من نقد براديغم التبسيط إلى بناء براديغم التعقيد عند إدغار موران
From pradigm’s critique of simplification to the construction of a pradigm of complexity in Edgar Morin
شهرزاد حمدي، جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر
Chahrazed hamdi/ Badji mokhtar university, Annaba, Algeria
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 72 الصفحة 51.
ملخص:
تبدأ مهمة الفلسفة بإنتاج الأفكار انطلاقا من النقد لتصل إلى مرحلة البناء، هكذا تمحّور مقالنا لتبيان ذلك مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر “إدغار موران” وموضوعه الرئيسي الفكر المركب، الذي يمثّل جوهر فكره، والذي جاء كرد فعل ناقد بعد سيطرة نموذج التبسيط الحداثي ومجموع الانزلاقات التي بدأت تنكشف مع مطلع القرن العشرين وتأثيرها على الفكر العلمي والفلسفي، بالإضافة إلى جملة التحوّلات العلمية المعاصرة التي حملت دلالات التعقيد. ليمثل هذا المقال محاولة بحثية للتعرّف على جوانب الخلل التي انتقدها “موران”، والمنهج الجديد الذي دعى إليه قصد البحث فيه وتحليله.
الكلمات المفتاحية: النقد_ البناء_ التبسيط_ التعقيد_ الفكر المركب.
Abstract :
The philosophy task begins by the production of ideas from criticism the stage of construction. Our article structured to demonstrate this with the contemporary French philosopher “Edgar Morin” his main topic the complex thought, which represents the essence of his thought, which came as a critical reaction after the control of the modernist simplification paradigm and the total slippage that began to unfold with the beginning of the twentieth century and its impact on scientific and philosophical thought, in addition to all the contemporary scientific transformations that carried connotations of complexity, this article represents a research attempt to identify the flaws that Morin criticized, and the new approach for in order to research and analyze it.
Key words: criticism _ construction _ simplification _ complexity _ complex thought.
مقدمة:
يتميّز العقل البشري بقدرته على الخلق والإنتاج بغرض التكيّف مع الوتيرة المتسارعة للزمن الموضوعي، بمعنى تحوّلات الواقع وكذلك للزمن الذاتي، أي النضج الذي تعرفه بعض الملكات والقدرات الذاتية، وتبعا لهذه الحقيقة فلقد شهد الحقل المعرفي الإنساني زخم فكري عبر مختلف العصور، لعلّ أبرزها العصر الحديث وما حمله من مستجدات فكرية في الحقلين العلمي والفلسفي، وحدث هذا بعد أن تم تكريس التفكير العقلاني النقدي وتحرير قدرات العقل في التأمّل والبحث والاكتشاف من قيود السلطة الكنسية. بهذه الكيفية عرفت الحقبة الزمنية الحديثة إعلان قيام مناهج جديدة وتأسيس العديد من الأنساق المعرفية، اتفقت جهودها حول الإقرار بمقولة رئيسية تمثّل جوهر الفكر الحداثي وهي مقولة التبسيط التي تحوّلت إلى منظومة وذلك لما توسّعت وأسّست لمقولات أخرى كالفصل والاختزال شمِلت جميع مجالات الفكر وبالأخص في مجال فلسفة العلم. على هذا المنوال تطبّع العقل الأوروبي الحديث بطبائع البساطة والفصل والردّ والوضوح لمدة ثلاثة قرون (17_19م)، لتتأسّس ما يعرف بالإبستمولوجيا التبسيطية.
لكن مع مطلع القرن العشرين، بدأت تبعاتها السلبية في الظهور لتأخذ شكل أزمات معرفية ومنهجية، وفي ذات السياق الزمني تجلّت فلسفة العلم المعاصرة بثوراتها الحاسمة، حيث حملت دلالة جديدة وهي التعقيد. من هنا كان المنعطف لبروز الفيلسوف الفرنسي المعاصر “إدغار موران” Edgar morin (1921…) وهو ينتقد الفكر التبسيطي الاختزالي ويدعو إلى ضرورة العمل بالمنظومة التعقيدية التي أسّس لها والخطاب الفكري المركب الذي جعل منه عصبا لفلسفته ومحورا لبحوثه وكتاباته. وعليه نتساءل: ماهي أبرز إخفاقات براديغم التبسيط من منظور “إدغار موران” ؟ وفيما تتمثل ماهية الفكر المركب؟
وكما اعتاد العقل القارئ لطروحات الفلاسفة، فإن أول مرحلة منهجية تسجّلها دراساتهم، هي مرحلة النقد والفحص والمراجعة قبل الانتقال إلى مرحلة البناء والتكوين، ويقع المشروع التركيبي “لإدغار موران”[1] ضمن هذا الإطار.
