علوم التربية بين إشكالية الهوية وتعقد الظاهرة التربوية
Education sciences between the problem of identity and the complexity of the educational phenomenon
عبد المجيد شفيق، الأكاديمية الجهوية لوزارة التربية الوطنية فاس- مكناس، المغرب
Abdelmajid Chafik/ Regional Academy of the Ministry of National Education Fes – Meknes, Morocco
مقال منشور في 78مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 78 الصفحة 9.
Abstract :
Education sciences, seem to be as an accumulation of a group of scientific disciplines that are only gathered around the issues of education, this may make its branches isolated from each other, and hinder the inaccessibility of each specialization to others, which. in turn may lead to fragmentation and jeopardization of major goals of humanitarian activity centered around education. Therefore, Is it normal that sciences constitute methods, tools and concepts of knowledge ?or is it up to the researcher, especially in the field of educational sciences To appeal to a synthetic epistemology that draws from various disciplines?, and thus condemn the fragmentary approach that separates the sciences from each other according to a reductionist approach to which Reboul Olivier states that “Sociology is referred to a sociological tendency and psychology to a psychological tendency, thus to a reductive dogmatism “.
The sciences of education exist in a situation of improvisation and alienation, where epistemological and methodological problems affect its identity. In this article we will try to raise the issue of educational sciences between the problem of identity and the complexity of the education phenomenon.
Keywords: educational sciences, open epistemology, educational phenomenon, pedagogy.
ملخص:
تبدو علوم التربية، كتراكم لمجموعة من التخصصات العلمية التي لا يجمعها سوى تمركزها حول قضايا التربية، ما قد يجعل الفروع المكونة لها تعيش كجزر معزولة عن بعضها، وبالتالي عدم نفاذ كل تخصص إلى غيره، بل ويؤدي إلى تفتيتها والمجازفة بالأهداف الكبرى للنشاط الإنساني المتمركز حول التربية. فهل من الطبيعي أن تُشكل العلوم بصفة عامة، ترصيصات معرفية لكل مناهجها وأدواتها ومفاهيمها أم على الباحث، وخاصة في التربية الاحتكام إلى إبستيمولوجية تركيبية تنهل من مختلف التخصصات، وبالتالي إدانة التوجه التجزيئي الذي يفصل العلوم عن بعضها وفق مقاربة اختزالية، والذي قال فيه أوليفييروبول Olivier Reboul “يُحول السوسيولوجيا إلى نزعة سوسيولوجوية والسيكولوجية إلى نزعة سيكولوجوية، أي إلى دوغمائية اختزالية”.
هكذا، توجد علوم التربية في وضعية ارتجالية واغترابية، حيث تعيش إشكاليات ابستيمولوجية ومنهجية تمس بهويتها. ونحاول في هذا المقال إثارة قضية علوم التربية بين إشكالية الهوية وتعقد الظاهرة التربوية.
الكلمات المفتاحية: علوم التربية – إبستيمولوجية مفتوحة – الظاهرة التربوية – البيداغوجيا.
مقدمة :
ظلت التربية منذ العصور القديمة موضوعا تحكمه تأملات الفلسفة وحاجيات المجتمع ومرجعياته الفكرية والدينية والاجتماعية، وعلى مدى تطور التربية شكل تحديد طبيعتها مشكلا يواجهه الدارسون والباحثون في الموضوع، فمن جهة يعد مفهوم التربية مفهوما عاما ومنفتحا على مختلف الممارسات وأشكال التأثير التي تُمارس على الطفل، ومن جهة أخرى ظلّت الإجراءات والوسائل المعتمدة في التربية غير منهجية وغير مقننة، بحيث تُمارس التربية من طرف كل من يتولى أمور تربية الأطفال.
إن استحضار تاريخ الفكر التربوي في تجلياته العامة، يكشف التطور الذي عرفته التربية مع مرور الزمن، وتطور حياة المجتمعات ووضع الإنسان فكريا واجتماعيا، وهو ما سيكون له انعكاسا على مفهوم التربية والأسس والقواعد التي يستند إليها والأساليب المتبعة في التربية.
