
“تكريم الإسلام للإنسان وتقديس حياته”
لقد شاع في الأبحاث السياسية والقانونية وحتى في الدراسات الاجتماعية، أن مفهوم حقوق الإنسان قد ولد في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال الفكر القانوني والسياسي، فأدت كتابات عدد من الفلاسفة وفقهاء القانون إلى ظهور نظرة جديدة لطبيعة الإنسان، وهي النظرة التي قادت إلى المسلَّمات الأساسية في الوثيقة العظمى البريطانية لسنة 1215 (Magna Carta) وفي إعلان الاستقلال الأمريكي (الصادر في 4 يوليو/تموز 1776) أوفي الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن (الصادر في 26 آب/أغسطس 1789).[1] |
![]() |
ولقد كرست مختلف هذه الوثائق حقوق الإنسان “الطبيعية” مثل: ” الحق في الحرية، وفي المساواة، وفي الأمن وفي سيادة الشعب كمصدر للسلطات في المجتمع (…)” وما إلى ذلك من حقوق ومبادئ ساهمت في ظهور حركات ثورية وإصلاحية سواء في أوروبا أو خارجها، كما دخلت مضامينها في ميثاق عصبة الأمم سنة 1919، ثم ميثاق منظمة الأمم المتحدة سنة 1945، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 وفي كل الوثائق الدولية لحقوق الإنسان.[2]
غير أن حقوق الإنسان على خلاف ما يدعي البعض، ليست وليدة هذه الإعلانات ولا مختلف الوثائق الدولية لحقوق الإنسان الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه والعلاقات الاجتماعية كانت ولازالت تحتاج إلى ضوابط وأسس تحكمها.
فالدارس لتاريخ العلاقات الإنسانية يجد أن لكل مجتمع مهما كانت درجته في الرقي أو التأخر حظه من المبادئ القانونية التي تنظم تصرفات الأفراد، ومعاملاتهم لبعضهم البعض، تجد هذه المبادئ جذورها والأسس التي تقوم عليها في أغلبية الديانات والفلسفات والثقافات.[3]
وعليه فإن مصادر حقوق الإنسان بوجه عام عميقة الجذور، بعيدة المدى الزمني عبر التاريخ الطويل والثري للإنسانية جمعاء؛ لأنها تمتد لتشمل كل الفلسفات في المجتمعات القديمة والحديثة، وجميع الشرائع السماوية والرسائل الإلهية.
فالإنسان في الإسلام هو مخلوقا مكرما من الله تعالى، والنتيجة الحتمية لهذا التكريم هو كون حياته مقدسة وتحميها حدود شرعية مما لا يترك المجال لأي مخلوق كان، حاكما أو ولي أمر أو ذوي النفوذ أو من الأقارب أو الشخص نفسه… أو ما إلى ذلك في تقرير جواز القضاء عليها لأي سبب كان من دون توفر الشروط الشرعية. وسوف نتوسع فيما يلي في هاتين النقطتين:
أولا: تكريم الإسلام للإنسان
لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، فخلقه بيده في أحسن تقويم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وجعله خليفة عنه وزوده بالقوة والمواهب ليسود ويسيطر على الأرض بما ينفع الناس، وليصل إلى أقصى ما قدر له من كمال مادي وارتقاء روحي.[4]