1_ نقد “إدغار موران” لمنظومة التبسيط
يأتي مفهوم منظومة التبسيط (Systéme de simplification)، على أنه ذلك الفهم الذي حكم منطق البحث والتأسيس في فترة الحداثة (Modernité)، أين عرفت هذه الفترة العديد من التحوّلات العلمية كالثورة الكوبرنيكية والفيزياء النيوتينية والثورات الفلسفية مثل: الفلسفة البيكونية والفلسفة الديكارتية وكذا الكانطية، وكلها جهود فكرية شكّلت المعالم الأساسية لبراديغم التبسيط، حيث ساد الاعتقاد في الفكر العلمي الحديث أن الواقع بسيط وأن النتائج المتوصّل إليها من عملية تفحّص معطياته تتميّز باليقين والمطلقية والحتمية في الوقوع والإمكانية في التنبؤ، بداعي النزعة الموضوعية، كما انتهجت نهج الفصل بين العلوم، فانحصر كل تخصّص معرفي في دائرته، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ الاختزال، بحيث تماهت المعارف في بعضها البعض وانحلّت الخصوصية لديها. كما برّرت لكل من خضع إلى نسقها المنطقي واعتدّ بالعقلانية المجرّدة، في مقابل ذلك استبعدت كل نقيض لطرحها وجعلت منه سببا في الخطأ، وغيرها من إجراءات منظومة التبسيط. من هنا تكوّنت رؤية معرفية ضيّقة رغم النجاحات التي حقّقتها خاصة في قدرتها على تبليغ العقل الإنساني الفرصة لتجديد قدراته عبر البحث والدراسة، إلا أنها انحرفت عن طبيعة حقيقة الواقع والذات وأكسبت المعرفة المعاصرة تشوّهات قصورا عن تكوين معارف شاملة ومتعدّدة الأبعادmultidimensionnel . وفي هذا الصدد يقول “إدغار موران”: “هذا العلم افتضحت اليوم الحدود التي يتّحد بها بحكم أن تلك المبادئ لم تعد تسمح باستيعاب التعقيد”[2]، فلقد أبان الأبستمولوجي المعاصر عن تعقيد بين عناصر المعرفة وبين عديد المعارف المتنوّعة، مما جعل منطق التبسيط ومقولاته عاجزة عن تمثّل هذا التعقيد وفهمه. والواضح لدى المطّلع على نصوص وكتابات “إدغار موران” أنه انتقد منظومة التبسيط نقدا جذريا، أي من ناحية الأسسّ وكذا النتائج المترتبة عنها، ولهذا الأمر ونظرا لعمق النقد، فإننا سننمذجه، بمعنى سنأخذ نماذج فقط، وأولى تفاصيل هذا الطريقة ستكون من منطلق المبدأ.
1_1.نقد مبادئ العقل المعرفي الحديث
إن من أهم شروط قيام منظومة فكرية معينة، هي الاستناد على جملة من المرتكزات، لأنها المحدّد العام لنتائجها، وكان أن حدث وتأطّرت منظومة التبسيط بمجموعة من الأطر والمبادئ، اندرجت ضمن الموقف النقدي “لإدغار موران” تبعا لتعثّراتها وما أنتجته مستحدثات الحقل الإبستيمي المعاصر من رؤى تعقيدية، ويتقدّمهم مبدأ التبسيط.
1_1_أ.التبسيط (Simplification)
تعد مقولة التبسيط أبرز أعمدة المنطق الحديث التي حكمت التفسير ومن ثم الاستنتاج، ويُعنى بهذه المقولة بالمعنى العام والكلي، أنه كان يتم انتقاء نظرية من مجموع نظريات متعارضة، والقول بأنها أصحّ وأصوب الرؤى، والأكثر جعلها الإطار المرجعي لكل تفسير يُراد منه فهم المعطيات المطروحة أمام العقل. مثل هكذا منهجية إنتقدها “إدغار موران”، حيث “يقرّ في سياق قراءته للعقل الفلسفي والإبستمولوجي والعلمي والمنهجي المعاصر بهيمنة منظومة التبسيط أنطولوجيا ومنطقيا وإبستمولوجيا وأنثروبولوجيا واجتماعيا وسياسيا. أنطوبولوجيا تأسّست هذه المنظومة على كيانات مغلقة مثل الماهية والهوّية والسببية (الخطية) والذات والموضوع”[3]. وفي هذا النص معانٍ واضحة بأن منظومة التبسيط بسطت منطقها على جميع مجالات الحياة وفروعها المختلفة، مما جعل الأزمات كذلك أي متشعّبة نظرا لشمولية هذا المنطق، الذي عمل على إقصاء كل مخالف ومناقض لنسقه، فأغلق حدوده فبدل الانفتاح والتحاور كان الانغلاق والتصادم. وتتوالى الانتقادات، حيث “إن أكبر خطر شكّلته منظومة التبسيط ولازالت تشكّله هي أنها تحاول فهم العالم، ذلك المجموع الهائل من المركّبات الدينامية والتشييدية والمعقّدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحوّلة كما تقدّمه لنا العلوم والإبستمولوجيا المعاصرة بأدوات الإبستمولوجيا التقليدية إبستمولوجيا القرن التاسع عشر، إبستمولوجيا الاختزال والتبسيط والثبات والوضوح وحجب تعقّد العالم”[4]. فالإبستمولوجيا التبسيطية عاجزة عن تمثّل التعقيد وأشكاله كالتحوّل واللاحتمية والصدفة، لأنها تنتهج أدوات منهجية مغلقة ومنتهية الحدود والسياقات، ليس بإمكانها الوعي بالمركب والأكثر من هذا أنها سعت إلى تقويض التعقيد وحجبه، بالتالي فهي تمارس قواعد المنطق الأحادي. ثم إنها وهي تحاول فهم تعقّد الكون فإنها تُلقي باللافهم، وذلك لأن طريقتها قاصرة، مما سيُفضي بنتائج تأخذ نفس الشكل. إذن، يتّضح أن النقد الموراني لمبدأ التبسيط ومنه المنظومة على اعتبار التوسّع الهائل التي شهدته في فترة الحداثة، جاء بفعل المنهج الذي كانت تمارس قواعده، أين تبنّت مقولات وأقصت مقولات مغايرة لها، فشكّلت أداة للإزاحة رأى فيها “موران” العجز والقصور عن فهم التعقيد الذي يستدعي الانفتاح على عدّة عوالم منهجية ومعرفية.
