
البناء الحضاري في الفكر الخلدوني
Civilizational Construction In Khqldounian School Of Thought
الباحثة عائشة خالدي/ جامعة تلمسان، الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 53 الصفحة 9.
ملخص :
يلخص ابن خلدون صاحب المقدمة حركة التاريخ عنده على إنها حركة انتقال، وعملية الانتقال هذه يترجمها صراع بين البدو والحضر، وهكذا فإن الصراع هذا يعد شيئا حتميا مادامت السمات المتناقضة قائمة في طبع الفئتين فتصبح الحضارة غاية للبداوة، أي إن التناقض بين الحضارة والبداوة في إطار الصراع ليس أمرا إراديا وطوعيا بل يأخذ شكل عملية حتمية تسحب الحضارة فيها البداوة لتدفن خصال هذه الأخيرة وصفاتها.
لقد استطاع ابن خلدون أن يقيم نظرية قائمة على أساس من الوحدة والترابط، قوامها العصبية الواحدة سواء عصبية الجنس أو عصبية القبيلة أو عصبية الدين.
الكلمات المفتاحية: ابن خلدون؛ الحضارة؛ الدورة الحضارية؛ العصبية؛ الفكر الحضاري
Abstract:
Ibnkhaldon, who is the writer of el moukadima, summarizes the movement of history as a permanent one from nomadism to the state of civilization, and this transition is translated by a conflict between the rural and the urban. Thus, the mentioned conflict is something inevitable as long as the contradictory features exist in the temper of both categories so that civilization will become nomadism. i.e. the contradiction between civilization and nomadism in the context is not voluntary but takes the form of an inevitable process where civilization draws the nomadism to bury its values and characteristic.
IbnKhaldun was able to establish a theory based on unity and interdependence, consisting of a single nerve, whether the sex, the tribe or the religion extremist.
Keywords: Ibnkhaldon; Civilization; Civilization cycle; Extremist; Intellect civilizational.
مقدمة:
إن سنة التداول الحضاري تمثل نقطة مهمة في فهم مسار الحضارة، حيث أكد عليها كثير من مفكري وفلاسفة التاريخ والحضارات وأفردوا لها فصولا لها، فهي قانون كوني سارية على كل موجداته، جارية على أفعال وحياة الإنسان سواء في حالته الفردية أو الجماعية، وقلما تنجو منه أمة من الأمم من جريانه.
وابن خلدون رجل عملي امتاز بالواقعية والبساطة والوضوح بآرائه وبأدواته الفكرية المعتمدة في تحليل ظواهر المجتمع ودارسة التاريخ، وأشار في مقدمته إلى أهمية العمران البشري،حيث بين ما يلحق به من عوامل التغيير والحوادث، مستعرضا دقائق وتفاصيل تتعلق بنشأة المجتمعات، وما يصاحب ذلك من ظواهر يرتبط بعضها ببعض بحيث تكون كل ظاهرة سببا لأخرى تالية لها بشكل لا يمكن معه فصل تلك الظواهر، أو دراستها كل على حدا، كما أسس ابن خلدون نظريته في عوامل قيام الدول وفنائها بفرض أن للأمم دورة حياتية تشبه حياة الإنسان في دورته، وتتعدد مراحلها من الميلاد والاستواء والقوة إلى الضعف والهرم والموت،فما مفهوم الدولة وما أطوارها في الفكر الخلدوني؟ وما علاقتها بهذا المفهوم الذي أورده ابن خلدون في مقدمته وأشار إليه بالعصبية؟
1-العصبية في المفهوم الخلدوني:بين الدلالة والإشارة
يرى ابن خلدون في تفسيره للتاريخ أن التطور سنة من سنن الله في الحياة الاجتماعية ويقول:«إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول»[1]وأهم ما يوجه التطور الاجتماعي والعمراني عند ابن خلدون هو نظريته في العصبية فهي بمثابة المحور الذي تدور حوله معظم المباحث الاجتماعية والتاريخية عنده، وهو يتخذ من هذه الرابطة موضوعا لدراسةٍ شاملةٍ وعميقةٍ فيتكلم عن مصدر العصبية، ويردّها إلى الطبيعة البشرية «لأن صلة الرحم طبيعة في البشر إلا في الأقل، ومن صفتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام إن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة»[2]ولقد تعددت الأقوال في تحديد رؤية ابن خلدون للعصبية وتعريفه لها عند الباحثين العرب والمسلمين من جهة والغربيين من جهة أخرى، الأمر الذي لا يتسع بحثه في هذا المقال. واستخدم صاحب «المقدمة» العصبية في سياقات مختلفة فهي «عصب وعصبة وعصابة، فهي تأتي بمعنى الإحاطة وبمعنى القرابة للذكور من طريق الأب. فالأب طرف والابن طرف، بينما العم جانب والأخ جانب، والعصبة هي الجمع ما بين العشرة إلى الأربعين والعصابة هي جماعة من الناس أو الخيل أو الطير، واليوم العصيب