جدلية الحياة والموت في قصيدة “رحل النهار” لبدر شاكر السياب
The Dialectic of Life and Death in the poem “The day is gone” by Badr Shaker Al-Sayyab
د. عزيز بويغف، الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين – ورزازات – المغرب
Aziz Bouyghf , Regional Academy for Training and Education of Ouarzazate – Morocco
مقال منشور في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 66 الصفحة 77.
ملخص:اتسم مسار الشاعر العراقي “بدر شاكر السياب” بكثير من الرجَّات والهزَّات والانكسارات التي جعلت منه شاعرَ قضية بامتياز، وصوتَ كل المكلومين والمغلوبين والمخذولين في الأرض. لقد اتخذ الشاعر من ثنائية الحياة والموت كوة ليعبر عبرها عن موقفه من مآسي الحياة، حيث الألم والمرض والجراحات التي لا تلتئم، وحيث الإنسان يعاني الأمرَّين في صمت، ويئن في همس دون أن يجد آذانا تصغي إليه. انفتح منجزه على قضايا أمته وعصره واستثمر، حتى يعبر عن هذه القضايا، عوالم الأسطورة والرمز فكان شاعرا ملحميا، نورانيا، نهل من مساحات التراجيديا معينا لا ينضب، فاستثمر هذا المعين حتى يبصم على منجز ثر غزير انفتح على آفاق الاغتراب والضياع. وهذا ما سنحاول إضاءته من خلال الاشتغال على قصيدته “رحل النهار”.
الكلمات المفتاحية: جدلية، موت، حياة، تراجيديا، رمز، أسطورة، اغتراب، ضياع.
Summary
The path of the Iraqi poet Badr Shaker Al-Sayyab was characterized by many shakes, tremors and refusals, which made him a poet of a cause par excellence and the voice of all the bereaved, the defeated and the disappointed on earth.
Badr Shaker Al-Sayyab has taken from the duality of life and death a niche to express his position on the tragedies of life, where pain, disease, and surgeries do not heal, and where the person suffers both in silence and whispering without finding ears to listen. His achievement opened up to the issues of his nation and his era and invested, in order to express these issues, the worlds of myth and symbol. He he was an epic poet, a luminous one, who drew from the tragedy spaces of a certain inexhaustible. He invested this aid so that he fingerprints on a great wealth achievement. This is what we will try to illuminate by working on his poem “The day is gone”.
Opening Statements: dialectic – death – Life – tragedy – symbol– myth – exile – loss.
1- تقديم:
ارتبطَ النظرُ إلى قضيةِ الحياةِ والموتِ عندَ الشعراءِ المعاصرين بتجارب عاشها هؤلاء، فتركت أثرها الدفين في دواخلهم، واتخذوها جسرا عبَّرُوا عَبْرَهُ عَنْ هَمِّهِم الفردي والجمعي في الآن نفسه. لقد نحت هذه التجارب أحيانا منحى الفلسفة العبثية في قراءتها للواقع، إذ رامَت تفكيكه، وتحويله إلى ثنائيات تتصارع ليتنامى الفعل الشعري ويبلغ عنفوانه، ولا تخرج هذه الثنائيات عموما عن تيمات الشقاء والسعادة والألم والأمل وغيرها. إن قراءة الفلسفة العبثية للموتِ، ورؤيتها الأنطولوجية له، أسهمت في انتشاله من دِلالات الفناء والنهاية إلى دلالات أخرى منفتحة على الانبعاث والانعتاق. لقد رأت فيه الخلاصَ في ظل حياة كلها آلام ومآسٍ لا تنتهي.
عايش الشعراء المعاصرون نكبة فلسطين 1948م، بكل ما حملته من ألمٍ وقلقٍ وشكٍ، قبل أنْ تُعَمِّقَ نكسةُ يونيو 1967م الجراحَ، وتدفع الشعراء إلى حالة من اليأسِ والحزن الدفين، مَا فَتَحَ مُنجزهم على قضايًا جديدة، وجعل نظرتهم لمسألة الحياة والموت نظرةً مختلفةً، فالحياة عندهم لم تعد ميدان فرح ولهو، والموت الذي كان يخشاه الناس أضحى منشودا في سبيل الدفاع عن العِرض والأرضِ والشَّرَفِ المهدورِ. من هنا ستتخذ جدلية الحياة والموت في الشعر المعاصر دِلالات أخرى، وستشهد رؤية الشعراء تحولاتٍ هي في مُجملها نزوعٌ إلى كشفِ إشكالاتِ المجتمع.
ومِنْ هؤلاء الشعراء، الشاعر “بدر شاكر السياب” (1926/1964)، والذي عاش حياة اتسمت بكثير من الهَزَّات والرَجَّات، ما أثَّرَ في نفسيته وجعله شاعرًا تراجيديًا بامتياز، لذلك نجده قد كَرَّسَ جُزءا من حياته لخدمة قضايًا عادلة، ارتبطت بواقعه بخاصة، ثم بواقع الأمةِ الحضاري بعامة. لقد ظَلَّ مناضِلا، محترقًا، ومضحيا في سبيلِ التغييرِ والثورةِ، مرامه بث قيم التجدد في نفوس الجماهير، وحثها على الكفاح بغاية التحرر.