1_1_ب.الإختزال والانفصال(الفصل) (Réduction et Disjonction)
إضافة إلى مبدأ التبسيط، فإن هناك مبادئ أخرى لا تقِلُّ أهمية ولا فعالية في امتداد الإبستمولوجيا التبسيطية والحديث هنا عن مبدأي الاختزال والانفصال، اللذان إتّحدا لتشكيل رؤية معرفية حداثية تعمل على اختزال الكثرة في الوحدة وكذا تلخيص علم في آخر، كما صنعت فروقا وأحدثت شقوقا بين مختلف التخصّصات جاعلة من خيوط المعرفة الإنسانية تعاني التقطيع. فالنموذج الاختزالي يجتهد في اختزال العالم بمجموعه إما إلا عنصر واحد قد يكون مادي أو روحي، أو إلى جملة من العناصر العادية والمادية البسيطة2، أي أنه يختزل ويلخّص ذلك التعدّد في واحدية تقتل روح الكثرة والتنوّع. أما منطق الفصل والتجزئة، فإنه يجعل من “الأذهان المجزّأة والمقنّنة والمبقّرطة تُعمى عن التفاعلات والمفعولات الراجعة وتُعمى عن السببية الحلقية، ولانزال نراها كثيرا ما تنظر إلى الظواهر من حيث سببيتها الخطية، فهي تدرك الوقائع الحية و الاجتماعية وفق تصوّر آلي/ حتمي لا يصلح لغير الآلات الإصطناعية”3. بمعنى أن منهج الفصل يجعل من العقول التي تأخذ به لا تُبصر تلك التفاعلات الواقعة بين مختلف العناصر والتغذية الراجعة والمرتدّة فيم بينها، كما أنها تتعرّض للعمى عن رؤية السببية الحلقية، تلك التي يكون فيها السبب نتيجة والنتيجة سبب وتعمل على إنسيابية المعنى في شكل دائري حلقي، وليس في شكل خطي ينطلق من العلّة نحو المعلول من دون رجوع عكسي. هذا ويتم إسقاط هذه الطريقة على عالم الكيانات الاجتماعية التي تحيا الديمومة والخلق والتحرّر، بالتالي تحاول إدراك الديناميكا بأداة الستاتيكا وفهم الحيوي المعنوي بالصلابة المادية التقنية التي لا تصلح إلا للوقائع الطبيعية والقابلة للتجريب والقياس والتكميم.
1_1_ج.التبرير العقلاني والمنطق الهوّياتي (Justification rationnelle et logique d’identité)
تمثّل قيمة العقلانية شرطا محوريا لبلوغ مراتب التقدم، خاصة وإن كانت عقلانية منفتحة تتبنّى مختلف التيارات الفكرية والنظريات والبراديغمات لتؤلّف فيم بينها بواسطة التفكير المنطقي المعقول. غير أن الحاصل هو العكس تماما وهذا ماشهدته فترة الحداثة الغربية، حيث انغلق العقل على ذاته وانتصر فقط لرؤاه وبدّد كل تيار أو قول أو طرح ليس من نمط العقلانية، كما أنه تحجّج بالصحة الصورية لإقصاء كل من يخرج عن هذه القاعدة المنطقية الصلبة. هكذا طبعت منظومة التبسيط تصوّراتها وممارساتها المنهجية، حيث عمدت على تطبيق العقلانية المجرّدة وأسقطت منظورها على كل إجراء، ويُطلق “إدغار موران” عليها تسميات عديدة، منها: التبرير العقلاني العقلنة، العقلانية الخاطئة والزائفة، وكلها إصطلاحات تبيّن مدى وقوعها في الانحراف والخطأ، وللإشارة فإن “موران” فرّق بين العقلانية ((Rationalité والعقلنة ((Rationalisme، “فالعقلانية هي اللعب، هي الحوار الدائم بين فكرنا الذي يخلق بنيات منطقية ويطبّقها على العالم ويتحاور مع العالم الخارجي(…)أما التبرير العقلاني هو الرغبة في سجن الواقع داخل نسق منسجم، وكل ما يتناقض مع هذا النسق في الواقع يتم إقصاؤه ونسيانه ورميه جانبا والنظر إليه باعتباره وهما أو مجرّد شيء عديم الفائدة”[5]. أي أن العقلانية منفتحة وتقبل التحاور مع غيرها من التيارات كالتجريبية مثلا، بحيث تتواصل معها وتتبادل وإياها الأفكار والمعاني من دون أن تحبسها في تمثّلات عقلية خالصة، على النقيض من هذا ينغلق التبرير العقلاني أو العقلنة وتتوهّم في تصوّراتها الصحة والصواب والحقيقة وتعمل على اختزال الواقع في شروطها النظرية المحضة، وأي فكرة لا تخضع لهذا النظام إلا ويكون قدرها الاستبعاد أو التعامل معها على أنها شكل من أشكال الوهم أو تفريغ محتواها والقول بعدمها من النفع والنجوع. أما المنطق الهوّياتي أو الأحادي الجانب وهو أيضا المنطق الأرسطي الذي تتلخّص ماهيته الأولى وتتمحّور نواته الجوهرية حول مبادئ الهوية والاستنتاج والاستقراء والتي تحقّق وتضمن حصول البداهة والإتساق والصحة الصورية لنظريات الخطاب2، إنه منطق ضيّق النطاق لا يعترف سوى بصوره ومقولاته وقواعده، ويزيح كل من يختلف عن خطابه بدعوى السعي في تفعيل مبدأ عدم التناقض(Le principe décontradiction) والذي لا يقبل العيش مع نقيضه، ومن تبعات هذا المنطق أنه يُبعد كل ما يمكن له أن يُنشّط عملية الابتكار والإبداع3، وهذا راجع إلى أن المنطق الهوّياتي يمثل سلطة حاكمة، تحتكر لنفسها عملية إنشاء الدلالات وتمنع أي محاولة للمشاركة في ذلك. من هنا يصيب الفكر حالات من الرجعية والجمود ولا يقوى على التحيين والتجديد والخلق، فقط لأن المنطق الذي يُفكّر به يقف حائلا دون ذلك ومانِعاً من حصول هذا الأمر الذي يعود بالنفع على المنطق ذاته. إذن، هذه هي بعض المبادئ التي أطّرت منظومة التبسيط وتوسّم فيها “موران” محاور للنقد بحكم قُصورها، لتتمحّور المرحلة التالية حول النتائج.
