
أصداء الثورة الجزائرية في أغنية الصف بمنطقة أولاد نهار بتلمسان: قراءة في البعد الوطني و التوثيقي
Echoes of the Algeria Revolution in the Essaf song in Ouled N’har area in Tlemcen, lecture in two dimension: the national and wowularytexts
د. قويدر قيداري/جامعة معسكر، الجزائر
Dr. Kouider Kaidari /University of Mascara, Algeria
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 64 الصفحة 85.
ملخص:
لقد كانت أغنية الصف حاضرة في الكفاح الوطني كشكل من أشكال الرفض الشعبي للواقع الاستعماري المرير، وكان لبساطة لغتها وتركيبها، وسهولة نظمها، وكثافة حضورها في المناسبات العامة والخاصة، أن أصبحت تمثل لسان الأوساط الشعبية وضميرها في كثير من المناطق الجنوبية بتلمسان، مما أهلها للعب دور بالغ الأهمية في التعبير عن مشاعر الجزائريين الساخطين على المستعمر الغاصب، وفضح أساليبه، وبعث روح الحماس والتحدي في نفوس الجزائريين والجزائريات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تمثل تلك النصوص الغنائية وثائق تاريخية حية ستساهم في إعطاء نوع من التأريخية (Historicité) خاصة ما تعلق منها بالأحداث (العسكرية والسياسية) التي عاشتها المناطق الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي لبلادنا.
الكلمات المفتاحية: أغنية الصف- أولاد نهار – الثورة التحريرية – البعد الوطني – البعد التوثيقي-Abstract:
“Essaf ” song was present in the national struggle as a form of popular rejection of the bitter colonial reality, and the simplicity of its language and its composition, the ease of its systems, and the intensity of its presence in public and private events, became a representation of the tongue of the popular circles and their conscience in many southern regions of Tlemcen, which enabled them to play an adult role The importance in expressing the feelings of the disaffected Algerians over the usurping colonizer, exposing his methods, and sending a spirit of enthusiasm and challenge in the hearts of Algerians.
these lyric texts represent living historical documents that will contribute to giving a kind of historical (historicité) especially what is attached to it with the events (military and political) that the Algerian regions experienced during the French occupation of our country.
Key words: Essaf song – Ouled N’har – Editorial Revolution – The National Dimension – The Documentary Dimension
تمهيد :
من أشهر أشكال التعبير في الأدب الشعبي النسوي في منطقة أولاد نهار بتلمسان، أغنية الصف الأدبية الناطقة، والتي تنطوي على أغراض اجتماعية مختلفة، حاولنا في هذه الدراسة القيام بمقاربة وظيفية لهذه النصوص الشعبية الغنائية، من حيث بعدها الوطني؛ وذلك بالبحث في حضور الوطن والثورة الجزائرية المجيدة في هذه النصوص الغنائية، ثم من حيث بعدها التوثيقي التاريخي، إذ تعتبر تلك النصوص من هذه الناحية سجلاًّ تاريخيا، وأرشيفا حيا لتاريخنا الوطني الحديث.
وقد أدت تلك النصوص الشعبية دورا إعلاميا بالغ الأهمية، ساهم في رفع الوعي الشعبي والحماس الوطني لأجل نصرة القضية الوطنية، وتجنيد الشعب لمحاربة المحتل، في ظل غياب وسائل الإعلام والاتصال وبساطتها آنذاك.
لقد كان بركان الكلمة في أغنية الصف يوازي بركان الثورة المسلحة، بما كانت تحمله من معاني الحماس والتحدي والمقاومة لمخططات الكيان الاستعماري، وهذه النصوص الغنائية الشعبية تبرز وعي المرأة البدوية ومدى تفاعلها مع القضايا الوطنية، وارتباطها الحميمي بآمال وآلام مجتمعها ووطنها.
وفي سياق هذه الأدوار التي تقوم عليها وتنهض مثل هذه النصوص الشعبية النسوية، سنقدم قراءة في البعدين الوطني والتوثيقي الكامنين في هذه النصوص، متوسلين في دراستنا بمقاربة تاريخية ووظيفية.
- التعريف بالمنطقة:
تستوطن قبيلة أولاد نهار الجنوب الغربي لولاية تلمسان، وهي قبيلة عربية شريفية، تنحدر من ذرية سيدي يحيى بن عبد الرحمن المكنّى (بن صفية) (1529م-1610م) وذرية أخويه سيدي أحمد وسيدي موسى، ممتزجة ببطون وفرق وأسر ذات أصل عربي وأما زيغي، تكونت منذ أواخر القرن 16م، واستوطنت الجزء السهبي للمنطقة والجزء الجبلي الممتد من جبل سانف، مرورا بجبل بني يعقوب وجبل تونزايت وما بينهما إلى المشاميش و المسيون، وهي المنطقة التي لا تزال تسكنها لحدّ الآن[1].
ويذكر الكاتب النقيب نوال (Capitaine Noel) أن الأمازيغ عمّروا هذه المنطقة في فترة ما قبل الإسلام، إذ يقول في هذا الشأن: “إلى جانب هذه الآثار التي يرجع أصلها إلى ما قبل التاريخ، توجد في منطقة أولاد نهار آثارا لبناءات بربرية تبدو أنها تعود إلى ما قبل الإسلام، ولكن يصعب أن نحدد لها تواريخ حتى تقريبية، وتوجد هذه الآثار البربرية في المنطقة الجبلية موزعة في كل من جبال تنو شفي وتونزايت، ودشرة اليهودي، وبأعلى عين تادارت، وخليل، ودار الصنعة وسيدي الجيلالي، والمحجوب، وحاسي العابد، ومضيّل، والمشاميش، والمسيون، وجبل سيدي العابد، وسيدي المخفي، والصّيادة”[2].
وقد أورد الباحث النقيب نوال(Capitaine Noel) بعض التسميات الأمازيغية لجهات من منطقة أولاد نهار، والتي مازالت تحتفظ بها لحد الآن.
والمتأمل في تلك التسميات يجدها فعلا ذات أصول أمازيغية لا مطعن فيها لطاعن، وسنمثل لذلك بمجموعة من التسميات:
-كلمة (تادارت) مثلا لفظة أمازيغية تعني مجموعة من الديار (قرية) أو دشرة[3].
-كلمة (ماقورة) ذات أصل أما زيغي وتعني الكبيرة أو الكبير[4]، وربّما يقصد بها ذلك السهل الفسيح والكبير الممتد بين جبل سيدي العابد وجبال تلمسان.
-عبارة (وادي بويلفان) تنطق محليا وادي بولفان، تعني وادي الخنازير، إذ أن كلمة يلفان جمع مفرده يلف ومؤنثه تيلفت[5].