لقد ظَلَّ السيابُ واحدًا من شعراء الخمسينات، الذين أرسَوا أسُسَ حداثةٍ شعريةٍ مائزةٍ إلى جانب شعراءَ آخرين، منهم “صلاح عبد الصبور”، و”عبد الوهاب البياتي”، و”يوسف الخال”، وحظيت تجربته بكثيرِ من الاهتمام، كونَه تبنى دائما موقفا ثوريا من قضايا عصره، فكان تارة يرى الموتَ أقرب إليه من الحياة، فيتوسل خلاصه في الاحتفاءِ بعوالمهِ وإشكالاته، جاعلا منه كُوة للتجدد والانبعاث، وتارة أخرى يتملكه الإحباط فينفلت منه الحلم وتستحيل نظرته إلى المستقبل نظرة سوداوية. ولا نُخفي أن الوقوفَ عند المتخيلِ الشعري للشاعر “بدر شاكر السياب” أمرٌ مُعقد، إذ يحتاج من المتلقي استحضار آليات يتم عبرها استقراء نصوصه بطريقة مُثلى، واستكناه مكنوناتها على ثرائها وفرادتها، خاصة إذا كان المقصود رصد تشكلات جدلية الحياة والموت في تجربته، وتبيُّن أمر هذه الجدلية من خلال الاشتغال على الرموز، واستخلاص دِلالاتها وعلاقاتها المركبة، التي تشتغل ضمن مساحات المتقابلات. إننا بصدد تَقابلات تثير في النص دينامية وتحولا عبر ثنائيات تتفاعل لتميط اللثام عن معاني النص الرمزية، فيتحدد الدال باعتباره أساسا ثابتا، بينما يفسح المجال للمدلول لينفلت ويتخذ إيحاءات متعددة.
وسنحاول في هذه الدراسة إبراز أهم تشكلات جدلية الحياة والموت في تجربة الشاعر من خلال الاشتغال على قصيدته “رحل النهار”.
2 – رحل النهار: عنوان مكثف بدلالات ثرة
لا غرو أن العنوانَ هو العتبةَ الأولى لسبرِ أغوارِ النص، إنهُ الومضةُ التي عَبْرَهَا يمكن توقُّع العوالم التي يبتغي الشاعر إضاءَتها. والمتأمل في عنوان القصيدة “رحل النهار” سيلْحظ عمقه إذ جاء مختزلا ومكثفا لكن بآفاق مجازية ثرة تأسست على الانزياح. إن الرحيلَ سفرٌ باحتمالاتٍ عدة تكون فيها الأوبة ممكنة، وقد لا تكون، بمعنى أن الأمل يبزغ ويتوارى ليبث في تجربة الشاعر مُسَحًا مأساوية خاصة إذا وقفنا عند توظيفه الفعل “رحل” في زمن الماضي. أَمَّا فيما يخص “النهارَ” فعلى الرغم من دِلالته الراسخة على الأملِ والتجدُّدِ، إلا أن اقترانه بفعل الرحيل جعله يحيل على الفناء واليأس والسوداوية، لقد كشف العنوان عن فرضيات عدة اقترنت بالموت ودنو الأفول، أفول الحياة واقتراب الشاعر من لحظة الرحيل الأبدي. إنه على فراش الموت يتنسَّم آخر الأنفاس قبل أن يبلغ إشراقته الأخيرة لِيُسْلِمَ روحه بعد ذلك لليل طويل حالك لا أوبة منه.
إن العنوان بؤرة بدلالات عميقة، إنه العلامة الأكثر تكثيفا، فهو مفتاح لولوج عوالم النص ومظهر ولمحة أولى بما يحمله من إيحاءات جمالية وإغرائية. إنه العتبة الأولى التي تجذب المتلقي إلى النص، عتبة بآفاق تأويل دالة خاصة حين يحمل بين طياته إشكالات ورؤية منفتحة ومتجددة. لقد شكل الرحيل في تجربة الشاعر سؤال مآلات أكسب القصيدة أبعادا فلسفية، فجعلها سَفَرًا إلى العوالم البعيدة حيث يلوح الشك والقلق، لذلك نرى أنها تتسم بآفاق انتظار مائزة، إذ تضعنا أمام جدلية تتراوح بين الخفاء والتجلي، وبين الأوبة واللا أوبة، والحياة والموت.
يُرسي الشاعرُ رُؤْيَاهُ في القصيدةِ عبرَ التوسُّل بأَبطال أسطوريين، (سندباد/ أوليس)[1] رحلوا وغامروا وركِبوا خطَّ التيْه ليعودوا بقصصٍ وحكايات هي وُجُودِيَتُهُم بعد أن أنهَكهم العُباب والأخطار. يسير الشاعر على رَكْبِهم لكنه لا يعود، فنهاره ينطفئ وشمسه تخبو ليستبد بالمكانِ الظلامُ والسواد. إنه يضعنا أمام “شبكة من التفاعلات التي تتكامل لتُحَوِّل اللغة – بمعناها الأوسع – إلى بنيةٍ معقدةٍ تجسد البنيةَ الدلاليةَ تجسيدًا مُطلقا في اكتمالهِ. وفي هذا التجسيد للرؤيا الشعرية ينبع وجود كل عنصر ومعناه وخصائصه من طبيعة العلاقات التي فَرَضَتْ اختياره، والتي تشده إلى العناصر الأخرى، ثم من فاعليته في هذه العناصر وتختفي تحت هذه التفاعلية جدلية عميقة هي التي تؤسس المعنى ذلك أن العلاقات بين الثنائيات قد تكون علاقات نفي سلبي وتضاد مطلق”[2]، وبهذه الثنائيات تكتسب القصيدة معناها وتُسْفِرُ عن كُنْهِهَا كونها رؤية للعالم، وإشراقة واعدة تنبض بالدلالات وتبتغي خلق أفق الانتظار لدى المتلقي، حتى يعي مقصدية الشاعر، وحتى يتماهى مع التجربة في أبعادها الجمالية والاقناعية. إن السياب شاعر قضية، لقد شكلت تجربته في تيماتها وإيقاعها ولغتها انعطافة مائزة أَثْرَتْ المنجز الشعري العربي الحديث ووسمته بسمات جعلته واعدا متفردا.