هو اليوم الشديد، وعصب الرجل بالقوم أي أحاطوا به لقتال أو حماية، وعصب الرجل بالنسب أي أحاطوا به»[3]وقد تناول مفهوم العصبية عند ابن خلدون كثير من العلماء والمؤرخين الذين اهتموا بفكره فهي حسب توينبي تعني «الجبلة النفسية التي تبنى عليها كل الأجهزة السياسية والاجتماعية، وعند لابيكا تعني”الحزب السياسي ” وذكرها محمد الجابري أنها “الجماعة المعنوية ” أما علي الوردي فقال أنها الرابطة الاجتماعية التي تربط أبناء القبيلة أو أية جماعة أخرى بعضهم ببعض وتجعلهم يتعاونون في السراء والضراء»[4]والعصبية عند ابن خلدون ليست مصطلحاً سكونياً ثابتاً، بل متغيرة ومتحولة متطورة أيضاً فتنتقل من وضوح النسب إلى اختلاطه وأخيراً تلاشيه« أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة وما فوق ذلك مستغنى عنه»[5] والمسؤولية الإنسانية المنبثقة من الخلافة هي التي تعطي للعصبية طابعها المعين في زمان معين ومكان معين، فإذا تحققت تلك المسؤولية عند المجموعة البشرية ساهمت العصبية في إقامة العمران، أما إذا غابت فإن دورها لا يصبح محايدا فقط ، بل إنها يمكن أن تتحول إلى عامل تدمير وتخريب العمران «يتنافسون في الرئاسة، وقلَّ أن يسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، وعلى كُرْهٍ من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض»[6]والعصبية أو العصبة التي يقصدها ابن خلدون لا تعني مطلق الجماعة وإنما الأفراد الذين تجمع بينهم رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الولاء بالإضافة إلى شرط الملازمة بينهم من أجل أن يتم التفاعل الاجتماعي« إنَّ العصبية عند ابن خلدون لا تشمل أبناء الأسرة الواحدة الذين تربطهم بعضهم بالبعض الآخر صلة الرحم فحسب ، بل هي تتسع لتشمل أهل الولاء والحلف ، وفي مواقع أخرى نجد ابن خلدون يضم الرق والمرتزقة، وهم من يُطلق عليهم اسم «المصطنعين إلى العصبية» ،أمَّا النسب فيعتبره أمر وهمي فائدته هو الترابط الذي يوحده ، وبهذا يكون معنى العصبية عند ابن خلدون مرادف لمفهوم العصبية، وبهذا لم يخرج عن المفهوم الإسلامي الذي نبذ العصبية القبلية»[7]، وتبقى مستمرة ومتفرعة بوجود هؤلاء الأفراد واستمرار تناسلهم ، فينشأ بين أفرادها شعور يؤدي إلى المحاماة والمدافعة وهم يتعصبون لبعضهم حينما يكون هناك داع للتعصب ، ويشعر الفرد بأنه جزء لا يتجزأ من أهل عصبته وفي هذه الحالة يفقد شخصيته الفردية بحيث تذوب في شخصية الجماعة ، وهو شعور جماعي مشترك لدى أفراد العصبة فهو ذو صبغة جمعية أساسية بين الفرد والمجموعة ، وليس بين فرد وآخر فقط ، وفي حال تعرض العصبة إلى عدوان فيظهر في هذه الحالة “الوعي” بالعصبية ، وهذا ” الوعي العصبي” هو الذي يشد أفراد العصبة إلى بعضهم وهو ما يسميه ابن خلدون ” بالعصبية ” التي تكون بها الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه«ليس من الضروري أن تكون العصبية مبنية على علاقة الدم وإن كانت الأساس، فكما تكون العصبية داخل القبيلة بين أفرادها مبنية على علاقة الدم للدفاع عن القبيلة ضد أي اعتداء خارجي، يمكن أن تكون العصبية نتيجة التفاعل الاجتماعي بين أفراد لا تربطهم علاقة الدم، وإنَّما علاقات ومصالح مشتركة مثل العمل في مهنة معينة أو السكن في منطقة معينة أو الميول نحو شيء معين»[8]والملاحظ عند ابن خلدون أن العصبية البالغة القوة عند القبائل المتوغلة في الصحراء كانت قاتلةً لكل انفتاح اجتماعي ممكن، بحيث أصبح أصحابها أبعد الناس عن العمران والحضارة، فالقضية هنا ليست قضية غياب العصبية، وإنما في عدم قدرتها على الإبصار. بمعنى أن الاجتماع البشري يصبح خاضعاً لها مُستلَباً أمامها، فاقداً للقدرة على وضعها في موضعها. وفي مثل هذه الحالة بالضبط تبرز بكل وضوح رؤية ابن خلدون لدور الدين من ناحية قدرته على توظيف “العصبية” وإعطائها قوة “الإبصار” بحيث تعود الحركة لتتوجه نحو تكامل العمران «أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق ، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم ، وهم مستميتون عليه ، وأهل الدولة التي هم طالبوها (أي الدولة التي يواجهونها) وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل ، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل ، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل»[9]والأمر الذي ينبغي الانتباه إليه أن الدين بهذه الرؤية إنما هو عاملٌ مؤثرٌ في العصبية وموجهٌ لها ، وليس أصلا لها كما يُفهم في بعض الأحوال.
