المدن المغربية ومسألة السكن
Moroccan Cities and the Housing Issue
د. توفيق فائق/جامعة ابن طفيل القنيطرة، المغرب
Dr. Toufik Faik /University Of Ibn Tofaik, Morocco
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 72 الصفحة 27.
ملخص:
لقد شكلت المدن المغربية، خلال القرن 20 وبداية القرن 21 ، مجالا للبحث والتنقيب السوسيو-أنثروبولوجي، سواء من قبل باحثين مغاربة أو أجانب، ومن بين هؤلاء الباحثة البلجيكية “نافيزبوشانين“، خبيرة وأكاديمية متخصصة في دراسة الحقل المديني المغربي، إذ عملت على دراسة الأنماط السكنية المغربية، وما يترتب عنها من تفاعلات سوسيو-مجالية بين الفاعلين الاجتماعيين، وكذا الاستراتيجيات المتحكمة في الاختيارات السكنية للقاطن المديني، مع تقييم للتدخلات العمومية للنهوض بالمجال السكني المغربي، معتمدتا في ذلك على منهج المقارنة بين فضاءات حضرية متنوعة.
كلمات مفاتيح: السوسيولوجيا، الحضري، المجال، الأنماط السكنية، الاستراتيجيات
Abstract:
Since the 20th and 21st centuries, Moroccan urban cities have been considered a socio-anthropologic field of research and investigation for Moroccan and foreign researchers. Among many scholars, the name of the Belgium sociologist NavezBouchanine is noticeable. She is an expert and an academic specialist in the field of Moroccan urbanism. She studied different styles of Moroccan cities and socio-interactions among social actors. She also investigated the subtle strategies through which citizens choose their residence. Following the method of a comparison among different urban spaces, Navez evaluated how public agents’ intervention promotes the Moroccan residential areas.
Key words: sociology, urban, space, residential styles, strategies .
تمهيد:
إن التفوق الذي أصبح يشهده العالم المديني على حساب العالم القروي، قاد إلى توجيه بوصلة البحث نحو سبر أغوار القضايا السوسيوثقافية، التي طفت على سطح المدن، ومن بين بين هاته المسائل التي توحدت حولها المجتمعات المتقدمة والأقل نموا، ظاهرة السكن وما نتج عنه من انحرافات؛ لقد شكل السكن بالمدن المغربية منذ عقود خلت بؤرة اهتمام متزايدة من قبل مجموعة من الباحثين( أندري أدم، روبير مونتاني، نافيزبوشانين، عبد الرحمان رشيق، بوزيان البوشنفاتي، عبد الرحمان المالكي، فضيل لعيرج…)، غير أن أبرز هؤلاء الباحثة البلجيكية “فرانسوازنافيزبوشانين”، ونظرا لمكانتها المعرفية، كان لابد من الوقوف على التراث الأدبي الذي خلفته، والعمل على خلخلته، معتمدا في ذلك على تقنية تحليل المضمون، بشكل يساعد على فتح البيانات المستخلصة على آفاق بحثية جديدة، إذ أن عملي البناء المعرفي تقتضي الانطلاق من خلاصات الدراسات السابقة؛ ومنه يمكن بسط التساؤلات التالية: من تكون نافيزبوشانين؟ وما الرهان الذي حكم دراستها للسكن بالمدن المغربية؟ وما الأنماط السكنية التي طالها البحث؟ وما الاستراتيجيات التي تحكمت في اختيار القاطن للأحياء السكنية؟ وما التفاعلات الناجمة عنها؟ وكيف يتفاعل الاجتماعي بالمجالي في الأحياء السكنية المغربية؟
1- العرب والغرب ومسألة التحضر
خوض الباحثين في مفهوم التحضر يجعلهم أمام مجموعة من القضايا على رأسها الكشف عن المفارقات التي تتبدى بشكل جلي بين التحضر أو التمدن الذي يمس المجال الغربي من جهة أولى، والعالم الثالثي، أو البلدان العربية، بصفة خاصة، من جهة ثانية، وهذا ما يفرض وبقوة ضرورة الكشف عن خصائص كل تحضر على حدة. ومنه ما مميزات التحضر الغربي؟ وما الفرق بينه وبين التحضر العربي؟
1–1 -التحضر في العالم الغربي
لقد كان التحضر في العالم الغربي استجابة منطقية للثورة الصناعية، والرأسمالية التي شهدتها أغلب مناطقه، وما رافقها من تأثيرات إيجابية على المد العمراني، كما استفاد المجال الحضري من إدخال تقنيات جديدة ومناسبة جعلته قادرا على استيعاب عدد متزايد من السكان الجدد، وكذلك إدخال شبكة متوازنة من الخدمات باختلاف أنواعها وجعل النمو الحضري ينمو بشكل طبيعي وبأزمات قليلة، أي نمو حضري متحكم فيه من طرف الفاعلين الساهرين على تدبير شؤون المدينة، “الأمر الذي جعل هذا النوع من التحضر طبيعيا، ينمو بشكل متدرج مقترن بمخططات تسهر على الحفاظ على توازن المجتمع عبر فترات زمنية متلاحقة”[1]. هذا وتجدر الإشارة إلى ظاهرة جديدة أضحت تنتشر وتتوسع في الأوساط الغربية، تساهم في التخفيف من حدة التحضر، والمشاكل المترتبة عنه رغم قلتها، إنها بطبيعة الحال الهجرة العكسية من المدن إلى البوادي.