مع تطور العلوم، وخاصة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، اتجهت العلوم الإنسانية صوب التقعيد والتأسيس لموضوعها، وتحديد منهجها في الدراسة والبحث، فظهرت التربية كموضوع تتقاطبه مجالات عدة، حيث أبانت العديد من التخصصات العلمية عن رغبتها في تحرير التربية من تقلبات الشك، ومن محاولات التجربة والخطأ لدى المربين، وتعويض الخطاب الفلسفي العام عن التربية بخطاب علمي.
في بداية الأمر، تم تبني موضوع التربية من طرف علم النفس،[1] اعتقادا بأن هذا الأخير يمنح مفاتيح معرفية لفهم نمو الأطفال، ويُتيح معرفة لضبط نموهم وتنميتهم بشكل جيد في إطار ما سمي بالسيكو- بيداغوجيا، كما اعتبرها دوركهايم، فرعا من فروع علم الاجتماع، ولا يمكن أن يستقل عنه، انطلاقا من العلاقة التلازمية بين تطور النظام التربوي وحركة المجتمع ككل. بالإضافة إلى محاولات من تخصصات أخرى، كالبيولوجيا والتاريخ…
صحيح أن الظاهرة التربوية، ظاهرة معقدة ومركبة الأبعاد ومتداخلة العناصر، يتحكم فيها ما هو بيولوجي، وما هو سيكولوجي، وما هو سوسيولوجي… ما يجعل الحاجة ماسة إلى الاستفادة من مختلف المقاربات، وما تُقدمه من أدوات ومناهج لفهم أوضح للظاهرة التربوية. لكن ألا يُمثل ذلك تشكيكا في هوية علوم التربية؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن اعتبار علوم التربية علما قائم الذات، بالرغم من تعدد مقاربات الظاهرة التربوية، واستفادتها من نتائج العلوم الإنسانية والبحتة لخدمة القضايا التربوية؟
إن تحليل عالم النفس للظاهرة التربوية، كما هو الحال بالنسبة لتحليل عالم الاجتماع أو المؤرخ أو الفيلسوف، يُشكل إضافة نوعية لفهم الظاهرة التربوية في تشابكها وتعقدها. لكن ألا يطرح ذلك، مشكلا منهجيا وابستمولوجيا بالنسبة لعلوم التربية؟ خاصة وأن لكل تخصص علمي مقارباته ومرجعياته. أم أن طبيعة الظاهرة التربوية في تعقيداتها وتشابكها، تقتضي إخضاعها لرؤية متعددة المرجعية؟ وهل يُشكل هذا التعدد مؤشرا على فقر علوم التربية، المرتبط بعدم قدرتها على رسم مسار منظم، أم مؤشرا على ثرائها وغناها الناتج عن تنوع المقاربات؟
أولا: علوم التربية ورهان التأسيس العلمي
ظل الإنسان، وعلى مدى مراحل تطوره، يواجه الحياة بمختلف عناصرها وأبعادها مستثمرا في ذلك مختلف مهاراته وقدراته، وذلك بهدف ضمان استمراريته، ومع تطور وضع الإنسان فكريا واجتماعيا، وتغير حياة المجتمعات عبر التاريخ، تطورت التربية وتغير مفهومها، بل وتغيرت أسسها وأساليبها، وهو ما سينعكس على معنى التربية وتصور الإنسان لها، حيث سيعرف هذا المفهوم تسميات عدة، تعكس كل واحدة منها فهما ومعنى لعملية التربية، وتعكس التعقيد الذي أصبح يطرحه موضوع التربية.
إن تحديد طبيعة التربية، ظل يطرح إشكالات كثيرة، بالرغم من تعدد التعاريف التي جاء بها تطور التربية، حيث بقي مفهوم التربية، مفهوما عاما ومنفتحا على جميع الممارسات وأشكال التأثير التي تُمارس على النشء، وبقيت إجراءاتها ووسائلها غير ممنهجة وغير مقننة، ولعل هذا ما جعلها تتغذى من تخصصات علمية متعددة.
هذا التعقيد، يُعبر عن التركيب والتداخل الذي يطبع الظاهرة التربوية، والذي يجعل من الفعل التربوي محطة لتداخل علوم كثيرة ومقاربات منهجية متعددة. بل ويزُج بموضوع التربية في إشكاليات معرفية ومنهجية.