-وعلى نحو ذلك نجد لفظة (تيفرتين)، وهي كلمة أمازيغية مفردها تيفريت ومعناها الكهف أو المغارة الصغيرة، وتيفريت هي تصغير لكلمة إفري أو أفري جمعها إفران أو تفران أو إفرتن[6].
وقد ظلت هذه المنطقة معمّرة من قبل البربر الزناتيين، إلى غاية الفتح الإسلامي، حيث اعتنق سكانها الدين الإسلامي تدريجيا، بل أن عقبة بن نافع في ولايته الثانية بين سنتي 62-63هـ/681-683م فتح المغرب الأقصى معززا ومآزرا بفلول كثيرة من القبائل الزناتية المنتشرة في مناطق الحدود الجزائرية المغربية[7].
وتأثرت منطقة أولاد نهار بالأحداث التاريخية التي عرفها المغربان الأوسط والأقصى على وجه الخصوص منذ العهود الإسلامية الأولى، نظرا لأهمية موقعها الاستراتيجي الذي يتحكم في ملتقى منطقتين جبلية وسهبية، لهما أهميتهما في الحروب وفي حركة السكان، ويتحكم أيضا في ممر طبيعي يربط بين الشرق والغرب، وفي إحدى أهم الطرق التجارية بين تلمسان والصحراء، مما جعل هذه المنطقة تتميز بمسالك ومعابر استراتيجية استعملتها جيوش الدول المتحاربة خلال تلك العهود من تاريخ المغرب، وذلك لمرورها بمناطق منيعة وتحكمها في الجهات المحيطة بها.
وبذلك كانت منطقة أولاد نهار محطة للتخييم والإقامة والانتجاع للقبائل التي كانت تجوبها أثناء حركتها بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب، كما كانت عرضة للصراعات والحروب التي كانت تقع بين دول المغرب العربي آنذاك لاسيما بين المرابطين والموحدين من جهة، وبين الزيانيين والمرينيين من جهة ثانية.
شارك أولاد نهار كمعظم الجزائريين في مقاومة الاستعمار الفرنسي منذ ثورة الأمير عبد القادر، ولهذا نجد الأمير عبد القادر الجزائري بعد استيلاء الجيش الاستعماري على زمالته في 16ماي 1843م، لجأ إلى سهل المسيون في الجزء الواقع منه في منطقة أولاد نهار، فاستقر به وأعاد إنشاء (زمالته) من جديد[8]، وقد استعمله كمركز تتحرك منه جيوشه وقيادته إلى أن غادره في ماي 1844م، فواصلت القبيلة مقاومتها للاستعمار، وفي ذلك يقول قائد عسكري فرنسي: “وقد استمر الأمير عبد القادر في ثورته على رأس قوته من المهاية وأنجاد وأولاد نهار”.[9]
وفي مطلع نوفمبر 1954م هبّ سكان المنطقة إلى جانب إخوانهم الجزائريين عبر التراب الوطني للعمل في صفوف جبهة وجيش التحري الوطني، حيث عرفت هذه الجهة كغيرها من جهات البلاد معارك طاحنة، من أهمها معارك جبل تنوشفي ومعركة تيفرتين ومعركتي عين خليل (الأولى وقعت شهر سبتمبر من عام 1956م، والثانية وقعت في الفاتح من شهر نوفمبر سنة 1956م تزامنا مع الذكرى السنوية الثانية لاندلاع ثورتنا المجيدة) ومعركة الحَيْرش وسيدي عيسى ودار المحلّة.. مما دفعت بالمحتلين إلى استعمال جميع الوسائل الجهنمية كإقامة المحتشدات والمعتقلات في كل من سيدي المخفي وسيدي الجيلالي وبلحجي بوسيف (الأعوج سابقا) وصدّوق، وإنشاء خط موريس المكهرب والملغّم على طول الحدود الجزائرية المغربية والمار بالمنطقة.
بالإضافة إلى العشرات من الأبراج المجهّزة بوسائل المراقبة الدقيقة، كل ذلك بهدف محاصرة الثورة وقطع الإمدادات عنها، إلا أن ذلك لم يُجدِ نفعا أمام شعب صامد كان شعاره النصر أو الاستشهاد، مما أرغم الاستعمار على الاعتراف بالسيادة الوطنية في 05 جويلية 1962م.
- سمات الأغنية الشعبية وخصائصها:
الأغنية الشعبية تتميز بالبساطة والانفعالية، وهي في انفعالها ليس فيها تعقيد، بل إنها تأتي عفوية منبعثة من الذات الشعبية غير المعقدة، دافقة الأحاسيس، دون محاولة لكتمانها أو تغطيتها بكلمات منسقة.
ويعتبر جبور عبد النور أن استعمال العامية خاصية أساسية في الغناء الشعبي، لذلك تميزت الأغنية الشعبية بنظمها السهل وأنغامها وألحانها البسيطة، وكذلك قدرة الشعب على إعادتها بمجرد سماعها، ذلك أن أغراضها مستمدة من حياة هذا الشعب نفسه.
وحول مجهولية المؤلف في مثل هذه النصوص الشعبية، يقول رضا الكشو: الغناء الشعبي في حقيقة أمر لا ينسب إلى أحد، ويستحيل البث في أصله ومعرفة مؤلفيه في حالة غياب الوثائق المكتوبة[10].
ويلخص شاكر البرمكي الخصائص العامة للأهازيج الشعبية –وهي على العموم السمات نفسها في أغنية الصف بمنطقة أولاد نهار – فيما يلي:
- التلقائية والوضوح،
- العفوية في التعبير،
- التعبيرات الصارخة في إظهار الغضب والتمرد والرفض والصمود والسرور والنقد والإطراء والهجاء،
- طرح مفاهيم الثورات والانتفاضات الشعبية،
- التعبير عن اهتمامات الشعب وطموحاته[11].
- التعريف بأغنية الصف (المدونة المعتمدة):
أغنية الصف تعتبر واحدة من أهم أشكال التعابير النسوية في الأدب الشعبي بمنطقة أولاد نهار بتلمسان[12]، بل هي أكثرها انتشارا وتجذرا في النسيج المجتمعي للمنطقة، وما جاورها، وهي لذلك تحتل مكانة متميزة في فضاء ثقافتنا الشعبية التلمسانية الجزائرية.