1-2-التحضر في العالم العربي
إذا كان ذلك حال الغرب، فإن التحضر في العالم العربي في أغلب صوره عبارة عن هروب للريفيين والقرويين من ظروف الحياة الصعبة، التي لا تطاق لكي يتكدسوا في المدن طمعا في حياة أفضل. إن هذا النوع من الهروب من الريف إلى المدينة في الحقيقة، بعيد كل البعد عن المفهوم العام للتحضر المتعارف عليه علميا وموضوعيا، فهو ليس تطورا أو ارتقاء أو تغيرا طبيعيا، بل هو تكدس سكاني فجائي، “يؤدي إلى تكوين محيط حضري مصطنع في المدن، فلا هو ريف بالمعنى المعروف ولا هو مدينة”[2]،وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، لا بد من التنبيه إلى أن التحضر العربي كان نتاجا لظروف تاريخية تميزت بالهيمنة الرأسمالية والاستعمارية، فمجموعة من المدن شيدت من طرف المعمرين، فهذه “التجربة التمدنية مفروضة من الخارج“[3]، حسب السوسيولوجي بوزيان بوشنفاتي، هذا أيضا نجده في أطروحته إذ يقول: “إن التحضر في الدول الصناعية كان نتيجة حتمية لعملية تاريخية، كاستجابة للثورة الصناعية، وما صاحبها من تحولات عميقة في البنيات الاجتماعية ، والاقتصادية، والثقافية، في حين أن التحضر في البلدان المتخلفة كان نتيجة ميكانيزمات أخرى، تختلف اختلافا جوهريا عن الشروط التاريخية، التي عرفتها البلدان الصناعية”[4].
2-عودة قضية الإسكان
لقد شهد العالم الأروبي خاصة خلال سبعينات القرن19، أزمات اقتصادية دفعت مجموعة من الدول إلى تبني سياسة التقشف، وخفض رواتب الأجراء، وبالتالي التأثير المباشر على مشاريع الإسكان، والبناء، والتموين، نفس الأزمة طالت الولايات المتحدة ، خلال بداية القرن 20،خاصة مدينة شيكاغو، واليوم أيضا عمت أزمة الإسكان مجموعة من المدن العالمية الكبرى مثل نيويورك، لندن، باريس، مومباي، مكسيكو..إلخ، وما نتج عنها من تظاهرات واحتجاجات تنادي بالحق في المدينة، أو الحق في السكن اللائق[5]، ونظرا لتبعية العالم الثالث لأوروبا وأمريكا، فقد امتدت الأزمة لتطال جل الدول السائرة في طور النمو، بما في ذلك المغرب، حيث عرفت مدنه الكبرى انفجارا حضريا ساهم في تشويه المجال الحضري، وخلق ظواهر سيوثقافية جديدة، عنوانها البارز: التحول القيمي من التضامن إلى الفردانية.
يعد “أندري أدم”من بين الأوائل الذين استشعروا هذا التحول القيمي، إذ كشف في دراسته حول البيضاء عن دور الاستعمار في خلخلة الموروث الثقافي للمدن المغربية، إذ انتقلنا من وحدة المعمار والاقتصاد، والهوية الثقافية المنسجمة، إلى ازدواجية: المسكن، والثقافة، والاقتصاد، وما ترتب عن ذلك من تراتبات؛ وبالنسبة للسكن رأى أن الاستقلال عن الاستعمار وعودة الأوروبيين إلى أوطانهم الأصلية، سمح باستيطان وامتلاك فئة من القاطنين المغاربة لتلك المساكن(المختلفة من حيث التصميم والزخرفة عن المنازل المغربية)، الأمر الذي ساهم في خلق فئة اجتماعية جديدة(ميسورة) حاملة لثقافة غربية ومدافعة عنها ضد الثقافة المحلية[6]؛ ومنه فالتدخل الغربي كانت له نتائج سلبية على الساكنة المحلية، تمثلت أساسا في خلق تحولات سوسيوثقافية، من الانغلاق والتضامن إلى الانفتاح والأنانية المتوحشة.