ولقد ورد في القرآن الكريم لفظ الكرامة والتكريم والمعاني والألفاظ المشتقة من جذر الكلمة فوردت في نحو عشرين آية منها ما جاء بصريح اللفظ: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾، وقوله كذلك: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ﴾، أو بعبارات يستنبط منها ذلك كما في قوله: ﴿ وإذا قال ربُكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفةً﴾.[5]
ومن جهة أخرى فإن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، هو الذي انتشل إنسانية الإنسان من الهدر والضياع، وبنى العلاقات الإنسانية على الرحمة والتراحم، وأسس لكرامة الإنسان ووحدة أصله ببيانه النبوي، فقال (ص): “… ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى.. “.[6]
كما يروى أنه مرت به جنازة يهودي فوقف لها (ص) تكريما، فقال له بعض أصحابه: “إنها جنازة يهودي” فقال النبي الأمين الكريم: “أليست نفسا”، فالرسول عليه الصلاة والسلام قدوة للرحمة والتراحم وهو الذي قال القرآن في وصفه: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾.[7]
وعليه فإن الإنسان في الإسلام مكرم بأصل خلقه وليس مند نزول الرسالة المحمدية، وأبعد من ذلك فإن هذا التكريم ليس خاصا بعنصر دون عنصر، ولا بجنس دون جنس، ولا بلون دون لون ولا بدين دون دين… أو ما إلى ذلك، بل البشرية جمعاء سواء في حق التكريم.[8]
وانطلاقا مما تقدم فإن الكرامة الإنسانية قد قررها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بدون تمييز أو استثناء لكل من يتحقق فيه معنى الإنسانية. وعبر هذه الرؤية الإسلامية للإنسان الذي خُلق ليكون خليفة الله في الأرض، لا يجوز أن يضطهد أو يظلم، أو تسلب حريته، أو يعامل بطريقة تميزه على أساس اللون أو الجاه أو العرق أو القومية…أو ما إلى ذلك.
ومن جهة أخرى ولكي يتمكن الإنسان من أداء مهامه التي كلفه بها العلي القدير وتحقيق أهدافه وبلوغ غايته، وفر له الإسلام جميع عناصر النمو ومنحه كافة حقوقه ضمن منظومة حقوق تتخذ صفة الإلزام الأخلاقي/القانوني وتتناسب وموقع الكرامة المتأصلة فيه، وهذا ما يفسر اعتبار تكريم الإنسان ضرورة فطرية أساسية لا تستقيم الحياة بدونها أكثر من كونها حقوقا مجردة مفروضة.[9]
ثانيا: تقديس الإسلام لحياة الإنسان
يعتبر الحق في الحياة من المنظور الإسلامي أساس وركيزة كل حقوق الإنسان الأخرى، “فحفظ النفس” في الإسلام يتجاوز حفظها حية بالمعنى المادي الذي يستوي فيه الإنسان مع غيره من الكائنات الحية، وإنما يستلزم لحفظ هذه النفس المحافظة على الضرورات الفطرية ومختلف الحقوق التي تجعل حياتها حياة إنسانية حقيقية ولائقة.
وأبعد من ذلك فإن الحفاظ على أنفسنا أو النفس البشرية بصفة عامة في الإسلام هي فريضة وليس مجرد حق، بمعنى أن الإنسان مثلما له الحق في الحياة مند أن يكون جنينا في رحم أمه، فإنه من واجبه كذلك أن يحافظ على حياته أو حياة غيره مهما كانت سلطته أو درجة قرابته، وعليه حرم الإسلام القتل والانتحار، كما حرم الإجهاض.