- الأداء والمناسبة:
هي أهزوجة جماعية تؤديها النسوة وقوفا، على شكل صفين متقابلين ومتوازيين، حيث يظهر في كل صف تداخل سواعد النساء كأنهن جسد واحد، ويعتبر “الدف” (البندير) الآلة الموسيقية الوحيدة الحاضرة في هذا النمط الغنائي الذي يجمع بين الرقص والغناء أو الكلمة والحركة، ، فيبدو في رقصتها (الحركة) أدب وحشمة ورزانة، لا مجون ولا إثارة ولا صخب، ولا هز للأرداف؛ بل سهولة وجد وبراعة، وتتميز في غنائها (الكلمة) بصفاء كلماتها وبساطة ألحانها، وسهولة أسلوبها، وإيقاع أصواتها النابض.
وتظهر أغنية الصف في المناسبات الخاصة والعامة على السواء؛
من المناسبات الخاصة: الأفراح العائلية؛ كالزواج، الختان، السبوع (العقيقة)، استقبال الحجيج وتوديعهم..
ومن المناسبات العامة: ذكرى تكريم جد المنطقة ورجلها الصالح وشيخها الناصح “الولي سيدي يحي بن صفية “، تقول الروايات المتواترة في منطقة أولاد نهار أن هذه التظاهرة الشعبية أو (الوعدة)، أول ما بدأت كانت في شكل موعد يلتقي فيه أبناء سيدي يحيى بن صفية وأحبابه وأصحابه عند أبيهم سيدي يحيى بن صفية، بعد الانتهاء من الموسم الفلاحي وذلك منذ أواخر القرن 16م.
وبعد وفاة سيدي يحيى بن صفية سنة 1610م، استمر هذا اللقاء أو التجمع ليتحول تدريجيا إلى موسم تكريمي سنوي يطلق عليه شعبيا (وعدة سيدي يحيى بن صفية) يحضرها أحفاده وأتباعه وأحبابه…[13]
يعتبر هذا الموسم الشعبي، أو كما يطلق عليه في الذاكرة الشعبية للمنطقة (الوَعْدَة) مهرجانا شعبيا متنوعا، تتمظهر من خلاله كثير من النشاطات التي تمتزج فيها الحركة بالكلمة، لتشكل مشهدا ثقافيا شعبيا أو(كرنفالا): الأدب الشعبي المتناقل من جيل إلى جيل، الأساطير والمعتقدات الشعبية، الأغاني والرقصات، العادات، الفنون..
ولعل من أبرز ملامح التراث الشعبي الأكثر حضورا في هذه المناسبة الشعبية، والتي تشهد تفاعلا كبيرا داخل النسيج المجتمعي في المنطقة، يمكننا الإشارة إلى ثلاثة أشكال من ألوان التعبير الشعبي:
- أغنية الصف النسوية الحركية الأدبية الناطقة (موضوع دراستنا)،
- رقصة العلاوي باعتبارها فنا رجاليا حركيا راقصا،
- حلقات الحضرة باعتبارها فنا سماعيا صوفيا شعبيا.[14]
..تتداخل في هذا الموسم الشعبي المعتقدات الشعبية والعادات والتقاليد مع الرقص الشعبي (رقصة العلاوي تحديدا)، وأغاني الصف، وحلقات الحضرة (السماع الصوفي)، وحلقات المدّاحين التي تخوض في سير الصالحين وخصال العارفين وبطولات المقاومين، وألعاب الفروسية والبارود (الفانطازيا)، لترسم هذه الفسيفساء في النهاية لوحة فنية عن ملامح الثقافة الشعبية بنوعيها (المادية واللامادية) في منطقة أولاد نهار بتلمسان.
- أغنية الصف ومجهولية المؤلف:
أنتجت المرأة البدوية هذه النصوص الشعبية، فأصبحت رفيقها في أشغالها المضنية، وخير أنيس تجزي به الوقت في نشاطاتها الاجتماعية المختلفة، فتوارثته الأجيال مشافهة في فترات متلاحقة ومتباعدة، لهذا نجد أغلب تلك النصوص تتميز بمجهولية المؤلف، وقد يكون لعادات المنطقة وتقاليدها المحافظة والمنغلقة في آن دورا في تغييب مؤلفات تلك النصوص الغنائية.
يطلق على مؤلفات تلك النصوص؛ أو على الأكثر براعة وحفظا وأداء منهن اسم “الزرّاعة”، وهذا الاسم استعماله واسع في الأوساط الشعبية داخل مناطق كثيرة من الغرب الجزائري، كما يؤكد ذلك عبد المالك مرتاض: ..والشاعرة تزرع لهن هذه الأغاني فيثقفنها توا، ويردِّدْنها معها حالا، وتستعمل لفظة زرع في هذا الموطن استعمالا مجازيا فصيحا، لأن الذي يزرع الحب في الأرض الصالحة الطيبة، ينبت ويتوالد وينمو، فالزرع أو البذر هو الأصل، وزرع الغناء معناه بثه وإشاعته، وجعل ذلك الصوت هو الأصل في الغناء الذي تردده الأصوات[15].
3.4- اللغة في أغنية الصف:
تمتاز تلك النصوص الغنائية بشعبيتها وارتجال نصوصها لذلك يأتي معجمها اللغوي بسيطا وعفويا، فهو يقترب من نفس المعجم الأساسي المستعمل في الخطاب الدارج المتداول في المنطقة، وعلى الرغم من ذلك تجد تلك النصوص أخاذة ومثيرة، وكأنما نفخت فيها هذه المؤلفة المجهولة سحرا، وربما السر في ذلك الصدق، لأن أغلب تلك النصوص صدرت عن تجربة عاشها الفرد أو الجماعة أو الوطن ككل.
فتلك الكلمات المنثورة عبر تلك المقاطع كانت تتأجج في نفسية المؤلفة أو “الزرّاعة” المنفعلة، قبل أن تهديها لأنفس أخرى لتستقبلها بنفس حرارة الانفعال وبنفس الصدق. فمؤلفات تلك النصوص يستقين كلماتهن من الذات الجماعية وبعفوية وارتجالية، فهن لا يجلسن وأمامهن ورق ناصع ومعجم تطاردن به الشوارد لتقبرنها من جديد في قصيدة عصماء.
تتداخل المستويات اللغوية في تلك النصوص، بين الفصيح والمتفاصح والدارجة السيارة (العامية المشتركة بين عموم الجزائريين) والدارجة المحلية التي لا يكاد يعرفها إلا من يعيش داخل المجال الجغرافي والسوسيولساني للمنطقة، وهناك الكلمات الفرنسية التي دخلت اللسان الدارج نتيجة للاستعمار، وعموما فإن المعجم اللغوي في هذه النصوص النسوية الغنائية منتزع من البيئة البدوية لمجتمع الدراسة.