كما يلاحظ نوعا من المشابهة بين تأثير الدين وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية، وهي نظرية موفقة إلى حدٍّ كبير في إظهار أوثق أنواع الروابط الاجتماعية ، وتعيين أهم أشكال التكاتف الاجتماعي في مثل تلك البيئات الجغرافية وتلك العهود التاريخية وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ ومحيط ومتعمق في درس الحوادث الاجتماعية وتعليل الوقائع التاريخية ، كذلك تكشف نظرية ابن خلدون في الدول وأعمارها عن نظرية في التطور الاجتماعي ، ذات أبعاد بيولوجية ، فالدولة عنده كائن حي يتطور على الدوام وفق نظام ثابت كما تتطور جميع الكائنات الحية.
2-أقسام العصبية:
إن العصبية عند ابن خلدون نوعان: خاصة وعامة، وفي مجتمع البادية تبرز عصبية المستوى الأول (الخاص)، وفي مجتمعات العمران أو الحضارة يبرز المستوى العام، فعصبية البادية قابلةٌ للتطور مع الانفتاح على العمران «وأما أحياء البدو فيذود بعضهم عن بعض مشايخهم وكبراؤهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار، وأما مللهم فإنما يذود عنها من خارج حامية الحي من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة ولا يصدق دفاعهم وذيادتهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته أهم »[10]والمجتمع المتحضر تظهر فيه آفاقٌ جديدة للتعاون والتكافل« فأما المدن والأمصار فعدوان بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة بما قبضوا على أيدي من تحتهم من الكافة أن يمتد بعضهم على بعض، أو يعدو عليه فإنهم مكبوحون بحكيمة القهر والسلطان عن التظالم، إلا إذا كان من الحاكم بنفسه. وأما العدوان من الذي خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً أو العجز عن المقاومة نهاراً، أو يدفعه ذياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة»[11] بل يسرع ابن خلدون في عبور هذه المرحلة البدوية إلى مرحلة العصبية الدينية الجامعة، فيرى أن وحدة الدين تزيد العصبيةَ بالنسب قوة، وتصبح قادرة على إحداث انقلاب في الأوضاع، يتجلَّى في تحوُّل هؤلاء الرعاة الحفاة الموغلين في الفيافي والقفار إلى بُناةِ حضارة، ومشيِّدي عُمران، ومؤسسي ممالك ودُول[12].
3-علاقة العصبية بالدولة:
لقد خصص ابن خلدون فصلا كاملا من (المقدمة) للحديث عن العصبية القبلية و دورها في نشأة الدول والملك والخلافة، مؤكدا أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية.
وقد أصبحت العصبية عنده مقولة اجتماعية بارزة في مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، وقد أطلق ابن خلدون على العصبية معنى الدولة،فالعصبية لها دائماً غايتها التي تسعى إليها، وهي الملك» الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك»[13]وينتهي إلى القول إن« الملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه”، فالمسألة هنا مسألة “ضرورة وجودية”، فالعصبية تؤدي إلى الملك ضرورةً لأن الله قد أجرى العادة على ذلك، وهذه العادة قد استقرت وأصبحت طبعاً ملازماً للعمران»[14] وطريق العصبية إلى الدولة سالكٌ عند ابن خلدون ما لم تعترض العصبية في طريقها إلى الملك عوائق مثل : حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم،أو المذلة للقبيل والانقياد إلى سواهم.
وكما ينتقل العمران من العمران البدوي إلى العمران الحضري فإن الدولة هي الأخرى تنتقل من البداوة إلى الحضارة »فطور الدولة من أولها بداوة ثم إذا حصل المُلكُ تبعه الرَّفهُ واتساع الأحوال، والحضارة إنما هي تفننٌ في الترف وأحكام الصنائع المستعملة»[15]وفي هذه المرحلة يلوح خطر طغيان عالم الأشياء، لأن قوة الدولة تزداد وحصول الاستيلاء يتمُّ وعِظم واستفحال الملك يتفاقم »فيدعو إلى الترف ويكثر الإنفاق بسببه،فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر،ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة، ثم يُعظَّم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية»[16]ويبدأ الاجتماع البشري في التوجه إلى لحظات أزمةٍ خانقة، لا يحلها على الإطلاق زيادة الإنتاج، بل إن تلك الزيادة تساهم في تعفين الأجواء وتعميق الأزمة.