والأدلة الشرعية التي تحرم القتل بشتى أنواعه كثيرة في القرآن الكريم[10]، نكتفي ببعض منها فيقول سبحانه وتعالى فيما يخص القتل بصفة عامة: ﴿ ولا تَقتُلوا النفس التي حرّمَ الله إِلاَّ بِالحقِ ذالِكُم وَصَّاكُم بِهِ لعَلَكُم تَعقِلونَ﴾، أو فيما يخص الانتحار: ﴿ولا تقتلوا أنفسَكم إن الله كان بكم رحيما ◊ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا﴾، و أخيرا فيما يخص الإجهاض: ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إملاقٍ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلََهم كان خِطئًا كبيرًا﴾، أو قوله: ﴿ ولا تَـقتلوا أولادَكُـم من إملاقٍ نحن نرزُقُكُم وإياهُم﴾.[11]
ومن جهة أخرى، فلقد سوى الإسلام بين البشرية مجتمعة والنفس الواحدة بغض النظر عن جنسها أو لونها….، فاعتبر قتل النفس الواحدة من دون وجه حق بمثابة قتل البشرية كلها فقال سبحانه وتعالى: ﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾.[12]
ولكن في المقابل يعطي الإسلام للفرد الحق في الدفاع عن نفسه، بل أبعد من ذلك يقول البعض إنه واجب ثابت في حالة الاعتداء على نفسه أو عرضه أو حتى ماله، فسنت الشريعة الإسلامية القصاص كعقوبة للقتل أو الجرح العمد لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾، ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون﴾، ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وقال أيضا: ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفسَ بالنفسِِِ والعينَ بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأٌذُنَ بالأذُنِ والسِنَّ بالسِّنِ والجُرُوحَ قصاصٌ ﴾.[13]
ورغم هذا العقاب الدنيوي الصارم فإن الله سبحانه وتعالى يتوعد قاتل النفس بأعظم العقوبات في يوم الدين والمتمثلة في الخلود في جهنم وغضب الله عليه ولعنته، فيقول: ﴿ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما﴾. كما لم يعف سبحانه وتعالى القاتل من المسؤولية حتى في القتل الخطأ لقوله: ﴿ وما كان لمُؤمِنٍ أن يقتُلَ مُؤمنًا إلا خطئاً ومن قتل مؤمنًا خطئاً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودِيةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهله﴾.[14]
وبالرجوع إلى السنة النبوية الشريفة فإن الرسول (ص) قد أكد على قدسية الحياة فحرم كل من القتل والانتحار والإجهاض والدليل على ذلك قوله (ص): “كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله”، وأوصى (ص) في حجة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا…”، كما رفض عليه الصلاة والسلام إقامة الحد على امرأة غامدية زانية قبل أن تضع حملها.
أبعد من ذلك فإن الإسلام قد جعل للإنسان حرمة وقداسة أعظم من حرمة الكعبة ويتضح ذلك من قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، حينما وقف تجاه الكعبة، وأخذ يخاطبها بقوله: “ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه”.[15]
أما في حال الحروب، فإن الرسول (ص) قد وصى جيوشه بعدم المَثلِ بالموتى أو قتل الأطفال الأبرياء فقال: ” سيروا باسم الله في سبيل الله وقاتلوا أعداء الله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تنفروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا”، كما وصى عليه الصلاة والسلام بعدم قتل الأسرى، فقال: ” لا يعترض أحدكم أسير أخيه فيقتله “.[16]
وحرصا على تطبيق تعاليم الرسول (ص) ولاسيما بعد اشتداد المعارك خلال الفتوحات الإسلامية وما أسفرت عنها من ضحايا ودمار وما رافق المجاهدين من نشوة الانتصار التي أنستهم في بعض الأحيان رسالتهم السمحاء، بعث الخليفة أبو بكر الصديق (رض) توجيهات إلى قائد جيش المسلمين في الشام: يزيد بن أبي سفيان، قائلا: ” إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له… إني أوصيك بعشر، لا تغدر ولا تمثل، ولا تقتل هرما ولا امرأة، ولا وليدا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا، ولا تحرقوا نخلا ولا تخربوا عامرا.”[17]
وفي الاتجاه نفسه، وصى عمر بن الخطاب (رض) قادة جيوشه قائلا: “امضوا باسم الله على عون الله وبتأييده، وما النصر إلا من عند الله، وألزموا الحق والصبر ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الغلبة، ولا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا وليدا، واحذروا قتلهم إذا التقى الجمعان وعند شن الغارات”.[18]
الخلاصة:
يعتبر الإسلام رسالة سماوية إنسانية شاملة وخالدة، أحدث أعظم انقلاباً عالمياً وأكبر ثورة فكرية تفوقت على كل النظريات الاجتماعية والفلسفية والقوانين الوضعية، لأنه كرم الإنسان ومنحه كافة حقوقه ليعيش حياة كريمة وعادلة توفق بين المادة والروح والدين والدنيا معا.
