
دراسة تحليلية لظاهرة السلطة من منظور سوسيو– سياسي–
Analytical study of the phenomenon of power From a Socio-political-
د. صونية حداد/جامعة باتنة 1، الجزائر ط.د.مريم عشي/جامعة تبسة، الجزائر
Dr. Sonia haddad/University of batna 1 PhD student Meriam achi/University of tebessa
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 61 الصفحة 131.
ملخص :
يحتل موضوع السلطة مكانة هامة في الفكر الإنساني و في واقع الحياة الاجتماعية ، فقد تسيرنا سلطة ما نجهل تصنيفها وكنهها و لا نعرف أبعادها وأهدافها، حيث ستناول من خلال هذه الدراسة تحليل ظاهرة السلطة بناء على المفاهيم المتعددة لها، لإدراك معالمها ومن ثم الكشف عن توجهات النظم السياسية وغير السياسية، و التي تلعب فيها آلية التشريع دورا كبيرا في عملية التحول المجتمعي والتطلع الديمقراطي، وسنلقي الضوء على أهم ما جاء في مفهوم السلطة.
الكلمات المفتاحية : السلطة ، السلطة السياسية ، النظم السياسية، سوسيو-سياسي.
Abstract
The power issue is an important place in human thought and in the reality of social life. We may go to the power of what we do not know, and we do not know its dimensions and objectives. This study will analyze the phenomenon of power based on its multiple concepts, Political and non-political, in which the mechanism of legislation plays a major role in the process of social transformation and democratic aspiration, and we will highlight the most important thing in the concept of power.
Keywords: power, political power, political systems, socio-political.
مقدمة :
تعد السلطة من المفاهيم الكلاسيكية المتداولة بشدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة، وفي العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي على وجه التحديد، باعتبارهما التخصصان اللذان يعالجان المفهوم من وجهة نظر سوسيو –سياسية، وقد أسال مفهوم السلطة الكثير من الحبر لدى المفكرين الأوائل و المحدثين باعتباره ظاهرة عامة و دائمة لازمت كل المجتمعات عبر كل الحقب التاريخية، ولم تقتصر السلطة على الدولة أو على تنظيم سياسي معين فقط، و إنما توجد في جميع التنظيمات الاجتماعية الفرعية في المجتمع والتي قد لا تتعلق بالسياسة ، فقد تكون سلطة أب أو رب أسرة أو سلطة شيخ قبيلة أو مدير مؤسسة أو رئيس دولة، فهي ظاهرة عامة تتخلل كل نواحي الحياة الاجتماعية إلا أنها غالبا ما تقترن بمفهوم السلطة السياسية وتتداخل معها ، فقد شغلت السلطة الإنسان قديما وحديثا، فكرا وممارسة فهي تعبير ضروري عن حاجة الإنسان للسيطرة، باعتباره كائن اجتماعي بطبعه، فالسلطة قيمة عليا ترتبط بالطبيعة البشرية وهي سابقة في وجودها عن الدولة، وتحليل السلطة يقتضي بيان ماهيتها ، ولا يعد ذلك بالأمر الهين نظرا لتعدد المداخل والأيديولوجيات التي تناولت مفهوم السلطة من زواياه المتعددة والمتشعبة والمتطورة عبر الزمن، حيث ترتبط بشكل الحكم في الدول حينا وبطرق ووسائل ممارستها أحيانا أخرى وصولا إلى مفاهيمها الحديثة، باعتباره مفهوم هلامي يتخلل كل حنايا المجتمع وفي كل وقت وحين، فهي سلطة رمزية حينا ومادية أحيانا أخرى .
والسؤال القديم المتجدد والذي طرحه المفكرون قديما ونعيد طرحه لأنه على درجة من كبيرة من الإلحاح والتعقيد لما له من علاقة بمختلف مناح الفكر الإنساني ، فما هي السلطة؟ وما هي مظاهرها؟ وكيف تمارس؟.