هذا الاعتبار العلمي والمنهجي، يُبين جليا بأن الإشكال الإبستمولوجي في التربية يكمن في إشكالية التعريف والتحديد، حيث تعددت التعاريف والاصطلاحات الدالة على التربية، تبعا للمدارس والتخصصات في نزوعها نحو مقاربة الظاهرة التربوية، وتبعا للتطور التاريخي الذي مرت منه التربية.
لقد تبلور إذا، مفهوم التربية في ظل التطور الذي عرفته مختلف العلوم الإنسانية، عبر سيرورة الانتقال من المعنى العام للتربية، مرورا باستخدام البيداغوجيا كنظرية علمية، ترتكز على الربط بين التأمل النظري للفعل التربوي والممارسة التربوية، وصولا إلى استخدام علم التربية، أو علوم التربية بصيغة الجمع. فما مدى علمية علوم التربية؟ وما مبرر تعددية علوم التربية؟ وبموجب أية معايير، نقر أننا حُيال علم مشروع وليس أمام مجرد آراء وانطباعات حول التربية؟
أثار عدد من الباحثين خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين إشكالية ابستمولوجية علوم التربية، حيث طرح جاي أفانزيني[2]Guy Avanzini سؤالا بهذا الخصوص، عندما نعرف علما من خلال موضوع ومنهج، فهل يُفهم بالنسبة لعلوم التربية أن موضوعها مستمد من علوم مختلفة وبواسطة مناهج متعددة؟ وقبل ذلك، أُثير هذا السؤال الإبستمولوجي منذ مدة مع عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم[3] في كتابه “البيداغوجيا وعلم الاجتماع”، حين نفى أن تكون البيداغوجيا علما للتربية، واعتبر هذه الأخيرة فرعا من فروع علم الاجتماع.وقد استمر النقاش طويلًا بين كبار الباحثين في هذه الفترة، أمثال:[4]دوركهايم Durkheim، وهوبيرHuber، وميالاريMialaret وغيرهم، عن مدى علمية علوم التربية، وطبيعة علاقتها بالتربية كممارسة عملية.
هذا الوضع، يعبر عن الجدل القائم حول علمية هذه العلوم، خاصة وأن موضوعها تتقاطبه علوم عدة، كما أن مقارباتها تمتح من تخصصات مختلفة، كل من زاوية اهتمامه ومعالجته للظاهرة التربوية، بل ويدفع أيضا إلى التفكير في التخصص الأم، هل هو علم الاجتماع كما اعتقد بذلك دوركهايم، أم علم النفس كما أراد بنت Binet، أم البيدولوجيا Paidologie كما دافع عن ذلك المنظرون البلجيكيون.[5]
ودون التركيز على السياق التاريخي لهذا النقاش، فقد أشار الباحث فليب ميريو[6]Philippe Meirieu إلى أن علوم التربية، تأسست في أروقة الجامعة في ستينيات القرن العشرين، حيث أصبح الاعتقاد بداية، بإمكانية تعويض الخطاب العام حول التربية بخطاب علمي حقيقي يستند إلى علم النفس، وأصبح الحديث عن علم النفس التربوي، الذي اعتبره البعض علما للتربية. لكن سرعان ما تبين أن الظاهرة التربوية أعقد من أن ترتكن للجانب النفسي فقط، وأنها ظاهرة متشابكة ومتداخلة العناصر، وأن فهمها يقتضي تعبئة علوم أخرى كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات والتاريخ والاقتصاد.
هكذا، جمعت شعبة علوم التربية في بداية نشأتها تخصصات علمية متعددة ومختلفة، بهدف مقاربة الوقائع التربوية مقاربة متعددة ومتكاملة، وإخضاع البحوث للفحص والبرهنة لضمان علميتها. فكيف نفهم تعددية هذه العلوم وتنوعها، خاصة وأنها تختلف من حيث مناهجها ومفاهيمها؟
تجدر الإشارة إلى أن استخدام مصطلح علوم التربية بصيغة الجمع، بقدر ما يُوسع مجال الاهتمام بالظاهرة التربوية، بقدر ما يطرح إشكالات إبستمولوجية عن هوية هذا العلم المتشظّي، وحدود الترابط والتجانس بين فروعه على مستويات المنهج، والأدوات المستعملة، والنتائج.