3 – رحل النهار: تراجيديا الموت وأفول الحياة
وتقودنا جماليةُ العنوان ودِلالاته إلى متن القصيدة إذْ نستكشف منحنياتٍ وخطوطًا يؤطرها العنوان ويوجهنا إليها. يقول الشاعر:
رَحَلَ النَّهَارْ
هَا إِنَّهُ انْطَفَأَتْ ذُبَالَتُهُ عَلَى أُفُقٍ تَوَهَّجَ دُونَ نَارْ
وَجَلَسْتِ تَنْتَظِرِينَ عَوْدَةَ سِنْدِبَادَ مِنَ السِّفَارْ
وَالْبَحْرُ يَصْرُخُ مِنْ وَرَائِكِ بِالْعَوَاصِفِ وَالرُّعُودْ
هُوَ لَنْ يَعُودْ[3]
تتأسس ثنائية الحياة والموت كما هو بادٍ في هذا المقطع على جدلياتٍ تتجاذبُ لِتُكْسِبَ النص معانٍ منفتحة على آفاق تأويل تتسم بالدينامية، ما يحيل المتلقي على عوالم الدهشة والجلبة، ويهزُّ كِيانه ووجدانه إذ يأسى للرحيل (رحيل النهار)، ثم يتعمَّق الجرحُ بعد تأمله في الوَهَجِ/ الأمل وهو يخبو وينطفئ أمام عينيه، في مشهد درامي يحيل على المآسي العظيمة التي تطال الإنسان أينما وجد، وتجعله يَجْهَدُ في تمثُّلِ الحياة وفهمها فهما فلسفيا ينتشلها من ربقة الفناء.
في ظل هذا المشهد التراجيدي تجلس الحبيبة/ الزوجة تتأملُ وتتألمُ وتنتظر عودة “السندباد” من السفر، بل عودةَ النهار الذي قد أفل، تنتظر أَوْبَةَ العمر والفُتُوَّةِ والشباب، لكن البحر من خلفها لا يستكين، إنه بدوره يهتز ويصدح بصوتٍ حازمٍ منكسرٍ حزينٍ هو صوت العواصف والرعود مُعْلِنًا استحالة العودة.
لقد توسل الشاعر بالأسطورة (أسطورة السندباد) حتى يُعَبِّرَ عما اعتملَ في دواخله من إحساساتٍ وخلجات، ليفتح منجزه على المدونة التراثية القديمةُ فيتخذها كُوَةً يستكنه عبرها إشكالات الحاضر، ونعلم أن هذه الأسطورة تحيل على شخصية متخيَّلة لِبَحَّارٍ وتاجر من بغداد، يخترق العُباب بسفينته ويركب الأهوال ويغامر في رِحْلَاتٍ طويلة بلغ عددها سبعا، قاسى فيها السندباد ويلات الأخطار والأهوال واستطاع النجاة ليتحول إلى رمز للمغامرة والتحرر. إن تجربة الشاعر والسندباد تتوحدان لتعكسا معا سفرا ثَرَّ الملامح، إلا أن ما يميز السندباد عن الشاعر أنه لم يخلف زوجة تنتظر عودته بشوق، ما يجعل القصيدة منفتحة على أسطورة أخرى هي أسطورة (أوليس وبنيلوب زوجته)، “أوليس” أحد أبطال طروادة المتشبثين بالوطن وبالزوجة الصابرة، التي انتظرت عودة زوجها بِجَلَدٍ رافضة كل الخُطَّاب الذين يسعون للارتباط بها.
تتعمق مأساة الشاعر في القصيدة، وينكتم همس الأمل ليضطرم الانتظار بخطوطه وتشعباته، والشك بدِلالاته وتجلياته، وفق منطق الذي يأتي ولا يأتي. فإذا كان السندباد يعود من أسفاره فإن الشاعر لا يعود، إنه موقن بِدُنُوِّ الموت ولن يُبقِي لحبيبتهِ/ زوجتهِ إلا البحرَ مؤنسا. لقد تاهت سفينته في عالم الظلام والضياع. يقول:
أَوَ مَا عَلِمْتِ بِأَنَّهُ أَسَرَتْهُ آلِهَةُ الْبِحَارْ
فِي قَلْعَةٍ سَوْدَاءَ فِي جُزُرٍ مِنَ الدَّمِ وَالمْحَارْ
هُوَ لَنْ يَعُودْ
رَحَلَ النَّهَارْ
فَلْتَرْحَلِي هُوَ لَنْ يَعُودْ[4]
إن “آلهة البحار” و”القلعة السوداء و”الدم والمحار” كلها أمارات على ما بلغه الشاعر من انكسار ومن تَيْهٍ بلغ به أقصى مَدًى، ولعله في هذا الصدد يئن ويتألم، ويعلم أنه سالك خط اللاعودة، لذلك وإشفاقا منه على زوجته يخبرها بأنه لن يعود، وأن نهاره تاه في دُجًى لا مَرَدَّ منه، لذلك عليها أن ترحل لا أن تَتَسَمَّرَ في مكانها مُنتظرة الوهم.
لقد خَبِرَ الشاعر دروب الألم، لذلك نجده في لغته ممعنا في تصوير أتون الضياع والظلام، ما يجعل المتلقي يتماهى مع رؤيته للوجود والعالم، ويعيش أحاسيسه نفسها، المتمثلة في الرهبة والخوف، فالقلاع كما في المُتَخَيَّلِ الأسطوري والقصص والحكايات العجيبة هي فضاء عالي الأسوار، موحش، مرعب، يثير الهلع والقلق. إن العودة من هذا السفر مستحيلة، عودة السندباد ومعه الشاعر، مادام أن آلهة البحار/ آلهة الموت قد قررت أسر كل من يبتغي الانعتاق.