- البعد الوطني في أغنية الصف:
تناولت المرأة البدوية من خلال أغنية الصف موضوعات مختلفة، اجتماعية وطنية، ودينية، وأحيانا تتداخل هذه الموضوعات في النص الواحد، وسنحاول أن نسلط الضوء هاهنا على حضور البعد الوطني في تلك النصوص الغنائية، والتي تبرز وعي المرأة البدوية ومدى تفاعلها مع القضايا الوطنية، وارتباطها الحميمي بآمال وآلام مجتمعها ووطنها.
شاركت المرأة في منطقة أولاد نهار الرجل، وجاهدت معه جهادا فعالا إبّان الثورة التحريرية المباركة، فأسعفت المجاهدين، وطبخت لهم وغسلت ثيابهم، ونقلت المؤن الحربية والغذائية إلى أبطال الثورة بكل شجاعة وبسالة، كما أنها عبرت عن معاناتها وانفعلت مع ثورتها المجيدة، فسجّلت أشهر أهازيجها هذا الوعي الحضاري والوطني بكل أمانة وصدق.
لقد كانت أغنية الصف حاضرة في الكفاح الوطني كشكل من أشكال الرفض الشعبي للواقع الاستعماري المرير، وكان لبساطة تركيبها وسهولة نظمها وحفظها والتغني بها من جهة، وقربها من الأوساط الشعبية نتيجة تنوع مناسباتها (المناسبات العامة والخاصة) من جهة أخرى، الأثر البالغ في التعبير عن مشاعر الأغلبية من أبناء المنطقة، وذلك بإظهار السخط على المستعمر الغاصب وأذنابه، وفضح أساليبه التخريبية والاستيطانية.
وقد أدت تلك النصوص الشعبية بذلك دورا إعلاميا بالغ الأهمية، ساهم في رفع الوعي الشعبي والحماس الوطني بالقضية الوطنية، وتجنيد الشعب لمحاربة المحتل، في ظل غياب وسائل الإعلام والاتصال آنذاك.
لقد كان بركان الكلمة في أغنية الصف يوازي بركان الثورة المسلحة، بما كانت تحمله من معاني الحماس والتحدي والمقاومة لمخططات الكيان الاستعماري، مثلما تصوره لنا هذه المقاطع التي تدعو المجاهدين إلى التوكل على الله عز وجل والثبات على الحق والمضي في مجابهة المحتل بلا خنوع أو تردد:
- زِيدُوا يا اللِّي تَاكْلِيـــنْ عْلَى الله ودْجَاهدُوا عْلى دِينْ مُحمد
زِيدُوا يا اللِّي مْقَوْصِينْ[16] للشَّدَّة واللّي رَافْدِيـــنْ الحَرْب والعَدَّة
- حضور الشهيد في أغاني الصف:
قدّمت منطقة أولاد نهار قوافل من الشهداء في سبيل تحرير الوطن وتطهيره من دنس الاستعمار، على غرار باقي المناطق الجزائرية، ولعل من هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وقضوا نحبهم الشهيد البطل (علي بوسدرة)[17] الذي قدّم روحه الطاهرة قربانا على مذبح الحرية:
ومن المقاطع الغنائية التي أشادت بالشهيد كقربان على مذبحة الحرية نذكر ما يلي:
يادَارهَالَك لَمَان ياخويا يا مِيمْتَه تْقُوم في تَاي الغْدَر يادَارهَالَك لَمَان يا خُويا
يَا مْشَا وحَوَّاسِين جَــاوْامْسَرْقِيـن[18] يادَارهَالَك لَمَان يا خويا
ونجد اسم هذا الشهيد البطل يتردد في مقطع آخر :
يـا الـمُجاهديـن و يـا المُجاهدين وكي حالكم جاني زين ويا المجاهدين
وكي غَاضْنِي عَلال بوسدرة رايَسْ الوطن وكي حالكم جاني زين ويا المجاهدين…
لقد استشهد (علي بوسدرة) معانقا لأرضه التي طالما دافع عنها، وقد بلغت ملحمة هذا الشهيد البطل إلى مسمع الكاتب الجزائري عمار بلحسن[19] فرثاه من خلال رائعته “الأصوات” (مجموعة قصصية) بهذه الكلمات:
“هي النهاية… يا علي.. يا سيّد الرجال وحدك قبالة الرّصاص.. يا سيّد القبيلة ورجلها الذي جال وتعلم وأصبح يفهم في المسائل الكبرى للعالم والدنيا.. هل تقاوم الرصاص وتقدم نفسك في موكب القرابين للتراب يا سيّد القبيلة؟… هو اختيار الرجال.. يا علي.
فجدودك مرّوا من هنا، يحفّزون أحصنتهم ويطلقون بارود الحرية على الهمج.. فهل تخون مجدهم ورجولتهم ؟: في هذه اللحظة تكون أو لا تكون.
كان صوت مهيب.. ثخين النبرات.. يتردد عبر هضاب وسهوب منطقة “سيدي الجيلالي”[20] ويحمله الصدى متذبذبا، عميقا إلى أذنيه.. كأنّه النذير.. يغمر الناحية ويدفع بالشيوخ والنساء والأطفال إلى مداخل الخيام الوبرية في صمت جنائزي علي بوسدرة أمسكه العسكر!
فقط هذا الذي كان هناك معصوب العينين، مشدودا بحبال متينة إلى ركيزة خيمة عياله وعيال أبيه، على وجهه كدمات من عذّبوه، مواجها للشمس والقبطان وعسكر “سيدي الجيلالي” عريضا كحائط، طويلا كعريشة وممتلئا كنخلة صحراوية…
إحساس بالرحيل يغمره.. الصوت ينادي، يأتي عظيما يغيب معه في فضاءات واسعة سيرحل في كافة الاتجاهات، الحياة رحلة، وحتى لو مات وسقط فإنّ الصوت يباركه أن لا خوف يا علي.. يا سيد قبيلة أولاد نهار لقد أعطيتوهاهو البرهان.
لحظة وتفيض الروح، مصحوبة بالزغاريد المبحوحة معلنا صمود القلب وسقوط الجسد وعناق التربة.”[21]
- حضور “الجهاد والمجاهد” في أغاني الصف:
عند معاينتنا لنصوص أغاني الصف التي تغنت بالثورة الجزائرية قلما نعثر على نص لا يحتوي على كلمة (جهاد أو مجاهدين)، ولا غرابة في ذلك فهو الاسم الذي أطلق على أعضاء جيش التحرير الوطني، اسم له قداسته في النص الأدبي العربي الشعبي منه والفصيح، حيث ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ومن ثم صار متداولا في الأوساط الشعبية المتحصنة بثقافتها العربية الإسلامية.