إن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات تبرز معضلة دراسة ظاهرة السلطة بسبب صعوبة حصر مفهومها، فإن تمكن المفكرون من دراسة مظاهرها وتكوينها وأسسها، لكن النفاذ إلى جوهر السلطة وبيان ماهيتها لم يكن بالأمر الهين وهذا ما نحاول تبيانه في ورقتنا البحثية هذه وذلك من خلال التطرق للعناصر التالية:
أولا : دراسة سوسيو – تاريخية لظاهرة السلطة:
إنه لمن التيه الفكري محاولة حصر وتحديد تاريخ محدد لنشوء السلطة، لأنها ظاهرة متطورة وتتفاعل مع العديد من العوامل، فحتى وإن كانت صفة لصيقة بالإنسان إلا أنها لا تكتمل بمعزل عن بقية الظواهر فهي تتبلور في مجرى من العلاقات المتبادلة مع الظواهر الأخرى، فقد كان الإنسان القديم قريبا من مملكة الحيوان في معاشه ومسكنه وكذلك علاقة الرجل بالمرأة في هذه المرحلة كانت على شاكلة الحيوان وعلى أساس بهيمي محض[1]، كما أن مفهوم الأخلاق لم يتبلور بعد، فأول مفهوم أخلاقي أسري ظهر عند الإنسان هو مفهوم الأم والتي كانت ترعى أبناءها بدافع الغريزة التي أوجدها الله فيها لاستمرار النوع ، فكانت الأسرة الأموية هي النواة الأولى في المجتمع[2]، وكان للأم مطلق السلطة في إدارة الأسرة في غياب الأب الذي كان يذهب للصيد ثم و في مرحلة لاحقة تحولت السلطة للأب خاصة في مرحلة ملكية الأراضي وتوجه الإنسان للنشاط الزراعي، أين أقتصر دور الأم على تربية الأبناء، وهو ما يعرف بالمجتمع التقليدي، فالأبوية هي خاصية أساسية لهذا المجتمع، كما يشير النظام الأبوي إلى طبيعة توزيع السلطة داخل الأسرة، والأساس في هذا النظام هو هيمنة الرجل على المرأة و الكبار على الصغار ، فممارسة السلطة توزع على محورين رئيسين هما، الجنس والسن.
كما يعتمد هذا البناء على نظام القرابة وهو يرتبط جذريا بالعائلة الممتدة أبويا ذات ” العاهل” كما يرتبط بنمط الإنتاج التقليدي، وبعد ذلك تداخلت العديد من العوامل محدثة نوع من التغيير في النظام الأبوي منها:
1- ظهور المؤسسات : فانتزعت الكثير من وظائف السلطة الأبوية مثل المؤسسات العقابية والأمنية والدينية والتعليمية .
2- ظهور الأسرة النووية: نتيجة التفكك العائلي والانقسام في الأسرة الكبيرة الممتدة إلى أسرة صغيرة تقتصر على الزوج والزوجة والأبناء.
3- خروج المرأة للعمل : وتحقيق الاستقلال المادي الذي أدى إلى الاستقلال في اتخاذ القرار وبالتالي تراجع السلطة البطريركية.
4– الحركات النسوية : والضغط الناتج عن المطالبة بالمساواة والحرية مما أدى إلى استبعاد هيمنة الرجل .
إن طبيعة البنية الاجتماعية لها انعكاس كبير على توزيع السلطة داخل الأسرة والمجتمع،[3] ولقد مرت المجتمعات بمجموعة من التغيرات والتحولات التي أدت إلى انتقالها من المرحلة التقليدية إلى مرحلة الحديثة بحكم الظروف وواقع الأفراد والجماعات والبنية الثقافية العامة السائدة، خاصة الثقافة التقليدية والتي نميز فيها بين بعدين رئيسين:
– البعد الأول: الثقافة التقليدية باعتبارها نسق متكامل يحوي نوع من التوافق المتبادل بين العناصر المختلفة و عدم وجود أي صراع، مشكلة بذلك وحدة متكاملة من المعتقدات والأفكار والأفعال .