1_2.نقد نتائج عقلانية التبسيط
مع بداية القرن العشرين بدأت آثار منظومة التبسيط تنكشف وفي صيغة أزمات يُعاني منها الحقل المعرفي المعاصر الذي يحيا مفارقة، تتمثّل في أنه رغم التقدم الحاصل في عدّة ميادين وبخاصة ميدان التقنية والتكنولوجيا، فإن التراجع والتقهقر موجود وبصفة ملازمة لعمليات التطوّر، مما أفضى إلى نتائج سلبية شملتها الرؤية النقدية “لإدغار موران”. وكما سبق التنويه بعمق النقد الموراني، فإن التحليل سيقتصر على بعض النماذج.
1_2_أ.العقل الأعمى (La raison aveugle)
يحصل النجاح ويرافقه الفشل، تتجلّى الحقائق وتتوارى، تتطوّر معارفنا وتتدهّور، هذا هو حال الفكر البشري في كل الأزمنة ولاسيما الزمن المعاصر، فالخطأ أمر ضروري يحدث للبشرية في كل مراحلها المختلفة ومجالات حياتها المتشعّبة ( تاريخيا، سياسيا، ثقافيا، تربويا، إجتماعيا، إقتصاديا )، في هذه الحالة الطبيعية يدعو “إدغار موران” العقل البشري إلى ضرورة الوعي الجذري بجملة من الأمور وهي:
_”لا يكمن السبب العميق للخطأ في الخطأ بالفعل(إدراك خاطئ) أو الخطأ المنطقي(عدم الانسجام)، بل في صيغة تنظيم معرفتنا في شكل نسق من الأفكار(نظريات أيديولوجيات)”[6] ، معنى ذلك أن الخطأ لايتحدّد في الإدراك والتمثّل الخاطئ، أي الخطأ في حد ذاته، أو في خروج العقل عن نسقه المنطقي واضطراب المقدمات مع النتائج وإنما الخطأ الفعلي في المنهج الذي تنتظم به معارفنا وعمليات الترتيب والتصنيف والمعاينة والتقسيم وغيرها من أنواع المنهجية والطريقة التي تموّضع أفكارنا داخل نظريات وعقائد وأيديولوجيات، هنا يكون الخطأ الحقيقي، لأن هذه الأنساق النظرية الفكرية تحكمها مبادئ من الحتمية واليقين والفصل والاختزال والانغلاق والإزاحة حتى تضمن سلطة كل من ينتمي إليها وحتى تضفي على قولها القداسة والمثالية، مما يفشل مساعي الفكر النقدي الاحتجاجي في الخلخلة والتفكيك.
_”هناك عمى جديد مرتبط بالاستعمال المنحط للعقل”[7]، أين تُعمى العقول في سياق العقل الأعمى عن رؤية وإدراك التركيبة الإنسانية، فلا ترى إلا البعد العقلاني المجرّد والموضوعي المحوّسب، في إقصاء منها لعناصر الجنون والأسطورة والانفعال والحماسة.
_”ترتبط أخطر التهديدات التي تتربّص بالبشرية بالتقدّم الأعمى وغير المتحكّم فيه للمعرفة(أسلحة حرارية_نووية تلاعبات في كل الأنواع، خلل بيئي، إلخ)”2، يحدث هذا الأمر لأن التطوّر التقني المادي لا يفكّر في عواقب المادية العمياء التي ينتهجها، فهو لا يهتم سوى لتحقيق المصالح والمنافع وإن كانت تعود بالضرر على الإنسانية والمحيط الحيوي، فبقدر ما تُوفّر هذه التقنيات فرص للحياة والرفاه، بالبقدر نفسه أو أكثر تخلق سبلا للموت والتلاشي، تلاشي الهوّيات والقيم والأخلاق وتدهّور الحياة الإنسانية الوجودية والبيئة التي تتضرّر كثيرا من الاستعمال اللامفكّر فيه لمناهج التقنية والماديات والآلات الاصطناعية.
1_2_ب.باطولوجيا المعرفة (Pathologie du savoir)
لقد شكّلت الفلسفة الديكارتية (Philosophie cartésienne) الدعامة الأولى لقيام منظومة التبسيط، كنتيجة لتطبيق مقال عن المنهج وقواعده الأربعة، خاصة القاعدتين الأولى والثانية (الجلاء أو الوضوح والتحليل). فتم صياغة مبحث المعرفة وفق قوالب التبسيط والوضوح والتجزئة والتخصّص الذي يفصل بين المعارف والعلوم، مما أنتج معرفة مريضة، اصطلح عليها “إدغار موران” بباطولوجيا المعرفة، في دلالة واضحة على عُمق الضرر الذي لحِقها، ويعود لفظ “باطولوجيا” إلى الاهتمام الكبير “لإدغار موران” بعلم البيولوجيا، قصد التدليل على أننا بصدد علم الأمراض لمعرفة تُعاني، من الضرورة تشخيص اعتلالاتها وأسبابها وصفاتها، ومن ثم البحث عن الطريقة المناسبة لتقويمها وتعديلها، فلقد عملت الإبستمولوجيا الحداثية (التبسيطية) على تجزئة المركب الإنساني وتشتيت أبعاده وجوانبه المعقّدة، لنخّلص إلى معرفة حول هذا العنصر الحيوي “الإنسان” عاجزة عن التفكير والنقد الذاتي، وترتد هذه الوضعية المتأزّمة للمعرفة المعاصرة إلى الأسباب الآتية:
_”الدماغ الذي تنطلق منه يدرّس في أقسام العلوم العصبية.