ومن تلك النصوص التي أشادت بالمجاهدين المنتسبين إلى فيالق جيش التحرير الوطني، وما قدموه من ضريبة في سبيل الحرية والانعتاق، ما يلي:
سْيَادِي صَبْرُوا للجْلِيد وللجُّـوع جـابوا الحريّة على النْجُوع
سْيَادِي سَمْحُوا في الزّادْ ولَوْلاَدْ جـابوا الحريّة لكـل بْـلادْ
سْيَادِي سُوقْ النْصَارى هَزْمُوه وتْحـَزْمُوا لـلدِّين وتَـمُّوه
هذه المقاطع تعكس لنا إيمان هذا الشعب الراسخ بعدالة قضيته وحريته التي لا مناص منها، و تتحدث عن الفاتورة التي قدّمها لأجل الانعتاق من أغلال الاستعمار والاستعباد، كما يرصد لنا أيضا نظرة الشعب الجزائري لهذه المنازلة التي اعتبرها جهادا ضد الصليبية والنصارى المعتدين لا يختلف عن جهاد المسلمين في مختلف العصور.
ومن النصوص الأخرى التي تتغنى بالمجاهدين وببطولاتهم وبرباطة جأشهم، وتحمل لهم البشرى في الدنيا أو الآخرة، نذكر هذه المقاطع:
- يا بَاب الجَنَّة قالُوا خْضَار كانْ يابَس في حْزَام الكُفَّار
يا باب الجنة حَلُّوه هُمَا والمَفْتَاح نْتَاعْهُم الجِهَاد
- مْنِينْ يْكُونُوا في البِلَاد سْيَادي يْجِينِي النُّوم ونْكَمَّل رْقَادِي
اخْيَار ما نْقُول مْسَلْخِيـر للنْمُورة حَاظْيِين الدِّين
رِيحَة الجنّة جَاتْنِي في الخَيمَة امْنِينْ دَخْلُوهَا الزُّعَامَة
رَاهُم فِي الجْبَالْ العَالية لْيَا بْغِيتُوا المُجَـاهْدِيـن
فَرْقْ الحْمَام وْفَرْقْ الغْرَاب لْيَا تْلَاقَاوْ مَكَانْ وْجَابْ
- امْوَالْفِين بَرْدْ اللْيَالِي والجْلِيد واللَّيلْ والظَّلمَة والحَال بْعِيد
مَا كَانْ لَا هَدْرَة لَا كْلَام غِلَا رَبْحَت الدْزَايَر لَحْــكَام
3.5- حضور مفهوم “الوطن والمواطنة” وتجاوز القبيلة في أغنية الصف:
من بين النصوص التي تجاوزت حدود المنطقة ومفهوم القبيلة لتحتضن الوطن الأم وتتغنى بالوحدة الوطنية من الحدود إلى الحدود، وتوصي بالتجاوب مع النظام الذي أرسته جبهة وجيش التحرير الوطني، نذكر هذه النصوص:
- من جْبَال وْرِيسْ حَرْبِيَة حَتَّى للمُغْرِيب نِظَامْهُم وَاحَد وْرَيَّاسْهُم قَاعْ الخُوت
- رَانِي نْخَمَّمْ يا نَاسْ ما لَاقِي صْبَر وْعَقْلِي تْوَدَّر مَا صُبتْ كِيفَاشْ نْدِير
لا تْخَمَّم اليُوم لا تَتْكَلَّمْ في ذَا لَامْرْ سَلَّم طِيـعْ جَيشْ التَّحْرِير
- منين يلغالكم الرّايس حطّوا يدّيكم حَرْكُوا لَقْراسْ[22]
لقد تغنت هذه النصوص الشعبية الغنائية بالوطنية، ورسمت أجمل صور لها، ولا فرق بين وطنية قبل الثورة وأثناءها، ووطنية بعد الاستقلال، فكلاهما يعكس حبا جارفا لهذا الوطن المفدّى، ومثلما صورت تلك النصوص الشعبية بطولات الثورة الجزائرية وهي في مهدها، التزمت بعد الاستقلال بالقضايا الكبرى للوطن، حيث عثرنا على نصوص كثيرة تتحدث عن الحرب العربية الإسرائيلية (1967و1973)، وفاة الرئيس الجزائري هواري بومدين.. مما يدل على مدى تجذر الوعي السياسي والحس الثوري والوطني عند المرأة الجزائرية على امتداد تاريخنا الوطني.
- البعد التوثيقي في نصوص أغنية الصف:
يعتبر الشعر الشعبي والنصوص الشعبية الغنائية ومختلف أشكال التعبير في الأدب الشعبي مصادر تاريخية مهمة تعين المؤرخين على استجلاء الكثير من الأحداث التاريخية وتوثيقها، خاصة تلك النصوص التي تصدر عمن عايش الحدث وتفاعل معه عن قرب. مما يعطيها صفة “شهود عيان” على تاريخنا الوطني القديم والحديث.
ومن نماذج النصوص الشعبية التوثيقية في العهد التركي في الجزائر، سنسوق مثالين من كتاب ” دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران ” :
المثال الأول: من الشعر الشعبي الذي وثق معركة فرطاسة[23] التي هزم فيها الباي حيث لم ينج بانفراده إلا متسلسلا على حين غفلة ممتطيا جواده من دون سرج قاصدا معسكر، إلا بشق الأنفس، يقول الشاعر الشعبي:
كِي قَصّة الَاجْوَادْ مْعَ اتْرَاكْ النَّوْبَة يُومْ آنْ فْزَعْهُم ابْنَ الشْرِيفْ وْجَـاوْ
ذُوكْ اتْرَاكْ الكُرْسِي دْهَرْ فَاتُوا رَهْبَـة قَالُوا الَاجْوَادْ عْلَى حُرمْنَا نَزْكَاوْ
انْعْقَد غَاشِي الَاحْرَارْ عَقْدْ مْحَبَّة فِي فَرْطَاسَة شَاوْ انْهَارْ وَاتْلَا قُو
بالسَّيفْ وْنَارْ المَشْطْ وْدَقْ الحَرْبَة مَا لْهِيهْ اوْمَنَّا عَيْطَا اعْقِيدْافْنَـارُوا
ذَاكْ امْقَعْشَم ذَاكْ يْهُومْ بَالحَرْبَابَة وافْرَايَس الَاتْرَاكْ اعْلَى الطْرِيقْ ابْقَاو
اتْغَلْبُوا الَاتْرَاك اوْسَلْمُوا فِي الضَّرْبَــة اهْلْ العَدَّة البِيضَا كَامَ اتْعَرَّاو
دَارْ الذِّيبْ العَوْلَة مِنْ لْحَمْ الأتْرَاكْ[24]
وقد اعتبر البعض أن هذه الثورة كانت من أسباب انهيار دولة الأتراك بالجزائر؛ حيث أنها فقدت ثقة معظم السكان[25].