2-1نافيز بوشانين: دراسة السكن بالمدينة المغربية
أ – نبذة عن نافيزبوشانين
بوشانين باحثة بلجيكية استقرت بالمغرب بعد نيلها لشهادة الإجازة في علم الاجتماع بالجامعة الكاثوليكية لوفان، حظيت بتأطير “جون ريمي” هناك، ثم تابعت دراستها بجامعة محمد الخامس بالرباط إلى أن حصلت على الدكتوراه في علم الاجتماع بإشراف السوسيولوجي المغربي “محمد جسوس“، تقلدت مجموعة من المناصب فهي: أستاذة بالعديد من مدارس الهندسة المعمارية في فرنسا، وأيضا بمعهد التنمية والتربية بالرباط، وأستاذة زائرة بكلية الهندسة بفينيزيا الإيطالية، وعضو بمركز البحوث المتعلقة بالسكن والهندسة المعمارية والتصميم والعلوم والمعرفة، فضلا عن كونها مستشارة في وكالة التنمية الاجتماعية بالرباط، وخبيرة استشارية لدى البنك الدولي، ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ولجنة الاتصالية الفيدرالية …؛ اهتمت بدراسة الأنماط السكنية بالمدينة المغربية أزيد من خمسة عشرة سنة، فكانت أن توجت هذه السنوات بأطروحة سنة 1991، وخلال سنة(1997) عملت على نشرها على شكل كتاب معنون بــ”Habiter la villemarocaine“[7]، و”استطلاعات الرأي، تعليمات الاستخدام”(1998)، و”التدخلات في الأحياء الصفيحية في المغرب تقييم اجتماعي”(2002)، “المدن بين الاقتصاد المكاني والتفتت الاجتماعي”(2002)، و “التدخل في مناطق التوسع الحضري الواسع النطاق”(2005)، و” تطور السياسة الحضرية وترسيخ الأحياء الفقيرة في المغرب: النجاح وعدم السيطرة على الأعمال الاجتماعية “(2007)،و “أحياء سكان المدن المغربية” (2007)…هذه المؤلفات وغيرها تكشف عن الاهتمام الأكاديمي بالمجال الحضري المغربي، مما جعل السوسيولوجية “نافيزبوشانين” بؤرة معرفية لا مناص منها في أي دراسة سوسيوأنثروبولوجيا للمدن المغربية، القيمة المعرفية للباحثة هي ما جعلتنا نغوص في التراث الأدبي الذي خلفته، ليس بنية القبول الأعمى، و إنما بدافع التمحيص والخلخلة لإعادة البناء، خاصة في ظل التطورات التي شهدها المغرب.
2-2 – السكن بالمدينة المغربية
أ -رهان الدراسة:
يعد مؤلف السكن بالمدينة المغربية من بين المؤلفات الراصدة للمدن المغربية، إذ شكل نبراسا للطلبة الباحثين، وعموم القراء، والمشتغلين بمجال التعمير، نظرا لما يتضمنه الكتاب من دقة، وتحليل للخصائص المميزة لمجموعة من النماذج السكنية، كالسكن الاقتصادي، والصفيحي…إلخ، بالإضافة إلى رصد تطوراتها المجالية والسوسيوثقافية.
إن الرهان الذي حكم دراسة ” بوشانين للمدينةالمغربية “هو إبراز العلاقة التفاعلية بين المجال والمجتمع، أي اللجوء إلى قراءة ما هو اجتماعي داخل الحيز المجالي من جهة، ودراسة المجال في الممارسات الاجتماعية من جهة ثانية؛ هذان المدخلان متكاملان يشكلان وجهان لعملة واحدة يصعب الفصل بينهما، يساعدان على منحنا فهم وتصور للأشكال الاجتماعية المرتبطة بالمجال، ذلك أن طبيعة المجال تحدد نوعية العلاقات والتفاعلات السائدة بداخله، إن هذه الثنائية كانت ولازالت دائما محل اهتمام من طرف أولئك الراغبين في التفاعل مع المدينة أو اتخاذها موضوع بحث أو دراسة.