اتخذت القصيدة أبعادا أخرى لكنها ظلت على خط المأساة، فالبحر على رحابته خاوٍ تسكنه الأشباح، والأفقُ فيهِ أفقُ ضبابٍ يأخذ المتلقي إلى ومضات تنبض بالأتراح، وكأننا بصدد مسحة جنائزية تتجاذبها إرادتان، إرادة تحيل على حتمية الموت، وأخرى مازالت تؤمن بإمكانية التجدد. يقول الشاعر:
الأُفْقُ غَابَاتٌ مِنَ السُّحُبِ الثَّقِيلَةِ وَالرُّعُودْ
المَوْتُ مِنْ أَثْمَارِهِنَّ وَبَعْضِ أَرْمِدَةِ النَّهَارْ
المَوْتُ مِنْ أَمْطَاِرهِنَّ وَبَعْضِ أَرْمِدَةِ النَّهَارْ
الخَوْفُ مِنَ أَلْوَانِهِنَّ وَبَعْضِ أَرْمِدَةِ النَّهَارْ
رَحَلَ النَّهَارْ[5]
إن المتأمل في المقطع، يجد الشاعر قد توسل بعوالم الانزياح حتى يُؤسِّسَ لصورةٍ شعرية بديعة، فقد شبَّهَ الأفق بالغابات ليفتح مخيلة القارئ على احتمالات عدة جعلت المعنى يتشظى، ويأخذ معنى الأمل والحياة في قراءة أولى، قبل أن يستدركَ الشاعر ويجعل الغابات سحبا مثقلةً بالأهوالِ والرعود ما يحيل على الانكسار والضياع. إن التلقي هنا يمر بمستويين، مستوى أول يدفع المتلقي إلى تأويلٍ يسبِر فيه خطوط التقاطع بين الأفق باعتباره انفتاحا على اللانهائي، والغابات بعوالمها النابضة بالحياة، حيث الخضرة والطبيعة. لكن هذا المستوى سرعان ما يخبو ويتوارى ليبزغ مستوى ثانٍ، حين تستحيل الغابات سحبا مثقلة ومنهكة بالآلام والتيْه والاغتراب، إذ لا يصلُ الأسماعَ سوى هديرُ الرعودِ والبروقِ وآهات الموت والخوف والرماد. يتعمق هذا المستوى الثاني عبر سحر الإيقاع والذي استند فيه الشاعر إلى التوزاي التركيبي التام، وإلى التكرار بتكراره للفظة “الموت” وعبارة “أرمدة النهار”.
كما تتعمق الجدلية في المقطع السابق من خلال المعجم المتوسل به لتشكيل الصورة الشعرية دائما، وإرساء أبعادها الجمالية. فمُقابل الموت نجد الأثمار والأمطار، ومقابل الخوف نجد الألوان، ومقابل الأرمدة نجد النهار، ما بَثَّ في القصيدة كثيرا من الدينامية والحركية. لقد حاول “بدر شاكر السياب” في قصيدته هاته التعبير عما يعتريه من إحساسات في خضم واقع غير محدد الملامح، مبهم الأفق، متشعب المناحي، ما يجعل الشك سِمَةً غالبةً، والانتظار نافذة عبرها ستتنامى القصيدة، وستأخذ أبعادًا خَصِّيصَتُهَا التماهي مع آلام الآخرين في رؤية متجددة للإنسان والعالم.
ولعل فهم “السياب” الواعي لأسطورة السندباد ومساحاتها التعبيرية، مَكَّنَهُ مِن إعادة بنائها وصياغتها وفق تصوُّرٍ شعري متجددٍ ونابضٍ بالحياة. إن “لغتها حين تدخل في النص تؤدي دورا جوهريا هو فتح النص تماما، فتحه تزامنيا، أي على صعيد العلاقات المتشكلة ضمن بنية النص بين المكون الأسطوري والمكون التجريبي، ثم توالديا أي على صعيد العلاقات بين النص بوصفه بنية كلية وتاريخ الثقافة بأكملها من حيث تنبع الأسطورة. إن الأسطورة بهذا التصور فعل توتير حاد في النص وفتح لبؤرة إشعاعات داخلية وخارجية فيه”[6].
لقد مكَّنت الأسطورةُ الشاعرَ من جهة، من تجسيد تجربة الإنسانية المعاصرة، ومن جهة أخرى تصويرَ آلامه ومعاناته مع المرض والألم والوجع والاغتراب والسفر من بلد إلى بلد بحثا عن الشفاء. أَخَذَ الموت في مُنجزِ السياب حَيِّزًا ذا بال، لقد ارتبط عنده بتجربة خاصة منذ وفاة والدته، ثم والده سنة 1963م، والذي لم يتمكن من حضور جنازته بسبب فقدانه القدرة على المشي نتيجة المرض العضال الذي أَلَمَّ به، كل هذا سَيُعَمِّقُ نظرة الشاعر للموت إذ سيُصوِّره وَحْشًا كاسرا وَلِصًا يختطف الأماني الجميلة، وكلما انحدرت صحته وأحس بدنو الأجل كلما مَدَّ صداهُ في سؤالِ الموتِ وفتح منجزه على مشكلة المصير.
لقد كان الموت بالنسبة للسياب أمارة تجدد وانعتاق وملاذا إلى حياة صافية حالمة، لكنه أضحى الآن تجربة شخصية بكل ما تحمله هذه الأخيرة من يقين ومن جراحات سكنت أعماق الشاعر، لهذا نجدُ صوتَهُ في القصيدة يتعالَى ليطوي النهارَ/ الأملَ في العيون، وليفصِح عن نشيدِ الفاجعة فيسافرَ مثقلا بالأحزان، متوسلا المرأة أن تنساه وترحل إلى عوالمها الخاصة، لكنها تأبى إلا أن تكون وفية. إنها تنتظر فارسها التائه في العوالم البعيدة علَّه يعود، لِتَتَجَدَّدَ روحُهَا، وتسمو أحلامها بعد طول انتظار. إنها تنتظر الذي قد يأتي ولا يأتي في زمن حالك مبهم، زمن أفقدها شبابها.