إن هذه اللحظة هي لحظة الاكتمال للعمران الناتج عن لحظة سيادة عالم الأشياء، وذلك عبر مثلث متناقض يتمثل في طغيان توفر الأشياء من جهة، وشدة البحث عنها من جهة أخرى، والضعف المتناهي للتحكم فيها والقدرة على وضعها موضعها من جهة ثالثة، وبدلاً من أن يمتلك الإنسان الأشياء في هذه اللحظة، يصبح هو مُلكاً لها،لأن امتلاكها صار محور حياته وحركته، وصار هو “الوجهة” و”الغاية”وفي هذه اللحظة تستحيل “الوجهة” التي أنتجت الحضارة عبر تحرك العمران نحو تحقق عالم الأشياء، ثم تفقد “العصبية” القدرة على توحيد الأهواء باتجاه تلك الوجهة وتبدأ هي أيضا في التلاشي، ليكون تلاشي العصبية أخيرا مُفضياً إلى تلاشي الدولة كليا» إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفيء«[17].
4-الدولة وأطوارها:
يُعرِّف ابن خلدون الدولة بأنَّها «كائن حي له طبيعته الخاصة به، ويحكمها قانون السببية، وهي مؤسسة بشرية طبيعية وضرورية، وهي أيضًا وحدة سياسية واجتماعية لا يمكن أن تقوم الحضارة إلاَّ بها»[18]وقد نظر ابن خلدون للدولة على أنَّها كائن حي يولد وينمو، ثُمَّ يهرم ليفنى، فللدولة عمر مثلها مثل الكائن الحي تمامًا، وقد حدَّد ابن خلدون عمر الدولة بمائة وعشرين عامًا« وأما أعمار الدول فلا تتعدى ثلاثة أجيال والجيل هو عمر الشخص الواحد من العمر الوسط، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته»[19]لأنَّه يرى أنَّ العمر الطبيعي للأشخاص كما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرين عامًا، ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر إلاّ إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب، مستشهدًا بقوله تعالى:﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾[20]وذكر أنَّها تتكون من ثلاثة أجيال كل جيل عمره أربعون سنة، وذلك لأنَّه اعتبر متوسط عمر الشخص أربعين سنة، حيث يبلغ النضج إلى غايته مستشهدًا بقوله تعالى:﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾[21]وقد ضرب ابن خلدون أمثلة لأعمار الدولة على بعض الدول مثل: (المرابطين، والموحدين، والمرينيين في المغرب، وملوك الطوائف في الأندلس، والحمدانيين في حلب).
ويرى أرنولد توينبي أن ابن خلدون كان يفكر في الدول البدوية،كما قدر لها أعماراً طبيعية كما للأشخاص لا يجاوز مجموعها ثلاثة أجيال، ويضيف توينبي متفقاً مع ابن خلدون: « حقا، فإنه ما إن يستكمل الغزو، حتى يتحلل الفاتح البدوي نتيجة لابتعاده عن عنصره الخاص (أي عصبيته) وتحوله من الناحية الاقتصادية إلى عنصر زائد عن الحاجة»[22]أما مفهوم الدولة عند الغرب فيرتبط في الأصل بالفكر اليوناني القديم، الذي كان يدور حول فكرة المدينة والسياسة، والدور الذي كانت تلعبه هذه الأخيرة في السياسة كدور الدول الحديثة حاليا، وهو جل ما نجده متداول لدى فلاسفتهم آنذاك مثل المدينة الإلهية عند هوميروس، والمدينة الفاضلة عند أفلاطون، والمدينة العالمية التي مركزها أثينا عند أرسطو.
وفي الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة نجد أغلب تعريفات الدولة لا تختلف عما أبدعه اليونانيون، فالدولة عند “لالاند” هي وحدة سياسية منظمة مستقلة تناظر الدول الأخرى التي لها معها علاقات، أما المدينة عند “بول فولكي” فتعني أولا الشرط الذي يحدد المواطنة، وبالتالي فهي مجموع المواطنين الذين يشكلون وحدة سياسية داخل رقعة جغرافية[23]. وتميل النظريات الغربية إلى اعتبار أن الدولة حاجة إنسانية أصيلة لا يمكن الاستغناء عنها[24].ويعتمد ابن خلدون في تصنيفه لتاريخ الدول والمجتمعات على عنصرين مهمين:
أولا: بناء على ما جاء في القرآن الكريم من الشواهد والأدلة التي تعزز ما ذهب إليه وقرره.
ثانيا : بناء على تجارب الحياة، وتواريخ الأمم التي قلما تحيد عن هذا المقياس.
المرحلة الأولى :(الجيل الأول) فيصفه بقوله :«لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحسهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون»[25]فالجيل الأول هو الممثل لنشأة الدولة وتطورها، فهو يعيش في الريف والبوادي حياة بدوية خشنة بعيدة عن الترف، وتتميز بقوة العصبية والبسالة والعنف.