ب – الأنماط السكنية بالمدن المغربية:
إن ما طبع دراسة بوشانين هو الاعتماد على مدن متعددة من المملكة المغربية لها وزنها التاريخي والاقتصادي والديمغرافي، وأيضا الإحاطة بأحياء سكنية مختلفة تميزت بالتشابه تارة، والاختلاف تارة أخرى، سواء من الناحية المجالية، أو من الناحية المكانية، أو من الجوانب السوسيوثقافية، منطلقة في ذلك من:
– السكن الاقتصادي ( L’ habitat économique)
هي منازل مستقلة تتشكل من طابق أو أكثر تتواجد بجل المدن المغربية الكبرى كالدار البيضاء، الرباط، طنجة، فاس…إلخ. واتخذت الباحثة في هذا النموذج السكني، مدينة مكناس كمثال، خاصة منطقة “بني امحمدبسباتة“،وقد امتدت الدراسة لهذا المجال زمنيا ما بين 1974-1989، مما يفسر حضور التريث بدلا من الاستعجال.
إن السكن الاقتصادي يتم تشييده وبناءه بالاعتماد على طريقتين إما عبر المشاريع التنموية العامة والخاصة، أو عبر الاعتماد على مقاولتين كبرى وصغرى، أما من حيث طبيعة الأسر السائدة بهذا السكن فهي “أسر ذات طبيعة نووية أو نووية موسعة”[8]،وبالنسبة لشكل البناء فهو متباعد ومستقل مجاليا، أما العلاقات الاجتماعية داخل “بني امحمد” مبنية على الصداقة القائمة على المنفعة، أو الزبونية، فهي سطحية تحيل على الفردانية والتباعد أكثر من التضامن أو التآزر، هذا ويتم استقبال الضيوف في قاعة معزولة عن باقي الغرف للإحالة على وجود سور بينهم وبين عمق المنزل، حتى لا يتمكن الضيف من اختراق ذلك العالم الحميمي، مما يدل على تفسير المجالي بالاجتماعي والاجتماعي بالمجالي. إن طبيعة هذا السكن هي التي تحدد علاقات الأفراد، كما أن نوعية الشرائح والفئات الاجتماعية القاطنة بالمجال هي التي تحدد طبيعة العلاقات والتقاليد والقيم السائدة به، فتضمن مجال ” سباتة بني امحمد” فئات متشابهة خلق بذلك نسقا هوياتيا موحدا، هذا ما عبرت عنه ب: “إن حي بني امحمدبسباتة يمثل تقطيعا حضريا وإداريا يتضمن عناصر مختلفة ومهمة، كما أنه مجال نشأ بكيفية طبيعية، وله نسق هوياتي موحد “[9]، أي أنه يتميز بوحدة الشعور بالانتماء، لكن، في ظل التغيرات التي شهدتها المدينة المغربية، ألا يمكن الحديث عن نمط هوياتي مختلف ؟ ألا يمكن لموقع الحي وطبيعة الأفراد القاطنين فيه أن يشيدا هويات مختلفة؟
– النماذج السكنية بالعمارات الجماعية( Modèles d’habiter dans les immeublessociaux)
يعتبر هذا النموذج الأكثر تمثيلية وانتشارا بالمدن المغربية الكبرى، ذلك أن فئات قليلة تقطن أحيانا الصفيح أو الفيلات، من خلال البحث الذي أنجزته الباحثة حول هذا النموذج السكني، اتضح لها أنه تم الشروع في اعتماده كسكن، انطلاقا من ثمانينات القرن 20،فاعتمدت على دار الأمان بالدار البيضاء، كمثال توضيحي لهذا النموذج، حيث يتموقع بالمجال الصناعي ما بين إقامات عين السبع، وإقامات الحي المحمدي.
دار الأمان من أول الإقامات السكنية بالمغرب هيئت على الشاكلة الأوروبية، فطبيعة ومساحة بناياتها تتوافق مع القيم والأعراف التي تؤطر حياة الأفراد، وتنمي حس الانتماء والشعور بالهوية، فغالبية ساكنة دار الأمان تنتمي للقرى المجاورة للبيضاء، أي يدخلون ضمن فئة المهاجرين أو أبناء المهاجرين، الأمر الذي جعل علاقاتهم مبنية على القرابة التي تحكم الزيارات الأسبوعية بين العائلات، فكلما كانت العلاقات وطيدة ومتينة، إلا وكثرت الزيارات والاستقبالات، وفي مقابل ذلك كلما كانت العلاقات باردة ومضطربة، إلا وقلت الزيارات والاستقبالات؛ “مساحة السكن تسمح باستقبال الزوار وتبادل الزيارات والاستقبالات[10]،مما يعني أن المجال السكني له دور فعال ومهم في صياغة هذه العلاقات المتعددة (المهنية، المدرسية، الأبوية)،وتنتصر بوشانين إلى القول بأن الفرد كلما كان مستقلا ببيته، إلا واكتسب قيمة خاصة، لكنه داخل العمارات الجماعية يفتقدها.