– البعد الثاني : الثقافة كنظام أتسم بطابع المنهج الأخلاقي في إطار ممارسة السلطة والضبط الاجتماعي، فأفرزت العوامل الثقافية التقليدية تداعيات على علاقة القرابة التي تعتبر الركيزة الأساسية في العلاقات الاجتماعية والتي تتميز بالتراتبية بين الكبار والصغار من جهة والذكور والإناث من جهة أخرى أين يتم التركيز على المصلحة العامة الجماعية باعتبارها أرقى من المصلحة الفردية مما شكل الركيزة الأيديولوجية في ممارسة السلطة في المجتمع[4]، كما أن السلطة لها علاقة وثيقة بالزمن فهي تمارس في إطار بنيته كما نشأت بشكل تلقائي نتيجة هذا التراكم الزمني، فمعنى ومفهوم ومضمون السلطة يتغير بتغير الحالات التاريخية والسياسية المصاحبة لها والخاصية الزمنية للسلطة هي خاصية تكوينية تشكل بعدا ثابتا للروابط الاجتماعية والتي تكون ضمن فضاء عام وحيز مكاني يمثل مجال ممارسة السلطة[5] ونرجع هنا لتساؤلنا الرئيسي ، فما هي السلطة؟
– ثانيا: مفهوم السلطة:
طرحت المفكرة “مريام ريفولت” في كتابها سلطان البدايات وهو بحث في السلطة ، فكرة قد سبق أن أثارت جدلا فلسفيا حول مدى وجود السلطة فعلا أم أن الأدوار الاجتماعية هي من تحدد المكانة وصاحب القوة ، فهل البحث في مفهوم السلطة قد عف عليه الزمن لأنه لا وجود له أم أن السلطة أمر لا يمكن تجنبه أم أننا نعيش أزمة مفهوم للسلطة بين طرح قانوني وتفكير فلسفي وآخر سياسي وأطروحات اجتماعية….؟
إن التصورات الخيالية للسلطة وإضفاء طابع أيديولوجي عليها هو ما أدى إلى صعوبة بيان المفهوم كما أن إشكالية تعريف السلطة تنبع من تعدد المصطلحات المستعملة والخلط المترتب على استخدامها من: قوة، نفوذ، حكم، سلطان، فهي كلها تدور في فلك تعريف السلطة .
وبالانطلاق من الواقع الاجتماعي المتمثل في انتمائنا للجماعة يترتب عليه إقرارنا بوجود السلطة فقد يشعر الفرد وهو في حالة انتمائه للجماعة أنه مكره حينا على الانصياع لأوامر معينة وأحيانا أخرى يشعر أنه مشارك ومؤمن بقيم وأهداف الجماعة، فقد انطلق الفلاسفة الأوائل في رؤيتهم للسلطة من كونها جوهر يفهم كطبيعة مجردة في حد ذاتها فأرسطو تحدث عن السلطة كمسلمة طبيعية في إطار المدينة، فالانتماء إلى سلطة المدينة أو المعيارية هي المعنى الحقيقي لحياة الإنسان وهي التفسير الأمثل لكونه حيوانا سياسيا[6]، وفي المقابل هناك تصور آخر فردي للسلطة بوصفها القدرة والتعود الذي يمتلكه الفرد، والتي تجعل الجماعة تتقبلها وتنصاع لها طواعية بسبب ارتباطها بمصالحهم، كما أنها تسقط فكرة المساواة من الحسبان فتصور السلطة بوصفها قدرة يوحي بعلاقات غير متكافئة بين الأفراد مما يقرب مفهوم السلطة من التسلط والذي تنعكس صورته في مصلحة الأقوى، فالتسلط هو انتحال للحق في الأمر دون تبرير وهو تجاوز لنطاق الحق، والسلطة بذلك معنى ديناميكي ومصطلح مراوغ فكما أشار “ألفن توفلر” في كتابه تحول السلطة، إلى ما حدث من تغيير في طبيعة السلطة فيقول : “ثمة دافع قوي للاعتقاد بأن القوى التي تهز السلطة الآن على كل مستوى من مستويات النظام الإنساني سوف تصبح أشد ضراوة وأكثر تأثير في السنوات المقبلة فالعملية الكبرى لإعادة هيكلة علاقات السلطة تؤدي -كما يحدث عند تحريك الطبقات الأرضية وتطاحنها قبل الزلزال- إلى واحدة من أبرز الوقائع في تاريخ الإنسان، وهي حدوث ثورة في طبيعة السلطة نفسها فتحول السلطة لا يعني مجرد نقلها بل أيضا تغير طبيعتها”[7].
ومفهوم السلطة يختلف من مجتمع لآخر، ومن تقاليد سياسية واجتماعية لأخرى كما أنه مفهوم مركب من عناصر مادية ومعنوية مختلفة، وحديثنا عن السلطة عموما لا يمكن فصله بحدود ظاهرة وقطعية عن السلطة السياسية، فهي صورة محتواة ضمنيا وآليا في مفهوم السلطة عموما فالتمييز داخل عموما بين مفهوم السلطة العامة الاجتماعية والسلطة السياسية هو في حقيقته تمييز لوظائف السلطة، ولا يطال ذلك المفهوم وهي نفس الفكرة التي طرحها “موريس دوفرجيه” في كتابه علم الاجتماع السياسي، وفي هذا الصدد تنقسم مفاهيم السلطة السياسية إلى فئتين كبيرتين :
– تتجه الأولى إلى تعريف السمة السياسية لسلطة ما، من خلال نموذج الجماعة التي تمارس فيها ، فتكون سياسية تلك السلطة التي تمارس في المجتمع الكلي بمواجهة السلطات في المجتمعات الخاصة .