إن القصيدة تضعنا أمام أوان الاغتراب والانتظار المر، إننا بصدد زمن مأساوي تظهر ملامحه على شَعر الأنثى حين يغزوه الشيب وهي في عِزِّ العنفوان والشباب، كل ذلك حزنا على السندباد الغائب المُحتجز. لقد كانت الإشراقة الشعرية للسياب تجريبا عميقا للرمز في مستوياته الأكثر إبعادا وإغرابا، وذلك حتى يجد مُتنفسا لأزماته وحرقاته النفسية بسبب ما عاشه من رجَّات، أَمْكَنَ عدها تعبيرا عن قلقه الوجودي، وعن تأثره بما طال الوضع السياسي والاجتماعي في العراق لحظتئذ، لذلك نرى أن منجز الشاعر دائم التجدد مادام أنه أضحى مرآة لرؤية قلقة حزينة بل وملحمية أحيانا.
لا غرو أن الإحساس الجمالي والإدراك الفني الذي ميزَ السياب على مَرِّ تجاربه الشعرية جعله ينحو في توظيفه للرموز منحًى إنسانيا، إنه يُكَيِّفُ مخزونها وفقا لموقفه ونظرته لإشكالات واقعه، لذلك نجده ينفض الغبار عن كثير من الأبطال الأسطوريين ليدفعهم للتعبير عن مآسيه، ثم مآسي الإنسان المعاصر بشكل عام. لقد اتخذ من كثير من الأساطير قناعا ليعبر عن قضايا وجودية وفق رؤية خاصة تتناسب ونَفَسَهُ الشعري، فإذا كان السندباد في قصص ألف ليلة وليلة قد حقق كل آمانيه، وعاد من سَفراته عودة الظافر ليعانق أسرته وزوجته وليحقق لها كل ما تمنَّته من بذخ وأمان وخدَم وحشَم، فإن “سندباد السياب” لم يستطع إلى ذلك سبيلا، فهو لم يأت بالحب المنتظر، ولم يَرْوِ شعلة الحنين المتقدة عند المرأة التي تنتظره على أَحَرِّ من الجمر، تنتظر السكينة والرجل الغائب. إن لكل هذا مُبرِّرهُ مادام أن زمن السياب هو زمن الفجائع، حيث تفقد الأماني بريقها، والوعود إشراقتها، وتضيع رسائل الحب في عُباب البحر، ويطوي الدهرُ كل الأحلام. وحين تعي المرأة أن الحكاية تدنو من الأفول، فإنها تتشبث بآخر قشة أمل لتعيش على الانتظار الذي يروي نار الشوق في أعماقها المكلومة، مُمَنِّيَةً النفس بإمكانية بزوغ فجر السندباد، لكنه فجرٌ لا يبزغ. إننا بصدد صورة تقطر دما ونارا، بصدد ألم تعيشه الزوجة ثَانِيَةً ثَانِيَةً، وهي تعلم أنها تنتظر اللاجدوى، فالسندباد/ الشاعر لن يعود لأنه يعاني مأساة لن تبرحه طيلة حياته، وهذا يدفع الزوجة إلى جدل وصراع نفسي، ذلك أن شبابها قد وَلَّى وهي مَا تزالُ تنتظرُ تحقق الحلم. يقول السياب:
رَحَلَ النَّهَارْ
وَكَأَنَّ مِعْصَمَكِ الْيَسَارْ
وَكَأَنَّ سَاعِدَكِ الْيَسَارْ وَرَاءَ سَاعَتِهِ فَنَارْ
فِي شَاطِئٍ لِلْمَوْتِ يَحْلُمُ بِالسَّفِينِ عَلَى انْتِظَارْ
رَحَلَ النَّهَارْ
هَيْهَاتَ أَنْ يَقِفَ الزّمَانُ تَمُرُّ حَتىَّ بِاللُّحُودْ
خُطَى الزَّمَانِ وَبِالحِجَارْ
رَحَلَ النَّهَارُ وَلَنْ يَعُودْ[7]
إن صورة اليأس والموت والألم تتكرر في قصيدة السياب، لقد ابتغى إماطة اللثام عن أزمة الإنسان بعامة، ومن خلال ذلك أزمة الوطن العربي مع اللايقين. إنه “ومن خلال حوار زوجته الداخلي الخاص يعكس كل انكسارات العالم وتوجعه، إنه بتعبير آخر عكس العالم في خصوصية زوجته، فكان التوجع مشتركا، ولعل السياب كان مشدودا إلى هذا التكنيك بحكم عوامل المرض والغربة والحزن والفاقة”[8].
لقد استهوى الشاعر العربي التوسل بالرمز في منجزه فوظفه توظيفا ثرا، إذ رأى فيه المسلك إلى تجاوز الواقع العربي المهزوم إلى واقع أكثر رحابة تتمكن فيه الذات من بلوغ آمالها لتحقق وجوديتها الذاتية ولتعكس بعد ذلك الهم الجمعي، لذلك تتخذ قصائد السياب مُسحة ذاتية حين تستحيل “دعوة لتواصل نصي ينشأ بين القارئ والذات المتكلمة في لحظة شعورية كثيفة تتقطر فيها كينونة الشاعر وتنسل إلى وجدان قارئه لحظة القراءة أي لحظة أن يعيد إنتاج دلالة القصيدة”[9]. إننا بصدد طرح عادٍ وغير عادٍ في الآن نفسه، عادٍ لأنه صورة للتفكير الجمعي المنحاز إلى المغامرة وإلى طرق العوالم الأكثر غموضا. وغير عادٍ حين يغدو تجربة فردية ترى في الرمز متنفسها وصوتها وملجأها حين تسحقها الحياة وحين تعيش إشكالية المصير.