– النماذج السكنية في الأحياء المختلفة (Modèles d’habiter dans les quartiers clandestins)
هي أحياء يتم تشييدها داخل تجزيئات غير قانونية، توجد في الغالب بضواحي المدن كما يمكن أن نعثر عليها بقلب المدن القديمة. هذا النموذج يخترق مجموعة من المدن المغربية، كتطوان، وسلا، ويعد دوار السوسي بمكناس أحد الأمثلة التي استهوت الباحثة بوشانين، ميلاد هذا الحي يعود إلى أربعينات القرن الماضي، ويعد من بين المجالات الأكثر فقرا، يضم ساكنة متنوعة الانتماءات، كما أن أشكال البيوت مختلفة، مما ينعكس على إغناء وتنوع العلاقات، غير أن ما يميز هذا النموذج السكني هو التوفر على “وسط الدار أوالمراح” كفضاء لإنجاز الأعمال اليومية، ومشاهدة التلفاز، وإنجاز التمارين المدرسية من قبل المتعلمين؛ مما يجعل منه فضاء لحرارة العلاقات على المستوى الداخلي، لكن تنحو نحو البرودة في إطار التعامل مع الأحياء والدواوير المجاورة، كما أن علاقات أهل الدوار تمتاز بالتناظر والمساواة. إن الزيارات لا تتم إلا في حالة وجود حفل، أو مرض، أو مشاكل اجتماعية، وهي أمور تتطابق مع المجال السكني المماثل بين أهل الدوار.
تؤكد بوشانين أن ما يميز ساكنة هذا المجال هو حملهم لتمثلات تزكي وجود بون شاسع بينهم وبين مدينة مكناس، نظرا لوجود تمايزاتوتراتبيات، بل إن هذه الفوارق تتخلل الحي ذاته، إذ أن هناك تراتبيات هرمية بين العائلات الوافدة إلى الدوار قديما، وتلك الوافدة عليه حديثا؛ إلا أن هذه الخصائص المميزة لهذه الأحياء وغيرها تظل نسبية، لأنه “كلما تغيرالمجال إلا وتغير نمط العيش“[11].
– النماذج السكنية في أحياء الصفيح (Modèles d’habiter en bidonville)
للكشف عن خصائص أحياء الصفيح، اعتمدت بوشانينعلى حي “برج مولاي عمر” ،إذ ينشطر هذا الأخير إلى قسمين أو فضائين: العين من جهة، و”الدوار اجديد” من جهة ثانية، توصلت في معرض دراستها إلى القول أن الأحياء الصفيحية من بين الأحياء المجهولة، نظرا لغياب الكتابات الراصدة لها، كما أن المعلومات المتوفرة حولها يطغى عليها الحس المشترك والأحكام الجاهزة، التي غالبا ما تنحو إلى نعت هذه الأحياء بمجالات التلوث، وسوء التنظيم، وهيمنة الطابع البدوي، وانتشار الفقر على نطاق واسع، بل وتشكل مرتعا للفئات المحرومة، والهشة، لكن هذه الخصائص سرعان ما تتهاوى باعتماد دراسات موضوعية.
إن طبيعة وأشكال المجال الصفيحي تؤدي دورا فعالا في توجيه الممارسات، والإبداعات السكانية، بل وتحدد علاقاتهم وروابطهم الداخلية، والخارجية، هذه الأخيرة التي تختلف وتتشابه في الآن ذاته مع تلك السائدة في النموذج السكني الاقتصادي، وتضع بوشانين فرضية القرب كمحدد لطبيعة العلاقة بين أفراد الحي الصفيحي، فكلما كانت المساكن قريبة من بعضها البعض، إلا وتوطدت العلاقات، وفي مقابل ذلك كلما هيمن عليها التباعد، إلا وتعرضت للفتور والبرودة، غير أن ما يميز سكان هذا الحي هو التضامن والتبادل الجيد للخدمات، حتى في ظل غياب الرابط العائلي الدموي، هذا ويتوافر الحي على فضاء تجاري يزيد من حجم العلاقات داخل الحي، ويساعد على التزكية للشعور بالوحدة والانتماء (الهوية الموحدة).