المرحلة الثانية: (الجيل الثاني) فيصفه بما يلي:«والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحدة، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع، ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول، وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم، وسعيهم إلى المجد، ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم»[26]فالجيل الثاني يتحول من حالة البداوة إلى الحضارة، ومن سكنى البوادي والريف إلى المدن،وهو الذي يتحقق على يديه الملك ويؤسس الدولة، إلا أن ذلك لا يعني انتكاسته بالكامل بسبب قربه من الجيل الأول وما ورثه عنه.
المرحلة الثالثة: (الجيل الثالث) الذي يعرف بجملة من الأوصاف لا تحمد عاقبة أصحابها، لكونهم ينسون تماما خصال الشجاعة والبأس ويستكينون إلى رغد العيش، ويتخلون عن واجباتهم في الدفاع عن بيئتهم، وفيهم يقول : «وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة، كأن لم تكن ويتقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالا على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، عنهم وتسقط العصبية بالجملة وينسون الحماية والمدافعة، ويلبّسون على الناس في الشارة والزي، وركوب الخيل وحسن الثقافة، ويموهون بها . فإن جاءهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورهم . فإن جاءهم المطالب لهم، لم يقاموا مدافعة، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حين يتأذن الله بانقراضها»[27]ففي هذا الجيل ينسون عهد البداوة والخشونة كأنَّها لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية، ويبلغ فيهم الترف غايته، وتسقط العصبية تماماً.
إن هذه اللمحات الرئيسة في الفكر الخلدوني تكشف لنا بشكل صريح عن موضوع نشوء الدولة يخضع لقوانين طبيعية استوجبت ذاتها نشوء الاجتماع الإنساني وحمايته، وهذه العملية هي جزء من حركة المجتمع التي يكون فيها نشوء الدولة بداية لدورة تاريخية – سياسية، فحركة التاريخ مستمرة وتسير على شكل دورة، وهذه الدورة هي حركة معادة كلما تم الانتقال من مرحلة البداوة إلى مرحلة الحضارة وذلك يتحقق عبر مؤسسة الدولة نفسها. فعملية نشوء الدولة إذن تتجدد في كل مرة تنتهي فيها تلك الدورة، لكن الدورة هي عملية صراع حتمية تسحب الحضارة فيها البداوة لتدفن خصال هذه الأخيرة وصفاتها. ولقد قسم ابن خلدون تلك المراحل التي تمر بها الدول في دورة حياتها إلى خمس مراحل أسماها أطوارا وهي:
الطور الأول: هو” طور التأسيس”، وفيه يكون السلطان جديد العهد بالملك، لذا فهو لا يستغني عن العصبية، وإنَّما يعتمد عليها لإرساء قواعد ملكه، فيكون الحكم في هذه المرحلة مشتركًا نوعًا ما بين الملك وبين قومه وعشيرته، وقد ضرب ابن خلدون مثلاً بالدولة الإسلامية في طور تأسيسها، وهو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين« فالأنبياء يعملون على إخراج النّاس من الظّلمات إلى النّور في مختلف مجالات الحياة، بتصحيح مسارهم الإنسانيّ على ضوء النّهج الإلهي السديد»[28]وقد قضى فيه الإسلام على العصبية القبلية القائمة على التفاخر بالآباء والأنساب، وحلَّ محلها الأخوة في الدين،فآخى بين الأوس والخزرج وسمَّاهم بالأنصار، وآخى بينهم وبين المهاجرين.
الطور الثاني: هو “الانفراد بالملك”، حيث يذهب ابن خلدون إلى أنَّ الانفراد بالسلطة ميل طبيعي وفطري لدى البشر، ولذا فإنَّ السلطان عندما يرى ملكه قد استقر يعمل على قمع العصبية، كما يعمل على الانفراد بالحكم، واستبعاد أهل عصبيته من ممارسة الحكم، وعندئذ يتحول من رئيس عصبية إلى ملك، وقد يفعل ذلك أوَّل من أسَّس الدولة، وقد لا يفعل، فلا تدخل الدولة في هذا الطور الثاني إلاَّ مع ثاني زعيم أو ثالث، ويتوقف ذلك على قوة صمود العصبية« لأن الملك أمر زئدا من الرئاسة، والإنسان إذا بلغ رتبة طلب ما فوقها وإذا بلغ رتبة السؤدد والإتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركها»[29]ويضطر السلطان إلى الاستعانة بالموالي للتغلب على أصحاب العصبية، أي أنَّه يبدأ في هذه المرحلة الاعتماد على جيش منظم من أجل المحافظة على المُلك.