_العقل الذي يكوّنها يدرّس في أقسام علم النفس.
_الثقافة المرتبطة بها تدرّس في أقسام علم الاجتماع.
_المنطق الذي يتحكّم بها يدرّس في أحد أقسام الفلسفة.
_هذه الأقسام لا تتواصل فيم بينها من الناحية المؤسساتية”[8]
بهذا الإجراء التقطيعي والفصلي تم إحداث فواصل بين جميع مكوّنات الذات البشرية وإحلال حواجز بين عناصرها، مما أدى إلى انعزالها وتقوّقعها في مجالها الضيّق من دون أن تكون لها فرصة حقيقية للتواصل والتفاعل والاحتكاك والتبادل والتغذية المركّبة. ونتيجة هذا المنهج فإنه تم خلق معرفة مريضة لا تعرف نقاط قُوّتها ولا نقاط ضُعفها، هي معرفة يمكن القول عنها أنها لاواعية، لأنها لا تمارس النقد لذاتها ولا تحّدِث صلات بين فروعها ولا تؤلِّف بين مجالاتها.
قد وصلنا إلى نقطة نهاية المرحلة الأولى من المهمة الفلسفية “لإدغار موران”، وهي مرحلة النقد لمبادئ ونتائج الفكر التبسيطي الاختزالي الذي بيّن أنه لا يستطيع مُجارات التعقيد الحاصل، بالتالي لابد من براديغم آخر قادر على إصلاح الفكر من جهة واستيعاء (الوعي) التعقيد من جهة ثانية، وهو الفكر المركب (La Pensée complexe) كأطروحة مركزية في فكر “إدغار موران”، بل فكره ككل، رأى فيه السبيل الأصوب لمستقبل البشرية.
2_في ماهية الفكر المركب
إن مُساءلة أي طرح فكري في ماهيته، لمِن الضرورة الإبستيمية من أجل وقوع الفهم لهذا الطرح، حيث تجعل عملية تفحّص أوجه الدلالة الخاصة بها (الماهية) من العقل قادرا على إصدار الأحكام وتقدير فلسفة الأطروحة الفكرية التي تم البحث فيها والتعرّف على معالمها الرئيسية.
2_1.مفهوم الفكر المركب
يتكوّن المصطلح في شقّه اللفظي، من مقطعين هما: الفكر والتركيب (Composition)، والواضح أن المقولة الرئيسية الواردة في هذا الطرح هي التعقيد (Complexité) أي أن المعنى معقّد ومركب ولذلك جاء المصطلح بنفس الصيغة، وقد نتساءل “ماهو التعقيد؟، من أول وهلة نقول أن التعقيد هو نسيج (Complexus) ما نسج كل من المكوّنات المتنافرة المجمّعة بشكل يتعذّر معه التفريق بينهما. إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدّد. ثانيا، بالفعل إن التعقيد هو نسيج من الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحدّيات والمصادفات التي تشكّل عالمنا الظاهراتي”[9]، بمعنى أن التعقيد هو الوصل والربط والنسج بين العديد من العناصر المتناثرة والمتشظّية بفعل مناهج التبسيط والفصل والاختزال، ليأتي التعقيد وهو يسعى لإصلاح المعرفة ويجتهد في تجسير الهوّة والجمع بين
مختلف المعارف المتناقضة. ومن أبرز مميّزات التعقيد، هي أنه يحمل مفارقة الواحد والمتعدّد التي يعجز الفكر الأحادي عن تمثّلها واستيعابها والأهم التركيب بين عناصرها في تقويض لمبدأ عدم التناقض، هذه المفارقة يحتويها فكر التعقيد لأنه يؤلّف بين مجموع هائل من الأفكار والمفاهيم والنظريات والفلسفات والتيارات الفكرية والمعارف المتناقضة والمختلفة، مع ذلك فإنه يحافظ على وحدتها، بصيغة أخرى يحمي التنوّع وخصوصية كل عنصر في الوقت الذي يؤسّس لاتحادها مع بعضها البعض. كذلك يتّضح أن التعقيد يسعى للربط بين ظواهر العالم الموضوعي من دون إقصاء أيّ منها، فالواقع أعّقد من فكرة أنه بسيط ولذلك يهدف الفكر المعقّد إلى الجمع بين وقائعه وأن يضمّ كل مايصنعه ويدور في نطاقه، حتى عناصر الصدفة واللاحتمية والفوضى تدخل ضمن اهتماماته. ويشير “إدغار موران” أن فكرة التعقيد لم تخطر على ذهنه وتفكيره إلا مع الثورات العلمية المعاصرة نهاية سنة 1960م، مثل قيام نظرية المعلومات والسيبرنطيقا ونظرية النظم ومفهوم التنظيم الذاتي، لكي يبرز ذلك التصوّر التعقيدي في كتاباته أو بالأحرى مفاتيحه بمعنى الشبكة المفاهيمية الخاصة به[10]، فهي نظريات حملت معانٍ ودلالات حول التعقيد غير أنها لم تؤسّس له كمنظومة مثلما فعل “موران” ضمن براديغم الفكر المركب. ونظرا لأهمية التعقيد فهو موجود وفي كل الفترات بالأخص تلك التي شهدت تغييبا له، أي يجب ألا يعتقد العقل أن ثورات الحقل العلمي المعاصر هي من خلقت فكرة التعقيد وأوجدتها من العدم، فصحيح هي من أثارت مقولته لكنها لم تكن الفترة الأولى التي ظهر فيها، إذ ينبغي النظر في المواضع التي يبدو فيها التعقيد غائبا عموما[11].