يبدو أن الاتساع الكبير للظواهر التربوية التي تدرس الفعل التربوي الممارس في كل ميادين الحياة؛ في الشارع، والأسرة، والمسجد، والمدرسة، ومختلف المنظمات، والمؤسسات، ووسائل الاتصال، و(الإنترنت)، وبين الأفراد والجماعات،…إلخ، تدفع في اتجاه استقلالية كل علم من هذه العلوم التربوية، لتتمكن من السيطرة العلمية على موضوعها، دون إهمال ضرورة جمع نتائجها واستثمارها بشكل متكامل في ظل رؤية فلسفية متماسكة، تخدم المجتمع.[7]لكن ألا يُسقط ذلك علوم التربية مرة أخرى في إشكالية اختزال المركب (التربية) إلى بسيط، والمعقد إلى السهل؟ وكيف يمكن تصور العلاقات بين مختلف التخصصات في مقاربتها للظاهرة التربوية؟ ألا تُشكل علوم التربية تراكما لتخصصات يغيب فيها التجانس، ولا يوحدها سوى تمركزها حول التربية؟
ثانيا: علوم التربية: نحو ابستمولوجية تركيبية أو براديغم توليفي للظاهرة التربوية
في خضم توتر، لا شك أن العيش فيه صعب ولا يُحل على المستوى النظري البحت، بالنظر إلى طبيعة التربية، وانفتاحها المستمر على الممارسة الميدانية وما تفرزه من وضعيات فُجائية. ففكرة التربية وتطبيقها البيداغوجي مدعوان لأن يتطورا بحسب المَفصلة Articulation الجيدة بين مقاربة الواقعة الإنسانية ومقاربة معنى الإنسان، علما أن هوة سحيقة لا تنفك تفصل وجهتي النظر هاتين، وأنهما محكومتان بعيش حالة توثر مستديمة.
هذا الوضع يطرح جدوى اختزال المركب إلى بسيط، واختزال المعرفة في تخصصات معزولة، تظهر أحيانا بمثابة ترصيصات يصعب معها إيجاد التوليفات الضرورية لفهم الظاهرة في كليتها.
في هذا السياق، يُقارب ميشيل دوفولاي[8]Michel Develay، الجانب الإبستمولوجي لعلوم التربية، باستحضار الجوانب التي ترتكز عليها الإبستمولوجية، ويرى أن هناك ثلاثة طرق لتصور العلاقة بين التخصصات المكونة لعلوم التربية، وهي[9]:
- طريقة تعدد– تخصصية، تقوم على اعتبار علوم التربية، تراكما لتخصصات مختلفة، من حيث مناهجها ومفاهيمها، وهو ما قد يؤدي إلى مقاربات تجزيئية للظاهرة التربوية، وإغفال التكامل والتوليف بين هذه التخصصات لفهم أعمق للوقائع التربوية.
- طريقة داخل – تخصصية، تعتمد على مقاربة الفعل التربوي من زاوية التحليل التي يقترحها كل تخصص، وهو ما قد يزُج بالظاهرة التربوية نحو مقاربة مختزلة، وهذه الطريقة تهدف التكامل بين مقاربات تخصصية لا تُجانس الواحدة منها الأخرى، مما يفتحها على أفق من التعقيد الغير المتناهي.
- طريقة فوق – تخصصية Transdisciplinaire تنطلق من اعتبار علوم التربية ذات مرجعيات متعددة، تبحث عن شكل من الوحدة، وأن كل تخصص ملزم بقبول عدم تحكمه المطلق في ما يقترحه لمقاربة الظاهرة التربوية، واعتبارها اقتراحات من بين أخرى، قد تصطدم بعدم يقينية الاستراتيجية أو المنهج أو التقنية، وأن للممارسة التربوية مكانتها.
يخلص دوفولاي من خلال التصورات الثلاث، أن علوم التربية تُشكل خليطا من العناصر المتنافرة، وذلك حسب ما إذا اعتبرناها إما مستقلة بعضها عن بعض، في إطار متعدد التخصصات، وإما في تفاعل كامن في إطار اهتمام داخل التخصصات أو فوق التخصصات.