المثال الثاني: هو من نصوص الشعر الشعبي الذي يعنى بتراجم الرجال وسيرهم، حيث وثق فيها للشيخ العالم ابن قندوز التوجيني، وهو من العلماء المشهورين بالتقوى والتصوف والعلم والتدريس، أشار إليه صاحب “المرآة الجلية” في معرض حديثه عن سيدي عدّة غلام الله، ونقل له مجموعة من الكرامات، ونعته بأنه “قتيل الترك بواد منتي”[26].
ولا شك أن الشيخ ابن قندوز ساند الثورات التي كان يقودها رجال الطرق الصوفية ضد حكم الأتراك، ومنها ثورة درقاوة العام 1802م، التي دامت عشر سنوات، والتي تلتها سنة 1826م ثورة الشيخ أحمد سالم التجيني صاحب الزاوية التجانية.
وقد نظم في حقه الشاعر الشعبي ابن تكوك تلميذه الوفي منظومة من نوع “الغوثيات” رثى فيها شيخه ابن قندوز، جاء فيها:
ارْحَم شَيخِي بَالقَنْــدُوزْ مُرِيدْ الشَّيخْ المَعْزُوزْ
بَالقَنْدُوز المَزْهَدْ فِي وَسْطْ الطُّلْبَة عَابَد
لَا بُدْ فِي الذَّكْرْ يْمَجَّدْ يَخْدَمْ رَبِّي بِالنِّيَّه
فِي شَهْر الله صَفَرْ دَارَتْ بِه العْسَاكَرْ
بالثْلَاثَة مَع الفَجْرْ وَلَّى فِي ايْدِينْ العَدْيَة
عَامْ الخَمْسَة والأَرْبَعِين تْوَفَّى لَيلَةْ الاثْنِيـن
فَرْحُوا لُه الطَّائِغـُون الغَابِطُون في الدُّنْيَا[27]
في عام 1829م هاجم جيش الباي حسن زاوية الشيخ محمد بن قندوز التي كانت عامرة بطلبته من أبناء البرجية والزمالة وبعضهم من بني عامر والحشم وفليتة وبني شقران؛ أي جل أبناء منطقة الغرب الجزائري، لقد أرسل باي وهران ابن دهماء العامري الذي أخذ الشيخ بن قندوز مقيدا وقتله بمنطقة واريزان[28].
ومما يندرج في إطار النصوص الشعبية ذات البعد التوثيقي في تاريخنا الوطني القديم، التي سُجِّلت أحداثه في الذاكرة الشعبية، قصيدة للشاعر الشعبي عبد القادر (من شعراء العاصمة) التي وثّق فيها سقوط مدينة الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي، حيث نظمها عام 1846م، نجتزأ منها الأبيات التالية:
لَيَّامْ يا اخْوَانِي تْبَدَّل سَاعَاتْهَا والدَّهْرْ يَنْقْلَب وَيْوَلِّي فِي الحِينْ
بعد كان سنجاق البهجة ووجاقها لجناس تخافها في البر والبحرين
امنين راد ربي ووفّى ميجالها واعطاوها اهل الله الصالحين
الفرنسيس حرك لبها وخذاها لا هي ميات مركب لا هي ميتين
بسفاينه يفرص البحر قبالها كي جا من البحر بجنود قويين
غاب الحساب وادرك تلف حسابها الروم جاو للبهجة مشتدين
راني على الجزايرياناس حزين[29]
بعد إشارتنا بشكل سريع لبعض النماذج الوطنية التي تجلت في شعرنا الشعبي القديم، نعود هاهنا لدراسة النصوص الشعبية ذات البعد التوثيقي في أغنية الصف، من ذلك الإشارة إلى خط موريس المكهرب والملغم، على الحدود الجزائرية المغربية، والمار عبر منطقة أولاد نهار الحدودية بتلمسان، والذي أقامته السلطات الاستعمارية، بهدف حصر الثورة وخنقها، وقطع الإمدادات العسكرية والدعم اللوجستيكي عنها:
دَايْرِينْ السَّلْكْ وَالمِينَة عْلَى الزُّعَامَة والله مَا يْقُدُّوا لِلْجَيشْ
مَيْنُورْ في المْدِينَة هُوَ والصِّيزَايْ كُلْ يُـومْ اعْطُـوهْ التَّحِيَّـة
فعبارة “السلك والمينة” إشارة توثيقية لخط موريس المكهرب والملغم، أما كلمة “الصيزاي” فيعرفها جيدا الثوار الذين كانوا يرابطون في الثغور على الحدود الجزائرية، وهي تعني عندهم تلك الآلة التي كان يستعملها المجاهدون لقطع تلك الأسلاك المكهربة لإحداث ثغرات فيها قصد تسهيل دخول العتاد وتسهيل حركة كتائب جيش التحرير الوطني.
إن بعض المقاطع التي وقعت أيدينا عليها، لهي قريبة من البيانات العسكرية، وذلك بما احتوته من أسماء لعتاد عسكري، سواء تلك التي استخدمها أفراد جيش التحرير الوطني، أو التي كانت بحوزة جيش الاستعمار الفرنسي، كما أن مقاطع أخرى رصدت لنا وصفا دقيقا لبعض المعارك التي وقعت داخل المنطقة.
ممّا يجعل هذه النصوص الغنائية وثائق تاريخية يمكن أن تساهم في إعطاء نوع من التاريخية (Historicité)، خاصة ما تعلّق منها بالأحداث التي عاشتها المنطقة إبّان الاستعمار الفرنسي، مما سيفيد ولا شك الباحثين المهتمين بالتاريخ الوطني والمحلي.
من ذلك، نذكر هذه المقاطع الغنائية على سبيل الذكر لا الحصر:
يَارَاهُمسَنْيَاوْ يَا رَبِّي وْعَاهْدُوهَا بالمَوتْ غِلَى نْهَارْ الفَنَاةْ
يَافَاتُوا على بَلْعَبَّاسْ حَرْقُولْهُمْمَقَازَاتْ
يا تْحَاوَلْ يَا مُولْ البْيَاسَة عْلَى مُولْ المُورْطُو رَاهْ ثْقِيلْ
هَذَا اتِّصَال جَانِي مْكَلَّف وْقَالْ الصَّدَّة لْجَيشْ التَّحْرِيرْ
فكلمة “بْيَاسَة” إشارة لنوع من الأسلحة الرشاشة، وكلمة “مورطو” إشارة لنوع من القذائف، وهي أسلحة كانت لدى فيالق جيش التحرير الوطني، ويشير المقطع الأخير إلى فئة من المجاهدين كانت مكلفة بحمل الرسائل والاتصال بين الجزائريين.