– النماذج السكنية بأحياء المدينة العتيقة والأحياء الخاصة بالفيلات.
حاولت الباحثة بوشانين في هذا الجزء استكشاف أنماط سكنية جديدة مخالفة للأولى كأحياء المدينة العتيقة أو أحياء الإقامات الخاصة بالفيلات، ويمكننا عرضها فيما يلي:
أولا؛ أحياء المدينة العتيقة
تعد المدينة العتيقة فضاء للجذب نظرا لزخرفتها وطابعها الجمالي، فالبيت العتيق، نظرا لرمزيته ووظيفته يتحول إلى جزء لا يتجزأ من التقاليد، بل يشكل الأساس الثقافي للهوية المحددة لقاطنيه؛ تمتاز المدينة القديمة بضيق أزقتها، لكن بالرغم من ذلك فهي شاسعة في نظر المنتمين إليها. فالحدود لا معنى لها، فالطفل مثلا يعتبر الحي الذي يقيم فيه مجاله الخاص الذي يتحرك فيه بكل حرية وعفوية، وبموجب ذلك تتحول المدينة إلى وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة، الأمر الذي يساعد على سيادة أشكال التضامن والتـآزر بين السكان، غير أن عدم الرضى يهيمن على تصورات وآراء وتمثلات أهل المدينة، ويرجع ذلك حسب بوشانين إلى ضعف إمكانية وصول السكان للتجهيزات والخدمات العامة، بسبب انعدامها وانقطاع الرابط بينها وبين المدينة الحديثة؛ لكن في ظل التحولات التي عرفتها المدن القديمة، وهجرة قاطنيها الأصليين، ألا يمكن الحديث عن التجاهل المتبادل بين القاطنين، والتشردم الهوياتي؟
ثانيا؛ أحياء الإقامات(خاصة الفيلات)
فئة سكنية حضرية تشكلت بعد نيل الاستقلال بالقرب من وسط المدينة أو بجنباتها، تعد الفيلات من بين الفضاءات السكنية الراقية، من بين هذه النماذج السكنية “بحي سويسي بالرباط” “وحي النزهة (plaisance)بمكناس“، وبالنسبة لهذا الأخير، فهو مشكل من مساكن كبيرة الحجم، التي تتوافر على حدائق محاطة بسور، ذات طابع مستقل، هذه الاستقلالية المجالية تعكس طبيعة الأسر القاطنة بها، حيث نعثر على هيمنة النموذج الأسري النووي. هذا،” ويحيل الشكل أو المظهر الخارجي للفيلات على الحظوة، والنفوذ، والتميز، وهو الأمر نفسه بالنسبة للوضعية الاجتماعية للقاطنين بها، مما يجعلنا أمام هوية إيجابية”[12]، كما أن التباعد بين المساكن يقود إلى برودة العلاقات وسيادة الاستقلالية، وشح في الأنشطة الجماعية، هذا ما نلمسه في قول بوشانين “إن ما يمكن تسجيله هو غياب العلاقات والروابط الجوارية المبنية على التضامن والتبادل والتآزر بين أفراد الحي”[13]؛ هذه الروابط على عكس ما سجلته الباحثة يمكن أن تظهر خاصة في حالة الموت، مما يعني أن نوعية الحدث تفرض السلوك المهيمن.
3 – استراتيجية اختيار السكن
أقرت الباحثة “نافيزبوشانين” على وجود استراتيجيات حكمت اختيار القاطن الحضري لنوع السكن أو مجال الإقامة، منها استراتيجية الملاحظة، الحي المقبول والملائم لتطلعات الوافد، لابد أن تتوافر فيه عناصر جدب، يمكن حصرها حسب بوشانين فيما يلي:
- وجود شوارع واسعة جادبة، في مقابل الشوارع الضيقة الملوثة والطاردة.
- الوعاء العقاري السكني المفضل، من قبل القاطن المديني، هو الذي يحظى بالاعتراف القانوني.
- وجود مرافق حضرية (مدارس، ثانويات، كليات، مرافق رياضية وثقافية، مرافق تجارية وخدماتية متنوعة، مؤسسات إدارية وأمنية…).
- مناخ اجتماعي يسوده التضامن والتعاون بين أفراده أو التباعد الاجتماعي، و الاحترام المتبادل[14]، أي أن اختيار السكن ينصاع لمضمون المثل المغربي(الجار قبل الدار)، فالقاطن المديني يسعى وراء السكن في مجال معين نيل الراحة النفسة، والاجتماعية لذاته وذوييه.