– أما الفئة الثانية فتنصب على الدولة أو الأمة باعتبارها مركز للسلطة السياسية أين يتم التركيز على خاصية السلطة الممارسة[8]، وتبعا لما تقدم نورد فيما يلي أهم التعريفات للسلطة:
– عرفها “والتر بكلي” أنها التوجيه والرقابة على سلوك الآخرين لتحقيق غايات جمعية، تعتمد على نوع من أنواع الاتفاق والتفاهم وتتضمن الامتثال الطوعي وهو التطابق في التوجه نحو نفس الهدف للطرفين، كما عرفها “بيردروف” أنها قوة في خدمة فكرة يولدها الوعي الاجتماعي وتتجه هذه القوة نحو قيادة الجموع للبحث عن الصالح العام، كما عرفها أحمد زكي بدوي بأنها التصرف و إصدار الأوامر في مجتمع معين و يرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع، كما تعرف السلطة أنها القدرة أو القوة التي تمكن من السيطرة على الناس والضغط عليهم ورقابتهم للحصول على طاعتهم[9].
ولقد ساد الفكر الغربي تصوران للسلطة:
– التصور الأول: ويتضمن فكرة السلطة بوصفها ظاهرة كمية صرفة لا تزيد عن كونها نوع من أنواع القدرة على الفعل .
– التصور الثاني: وينصب على القدرة على الفعل بالإضافة إلى الحق فيه و قبوله ممن تمارس عليهم.
ونتناول هذان التصوران بشيء من التفصيل:
1-السلطة بوصفها ظاهرة كمية : وتقوم على القدرة الصرفة، ويمكن تبرير السلطة الاجتماعية والسياسية باعتبارها مماثلة للقوة الكهربائية أو قوة المحرك، أي أنها قدرة كمية يمكن إعمالها في مختلف الأغراض، حيث يستخدم الناس السلطة في تعاملاتهم مع الأشياء أو مع بعضهم البعض، ومن هذا المنطلق عرف فيبر السلطة أنها قدرة شخص أو مجموعة من الأشخاص على تحقيق إرادتهم حتى ولو كان ضد مقاومة الآخرين الذين يشاركون في الفعل، كما قدم “ليوكس” في كتابه ” السلطة رؤية راديكالية” أنه بالرغم من الرفض التام الذي يبديه عدد من الباحثين المختلفين في قيمهم الاجتماعية لتصور السلطة ، فإن الرؤى البديلة للسلطة و التي تنتج عن هذه القيم يمكن اختزالها في المعنى الأساسي والذي يرى السلطة بمعنى القدرة الكمية[10]، كما قدم “مان” في كتابه مصادر السلطة الاجتماعية مفهوما واسعا للسلطة يشمل التاريخ البشري بأسره وعرف “مان” السلطة أنها القدرة على متابعة الأهداف وتحقيقها ويرى أن السلطة الاجتماعية تجمع جانبين متداخلين هما :
– سلطة البعض على البعض الآخر.
– سلطة الفعل الجمعي، إذ الأفراد من خلال تعاونهم تعزيز سلطتهم المشتركة على أطراف أخرى.
فالسلطة الاجتماعية مسألة هيمنة من ناحية، و تنظيم جمعي من ناحية أخرى[11].
2- السلطة بوصفها قدرة شرعية: عرف “هوبز” السلطة تعريفا تقليديا: أنها ما يملكه المرء من وسائل لنيل بعض النفع الظاهر، ويأخذ في وصف سلطة الحاكم على أنها مجموع سلطات عدد من الأشخاص فيمكن الجمع بين العديد من السلطات لتكوين سلطة عليا وهي سلطة العاهل باعتبارها قدرة كمية صرفة تجمع سلطة كل الرعايا[12]، كما عرفها “بارسونز” أنها القدرة التعميمية لضمان أداء الواجبات الملزمة عن طريق وحدات في نظام فعل جمعي حين يتم تشريع الواجبات بالرجوع إلى علاقتها بالأهداف الجمعية بحيث يكون هناك تسليم بتوقيع عقوبات تجاه أي موقف سلبي في حالة الامتناع[13].