يتّضح أن الفكر المركب والذي يقول بالتعقيد استند على قاعدة علمية، غير أنه ولأنه يركّب ويجمع فإنه يضم العلمي وغير العلمي، فالمعقّد هو الذي يتيح الفرصة لجميع أنماط المعرفة ويسعى للتكيّف مع تعقيداتها “فالفكر المعقّد هو الفكر الذي يحاول أن يجيب عن تحدّي التعقيد لا الفكر الذي يلاحظ العجز عن الإتيان بجواب، إنه يسجّل أمرين ينبغي الإتيان لهما بجواب وأول هذين الأمرين هو اللايقين”3، أي أن الفكر المركب ومنه المعقّد لا يتوقّف عند تحدّي التعقيد ويكتفي بالملاحظة لعملية العجز عن الإجابة عنه، بل يجيب عن هذا التحدّي وذلك عبر الوعي به وتمثّله وكذا الجمع بين مقولاته وعلى تناقضاتها، ثم إن الفكر المركب يرمي إلى الإجابة عن اللايقين (Incertitude) المنبثق عن شدّة التعقيد وأن يتوخّى عدم إقصائه كما هو الحال مع المنطق التبسيطي والذي خضع لمقولة واحدة مركزية وهي اليقين واستبعد كل ما من شأنه إثارة الشك والاحتمال واللامتوقّع واللايقين مما نتج عن هذه الإزاحة تجميدا للفكر عن البحث والاكتشاف، بالتالي عدم فسح المجال أمام انضمام مقولات ومعارف جديدة، مثل هكذا خطأ يتجنّبه فكر التركيب وينتهج العكس بأن يولي اهتماما كبيرا للايقين لأنه ظاهرة طبيعية يعيشها العالم. وفي سياق المركب دائما والمصطلحات القريبة منه والتي تعمل على خلط المعنى في أحيانٍ كثيرة، يذهب “إدغار موران” إلى إحداث فرق ليس بالانفصالي بين مصطلحي: المركب والتعقيد، وفي هذا المنحى يقول: “لا يمكن للمركب أن يتلخّص في كلمة تعقيد، ولا أن يرجع إلى قانون للتعقيد، ولا أن يختزل في فكرة التعقيد”[12]، فالمركب هو ما يركّب بحيث يجعل من قضية اختزاله في كلمة تعقيد أو قانونه أو فكرته أمرا مستحيلا، لأن التعقيد غير قادر على استيعاب المركب الذي وكما يضم التعقيد فإنه يضم التبسيط. ثم إن المركب وكما نوّهنا يتحدّى التعقيد ويرفع من وتيرته، فكأنما الأمر يشير إلى أن التعقيد موضوع المركب، كل هذا يُفضي بمسألة تخصيص مصطلح يحتويه من الاستحالة التي تقتضيها الشمولية المركّبة، غير ذلك فالمركب والتعقيد يتقاطعان في نقطة مهمة جدا وهي إصلاح الفكر. إذن يمثّل الفكر المركب، فكرًا حواريًا منفتح يؤمن بالتعقيد ويدعمه ويؤسّس له، وبالتناقض كجوهر للحياة وباللايقين كخاصية للعالم، هو فكر لكل شيء.
2_2.خصائص الفكر المركب
إضافة إلى المفهوم، نجد دعامة المميّزات أو الخصائص كأحد أهم دعائم الماهية، ويختصّ الفكر المركب بمجموعة منها، ندرجها في النقاط الآتية:
2_2_أ.خاصية الحوار والتواصل
تتجلّى أهم خاصية من خصائص الفكر المركب أو الفكر المتعدّد والواحد معا، في أنه “يقيم حوارية بين العقلاني والتجريبي وبين المنطقي والتناظري، وبين العقلاني والأسطوري، وبين الواضح والضبابي، وبين الشك واليقين، وبين النية والفعل، وبين الغايات والوسائل”2، أي أنه بدل التنافر والتصادم والتنابذ والفصل، يحّدث الفكر المركب أربطة من التواصلات والحواريات بين مختلف نظم الفكر المتضاربة والمنطقيات المتناقضة والعوامل الذاتية وكذا الموضوعية، فالمتناقضات لا تنفصل بفعل الاختلاف الحاصل فيم بينها، بل على النقيض من ذلك تتعايش وتتقارب وتتشارك في عالم فكر التركيب.
2_2_ب.خاصية دمج التبسيط
إن من بين أكثر القراءات الخاطئة والاعتقادات المغلوطة التي يحاول الفكر المركب تصحيحها، هو”إعتقاد أن التعقيد يقود حقا إلى القضاء على البساطة. يظهر التعقيد حيث يعجز الفكر المبسّط، لكنه يدمج داخله كل ما يصنع الاستقرار والوضوح والتمييز والدقة في المعرفة”[13]، فبينما يقف الفكر التبسيطي عاجزا عن فهم التعقيدات الحيوية، يحتويه الفكر التعقيدي ويضمّه إلى مقولاته، فالهدف الأول والأخير للفكر المركب هو إصلاح الفكر، وتحقيق هذه الغاية مشروط بتبني منهج يخالف ذلك الذي تسبّب في الخلل والأزمة أي منطق التبسيط، بالتالي فإنه بدل الإقصاء يعمل التركيب على الاحتواء ولكن بعد النقد وكشف مواطن الخطأ.