في نفس السياق، يُدافع الباحث جاك أردوانو[10]JacqueArdoino، عن ما يسميه بالمقاربة المرجعية – المضاعفة، والتي يقصد بها فن الجمع بين معارف غير قابلة للجمع، وذلك من خلال البحث عن التمفصلات Articulations، القائمة بين هذه المعارف، انطلاقا من التمييز بين المعارف الضدية والمعارف المتضادة، ويعتبر أن الأولى قابلة للتكامل، بينما الثانية متعارضة.
وهو التوجه نفسه الذي دافع عنه المفكر إدغار مورانEdgar Morinمن خلال ما أسماه بمقاربة التركيب Complexité، ويقصد بها الجمع بين معارف مختلفة ضمن نسيج يُوحدها.[11]
فالتربية، بما هي تربية مركبة بتعبير إدغار موران، تطرح عملية التربية ضمن تصور تركيبي، يصل المعارف والتعلمات، بل المعارف بالرغبات والانفعالات وبالسياق أو الظروف،[12] وهو ما يستدعي إزالة الحواجز بين التخصصات المعرفية، والتتشبيك بينها للاستفادة من غنى المناهج والأدوات التحليلية وإيجاد توليفات لفهم أعمق للظاهرة التربوية في كُليتها وشموليتها.
إن ما يميز إذا الظاهرة التربوية، هو كونها ظاهرة مُركبة، لا يمكن تحليلها وفق براديغم البساطة، فالنظرة إلى التربية لا تستقيم وفق مبادئ التجزيء والفصل والاختزال للواقع، بل تقتضي مقاربتها بوصفها ظاهرة متميزة ومتصلة ومتشابكة. ومن هذا المنظور، يمكن الانتقال بمقاربة الظاهرة التربوية من وضعية المعيرة والبساطة إلى وضعية معقدة ومتشابكة، تفترض استحضار منظور حواري[13] وفق مقاربة نسقية، تستدعي توحيد وتكامل بين المعاني وفق تناسق داخلي يعبر عن خاصية الظاهرة التربوية.
يفضي بنا الوعي بتعدد أبعاد الظاهرة التربوية، إلى الإقرار بأن التربية قضية معقدة، تنزح عن كل رؤية أحادية البعد، وكل رؤية متخصصة ومقطعة للظاهرة التربوية هي رؤية فقيرة. لذا فمقاربتها تقتضي رؤية متعددة الأبعاد، وترتكن إلى تعدد المذاهب التربوية بهدف التكامل والانسجام.
هكذا، فالمذاهب التربوية تجد قيمتها في هشاشتها، وطابعها الإصلاحي التنميقي العنيد كما عبر عن ذلك الباحث فليب ميريو Philippe Meirieu، وذلك من خلال التفكير المشترك في الظاهرة التربوية وحيثياتها في إطار التعقيد المفترض بين حقائق يجب على المربي أن يُؤلف بينها بشكل متزامن من داخل الفعل حسب فليب ميريو.[14]
إن الوضع المركب للظاهرة التربوية، يعطي شكلا غريبا للمذاهب التربوية، فالظاهرة التربوية ليست بحثا عن حقيقة تؤسس لحكمة (فلسفة بحثية)، كما أنها تبتعد عن البحوث العلمية الدقيقة التي ترتكن إلى الحجة، وهي أيضا ليست وصفات جاهزة بسيطة تُيسر التصرف بثقة[15]. هذا الطابع المركب للتربية، ما يجعلها تقتات من تخصصات عدة بهدف فهم الظاهرة التربوية في كليتها، ويفتح الباب أمام الممارسات التربوية اليومية لتعميق الفهم وتجويد الممارسة.
وبالرغم من اختلاف وتعدد المقاربات، فإن مختلف الخطابات التربوية لا تقدم ضمانات لفهم الظاهرة التربوية في تشعبها وتعدد أبعادها. فتقلبات الفعل التربوي وعدم يقينيات الوضعيات التربوية، تجعل من علوم التربية، علوما تتغذى من عدم يقينية يقينياتها كما عبر عن ذلك ميشيل دوفولاي[16]،إذ يحرص كل علم من علوم التربية على المساهمة في مشروع ذي بُعد تربوي- بالرغم مما قد يتطلبه هذا الأخير من الجمع بين الحاجة والعقلانية والجانب الأخلاقي-، وتبقى الممارسة الميدانية مفتوحة على تجارب تطمح التجديد والابتكار المستنير، وتسعى إلى فهم أعمق للوضعيات التعليمية وما تطرحه من إشكالات فجائية.