ومن الاتجاهات الفكرية في دراسة السلطة ما ترى أنها علاقة سيطرة وخضوع، فقد عرفها “برتراند راسل“: أن السلطة بكل بساطة تعني إنتاج أثار مرجوة ، ويعرفها “روبرت دال“: أنها الطاقة التي يستعملها أي شخص للحصول على شيء من شخص آخر لم يكن ليقدمه له لولا ذلك التدخل ، كما عرفها كل من” لازوال و كابلان” أن السلطة عبارة عن شكل من ممارسة التأثير من خلا ل إجراءات تهدف لتأثير في البرامج السياسية عن طريق اتخاذ عقوبات قاسية حقيقية أو افتراضية تجاه البرامج السياسية المختلفة[14].
ويرى “ماكس فيبر” أن السلطة هي احتمالية أن قيادة ما تطاع من قبل مجموعة محددة، فالسيطرة هي وسيلة وغاية السلطة السياسية في آن واحد[15]، فالسيطرة هي ميزة السلطة السياسية عند”فيبر” والتي تخولها ممارسة القهر والإلزام في إطار مشروع، ذلك أن السلطة السياسية ليست حالة عرضية وإنما علاقة اجتماعية قوية تتميز بالمشروعية وإيمان أفراد المجتمع بواجب طاعتها.
ويعرفها محمد عاطف غيث أنها قوة نظامية وشرعية في مجتمع معين مرتبط بنسق المكانة الاجتماعية وموافق عليها من جميع أعضاء المجتمع[16]، كما عرفتها ” حنة أرنديت” في كتابها ” في العنف” أنها قدرة الإنسان ليس فقط على الفعل بل على الفعل المتناسق فالسلطة لا تكون أبدا خاصة فردية بل تعود للجماعة وتظل موجودة طالما ظلت المجموعة[17].
لقد شددت أرنديت في محاولتها تعريف السلطة على تنوع حقوق ممارستها من حقوق سياسية وتربوية وعائلية، كما تنطوي السلطة عند “أرنديت” على علاقة تفاوت مميزة فهي لا تقوم على المساواة ولا على التراتبية كما تنفي علاقتها بالقوة أو العنف[18].
فالسلطة هي الوظيفة الاجتماعية القائمة على اتخاذ القرارات والتي تؤدي إلى تحقيق أهداف الجماعة ويرى “بيار بورديو” لابد لأي مجتمع يريد الاستمرار أن تكون له قوة دافعة تجعل له كيانا مرهوبا وتلك هي السلطة، كما يقول ” محمد طه بدوي” أن المجتمع من غير سلطة لا يستطيع الاستمرار فالسلطة تظهر في جميع الروابط ولا يمكن حصرها في ما هو سياسي فقط فهي تكمن في يد كل من تتاح له الظروف أن يمارسها سواء كان رب أسرة أو شيخ قبيلة أو مدير مؤسسة أو رئيس دولة[19].
إن السلطة السياسية هي نوع من السلطة الاجتماعية والتي تختص بها صنف من التجمعات البشرية والتي نطلق عليها المجتمعات المدنية، وهي أرفع السلطات الاجتماعية فهي لا تسمح في العادة أن توجد في داخلها تنظيمات غير تابعة لها وغير مؤتمرة بأمرها على نحو مباشر، كما أن أجهزة الثواب والعقاب هي التي تحتكرها السلطة وحدها، فالسلطة السياسية هي التي تدير المجتمع المدني وتعمل على تنظيم العلاقات بين الجماعات العديدة التي تؤلفه، فالسلطة السياسية من ناحية هي سلطة اجتماعية لأن السياسة هي جانب من جوانب المجتمع ولا تقوم بشكل منعزل عنه ومن جهة أخرى هي سلطة سيدة تعلو وتقوم على الطواعية والاعتراف بدورها[20].
– ثالثا: السلطة عند ماكس فيبر
تعد إسهامات “ماكس فيبر” في السلطة من أهم ما كتب وهو ما يستدعي الوقوف عنده فقد تميز “فيبر” في منهجه السوسيولوجي وتفرد في مزج البحث الاجتماعي بالسياسة، فوظف مفاهيم علم الاجتماع في دراسته، فقدم النموذج المثالي للبيروقراطية ولأنواع السلطات، والسلطة كواقعة سياسية سبق أن تناولها قبله “إميل دور كايم” والذي قدمها من منظور الضبط الاجتماعي، فهي ضرورية ولا بد منها لتحقيق التوازن الاجتماعي وهي جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي، ويعتبر أن النظام هو السلطة في ممارستها[21]، و عرف فيبر السلطة أنها نوع من القيادة التي تعمل لإيجاد طاعة أو ائتمار عند أشخاص معينين[22]، وهي كذلك ضرورة إلزامية في التنسيق بين فئتين بمعنى أن هناك مصدرا للأوامر ويفرضها على مجموعة من الأفراد[23]، وقسم فيبر السلطة بناءا على السلوك الاجتماعي إلى الأنواع التالية :
1- السلطة العقلانية القانونية: وتستمد شرعيتها من القانون والعقل وتقوم على الطاعة والخضوع والاعتقاد العقلاني الرشيد وتمارس وفق مجموعة من القواعد والقوانين المعيارية المحددة[24].