إن الاستراتيجيات السابقة الموجهة للقاطن المديني، غالبا ما تحكم تلك الفئات الميسورة، التي لها قدرات مادية تجعلها قادرة على الانتقاء تبعا للمؤشرات أعلاه، غير أن الباحثة أغفلت الحديث عن تلك الفئات المهمشة والمقصية من حرية الاختيار، حيث تتحكم في اختياراتها الظروف السوسيو اقتصادية، وتتحول إلى شرائح مجبرة على التكدس في أحياء هامشية، تفتقد لتلك المقاييس المفضلة لتضطر إلى الرضوخ قسرا للمقاييس المرفوضة والمنبوذة؛ إن الدخل ونوعية العمل يحتمان على القاطن المديني اللجوء إلى الإقامة بحي سكني دون آخر، مما يعني أن تلك الاستراتيجيات التي حددتها الباحثة البلجيكية، تصبح ملغية في حالة اختل الشرط المادي، إذ يغدو الحل الوحيد المتاح في وجه هؤلاء المقصيون هو التكدس بالأحياء الهامشية المفتقرة للبنيات التحتية، والخدمات الاجتماعية .
4_استنتاجاتو آفاق بحثية:
في النهاية يمكن أن نستخلص من دراسة بوشانين جملة أفكار منها:
- التأكيد على العلاقة التفاعلية (التأثير والتأثر)بين المجال والمجتمع.
- طبيعة المجال تفرض نوعية وأشكال العلاقات الاجتماعية السائدة داخله.
- الإبداعات والممارسات السكانية تتأثر بطبيعة المجال.
- تباعد المساكن والبنايات، يفرض تباعدا على مستوى العلاقات، بينما تقاربها يقود إلى تزكية التبادل والتضامن.
- تغيير المجال السكني يفضي إلى تغيير نمط العيش.
- طبيعة ومساحة البنايات تتوافق مع القيم والأعراف التي تؤطر حياة الأفراد.
- المجال السكني فضاء للشعور بروح الانتماء والهوية الموحدة.
بالرغم من الأهمية التي تحتلها دراسة بوشانين، إلا أن هذا لم يمنعها من الوقوع في هفوات تجلت في: المغالات في تفسير الاجتماعي بالمجالي، في حين أن سلوكات الأفراد مركبة محكومة برهانات واستراتيجيات مختلفة، تقتضي النظرة الشمولية التي تأخذ بالعناصر الاجتماعية ، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية. المجال الحضري نتاج لفعل فاعلين سياسيين، واقتصاديين، ومدنيين؛ كما أنها همشت الدور الفعال للبعد الثقافي في إدماج المهاجرين داخل العالم الجديد ( مكان الاستقبال)، وخضوع القيم والأعراف والعادات الثقافية للدينامية، الأمر الذي يفرض علينا قراءتها من زاوية الثابت والمتحول، وبالرغم من حديثها عن التوسع والتمدد الحضري لبعض المجالات، ملتهمة في ذلك بعض الهوامش والدواوير المجاورة، فإنها لم تشر إلى دور الاستعمار في بلورة مدن جديدة، وخلخلة البنيات التقليدية الاجتماعية والثقافية، وجلبه لعادات جديدة لم يكن لها وجود سابقا؛ بالإضافة إلى النمو الحضري المصطنع الذي نتجت عنه مشاكل ذات طابع اجتماعي ثقافي ،كانت لها تداعيات على حياة الأفراد والجماعات داخل المدن، و لم تشر إلى هذه التداعيات، بالرغم من أنها وصلت إلى الدروة، خلال فترة السبعينات والثمانينات، وما ترتب عن ذلك من انتفاضات، الشيء الذي دفع الدولة إلى إقرار سياسة إدماجية ومشاريع تنموية، اتضح فشلها بعد مرور الوقت، الأمر الذي يدفعنا إلى الدعوة إلى وضع بعض تلك السياسات الإدماجية تحت مجهر النقد للكشف عن أسباب فشلها.