الطور الثالث: وهو طور” الفراغ والدعة”:وفي هذا الطور يتم تحصيل ثمرات الملك وتخليد الآثار وبُعد الصيت، فالدولة في هذا الطور تبلغ قمة قوتها، ويتفرغ السلطان لشئون الجباية، وإحصاء النفقات والقصد فيها، ولتخليد ملكه، لابد أن يبني المباني العظيمة الشاهدة على عظمته[30]، وفي هذه المرحلة يستمتع الجميع السلطان بمجده، وحاشيته بما يغدقه عليها السلطان.
الطور الرابع:هو طور “القنوع والمسالمة”[31] وفي هذا الطور يكون صاحب الدولة قانعًا بما بناه أسلافه مقلدًا لهم قدر ما يستطيع، والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة تجمد فلا شيء جديد يحدث، ولا تغير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية.
الطور الخامس: هو طور “الإسراف والتبذير”، ويكون صاحب الدولة في هذا الدور متلفًا لما جمعه أسلافه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته، فيكون مخربًا لما كان سلفه يؤسسون، وهادمًا لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم«أما إذا وقع الحجاب بين السلطان والرعايا فان ذلك يكون دليلا على هرم الدولة ونفاذ قوته»[32]ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا برء منه إلى أن تنقرض.
5-آراء العلماء في الدورة الحضارية:
يرى مالك بن نبي أن عوامل السقوط وأسباب الهلاك هو الفكرة الدينية فيقرر أن أفول حضارة من الحضارات إنما يرجع إلى تغلب جاذبية الأرض عليها، وتخليها عن فكرتها الدينية التي كانت سبب مبعثها «ومن هنا نستطيع أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنية الإسلامية والمسيحية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها، بعد أن تفقد الروح ثم العقل»[33]ويرى أن مراحل التطور قد اجتازها المسلمون بفكرتهم الدينية التي أنتجت الحضارة، ولكنهم للأسف ما لبثوا أن عادوا إلى الحياة البدائية بسبب انكماش تأثيرات الروح والعقل وانطلاق الغرائز الدنيا من عقالها، فيقول :«وكذلك كان المسلم، فقد بعث الدين فيه روحا محركا للحضارة فلم يلبث بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن إنسانا بدائيا»[34]وتقوم فلسفة التاريخ عند مالك بن نبي على الحتمية التاريخية والتعاقب الدوري للحضارات حيث عددها بثلاثة أطوار هي: طور الحضارة، وطور ما قبل الحضارات، وطور ما بعد الحضارة.
فإن الإنسان هو الذي يحرك التاريخ وذلك ضمن حتمية تاريخية يستوجب التحرر منها معرفة القوانين التي تنشئ الحضارات، يقول مالك بن نبي: «على أنني حينما أرى في حركة التاريخ حركة الإنسان وفي ركوده ركود الإنسان فإن ذلك يضعني أمام مشكلة تصنف تحت عنوان الفعالية، فعالية الإنسان في التاريخ»[35]كما نقد مالك بن نبي الفكر الخلدوني قائلا: « فقد كان يمكن أن يكون أول من أتيح له أن يصوغ قانون الدورة التاريخية، إلا أن مصطلح عصره قد وقف به عند ناتج معين من منتوجات الحضارة ونعني به الدولة، وليس عند الحضارة نفسها»[36]ويرى بن نبي أن نظرية ابن خلدون محصورة في الجانب السياسي والمنطق السائد في عصره، فقد تحدث عن الدولة ولم يتحدث عن الحضارة وفسر قيامها بالعصبية « وهكذا لم نجد فيما تركه ابن خلدون غير نظرية عن الدولة، في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، التي كنا نستطيع أن نجد فيها ثروة من نوع آخر، غير ذلك الذي أثرانا به فعلا، إذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته»[37]ولكن ابن خلدون تحدث عن الحضارة بهذا اللفظ في كتابه “المقدمة”، فيكفي أنه خصص لها الفصل الخامس عشر من الباب الثالث من الكتاب الأول بعنوان “انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة”، وعرّف الحضارة بهذه العبارة: « الحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش»[38]
أما ابن باديس فشرح فكرة الدورة الحضارية، أو مراحل تطور الأمم، وبسطها انطلاقا من تفسيره لآية قرآنية، هي قوله تعالى:﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾[39]ولكنه لم يخرج عن المقدمات والنتائج التي خلص إليها ابن خلدون، وإنما تناول القضية بصفته عالما مفسرا لكتاب الله، مما مكنه من تأصيل الطروحات التي درسها ابن خلدون قبله، وعلى هذا المنوال، كان الإمام عبد الحميد بن باديس يمهد بذكر الأطوار الثلاثة التي تمر بها الأمة من شباب وكهولة وهرم قبل أن يشرح الآية، فيقول: «الأمم كالأفراد تمر عليها ثلاثة أطوار : طور الشباب وطور الكهولة، وطور الهرم»[40]
