسلة علماء القرويين، رقم 2، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، دار ابن جزم، 2003.
11- محمد الحجوي ، نسخة مخطوط محفوظة في المكتبة الوطنية بالرباط، تحت رقم ح 113.
12-محمد الحجوي، نسخة مخطوط محفوظة بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الارشيفات، تحت رقم 123.
13-محمد الحجوي: الخبر عن دولة المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ، مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت رقم ح 128.
14-محمد الفاضلي، الرحلة الاوروبية، المؤسسة العربية للتوزيع والنشر، سلسلة ارتياد الآفاق، بيروت، 2003 .
15-محمد اليزيدي، “محمد بن الحسن الحجوي ومندوبية الصدارة العظمى في العلوم والمعارف على عهد الحماية الفرنسية“، دعوة الحق، عدد 380، السنة 45، 2004.
16-سعيد بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2001.
17-سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 12، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2005.
[1] -المخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت الرقم التسلسلي ح 4/ 115.
[2] – محمد الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، الجزء الرابع، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995، من الصفحة 69 الى الصفحة 80.
[3] -محمد الحجوي، مختصر العروة الوثقى في مشيخة أهل العلم والثقوى، تحقيق محمد بن عزوز، سلسلة علماء القرويين، رقم 2، مركز التراث الثقافي المغربي، الدار البيضاء، دار ابن جزم، 2003، ص 125.
[4] – محمد الحجوي ، نسخة مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، تحت رقم ح 113، ص 125.
[5] – محمد اليزيدي، “محمد بن الحسن الحجوي ومندوبية الصدارة العظمى في العلوم والمعارف على عهد الحماية الفرنسية“، دعوة الحق، عدد 380، السنة 45، 2004، ص 106.
[6] – إسماعيل الحسني، سؤال التحديث والاختيار الاستعماري في شخصية -محمد بن الحسن الحجوي نموذجا-، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2003، ص 157.
[7] – محمد الحجوي، نسخة مخطوط محفوظة بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت رقم 123، ص. 117.
[8] -محمد الحجوي: الخبر عن دولة المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ، مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت رقم ح 128، ص 47 .
[9] – آسية بنعدادة، م.س، الفكر الإصلاحي في عهد الحماية، المركز الثقافي العربي، 2003، ص. 186.
[10] -محمد الحجوي، الخبر…، م.س، ص. 56
[11] محمد الحجوي، الرحلة الأوروبية، المكتبة الوطنية بالرباط ، قسم الوثائق والمخطوطات، الرقم التسلسلي ح 4/ 115.
[12] – الطيب بياض، رحالة مغاربة في أوروبا بين القرنيين السلبع عشر والعشرين، المطبعة السريعة، القنيطرة، 2016، ص. 166.
[13] – سعيد بن سعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 12، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص. 140.
[14] محمد الحجوي ، الرحلة الأوروبية، م.س، الرقم التسلسلي ح 4/ 115.
[15] – محمد الفاضلي، الرحلة الاوروبية، المؤسسة العربية للتوزيع والنشر، سلسلة ارتياد الآفاق، بيروت، 2003 ، ص ص 50-52 .
[16] – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص 167.
[17] – محمد الفاضلي، الرحلة الأوروبية، م.س، ص 47.
[18] سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص140.
[19] – محمد الحجوي، تجديد علوم الدين ، مطبعة الثقافة، سلا، 1357 ، ص 12.
[20] – محمد الحجوي، كلمة ألقاها بحضور تلاميذ مدرسة أولاد الأعيان بالرباط سنة 1942، نسخة مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الأرشيفات، تحت رقم ح118، ص 19.
[21] – محمد الحجوي، النظام في الإسلام ، مطبوعات معهد المباحث العليا المغربية، الرباط، 1928، ص 56.
[22] – محمد الحجوي، النظام في الإسلام، م.س، ص 56.
[23] -محمد الحجوي، الفكر السامي …، م.س، ص 231.
[24] – المرجع نفسه، ص16.
[25] – سعيد الفاضلي، الرحلة الأوروبية، م.س، ص ص 52-53.
[26] – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص132-133.
[27] – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص132-133.
[28] – راجع مؤلفات محمد الحجوي في الموضوع من قبيل: الفكر السامي في الفقه الاسلامي الجزء الأول والثاني. مختصر العروة الوثقى . محاضرة تجديد علوم الدين . نقد كتب الدراسة للعلوم العربية بافريقيا الشمالية، تونس 1931، محاضرة في إصلاح التعليم العربي، مخطوطة بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الارشيفات، تحت عنوان: مستقبل التجارة بالمغرب تحت رقم ح118.
[29] – محمد اليزيدي،”محمد بن الحسن الحجوي…”، م.س، ص. 108.
[30] – محمد الحجوي، مستقبل تجارة المغرب، نسخة مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، تحت رقم ح118 ، ص 21.
[31] – محمد الحجوي، مختصر العروة الوثقى ، مطبعة الثقافة، سلا، 1938، ص.19.
[32] – محمد الحجوي، مستقبل تجارة المغرب،م.س، ص. 64.
[33] – محمد الحجوي، نسخة مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط، قسم الارشيفات، تحت رقم ح158، ص. 35.
[34] -محمد الحجوي، الفكر السامي…،م.س، ص. 285.
[35] -محمد الحجوي، الفكر السامي…، م.س، ص. 286.
[36] – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص. 169.
[37] – محمد الحجوي، مختصر …، م.س، ص. 19.
[38] – سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص. 169.
[39] – سعيد بنسعيد العلوي، الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،الطبعة الثانية، 2001، ص ص. 85-86.
[40] -إسماعيل الحسني، سؤال …، م.س، ص. 157.
[41] – محمد اليزيدي، “محمد بن الحسن الحجوي…“، م.س، ص. 107.
[42] – حميد الصولبي، “نازلة الحماية في نظر الفقيه المغربي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي“، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية مراكش، العددان 16 و17، 2001- 2002، ص. 82.
[43] سعيد بنسعيد العلوي، أوروبا...،م.س، ص.84.
[44] -المرجع نفسه، ص. 115.
[45] – المرجع نفسه، ص. 84.
[46] – المرجع نفسه.