2– السلطة الكاريزمية: و يقصد بالكاريزما الصفات والخصائص الخارقة التي يملكها شخص معين والتي تمنحه هالة من القدسية فيستمد سلطته من اعتقاد الناس وإيمانهم بصفاته الخارقة[25]، و هي سلطة غير مستقرة بسبب بعدها عن مؤسسات المجتمع فهي فقط تدور في شخص القائد الملهم وهذا النوع من السلطة يقوم على الإيحاء فهو لاعقلاني وأساسها انفعالي يقوم على الثقة العمياء المتعصبة.
3– السلطة التقليدية : وتقوم على قوة التقاليد وتقديسها وقد سادت في الماضي عندما أعتقد الناس أن الله هو مصدر السلطة ثم تطورت هذه الفكرة لتقتصر على العائلة فهي مبنية على نوع من الاعتقاد بقدسية التقاليد مثل السلطة الأبوية في بعض المجتمعات أو سلطة رئيس القبيلة والعشيرة وهي تسود المجتمعات التقليدية[26].
– السلطة البيروقراطية: ارتأينا إدراج هذا النوع ضمن أنواع السلطات عند “ماكس فيبر” رغم أن فيبر ركز في تقسيم السلطات على الأنواع الثلاث السابقة وتكلم عن النموذج المثالي للبيروقراطية بصفة مستقلة عند دراسته للتنظيمات وهذا فاعتقادنا أنها نموذج حديث من السلطة ، و يقصد بالبيروقراطية سيطرة الإدارة في المجالات المختلفة للتنظيم الاجتماعي والقائم على التدرج التصاعدي ، واعتمد فيبر في تحليله على عمل الأجهزة الوظيفية الرسمية للدولة والتي تقوم على اللوائح والقوانين والأساس العقلاني ويرى أن البيروقراطية هي التدرجية التي تحل محل السلطان الملهم أو السلطان التقليدي ، وعند وضع أسس البيروقراطية بحث فيبر في كيفية تركيز السلطة الملازمة للمنصب باعتبارها متخصصة وفنية وهو المفهوم المعاصر للسلطة السياسية[27].
إذا “فيبر” في دراسته للسلطة ربطها بالقيم الأخلاقية التي تؤسس عليها وذلك من منظور واقعي بعيد عن التجرد العقلاني وبعيد عن الخيال ، فأراد أن يطبق في تحليلاته تصنيف عام للنشاطات الإنسانية فقدمها تحت ثلاثة أشكال:
1- التصرف العقلاني بناءا على الغاية والقصد : فالفاعل لا يقوم بنشاطه إلا بعد رؤية وتفكير وهو ما أطلق عليه “باريتو” تسمية التصرف المنطقي، فتتناسب الوسائل المستعملة مع الغاية التي يريد الوصول إليها وتحقيقها.
2- التصرف العقلاني بناءا على القيمة: والتصرف هنا لا يخضع لهدف ضمني بل الفاعل يقوم به من أجل بلوغ قيمة معينه، قد تكون جمالية أو أخلاقية أو دينية، والعقلانية تظهر في أن نشاط الفرد وفعله يكون موافق للقيمة التي يريد الحصول عليها.
3- التصرف العاطفي: يغيب هنا التفكير والعقل والفاعل يقوم بنشاطه دون مناقشة وحساب ويتمثل ذلك في الطاعة العمياء للأوامر تبعا للعادات والتقاليد[28].
ومن خلال التعاريف المقدمة آنفا لمفهوم السلطة يمكن أن نستخلص أهم مقومات السلطة في الآتي:
4-مقومات السلطة:
ومن أهم مقومات السلطة ما يلي:
أ- طرفي السلطة: لقيام السلطة لابد من آمر ومأمور بما أنها علاقة أمرية فلا يتصور قيامها على طرف واحد فقط فهي علاقة متعدية تحتاج للآخر.
ب- وجود إطار مؤسساتي : فلا نتصور بناء السلطة دون مؤسسات و قواعد و أنظمة رسمية تتضمن كل ما من شأنه تنظيم العلاقة بين الحاكم و المحكوم و بقدر ما يكون الإطار المؤسساتي قويا بقدر ما تكون السلطة قوية .