لقد جعل الشاعر من السندباد في قصيدته رمزا للموت، فهو مسجون كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في تحليلنا، مسجون في قلعة سوداء تجتاحها العواصف والرعود والبروق، بل وتغرق سفنها إلى القرار، لتستحيل القلعة عالما للدم والخراب. إنها عالم الشاعر المليء بالأحزان، عالمه حين يفشل في الحب وفي رحلة الشفاء من المرض الخبيث.
يقول السياب:
رَحَلَ النَّهَارْ
خِصْلَاتُ شَعْرِكِ لَمْ يَصُنْهَا سِنْدِبَادُ مِنَ الدَّمَارْ
شَرِبَتْ أُجَاجَ الْمَاءِ حَتىَّ شَابَ أَشْقَرُهَا وَغَارْ
وَرَسَائِلُ الْحُبِّ الْكِثَارْ
مُبْتَلَّةٌ بِالْمَاءِ مُنْطَمِسٌ بِهَا أَلَقُ الوُعُودْ
وَجَلَسْتِ تَنْتَظِرِينَ هَائِمَةَ الْخَوَاطِرِ فِي دُوَارْ
سَيَعُودُ. لَا. غَرِقَ السَّفِينُ مِنَ الْمُحِيطِ إِلَى الْقَرَارْ
سَيَعُودُ. لَا. حَجَزَتْهُ صَارِخَةُ الْعَوَاصِفِ فِي إِسَارْ
ياَ سِنْدِبَادُ أَمَا تَعُودْ؟
كَادَ الشَّبَابُ يَزُولُ تَنْطَفِئُ الزَّنَابِقُ فِي الْخُدُودْ
فَمَتَى تَعُودْ[10]
يعكس المقطع تجربةً وسمت منجز الشاعر بسمات عكست رهافة الحس ونبل المشاعر، فبعض القراءات تشير إلى أن هذا الأخير يعكس علاقة جمعت السياب بممرضة لبنانية شقراء، كانت ترعاه لحظة مرضه، فأشفقت عليه وبادلته الحب، وتركت له رسائل وأهدته خصلات من شعرها، لكن القدَر ربما سيجعل هذه القصة تنتهي نهاية مأساوية ما أَثَّرَ في الشاعر وترك في دواخله أثرا لا يمحي.
إن المقطع يحتمل تأويلات وقراءات عدة، بحسب تجربة الشاعر وبحسب ما يبتغي الإفصاح عنه، وعموما نرى أنه استطاع أن يجعل من أسطورة السندباد بؤرةَ الحكايةِ وكُنْهَهَا، كما أن جدلية الحياة والموت ظلت تسكن النص وتَمُدُّهُ بالدينامية، حتى يستحيل الفعل الشعري عميقا بلا شط.
لقد ضَيَّعَ السندباد لحظة المغامرة التي كان من الممكن أن يمثِّلَهَا لينقذ الخصلات من الغرق ومن الدمار، لقد تركها تشرب الأجاج وتذبل لتفقد جمالها وبهاءها، كَمَا أن الرسائلَ التي خَلَّدَتِ الحب الصادق، تاهت في أعماق المحيط ليذوب حِبْرُهَا ويستحيل رمزا للموت بعد أن كان ينبض بالحياة والأمل. وأمام هكذا مشهد لم يعد أمام المرأة إلا أن تندب حظها، وتعيش على القلق والانتظار، ويظل السندباد أسيرا مسجونا في القلعة السوداء. إن الأهوال تحاصره من كل الجوانب، لذلك تستحيلُ رحلةُ العودةِ مادام أن السفينة غرقت حتى القرار، ومادام أن العواصف مازالت تَسْتَبِدُّ بالبحر وتَهُدُّ أوصاله. وحتى يبث الشاعر في قصيدته مزيدا من الأبعاد الجمالية والتأثيرية توسل بالنداء (يا سندباد)، وأسعفه باستفهام بلاغي (أَمَا تعود) ليعكس التحسر وأيضا الدهشة وليؤكد استحالة العودة، عودة العمر والأمل.
اتخذ السياب من “السندباد” إذن، قناعا ليفصح عن تجربته في الحياة، فَشَكَّلهُ تشكيلًا خاصا ليميط عبره اللثام عن رحلته المليئة بالآلام والمآسي. إننا بصدد سفر لا أوبة منه، سفر إلى المجهول، واستشعار بحتمية الرحيل. إن الشاعر مريض، وبعيد عن وطنه، وعن مسقط رأسه حيث زوجته وأهله ينتظرون عودته، إنهُ بصدد سفر طال أمده، ولا تُرجى منه عودة، لذلك نرى أن تجربته تتداخل وتجربة “السندباد” و”أوليس” في الأسطورة. لقد استطاع الشاعر المزج بينهما وبالتالي صياغة نموذج أسطوري نهل من التراث واتُّخِذَ كقناع لتصوير حالة إنسانية. إن فكرة “التوحيد بين الرموز فكرة سيابية”[11] بامتياز.
ومن الجدير بالذكر أن الشاعر في المقطع نفسه لجأ إلى الحوار الداخلي حين توارى ليمنح الزوجة إمكانية التعبير والبوح، وفي هذا صدق فني وشاعري لا غرو (سيعود. لا. غرق.. ). إن صوتها هو صوت الحياة في القصيدة، إنها تعيش حيرة الانتظار وتخشى فقدان شبابها ونضارتها في ظل هذا المشهد الكئيب، إلا أنها ورغم المعاناة ورغم استشعارها بدُنو النهاية ظلت متمسكة أكثر ببصيص الأمل، إنها ترغب في عناق الرجل الغائب، لذلك نجدها تعيش على الحلم عله يداوي جوارحها المكلومة. إنها تهدئُ روْعها بإمكانية عودتهِ دون أن تكترث للعواصف التي تحتجزه، ولا للأهوال التي قد تنهي حياته للأبد.