2_2_ج.خاصية المعرفة اللامُكتملة
يعيش الفكر المركب و”يحيا بتوتر دائم بين التطلّع إلى معرفة غير مجزّأة وغير مقطّعة وغير مختزلة، وبين الاعتراف بنقصان وعدم اكتمال كل معرفة”2، إنه قول صريح من ” إدغار موران” يبيّن حجم التوتر الذي يحياه الفكر المركب وكذلك التناقض الذي يُرسيه، فهو من جهة يسعى إلى التأليف بين مختلف المعارف وتكوين منظومة معرفية مركّبة لا تُعاني التجزئة والتقطيع والاختزال، وإنما تعيش مع بعضها البعض وتتغذّى من الإنتاجات المتنوّعة التي تطرحها معرفة متعدّدة الأبعاد والأطراف، تساهم في تشكيلها الفلسفة، البيولوجيا، الأنثروبولوجيا، السوسيولوجيا، الفيزياء، الرياضيات (…)، ولكن ورغم هذا الجهد الثمين في الوصل والربط، فإن نتيجة ذلك أي المعرفة المنتجة لاتتسم بالإكتمال وإنما يشوبها النقصان وتبقى دائما مفتوحة على النقد والفحص والمراجعة وكذا الإضافة لتستقبل معارف جديدة، بإيجاز: تظل دوما تعمل على التركيب. وتوجد خصائص أخرى للفكر المركب، منها: أنه فكر تخطيطي استراتيجي مرِن، وفكر يقرّ باستحالة فهم جوهر العالم بشكل نهائي وقطعي.
2_3.مبادئ الفكر المركب
مثلما تأسّس براديغم التبسيط على جملة من المبادئ، فالأمر ذاته بالنسبة لبراديغم التعقيد أو الفكر المركب، حيث وضع له “إدغار موران” ثلاثة مبادئ بمثابة الإطار العام له، ويرجع السبب الجوهري في ذلك إلى حقيقة الرهان المحوري والضروري، والذي هو “قلب أسسّ الكون بقلب أسسّ التفكير في الكون”3، فالمهمة تقتضي مبادئ جديدة تجدّد الفكر وتعمل على إصلاحه ومساعدته على التفكير في التعقيد. وتتمثّل أولى هذه المبادئ أو الأسسّ، في مبدأ السببية الدائرية.
2_3_أ.مبدأ السببية الدائرية (Causalité récursivité)
لقد شكّلت السببية الخطية قانونا حتميا فسّر كل الظواهر العلمية والفلسفية في العصر الحديث، وكانت تفيد أن لكل سبب نتيجة يؤثّر فيها وبشكل خطي مستقيم، بحيث لا يمكن معه أن ترتد العملية عكسيا وتؤثّر النتيجة في السبب. مثل هكذا طرح مغلق انتقده “إدغار موران” وقال بنوع مغاير من السببية، وهي السببية الدائرية أو الحلقية، التي تجعل من الأسباب نتائج والنتائج أسباب، مثال:”ينتج الأفراد المجتمع الذي ينتج الأفراد”[14]، حيث وعن طريق علاقات التناسل، القرابة، الزمالة والمصاهرة والتضامن يمثّل الفرد سببا في حدوث المجتمع، لأنه في نهاية المطاف هو مجموعة من الأفراد إتّحدوا بيولوجيا وسوسيولوجيا لتكوينه. في المقابل تتغيّر الأدوار فيتحوّل الفرد من سبب إلى نتيجة لعلّة هي المجتمع، الذي يُنتج إنسانية الأفراد بإكسابهم اللغة والهوّية والثقافة والأعراف، فهناك علاقة تفاعلية حلقية وتكرارية تنظيمية بين العلّة والمعلول، وهنا بين الفرد والمجتمع، لنتخلّى عن التصوّر الخطي الآتي: الفرد المجتمع أو المجتمع الفرد، إلى تصوّر مركب على النحو:
الفرد المجتمع.
2_3_ب.مبدأ الحوارية (Dialogique)
من بين أبرز الانتقادات التي وُجّهت لمنظومة التبسيط من طرف العقل الموراني، نقد المنطق الهوّياتي الذي حكم التفسير والاستنتاج ، والمعروف أنه يقول قولا لاشك فيه بمبدأ عدم التناقض والذي أدى إلى إقصاء التباين، التمايز، الاختلاف والتناقض، على هذا الأساس صاغ “إدغار موران” المبدأ الثاني للفكر المركب، مبدأ يحتوي المتناقضات وتنافسها مع ضمان تحاورها وتواصلها وتقاربها، وهو مبدأ الحوارية أو الازدواجية والذي “يجمع بين مبدأين ومفهومين متعارضين، يفترض أن يكونا متدافعين لكنّهما متلاحمان وضروريان لفهم الواقع نفسه”2. هي علاقة حوارية معقّدة يقعّد لها الفكر المركب كأعّقد علاقاته، تفيد أن ضروبا من الفكر المتعارضة تتحاور وتعيش معا.
2_3_ج.مبدأ الهولوغرامية (Hologrammique)
لقد شهدت علاقة الجزء بالكل أو الكل بالجزء مفهوما أحادي الزاوية ورؤية إقصائية لأحد الطرفين في نطاق فهم التبسيط، أين كان هذا الفهم يعتقد بنزعتين تقومان على مفهوم المركز، تتمثّل الأولى في النزعة الاختزالي ة (Réductionnisme) التي اعّتدت بالأجزاء والعناصر الفردية على حساب المجموع، والنزعة الكُليانية (Holisme) التي اتخذت من الكل محورا لاهتماماتها، بهذا مثّلت كلا من النزعتين رؤية مشوّهة أهملت جانبا مهما من الموضوع، استدعت الإصلاح.