ج- الشرعية : والقبول وهي من المقومات الأساسية لبناء السلطة واستمرارها باعتبارها علاقة مقبولة من قبل أفراد المجتمع فتحدد الشرعية دور ومكانة كل من طرفي العلاقة السلطوية وإمكانية استمرارها كعلاقة مجتمعية فهي الضامن الأساسي للسلطة، فالسلطة التي لا تستطيع خلق شرعيتها مصيرها الانهيار[29].
د- القوة: و هي فرض الإرادة والتي تتم ممارستها بأسلوبين:
أ- تستخدم باعتراف عام كضرورة وحق اكتسبته السلطة من المرجعيات والضوابط التي يقرها المجتمع.
ب- تستخدم القوة للسيطرة على الآخرين من دون موافقة اجتماعية أو سند أو مبرر اجتماعي، كما في حالة اغتصاب السلطة عن طريق التزوير أو الانقلاب فتصير سلطة غير شرعية[30]، كما تتعدد وسائل فرض هذه القوة من وسائل فيزيقية وأخرى مادية وأيضا وسائل رمزية:
– الوسائل الفيزيقية : وتعتمد على القهر والتهديد وتطبيق الجزاءات .
– الوسائل المادية : وهي تعويضية مثل المكافأة والمزايا المادية والخدمية.
– الوسائل الرمزية: وهي معيارية تتمثل في توزيع وتجريد الكفاءات الرمزية بطريقة تدل على المركز من خلال تجريد الاحترام والهيبة ومن خلال طقوس معينة وكذلك الاستجابة تكون مجردة ورمزية[31].
فكلها مقومات لابد من وجودها مجتمعة لبناء وقيام السلطة بصورتها النهائية.
إن تحليل السلطة يقوم على مقاربتين أساسيتين، وذلك يتيح فهم مختلف القوالب الاجتماعية التي تتخذها السلطة، حيث تلقي كل مقاربة الضوء على مجموع الآليات المعتمدة والمتكاملة فيما بينها، ولقد ركزت المقاربة السائدة في دراسة موضوع السلطة على دراسة نظرية الفعل الاجتماعي عند ” فيبر“، والمتمثلة في الممارسة الفعلية للسلطة من خلال عملية اتخاذ القرار، أما المقاربة الثانية فهي النظرية البنائية الوظيفية والتي ترتكز في تحليلها على الاعتبارات البنيوية والتي تؤكد على التكوين الثقافي للبنى المؤسساتية، والتي تطورت على ” تالكوت بارسونز“، فالسلطة هنا تعمل على تأسيس التمكين الجماعي والانضباط وتتجاوز مجرد البحث في تعريف السلطة إلى النفاذ إلى وظائفها في المجتمع.
خاتمة:
إن مفهوم السلطة هو ذلك المفهوم “الماص”و “الإسفنجي”، إن صح الوصف والتعبير، لأنه يستوعب الكثير من الإسهامات الفكرية، وهو مفهوم متطور عبر الزمن يحتمل التغير الدائم، باعتبار السلطة ظاهرة ديناميكية، وقد يكشف لنا المستقبل عن أوجه أخرى للسلطة تتحكم في معالمها، لم نعهدها أو لم ننتبه لها مثل سلطة المال، سلطة العلم ومعطيات أخرى مختلفة ومتنوعة تدفعنا لمزيد من البحث عن سبل الإمساك بزمام الأسباب الموصلة لبناء سلطة قوية تقوم على دعائم ثابتة ومواكبة لتطور البنى الاجتماعية، في إطار من التشاركية في تحديد الأهداف والغايات والعمل المتناغم، في ظل سلطة عليا مشروعة ومرتكزة على أسس رشيدة في سبيل الخير العام والتنمية المستدامة.
قائمة المراجع:
-1 إبراهيم أبو الغار، علم الاجتماع السياسي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط1.
-2 باري هندس، خطابات السلطة من “هوبز إلى فوكو“، ترجمة: ميرفت ياقوت، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005 ، ط1.
3- توماس هوبز، الليفيثان، الأصول الطبيعية و السياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب و بشرى صعب.
4 – حسن ملحم ، التحليل الاجتماعي للسلطة، منشورات دحلب ، الجزائر.
5– حنان علي عواضة، السلطة عند ماكس فيبر، مجلة الأستاذ، العدد206، المجلد الأول، 2013.
6- حنة آرنديت،” في العنف“، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، ط1، 1993، بيروت لبنان.