إن عودته المنشودة لابد أن تكون إشراقة وكُوة على التجدد وانبعاث الحياة، وهذا من شأنه أن يعيد للمرأة جمالها، خاصة حين تمسك قبضتيه ليولد الخير والخصب والأمل. يقول السياب:
دَعْنِي لِآخُذَ قَبْضَتَيْكَ كَمَاءِ ثَلْجٍ فِي انْهِمَارْ
مِنْ حَيْثُمَا وَجَّهْتُ طَرْفِي .. مَاءُ ثَلْجٍ فِي انْهِمَارْ
فِي رَاحَتِي يَسِيلُ، فِي قَلْبِي يَصُبُّ إِلَى الْقَرَارْ
ياَ طَالَمَا بِهِمَا حَلُمْتُ كَزَهْرَتَيْنِ عَلَى غَدِيرْ
تَتَفَتَّحَانِ عَلَى مَتَاهَةِ عُزْلَتِي .[12]
لقد بث السياب في آفاق القصيدة نَفَسًا دراميا حين توسل بالمونولوج الداخلي، إنه يعبِّر من خلال نموذج أراد له أن يكون انعكاسا لحياته النفسية والفكرية، إنه يفتح منجزه على التراث ابتغاء أصالة مفقودة، ومعاصرة منشودة، إنه صوتنا وصوت العالم وصوت كل ذات مبدعة اكتوت بنار الخذلان وعاشت الاغتراب في أعمق تجلياته.
ألغى السياب عودة البطل الأسطوري الذي حَوَّلَهُ في قصيدته إلى بطل إشكالي، انسجاما مع حالته النفسية والوجدانية، بالتالي أمكن لنا فهم غياب السندباد وتمزق شراع سفينته، كما أمكن لنا فهم نبض القصيدة الملحمي والمأساوي والكئيب والذي يتكرر على طول الأسطر، متوسلا الشاعر للتعبير عن كل ذلك بعمق الإيقاع وثراء المجاز والانزياح.
إن استحالة عودة السندباد أمر محسوم، لقد هَدَّهُ المرض وانهكته الجراح ولم يعد أمام المرأة إلا الرحيل، لم يعد لها إلا أن تحسم مع هذه المتاهة التي ولجت عوالمها بعد طول الانتظار، وانكسار الفؤاد الذي ظل يخفق للأمل بلا جدوى. يقول السياب:
رَحَلَ النَّهَارْ
وَالْبَحْرُ مُتَّسِعٌ وَخَاوٍ لَا غِنَاءَ سِوَى الْهَدِيرْ
وَمَا يَبِينُ سِوَى شِرَاعٍ رَنَّحَتْهُ الْعَاصِفَاتُ وَمَا يَطِيرْ
إِلَّا فُؤَادُكَ فَوْقَ سَطْحِ المْاَءِ يَخْفِقُ فِي انْتِظَارْ
رَحَلَ النَّهَارْ
فَلْتَرْحَلِي رَحَلَ النَّهَارْ.[13]
لقد كشفت عوالم القصيدة عن انفتاح الشاعر على الأسطورة اليونانية “أوليس” وزوجته “بنلوب” حيث استثمر دلالاتها ورمزيتها ليعبر لنا عن تجربته، ويكشف لنا عن صراعه مع الموت، وتشبثه بالحياة حتى آخر رمق. ظل السياب في منجزه شاعرا رصينا، عميقا، مؤمنا برسالة الشعر، إنه شاعر الاغتراب والوجع. ظلت حياته متقلبة متأرجحة بين طفولة مأساوية فقد فيها أمه ثم زواج أبيه، إضافة إلى دمامة الخلق ومعاناته مع الفقر وفشله في علاقاته العاطفية انتهاء بعيشه الضياع في أفظع صوره ومعاناته مع المرض العضال الذي أذاقه ويلات المشافي[14]. لقد شكل المرض وإحساس الشاعر بدنو الموت علامة في منجزه، وعبْره أمكن لنا فهم الطابع الانهزامي الذي وسم تجربته وشكَّل معالمها، بل وجعل الشاعر يعيد بناء كثير من الأساطير وفق تصوره ورؤيته للحياة، هكذا نجده يسافر بالسندباد ويحرمه من العودة ويدفعه إلى أهوال وصعاب وصراع مع آلهة البحار، كما يمنع عن تموز إمكانية الانبعاث، وينتصر أحيانا للموت ويخنق أنفاس الحياة، متوعدا إياها بالفناء. إن تماهي السياب مع كثير من الأساطير كان نوعا من البحث عن الذات، والبحث عن السكينة والطمأنينة بعدما أضحت المآسي العنوان الأبرز في حياته.
4 – خاتمة:
إن للموت في قصيدة “رحل النهار” رمزية خاصة، ودلالة تمتح لا شك من مساحات الأسطورة. لقد جعل الشاعر الأمل يأفل ليفسح المجال للمآسي والأحزان لتهيمن، وقد تأسست هذه الدلالة على صراع عميق ضد الموت في خضم البحث الحثيث عن الحلم المفقود، والأمل المنشود. تجلى هذا الصراع في مواجهة السندباد/ أوديس/ الشاعر للأمواج وآلهة البحر والقلاع السوداء، واستثمر الشاعر لإبراز هذا الصراع عناصر الصورة الشعرية، كما توسل بثراء السرد القصصي الذي تتيحه الأسطورة حين جعل تجربته تبلغ مرتبة التماهي تارة مع أوليس وتارة أخرى مع السندباد، كل ذلك حتى يؤثث فضاء القصيدة، ويرسي عوالم الإِبْعَادِ فيها، ولا نغفل توظيفه للرموز بشتى أشكالها، فجاء “الليل” ليعبر عن الكآبة واليأس، و”البحر” بأهواله وأمواجه ليختزل مآسي الذات في مَدِّهَا وجزْرها، و”المركب” كرمز للمصير والحياة في صراعها مع الموت.