إضافة إلى ما سبق ذكره، لا بد من التنبيه إلى أن التحضر العربي كان نتاجا لظروف تاريخية تميزت بالهيمنة الرأسمالية والاستعمارية، فمجموعة من المدن شيدت من طرف المعمرين. فهذه “التجربة التمدنية مفروضة من الخارج”[15]،في ظل ثنائية المركز والمحيط، فالأول ينقل تجاربه إلى الثاني بحكم قوته وتسلطه. لكن في الوقت الحالي أصبحنا أمام المد العولمي العابر للقارات، إذ أصبح يهندس العالم وفق منطقه الخاص؛ منه إلى أي حد استطاعت المدينة المغربية أن تحافظ على خصوصياتها المحلية؟ وكيف يتفاعل المحلي والكوني في المجال المغربي؟
خاتمة:
إجمالا، إذا كان التحضر في العالم الغربي قد شهد تطورا عمرانيا، وازديادا في المراكز الصناعية، ونضجا في عقلية الأفراد، فإن التحضر في العالم العربي عرف بروز سيطرة مدينتين أو مدينة واحدة، وفي هذا يمكن أن نشير إلى القاهرة التي تضم ربع ساكنة مصر، وبغداد التي تحتوي على ثلث الساكنة العراقية، والكويت التي تمثل ثلاثة أرباع من الساكنة؛ بالإضافة إلى الانغماس في التخلف والعقلية المتحجرة.
فإذا كانت المدن الأوروبية نتيجة للتصنيع الموازي لتنمية اجتماعية شملت الصحة، والسكن، والتعليم، وغيرها، فإن التحضر بالمدن العربية نتاج لضعف البنيات التحية للبوادي والضغط الاستعماري، مما أدى إلى هجرة وتهجير أفواج عديدة من القرويين، نتجت عنها أحياء عشوائية تغيب فيها أدنى شروط الحياة.
قائمة المراجع:
- بوزيان بوشنفاتي(1988)،في التحضر والثقافة الحضرية بالمغرب، دراسة في البناء الاجتماعي لمدن الصفيح ، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي ، دار الخطابي للطباعة والنشر،ط.1،(1988).
- بوزيان بوشنفاتي(1980-1981)، البناء الاجتماعي في مدن الصفيح بالمغرب، مونوغرافيا حي الحميديين ببرج مولاي عمر مكناس، تحت إشراف الدكتور معن خليل عمر، جامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس(1980-1981).
- حسن طالب، المدينة والجريمة، الأحياء الفوضوية في النسيج العمراني الحضري والجريمة، دار الفنون بيروت، ط.1، (1997).
- André Adam(1968), Casablanca Essai sur la transformation de la société marocaine au contact de l’Occident, éditions du centre national de la recherche scientifique, paris, (1968).
- Françoise Navez Bouchanine, Habiter la ville marocaine, l’harmattan, (1997).
- Francoise Navez-Bouchanine, Le quartier des habitants des villes marocaines, la Découverte, pages 163-173 (2007).
- Neil Smith, Retour sur la question du logement, tradiut de l’anglais par Celia Izoard, ERES ” Espace et Soiété” , n 17,pages 133-138, https : //www.cairn.info.(2017).
[1]حسن طالب، المدينة والجريمة، الأحياء الفوضوية في النسيج العمراني الحضري والجريمة، دار الفنون بيروت، ط.1، (1997)،ص. 6.
[2]حسن الطالب، المرجع نفسه، ط.1، (1997)، ص.8.
[3]بوزيان بوشنفاتي، في التحضر والثقافة الحضرية بالمغرب، دراسة في البناء الاجتماعي لمدن الصفيح ، منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي ، دار الخطابي للطباعة والنشر، ط.1، (1988)، ص .21.
[4]بوزيان بوشنفاتي، البناء الاجتماعي في مدن الصفيح بالمغرب، مونوغرافيا حي الحميديين ببرج مولاي عمر مكناس، تحت إشراف الدكتور معن خليل عمر، جامعة محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس،(1980-1981)، ص. 48.
[5]Neil Smith, Retour sur la question du logement, tradiut de l’anglais par Celia Izoard, ERES ” Espace et Soiété” , n 17,pages 133-138, https : //www.cairn.info(2017).
[6]André Adam, Casablanca Essai sur la transformation de la société marocaine au contact de l’Occident, éditions du centre national de la recherche scientifique, paris(1968),p.766.
[7]Françoise Navez Bouchanine, Habiter la ville marocaine, l’harmattan1997.
[8]Françoise Navez.Bouchanine, Ibid.(1997), p .16.
[9]Françoise Navez.Bouchanine(1997), Ibid (1997), p .54.
[10]Françoise Navez.Bouchanine,Ibid (1997), p. 88.
[11]Françoise NavezBouchanine, ibid (1997), p.102.
[12]Françoise NavezBouchanine,ibid (1997), p.222.
[13]Françoise Navez.Bouchanine, Ibid, (1997), p.230.
[14]Francoise Navez-Bouchanine, Le quartier des habitants des villes marocaines, la Découverte, pages 163-173,(2007), p. 165.
[15]بوزيان بوشنفاتي، مرجع سبق ذكره، (1988)، ص.21.