ومن النصوص الغنائية التي تدخل في هذا السياق أيضا، ما تعكسه هذه المقاطع:
نَاضُوا الشُّبَّان شُدُّوالْهُم الطُّرْقَانْ وبياسات وقْران وجنود هذي هيّة
نَاضُوا الشُّبَّان غِيرْ فْلَان وَفْلَان في الضَّرْب نِشَانْ ودَارُولْهُم قْصِيّة
كلمة “قران” تشير هنا إلى نوع من القنابل اليدوية، تعرف بالفرنسية باسم grenade.
ومن بين المقاطع التي تشير إلى الرئيس هواري بومدين الذي كان آنذاك قائدا على جيش الحدود، وتوثق حضوره للمنطقة وتردده عليها، نذكر ما يلي:
دِيرْ السْلَاح حْذَاكْ وْرَبِّي مْعَاكْ يَا الجْبَالْ السَّرْكْلَتْ يَا الزَّينْ
زِيدْ يا الهَوَّارٍي انْتَ وَرْبَاعْتَكْ[30] يَا الجْبَالْ السَّرْكْلَتْ يَا الزَّينْ
ومن النصوص الشعبية الغنائية، التي وثقت لبعض الأحداث العسكرية في المنطقة، وبثت الحماس الثوري في نفوس الجزائريين، نسوق هذه المقاطع:
الزُّعَامَه ما يْوَلُّوشْ عْلِيـكْ يـا قُولُوا لَفْرَانْسَا خْطِكْ
مْعاهْدِين عْلَى الَعْمَرْ يَفْنَى عْلِيكْ يَا مُولْ البْيَاسَة لَيْنَا والبَيَّـاعْ لِيـكْ
ما عَنْدهُومش الشَّار ويْطَّلقُوا النَّار وما عَنْدهُومشالطَّايْرَةويْسَرْكْلُـوكْ
كلمة “الشَّارْ” (char)توثيق للدبابات والمدرعات التي كانت بحوزة الجيش الاستعماري.
ومن ذلك أيضا:
أسالواالخَطَّار[31]ايْلَا كانش ثمّ اخْبار على الجيش كي صار اليوم كان في الحربية
نَاضْ الاستعمار يْحَاوْزُوا للدُّوَّار عْيَالاتْ واصْغَارْ تَخْمَامْهُم رَشَّاني
في قَرْنْ زَهْرَة صْرَاتْ لَيْنَا غَمْرَة لَحْقَتْنَا الصَّفْرَة بْقَاتْ عْلِينَا تْبِيكِي وَالدُّور
وَمْنِينْ عَلَّاتْ رَاهَا مْشَاتوْوَلَّات يَمْكَنْهَا اتْرَانْبَاتْظَنِّيتْ شَافَتْ قَدُّور
لْغِيتْ اسْتْعَدُّووَبَعُّوشْ جَانِي وَحْدُو قَالِي نَبْدُوانْتِيرُوا شْـوَارْ البَارَاج
قُلْتْلُوااسْتَنَّى وَمَنْ ظُركْ غِيرْ اتْهَنَّى حَتَّى يْجُوا هْنَا وْمَا نْمَنْعُوشْالسُّوفَاج
كَلَّم سْتَانْ وَبْرَانْ لَا لِيجُو مْعَ سَلِيغَان بْقَى غِيرْ ذَبَّانْ وَكْصَاكَصْ مَرْمِيّة
عبارة “قرن زهرة” إشارة إلى قرية زهرة بمنطقة بني سنوس المحاذية لمنطقة أولاد نهار، جنوب تلمسان، وعبارة “لحقتنا الصفرة” إشارة إلى أسراب الطائرات الاستطلاعية الاستعمارية التي كانت تجوب السماء الجزائري لرصد تحركات كتائب جيش التحرير الوطني في الجبال والأحراش بالمنطقة، وكلمة “سَلِيغَان” فتعني جنود من أصل سينغالي كانوا مجندين في صفوف الجيش الفرنسي الاستعماري، أما عبارة ” بقى غير ذبّان وكْصاكص مرمية ” فكلمة “كصاكص” (casque) تعني القبعات الحديدية التي كانت على رؤوس الجنود الفرنسيين، والتي تناثرت في ساحات الوغى وتفرقت، وهي هنا تأتي كتوثيق وكناية عن العدد الكثير من قتلى الجيش الاستعماري.
- النتائج:
ونسوق هاهنا أهم النتائج المتوصل إليها:
- نصوص أغاني الصف من أشهر ألوان التعبير في الأدب الشعبي في منطقة أولاد نهار بتلمسان؛
- تبرز تلك النصوص الغنائية وعي المرأة البدوية ومدى تفاعلها مع القضايا الوطنية، وارتباطها الحميمي بآمال وآلام مجتمعها ووطنها،
- كانت أغنية الصف حاضرة في الكفاح الوطني كشكل من أشكال الرفض الشعبي للواقع الاستعماري المرير،
- أدت تلك النصوص الشعبية دورا إعلاميا بالغ الأهمية، ساهم في رفع الوعي الشعبي والحماس الوطني والتعريف بالقضية الوطنية،
- حضور مفهوم الشهيد والمجاهد في تلك النصوص الغنائية بشكل مكثف،
- حضور مفهوم “الوطن والمواطنة” وتجاوز مفهوم القبيلة في كثير من نصوص تلك الأغاني، والتغني بالوطن والوحدة الوطنية،
- حضور البعد التوثيقي في تلك النصوص الغنائية، فبعضها يأتي أشبه بالبيانات العسكرية، وذلك بما تحتويه من أسماء العتاد العسكري، ممّا يجعل تلك النصوص وثائق تاريخية يمكن أن تساهم في إعطاء نوع من التاريخية (Historicité) على الأحداث المرصودة،
قائمة المصادر والمراجع:
- نصوص أغاني الصف (جمع ميداني من أفواه نساء منطقة أولاد نهار بتلمسان قام به الباحث).
- الجيلاني بن عبد الحكم، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدنا يحي بن صفية، دط، تلمسان، مطبعة ابن خلدون، 1364ه.
- قيداري قويدر، بستان الأزهار في سيرة سيدي يحي بن صفية ومسيرة أولاد نهار، دراسة تاريخية وأنثروبولوجية، دار الغرب الجزائري، وهران، 2009.
- رضا الكشو، الشعر الشعبي، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد السادس، السنة الحادية عشر، 1980.
- شاكر البرمكي، الأهزوجة العراقية، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد الخامس، السنة التاسعة،1978.
- عبد المالك مرتاض، العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981.
- محمد بن يوسف الزياني، دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، تقديم وتعليق: المهدي البوعبدلي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1978.