في هذا الصدد، يتحدث فليب ميريو عن التعقيد المفترض الذي يطبع الظاهرة التربوية، والذي يفرض على المربي الربط بين مجموعة من العناصر والتوليف بينها بشكل متزامن من داخل الفعل التربوي.[17] يتحدث فليب ميريو عن اصطلاح “بالتزامن”، حيث يرى أن فهم واقع حال البيداغوجيا يقتضي التزامن، ويعني به “الفعل أثناء الفعل”، أي التصرف براهنية، بالنظر لقلة فهمنا ما يحدث.[18]لذلك على الممارس للتربية أن يعي كونه لا يفهم كل ما يحدث حوله، وأن يحاول بندية تعميق فهمه.
فالفهم تحت أفق طرح أو رؤية أو تخصص واحد فقط هو فهم مبتور، ناقص وعاجز. فالثراء والتعدد يشكل تعقيدا قويا وصلبا للمعنى، بل ويؤدي في نهاية المطاف إلى فهم أفضل من المقاربة الأحادية كما عبر عن ذلك المفكر إدغار موران[19]Edgar Morin. وقبول هذا التعدد المقارباتي للظاهرة التربوية، يسمح بإيجاد ابستيمولوجية مفتوحة، تستوعب وجهات النظر المتعددة والمختلفة، أو ما يسميه إدغار موران بـ “ميتا زوايا نظر”[20]، وهي المقاربة التي تسمح لنا بقبول أوامر متناقضة تقدم حول الظاهرة التربوية، لكن لكل منها مبرراته ومنطقه، وهو ما يسميه فليب ميريو[21] تقبل التزامنية في الفعل التربوي، بهدف فهم أعمق.
خلاصة :
هكذا، فقد أثارت ولا تزال تثير علوم التربية إشكالات كثيرة، جعلت الخطابات حول التربية تتكاثر وتتناسل، حيث تتبلور المذاهب وتتعدد، مستمدة عناصرها من علوم مختلفة تظهر معها علوم التربية كخليط من العناصر المتنافرة أحيانا. وتكشف أحيانا أخرى عن التناقض المتجدد باستمرار بين نظرياتنا وممارساتنا، بل وتفصح عن الوضع المركب والمعقد للتربية، والذي لا يُحل على المستوى النظري البحث مهما تعبأت له العلوم، لكنه يختبر نفسه يوميا في التدبير الجماعي للنجاحات والإخفاقات، في التجربة والخطأ، وفي حالات الشك والعشوائية من حالات الوضعيات التعليمية.[22]
وبناء على ذلك، وكما ذهب إليه الباحث ميشيل دوفولاي، تبدو ابستيمولوجية علوم التربية كنقطة التقاء بين ابستيمولوجية العلوم والابستيمولوجية التطبيقية، فهي إبستيمولوجية مفتوحة، تتميز بالطابع المتغير والمتجدد والطامح إلى مزيد من الموضوعية، في إطار رؤية فوق تخصصية، تتطلب الاجتهاد والابتكار المستنير للفهم والتطوير.
قائمة المراجع:
- أفانزيني جاي (1993)، الوظائف الثلاث لفلسفة التربية، ترجمة حسن العمراني، مجلة الأزمنة الحديثة، العدد 3-4، الرباط، المغرب، 2011.
- البراهمي عبد الوهاب (20/02/2021)،التربية المركبة عند إدغارموران: براديغم جديد لتربية مستقبلية، تم الاطلاع عليه في 05/06/2021منشور على الرابط الالكتروني: التربية-المركبة-عند-موران-باراديغم-جديد-لتربية-مستقبلية-عبد-الوهاب-البراهميhttps://anfasse.org/
- بوستا عزيز (09/03/2017)، حول الفلسفة و التربية، حوار أجراه معه الباحث عبد الله بربزي، تم الاطلاع عليه في 03/06/2021، منشور على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات و الأبحاث على الرابط الالكتروني https://www.mouminoun.com/articles4847
- جديد سارة (ديسمبر 2018) نحو إحقاق الفهم-مقاربة إبستيمولوجية لفهم الفهم عند إدغار موران، ضمن مجلة السراج في التربية وقضايا المجتمع، عدد 8، جامعة الوادي، الجزائر.