إلا أن “توينبي” لا يتفق مع رأي ابن خلدون بأن الحضارات مثل الكائنات الحية تخضع للتطور العضوي الذي ينتهي بالموت. فحسب رؤيته إن موت الحضارات ليس شرطاً أن تقترن بنهاية أكيدة لها، فالمجتمع الذي يمتلك “استجابة إبداعية” للتحديات التي تجابهه يستطيع الاحتفاظ والاستمرار بحضارته التي تخصه. وكذلك يعارض توينبي فكرة انحلال الحضارة ثم سقوطها. فحسب تصوره إن السقوط يأتي أولاً، وذلك بعد فشل الحضارة في الاستجابة للتحديات المصيرية. ولكن بما أن الحضارة خلال نموها الزمني تكون قد أبدعت ثقافياً واجتماعيا وإدارياً، لذا فإن بنيتها لا تسقط هكذا دفعة واحدة، بل تضمحل تدريجياً من الفترة التي سقطت فيها الحضارة في الزمن الماضي.[41]
ويقول الأستاذ “رضوان إبراهيم” في مقدمة كتابه:”المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون:«وحسنة أخرى لابن خلدون هي تجميعه للعرب والعروبة بمفهومها الواسع على الصعيد الفكري النقدي، ومزاولة القومية مزاولة عملية؛ فقد مثَّل بنفسه دور “المواطن العربي” حينما جاب هذا الوطن من غربه إلى شرقه، وشغل نفسه بقضايا العرب أينما حل، وتكلم باسمهم في كل محفل، وسَفَرَ عنهم، وفاوض في شؤونهم، وقضى بينهم، واستهدف إصلاحَ جماعاتهم بما أوتي من قوة الشخصية، وحصافة الفكر، وجاه المنصب»[42]
وهناك مؤرخ إسباني آخر هو “رافائيل ألتاميرا” يجري تعقيبات على آراء ابن خلدون في افتتاحية المقدمة ووصفه لعلم التاريخ، والشروط التي ينبغي توفرها في المؤرخ، ثم يقول: «إن المقدمة هي نظرية للحضارة حقيقية وكاملة ثم يجري بعض التحفظات على المغالاة في تقدير قيمة ما أسماه بابتكارات ابن خلدون ، ولكنه يصف ابن خلدون بأنه قوة عقلية جبارة ، ومخترع عبقري يبني فوق سوابق ضئيلة عمل هو في معظمه جديد»[43]
ويضع “استيفا نكلزيو” ابن خلدون في مقدمة فلاسفة التاريخ والاقتصاد والاجتماع على حد سواء، فيقول : «إذا كانت نظريات ابن خلدون عن حياة المجتمع المعقدة تضعه في مقدمة فلاسفة التاريخ، فإن فهمه الدور الذي يؤديه العمل والملكية والأجور يضعه في مقدمة علماء الاقتصاد المحدثين، كما استطاع في العصور الوسطى أن يكتشف مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي قبل كونسيدران الفرنسي الاشتراكي (1808-1893) وكارل ماركس الألماني (1818-1883) وباكونين الاقتصادي الاجتماعي الروسي (1814- 1876»[44]
خاتمة
لقد استطاع ابن خلدون أن يقيم نظرية قائمة على أساس من الوحدة والترابط، قوامها العصبية الواحدة سواء عصبية الجنس أو عصبية القبيلة أو عصبية الدين، إلا أنه قد أوضح بوضوح أن العرب لا تقيمهم أمة واحد إلا عصبية الدين، فكان بذلك متجليا روح حضارة الإسلام القائمة على التوحد ونبذ الفرقة.[45]
وقد وقفنا على بعض المآخذ التي لحقت نظرية الدولة لابن خلدون منها:
-نقص استقرائه في شؤون السياسة وقيام الدول، حيث إنه لم يحلل هذه الظواهر إلا في عصور خاصة وأمم معينة، وهي في الغالب ممالك المغرب والأندلس، ومن الشروط المهمة في فلسفة التاريخ شرط: الكلية والشمول.
-اتهامه بالتحامل على العرب، وذلك حين ذكر بعض المثالب والنقائص واصفًا بها العرب، من مثل أن العرب لا يتغلبون إلا على الأمور البسيطة، وأن العرب أبعد الناس عن الصنائع، وأن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل.
-نظرية العصبية مذمومة لأن الإسلام ذم العصبية ونهى عنها وردها من الجاهلية.
-حدد ابن خلدون أطوارا للدولة، فهو لم يذكر طور الطفولة، وتحديده لدورة حياة الدولة التي تشبه أطوار حياة الفرد لا فعل لها ولا أساس.
– يرى ابن خلدون أن توقف فائض الإنتاج الذي يضمن الاستمرار للدولة هو سبب الانهيار الحضاري وسقوط السلطة، ولكننا لا نستطيع أن نربط بين انهيار السلطة والانهيار الحضاري وذلك لأن الانهيار الحضاري يفضي إلى انهيار السلطة في حين أن انهيار السلطة لا يفضي دوماً إلى الانهيار الحضاري.