- مفلاح محمد، أعلام من منطقة غليزان، أعلام التصوف، شعراء الملحون، دار المعرفة، الجزائر، دط، 2008.
- قصيدة عبد القادر الوهراني “دخول الفرنسيس” مجلة آمال (عدد خاص بالشعر الملحون) العدد4، نوفمبر/ديسمبر1969، إصدارات وزارة الثقافة والاتصال.
- اسماعيلي مولاي عبد الحميد العلوي، تاريخ وجدة وأنقاد في دوحة الأمجاد، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1985.
11 -Capitaine Noel, « Document Historique sur les tribus de l’annexe d’El aricha », B.S.G.O (Bulletin trimestriel de la société de la géographie et d’archéologie d’Oran), fondée en 1878, imprimerie L Fouque –Oran , Sep/Dec 1917.
12- A.Pellegriun « Essai sur les noms de lieu d’Algérie et de Tunisie »
Etymologie signification édition SAPI, Tunis 1949.
[1]ينظر: – الجيلاني بن عبد الحكم،، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدنا يحي بن صفية، دط، تلمسان، مطبعة ابن خلدون، 1364ه.
قيداري قويدر، بستان الأزهار في سيرة سيدي يحي بن صفية ومسيرة أولاد نهار، دراسة تاريخية وأنثروبولوجية، دار الغرب الجزائري، وهران، دط، 2009.
[2]Capitaine Noel, « Document Historique sur les tribus de l’annexe d’El aricha », B.S.G.O (Bulletin trimestriel de la société de la géographie et d’archéologie d’Oran), fondée en 1878, imprimerie L Fouque –Oran , Sep/Dec 1917, p :237.
[3]A.Pellegriun « Essai sur les noms de lieu d’Algérie et de Tunisie » Etymologie signification édition SAPI, Tunis 1949, p :100-1006.
[4] IBID, p :85
[5] IBID, p :82
[6] IBID, p :61
[7] اسماعيلي مولاي عبد الحميد العلوي ، تاريخ وجدة وأنقاد في دوحة الأمجاد ، ج1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1985، ص:19.
[8]Capitaine Noel-Document historique sur… (B.S.G.O), Mars/Juin, 1918, p 11-461.
[9]Ibid, p 461.
[10] رضا الكشو، الشعر الشعبي، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد السادس، السنة الحادية عشر، 1980، ص: 106.
[11]شاكر البرمكي، الأهزوجة العراقية، مجلة التراث الشعبي، دار الجاحظ، بغداد، العدد الخامس، السنة التاسعة،1978، ص: 38، 39.
[12]بموازاة أغنية الصف، توجد أهازيج نسوية أخرى، يطلق عليها في الثقافة الشعبية للمنطقة اسم (التَّبْرَاشْ)، تغيب فيها الرقصة، وتكون مناسبتها غالبا ذكرى المولد النبوي الشريف، أو أثناء هدهدة الأطفال او ترقيصهم وتنويمهم.
[13] الجيلاني بن عبد الحكم، المرآة الجلية، ص: 42.
[14]قيداري قويدر، بستان الأزهار في سيرة سيدي يحي بن صفية ومسيرة أولاد نهار، دراسة تاريخية وأنثروبولوجية، ص: 131.
[15] عبد المالك مرتاض، العامية الجزائرية وصلتها بالفصحى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، 1981، ص: 93.
[16]الشجاع المقدام والمقبل على الزحف، غير المتردد.
[17]توفي الشهيد البطل علي بوسدرة في العاشر من شهر مارس 1956 بنواحي منطقة سيدي يحي، بلدية سيدي الجيلالي.
[18]أكوام الحطب، كناية عن الأخشاب المسنّدة، وهو تشبيه لجثامين الشهداء الطاهرة التي سقطت في ساحة الوغى بالخشب المسنّدة.
[19]عمار بلحسن كاتب ومؤرخ وروائي وعالم اجتماع جزائري ولد يوم 13 فيفري 1953 في منطقة مسيردة بتلمسان، توفي يوم 29 أوت 1993 بعد مرض عضال، ترك الكاتب مجموعة من الدراسات والمجموعات القصصية، منها: “حرائق البحر” “أصوات” و”فوانيس”، كما كانت له بحوث في الثقافة الجزائرية، من ضمنها “الأدب والأديولوجيا” و”أنتلجنسيا أم مثقفون في الجزائر؟” و”يوميات الوجع” ولعل قصة الشهيد علي بوسدرة تناهت إلى أسماعه انطلاقا من أغاني الصف التي خلدت اسم الشهيد وسافر صداها خارج حدود المنطقة.
[20] إحدى بلديات ولاية تلمسان، وهي إحدى المناطق التي تتوزع فيها منطقة أولادنهار.
[21]عمار بلحسن، الأصوات – نماذج من القصة الجزائرية المعاصرة- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، دط، دت، ص: 7-8.
[22]حَرْكُوا لَقْرَاسْ: إشارة تعني الضغط على الزناد وإطلاق النار.
[23]عرفت هذه الأحداث بثورة درقاوة في الجزائر (مع بداية القرن19م) وقد غطت مناطق واسعة وهددت الوجود العثماني فيها بقوة، وقد جند لها العثمانيون قوتهم ولا سيما بعد أن أدركوا غايتها السياسية البعيدة، ودارت معارك كثيرة، منها المعركة التي وقعت بين الباي محمد المقلش وطلبة ابن الشريف في المكان المعروف بفرطاسة (قرب معسكر)، أدت إلى انهزام جيش الباي.
[24]محمد بن يوسف الزياني، دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، تقديم وتعليق: المهدي البوعبدلي، ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر، دط، 1978،ص: 4.
[25]المصدر نفسه، ص:4.
[26]الجيلاني بن عبد الحكم،، المرآة الجلية في ضبط ما تفرق من أولاد سيدنا يحي بن صفية، دط، تلمسان، مطبعة ابن خلدون، 1364ه، ص: 274.
[27]محمد بن يوسف الزياني، دليل الحيران وأنيس السهران في أخبار مدينة وهران، ص: 10-11.
[28]مفلاح محمد، أعلام من منطقة غليزان، أعلام التصوف، شعراء الملحون، ، دار المعرفة، الجزائر، دط، 2008، ص:33.
[29]قصيدة عبد القادر الوهراني “دخول الفرنسيس” مجلة آمال (عدد خاص بالشعر الملحون) العدد4، نوفمبر/ديسمبر1969، إصدارات وزارة الثقافة والاتصال، ص:74.
[30]كلمة تعني في لسان المنطقة: جماعتك.
[31]كلمة تعنيفي معجم المنطقة الشخص الوافد أو الزائر.