- خوش علال (13/03/2012) علوم التربية وأسئلة الماهية، تم الاطلاع عليه في 16/06/2021، منشور على الرابط الالكترونيhttps://albahito.alafdal.net/t308-topic
- خوش علال، علوم التربية وإشكالاتها الإبستمولوجية، ضمن مجلة علوم التربية، العدد 58، يناير 2014، الرباط، المغرب.
- دوفولاي ميشيل (27/03/2021)رهانات علوم التربية الإبستمولوجية، ترجمة نور الدين البودلالي، تم الإطلاع عليه في 11/06/2021،منشور على الرابط الالكترونيhttp://www.elboudlali-n.comL/2021/03/blog-post_29.html
- علاء كاظم مسعود، إبستيمولوجية التعقيد عند إدغار موران، مجلة كلية التربية، جامعة واسط، العدد السابع والثلاثون، الجزء الأول، تشرين الثاني 2019، العراق.
- ميريو فليب (29/10/2020) العلوم التربوية والبيداغوجيا، ترجمة نور الدين البودلالي، تم الاطلاع عليه في 11/06/2021،منشور على الرابط الالكتروني:/فليب-ميريو-العلوم-التربوية-والبيداغ https://couua.com/2020/10/29/
[1]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، ترجمة نور الدين البودلالي،29أكتوبر 2020، منشور على الموقع الالكترونيhttps://couua.com تم الإطلاع عليه بتاريخ 11/06/2021.
[2]. علال خوش، علوم التربية وأسئلة الماهية، منشور على الموقع الالكتروني https://albahito.alafdal.netتم الإطلاع عليه بتاريخ 16/06/2021.
[3]. علال خوش، علوم التربية وإشكالاتها الإبستمولوجية، ضمن مجلة علوم التربية (ص ص 77-87)، العدد 58، يناير 2014، ص 87
[4]. عزيز بوستا، حول الفلسفة والتربية، حوار أجراه معه الباحث عبد الله بربزي، منشور على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث https://www.mominoun.com. تم الإطلاع عليه بتاريخ 03/06/ 2021.
[5]. جايأ فانزيني Guy Avanzini، الوظائف الثلاث لفلسفة التربية، ترجمة حسن العمراني، مجلة الأزمنة الحديثة (ص ص 24-27)، العدد 3-4، أكتوبر 2011، ص 24.
[6]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، ترجمة نور الدين البودلالي، مرجع سابق.
[7]. عزيز بوستا، حوار حول الفلسفة والتربية، مرجع سابق.
[8]. ميشيل دوفولاي، رهانات علوم التربية الإبتستمولوجية، ترجمة نور الدين البودلالي، 27 مارس 2021،منشور على الموقع الالكتروني
http://www.elboudlali-n.com تم الإطلاع عليه بتاريخ 11/06/2021 على الساعة الثامنة مساء.
[9]. نفسه.
[10]. علال خوش، علوم التربية وإشكالاتها الإبستمولوجية، مرجع سبق ذكره، ص 80.
[11]. نفسه، ص 80.
[12]. عبد الوهاب البراهمي، التربية المركبة عند إدغار موران : براديغم جديد لتربية مستقبلية، 20 فبراير 2021، منشور على الموقع الالكتروني
https://anfasse.orgتم الإطلاع عليه بتاريخ 05/06/ 2021.
[13]. علاء كاظم مسعود، إبستيمولوجية التعقيد عند إدغار موران، مجلة كلية التربية- جامعة واسط، العدد السابع والثلاثون، الجزء الأول، تشرين الثاني 2019، ص 667، (ص ص 659-678)
[14]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، مرجع سابق.
[15]. نفسه.
[16]. ميشيل دوفولاي، مرجع سبق ذكره.
[17]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، مرجع سابق.
[18]. نفسه.
[19]. سارة جديد، نحو إحقاق الفهم-مقاربة إبستيمولوجية لفهم الفهم عند إدغار موران، ضمن مجلة السراج في التربية وقضايا المجتمع، عدد 8، ديسمبر 2018، ص 175.
[20]. نفسه، ص 177.
[21]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، مرجع سابق.
[22]. فليب ميريو، العلوم التربوية والبيداغوجيا، ترجمة نور الدين البودلالي، ص 8.