يأخذ المبدأ الثالث للفكر المركب، وهو الهولوغرامية أو مبدأ الاحتواء المتبادل على عاتقه مهمة هذا الإصلاح حيث ألقى بفهم مختلف عن شكل العلاقة التي تجمع بين العناصر الفردية والمجموع، فتم إسقاط قول الأفضلية التي تنتصر إما للكل أو للجزء، وإنما أصبح كل طرف له مكانة مهمة ودورا فعّالا في توليد المعنى الذاتي وإثراء المعنى الموضوعي. إذ “يرتكز على تصوّر أنه ليس فقط أن الجزء يقع ضمن الكل بل إن الكل أيضا داخل الجزء، وهي فكرة قد تبدو تناقضية تماما غير أنه يتم التحقّق منها باستمرار على الأقل بيولوجيا. ففي كل خلية من الجسم بما فيها خلايا البشرة يوجد الإرث الجيني الكامل الخاص بكل شخص”[15]، حيث يضم الجسم البشري مجموع هائل من الخلايا، بما فيها خلايا البشرة التي تحتضن الإرث الجيني الكامل والمتعلّق بالجسم ككل مثلها مثل باقي الخلايا، فالجزء متضمّن للكل وليس العكس فقط. بهذه الحقيقة تتوضّح العلاقة الهولوغرامية والاحتواء المتبادل بين الجزئيات والكليات، إذ يحضر الكل في الجزء الذي يحضر في الكل في عملية مركّبة ومعقّدة.
خاتمة:
يعد براديغم “الفكر المركب والتعقيد لإدغار موران” من أهم الأطروحات الفلسفية المعاصرة التي تضمّنت خطابًا مدعّمًا بحقائق علمية، تأسّس كرؤية نقدية ضد براديغم التبسيط والفصل والاختزال بسبب الأزمات المعرفية والمنهجية التي خلّفها للفكر العلمي والفلسفي المعاصر، لكن من دون إلغائه تمامًا وإنما نقده بهدف إعادة احتوائه.
ويأتي نموذج الفكر المركب تلبية للتحوّلات العلمية التي شهدها القرن العشرين وخاصة النصف الثاني منه كالسيبرنطيقا ونظرية المعلومات، وهو يدعو إلى ضرورة العمل بالتعقيد، لأنه سبيل البشرية من أجل إصلاح فكرها وضمان مستقبل أفضل.
قائمة المصادر والمراجع:
- إدغار موران، أزمة المعرفة عندما يفتقر الغرب إلى فن العيش، تر: جاد مقدسي، (د.ط)، مجلة الاستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، (د.م)، خريف 2015م.
- إدغار موران، الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، تر: أحمد القصوار ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال للنشر، المغرب، 2004م.
- إدغار موران، المنهج، الأفكار: مقامها_حياتها_عاداتها وتنظيمها، تر: جمال شحيّد، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2012م، ج4 ص257.
- إدغار موران، المنهج، إنسانية البشرية_الهوية البشرية، تر: هنا صبحي، ط1، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث كلمة، الإمارات العربية المتحدة 2009م.
- إدغار موران، نحو براديغم جديد، تر: يوسف تيبس، (د.ط)، مجلة رؤى تربوية، مؤسسة عبد المحسن القحطان المملكة المتحدة، 2009م.
- إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية؟، تر: عبد الرحيم حزل، (د.ط)، إفريقيا للشرق، المغرب، 2012م.
- عبد الوهاب المسيري، دفاع عن الإنسان دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، ط1، دار الشروق، القاهرة، 2003م.
- Edgar morin, Introduction à la pensée complexe, éditions du seuil, paris, 2005.
[1]إدغار موران: إدغار ناحوم، المعروف بإدغار موران: فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي معاصر منحدر من أسرة يهودية يونانية، ولد عام1921م.(جورج طرابيشي، معجم الفلاسفة، ط3، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2006م، ص645)
[2]إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية؟، تر : عبد الرحيم حزل، (د.ط)، إفريقيا للشرق، المغرب، 2012م، ص26
[3]إدغار موران، الفكر والمستقبل_مدخل إلى الفكر المركب، تر: أحمد القصوار ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال للنشر، المغرب، 2004م، ص5
[4]المصدر نفسه، ص6
2عبد الوهاب المسيري، دفاع عن الإنسان_دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، ط1، دار الشروق، القاهرة، 2003م، ص314
3إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية؟، مصدر سابق، ص54
[5]إدغار موران، الفكر والمستقبل_مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص71.
2إدغار موران، المنهج، الأفكار: مقامها_حياتها_عاداتها وتنظيمها، تر: جمال شحيّد، ط1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2012م، ج4، ص257.
3المصدر نفسه، ص ص260_261.
[6] إدغار موران، الفكر والمستقبل_مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص13.
[7]المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
2المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[8] إدغار موران، المنهج، الأفكار: مقامها_حياتها_عاداتها وتنظيمها، مصدر سابق، ص105.
[9] إدغار موران، الفكر والمستقبل_مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص17.
[10] Edgar morin, Introduction à la pensée complexe, éditions du seuil, paris, 2005, p12.
[11]إدغار موران، الفكر والمستقبل_مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص59.
3إدغار موران، هل نسير إلى الهاوية؟، مصدر سابق، ص137.
[12]إدغار موران، الفكر والمستقبل_ مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص9.
2إدغار موران، إنسانية البشرية_ الهوية البشرية، تر: هنا صبحي، ط1، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث كلمة، الإمارات العربية المتحدة، 2009م، ص127.
[13]إدغار موران، الفكر والمستقبل_ مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص10.
2المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3المصدر نفسه، ص6.
[14]المصدر نفسه، ص75
2إدغار موران، نحو براديغم جديد، تر: يوسف تيبس، (د.ط)، مجلة رؤى تربوية، مؤسسة عبد المحسن القحطان، المملكة المتحدة، 2009م، ص123
[15]إدغار موران، أزمة المعرفة_عندما يفتقر الغرب إلى فن العيش، تر: جاد مقدسي، (د.ط)، مجلة الإستغراب، المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية (د.م)، خريف2015م، ص58.