7- خالد حامد، المجتمع المدني والسلطة الشرعية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2018، ط1.
8- ذياب فوزية، القيم و العادات الاجتماعية، دار النهضة العربية، بيروت.
9- عبد الله عبد الرحمان، تطور الفكر السياسي.
10- فريدة أبو العز، ما هي السلطة؟، مجلة الفكر العربي، العدد: -24.
-11 محمد شحرور، الدولة و المجتمع، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق.
-12 محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، ط1 ،1991، دار المعرفة الجامعية، مصر.
-13 محمود حامد ممهور، علم الاجتماع السياسي، دار البداية ناشرون و موزعون، عمان، الأردن ط1، 2012.
-14 مزيان عبد المجيد، النظريات الاقتصادية عند أبن خلدون و أسسها من الفكر الإسلامي المجتمعي، المؤسسة الوطنية للكتاب مع ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر.
-15موريس دوفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة: سليم حداد، المؤسسات الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط1، 1991.
-16 مولود طبيب، أحكام السلطة السياسية، دار الخلدونية ، ط1، الجزائر، 2006.
-17 ميريام ريفولت دالون، سلطان البدايات، بحث في السلطة، ترجمة: سايد مطر، مراجعة:موريس أبو ناضر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، ط1،2012.
[1] – محمد شحرور، الدولة و المجتمع، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، ص:47 .
[2] – المرجع نفسه، ص48.
[3] – ذياب فوزية، القيم و العادات الاجتماعية، دار النهضة العربية، بيروت، ص:366.
[4] – مزيان عبد المجيد، النظريات الاقتصادية عند أبن خلدون و أسسها من الفكر الإسلامي المجتمعي، المؤسسة الوطنية للكتاب مع ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر، ص:264.
[5] – باري هندس، خطابات السلطة من “هوبز إلى فوكو“، ترجمة: ميرفت ياقوت، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005 ، ط1، ص:14.
[6] – باري هندس،مرجع سبق ذكره، ص ص: 16 ،17.
[7]– المرجع نفسه ، نفس الصفحة.
[8]– موريس دوفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة: سليم حداد، المؤسسات الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط1،1991، ص،ص: 133، 134 .
[9]– محمود حامد ممهور، علم الاجتماع السياسي، دار البداية ناشرون و موزعون، عمان، الأردن ط1، 2012، ص، ص: 99،100.
[10] – باري هندس ، مرجع سبق ذكره، ص:40.
[11] – المرجع نفسه، ص:44.
[12]– توماس هوبز، الليفيثان، الأصول الطبيعية و السياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حرب و بشرى صعب، ص:194.
[13] – باري هندس، مرجع سبق ذكره، ص:47.
[14] – حسن ملحم ، التحليل الاجتماعي للسلطة، منشورات دحلب ، الجزائر، ص ص:13 ،14.
[15] – المرجع نفسه، ص:23.
[16]– محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، ط1 ،1991، دار المعرفة الجامعية، مصر، ص:32.
[17] – حنة آرنديت،” في العنف“، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، ط1، 1993، بيروت لبنان، ص:40.
[18] – ميريام ريفولت دالون، سلطان البدايات، بحث في السلطة، ترجمة: سايد مطر، مراجعة:موريس أبو ناضر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت لبنان، ط1،2012، ص:51.
[19]– مولود طبيب، أحكام السلطة السياسية، دار الخلدونية ، ط1، الجزائر، 2006، ص:09.
[20]– المرجع نفسه، ص:13.
[21] – إبراهيم أبو الغار، علم الاجتماع السياسي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، ص:54.
[22] – عبد الله عبد الرحمان، تطور الفكر السياسي، ص:378.
[23] – فريدة أبو العز، ما هي السلطة؟، مجلة الفكر العربي، العدد:23-24، ص:32.
[24]– حنان علي عواضة، السلطة عند ماكس فيبر، مجلة الأستاذ، العدد206، المجلد الأول، 2013، ص:271.
[25]– المرجع نفسه ، ص ص:.272،273
[26] – المرجع نفسه ، ص:269.
[27] – حسن ملحم، مرجع سبق ذكره، ص،ص: 18،19.
[28] – المرجع نفسه ، ص:20.
[29] – محمود حامد ممهور، مرجع سبق ذكره، ص،ص:101،103.
[30] – خالد حامد، المجتمع المدني والسلطة الشرعية، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2018، ط1، ص: 32.
[31] – مولود طبيب، مرجع سبق ذكره، ص، ص: 11،12 .