اتسمت ثنائية الموت والحياة في منجز السياب بخصائص عدة، إنها أشبه ما تكون بقوس قزح في تقاطعاتها وثرائها، إلا أنها على الرغم من ذلك تبقى ملتحمة متماسكة الأرجاء، فهي رؤية منفتحة على عوالم القلق الوجودي، وآهات الإنسان المعاصر. هي أيضا، إذا صح التعبير، تجاوزٌ للكائن وانفتاح على الممكن، فعلى الرغم من سوداوية الشاعر ونزعته التشاؤمية في الحياة، إلا أنه ظل على امتداد تجربته الشعرية صوتا لروح ترجو خلاصها وخلاص أمتها، روح ترفض رتابة الانتظار القاتل العقيم، وتنحو منحى الحلم بالتغيير والتثوير، وهو ما كرس الشاعر حياته في سبيله، فنفض الغبار عن ذاك الصراع الأزلي بين الحياة والموت تعبيرا عن المعاناة وتعبيرا عن واقع مهترئ ظل محتاجا إلى آليات غير تقليدية للتعبير عنه.
لقد تحقق الرمز في شعر بدر شاكر السياب بشكل مائز، إذ تمكن الشاعر من الارتقاء بمفرداته والسمو بها في مراقي التأويل. مُكَثِّفًا المعاني ومتوسلا باللمحات الدالة في أسلوب فني أكسب قصائده قيمة رمزية جمالية. ما خلق عنده موقفا فنيا رمزيا استثار جملة من المعاني الدفينة.
إن بدر شاكر السياب إذن، من الشعراء المحدثين الذين رفضوا الظلم الممارس على المغلوبين والمخذولين، فكان صوتَهم وصوتَ الحقيقةِ في واقع أضحى فيه الإنسان مسلوبَ الإرادةِ، ومنتهكَ الكرامةِ، ومكسورَ الخاطرِ، لذا أضحى شاعر قضية، مدافعا مستميتا عن الوطن واستقلاله، مؤمنا بأن تحقق الغايات النبيلة لا يكون إلا بالبذل والتضحية والتلاحم. لقد فلسف الموت ورأى فيها معبرا إلى التجدد والانعتاق وإلى الصحوة وسلوك مسلك التحرر.
المصادر والمراجع:
المصادر:
– الأعمال الشعرية الكاملة، بدر شاكر السياب، دار الحرية، بغداد، ط3، 2000م.
المراجع:
– الأسطورة في شعر السياب، علي عبد الله رضا، دار الرائد العربي، 1984م.
– إضاءة النص، اعتدال عثمان، دار الحداثة – بيروت ط1 – 1988.
– بدر شاكر السياب، شاعر الوجع، أنطونيوس بطرس، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، د/ت.
– جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، كمال أبو ديب، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1984م.
– الحداثة/ السلطة/ النص، كمال أبو ديب، مجلة فصول، عدد 3، 1984.
– دراسات في الشعر العربي المعاصر، القناع، التوليف، الأصول، عبد الرضا علي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1995م.
– عالم أوديسيوس، م. آى. فينلى، ترجمة وتقديم: محمد عبودي إبراهيم/ السيد جاد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014م.
[1] – أوليس باللاتينية أو أوديسيوس بالإغريقية ملك إيثاكا الأسطوري، كان من قادة حرب طروادة، أبدع فكرة الحصان التي كان لها دور هام في هزيمة الطرواديين. في رحلته للعودة هو وجنوده التقى بعملاق ذي عين واحدة، فقأ أوليس عينه انتقاما لجنوده الذين التهمهم هذا العملاق والذي لم يكن إلا ابن إله البحر بوسيدون. غضب بوسيدون وعاقبه بأن تاه في البحر عشر سنين لاقى فيها الأخطار والأهوال، ورغم تأخره في العودة فقد ظلت زوجته بينلوب تنتظره بشوق فأضحت عنوان وفاء وإصرار وصبر. راجع: عالم أوديسيوس، م. آى. فينلى، ترجمة وتقديم: محمد عبودي إبراهيم/ السيد جاد، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى، 2014م.
[2]– جدلية الخفاء والتجلي، دراسات بنيوية في الشعر، كمال أبو ديب، دار العلم للملايين، بيروت لبنان، الطبعة الثالثة 1984م، ص: 9.
[3] – الأعمال الشعرية الكاملة، بدر شاكر السياب، دار الحرية، بغداد، ط3، 2000م، ص: 141.
[4] – المصدر نفسه، ص: 141.
[5] – المصدر نفسه، ص : 141.
[6] – الحداثة/ السلطة/ النص، كمال أبو ديب، مجلة فصول، عدد 3، 1984، ص: 56
[7] – الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ص: 142.
[8] – الأسطورة في شعر السياب، علي عبد الله رضا، دار الرائد العربي، 1984م، ص: 101.
[9] – إضاءة النص، اعتدال عثمان، دار الحداثة، بيروت، الطبعة الأولى، 1988 ص: 149.
[10] – الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ص: 142.
[11] – دراسات في الشعر العربي المعاصر، القناع، التوليف، الأصول، عبد الرضا علي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1995م، ص: 157.
[12] – الأعمال الشعرية الكاملة، مصدر سابق، ص: 142.
[13] – المصدر نفسه، ص: 142.
[14] – بدر شاكر السياب، شاعر الوجع، أنطونيوس بطرس، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، د/ت، صص 8/12.