فالرسول الأكرم محمد (ص) هو أول داع إلى وحدة البشرية والأخوة الإنسانية المطلقة، وهي دعوة إنسانية عالمية أساسها السلام ومحاربة العصبيات والقيود الجائرة وجمع الناس تحت لواء واحد من هدى الله، وفي ظل رسالة كاملة وشاملة هي شريعة الله.
وعليه فإن الإسلام قد قرر حقوق الإنسان مند أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن على نحو يتفوق على كل الاتجاهات الوضعية التي عرفها الفكر القانوني قديما وحديثا، إذ شمل كافة الحقوق وأضاف إليها أخرى وصاغها بكل روعة وحكمة.
[1] أحمد مسلماني، حقوق الإنسان في ليبيا حدود التغيير، دراسات حقوق الإنسان، رقم 1، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة 1999، ص 16-17؛ والعجلاني منير، عبقرية الإسلام في أصول الحكم، دار الكتاب الجديد، ط2 بيروت 1965، ص 35ـ38، أنظر كذلك:
Peggy Hermann, L’existence d’une conception des droits de l’homme propre aux Etats musulmans, DEA de droit international, Faculté de droit de Montpellier I, 1999, voir webmaster@memoireonline.com
[2] لمراجعة قائمة الاتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، أنظر الموقع الرسمي للمفوضية السامية لحقوق الإنسان:
Haut Commissariat aux droits de l’Homme, http://www.ohchr.org/french/contact.htm
[3] د.محمد الصادق العفيفي، الإسلام والعلاقات الدولية، الطبعة الثانية، دار الرائد العربي، بيروت لبنان، 1986، ص 6.
[4] أنظر السيد سابق: فقه السنة، المجلد الثالث، دار ابن كثير، دمشق، ط3، 2002، ص 7، وغانم جواد: الحق قديم، وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2000، ص 23.
[5] أنظر على التوالي سورة الإسراء الآية 70، سورة التين الآية 4، سورة البقرة الآية 30.
[6] أخرجه الإمام أحمد، أنظر: تقديم عمر عبيد حسنه لكتاب أ. يسري محمد أرشد، حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي، كتاب الأمة، سلسلة دورية تصدر كل شهرين عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، العدد 114، السنة السادسة والعشرون، 2006، ص7.
[7] سورة الأنبياء الآية 107.
[8] الإمام محمد أبو زهرة، العلاقات الدولية في الإسلام، دار الفكر العربي، القاهرة، ص 19.
[9] غانم جواد، المرجع السابق ص 19.
[10] راجع السيد سابق، المرجع السابق، ص 7ـ14.
[11] أنظر على التوالي: سورة الأنعام الآية 151، سورة النساء الآية 29 و30، سورة الإسراء الآية 31، سورة الأنعام الآية 151.
[12] سورة المائدة الآية 33.
[13] أنظر على التوالي: سورة البقرة، الآية 178 و179 و194، سورة المائدة الآية 45، ولكن يجب الإشارة في هذا المقام بأن القصاص في القتل أو الجرح العمد لا يقيمه إلا أولو الأمر، أي الحاكم الشرعي، أنظر السيد سابق، المرجع السابق، ص 32.
[14] سورة النساء، الآية 93 و92.
[15] أنظر د.محمد الصادق العفيفي: الإسلام والعلاقات الدولية، الطبعة الثانية، دار الرائد العربي، بيروت لبنان، 1986، ص 65.
[16] الإمام محمد أبو زهرة، المرجع السابق، ص 33ـ34.
[17] عبد العزيز محمد سرحان، الإطار القانوني لحقوق الإنسان في القانون الدولي العام، ط1، القاهرة 1987، ص 77.
[18] د. عمر صدوق، دراسة في مصادر حقوق الإنسان، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر. ، ص 57ـ58.
موضوع الندوة جد مهم يستحق البحث .