– تحديد ابن خلدون لعمر الدولة وتعميمه لها، فذلك لا ينطبق على دولة الروم أو الفرس التي دامت عدة قرون، كما أن أعمار الأفراد أكبر من عمر الأربعين ، لأن غالبية الدول العربية والأجنبية تعد عمر الأربعين هو عمر الشباب والعمل والإنجاز، ويضاف إلى ذلك أن رأي ابن خلدون هذا يخالف عمره هو، فقد عاش أربعة وسبعين عاماً.
قائمة المصادر والمراجع:
1- القرآن الكريم
2- ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي، ط 4، بيروت، د.س.
3- أبو يعرب المرزوقي: فلسفة التاريخ الخلدونية، الدار المتوسطية، تونس، 2007.
4- أرلوند توينبي: مختصر دراسة التاريخ، تر: فؤاد محمد شبل، تقديم: عبادة كحيلة، المركز القومي للترجمة، ج1.
5- الفيروز أبادي: مادة(ع ص ب)، الهيئة العامة للكتاب، 1978،ج1.
6- الدقس محمد: “العصبية الخلدونية ووظيفتها الاجتماعية والسياسية”، مجلة جامعة الملك سعود، م 2، الآداب2، 1990.
7- بلال الشويطر: مفهوم العصبية في فگر ابن خلدون، نشر في الجمهورية يوم 02/05/2014
8- عبد القادر بوعرفة: مقدمات في السياسة الدينية، رياض العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر،ط1،2005.
9- عبد الرحمان بن خلدون: المقدمة، مراجعة وتقديم: عبد البارئ محمد الطاهر تحقيق: أحمد جاد، مؤسسة قطر البخاري، الجزائر، 2012.
10- عبد الحميد بن باديس: تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، 2003.
11- عصام عبد الشافي: “الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون”، المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية، 28أغسطس2016.
12- صدر الدين القبانجي: المذاهب السياسية في الإسلام، دار الأضواء،ط2 ،1985.
13- صالح بن طاهر مشوش: علم العمران الخلدوني، وأثر الرؤية الكونيّة التوحيديّة في صياغته، مكتب التوزيع في العالم العربي، لبنان، ط1 ،2012.
14- رضوان إبراهيم: المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بمصر، طـ1 / 1960م.
15- سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار ، الأعداد 75، 76، 77، 1424هـ.
16-مالك بن نبي : شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 2000.
17-مالك بن نبي: تأملات، دار الفكر ، دمشق،1986.
18-مالك بن نبي: مشكلة الأفكار، دار الفكر، دمشق،1992.
19-محمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد إقبال: روح الحضارة والثقافة الإسلامية، مجلة الأزهر، شعبان 1433
20-محمد عابد الجابري، العصبية والدولة” معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي”،دار الطليعة، بيروت. طـ3، 1982م.
21- ‘Study of History’:The Breakdowns of Civilisation، 1939، Vol. IV.
[1]ابن خلدون: المقدمة، دار إحياء التراث العربي، ط 4، بيروت، ص28
[2]عبد الرحمان بن خلدون: المقدمة، مراجعة وتقديم: عبد البارئ محمد الطاهر تحقيق: أحمد جاد، مؤسسة قطر البخاري، الجزائر، 2012، ص128
[3]الفيروز أبادي: مادة(ع ص ب)، الهيئة العامة للكتاب، 1978،ج1،ص104
[4]سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار ، الأعداد 75، 76، 77، 1424هـ
[5]مقدمة ابن خلدون، عبد البارئ محمد الطاهر،مصدر سابق، ص129
[6]بلال الشويطر: مفهوم العصبية في فكر ابن خلدون، نشر في الجمهورية يوم 02 – 05 – 2014
[7]سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار ، الأعداد 75، 76، 77،1424ه
[8]الدقس محمد: “العصبية الخلدونية ووظيفتها الاجتماعية والسياسية”، مجلة جامعة الملك سعود، م 2، الآداب2، 1990 ، ص721/722
[9]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص166
[10]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص422
[11]المصدر نفسه، ص423
[12]ينظر، محمد عابد الجابري، العصبية والدولة” معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي”، طـ3، 1982م، دار الطليعة، بيروت، ص287
[13] ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص439
[14]عصام عبد الشافي: “الثورة والبناء الحضاري عند ابن خلدون”، المعهد المصري للدراسات السياسية والإستراتيجية، 28أغسطس2016، ص7/8
[15]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص190
[16]المصدر نفسه، ص328
[17]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص329
[18]سهيلة زين العابدين : نظرية الدولة عند ابن خلدون، الأعداد 75، 76، 77
[19]مقدمة ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص164
[20]الأعراف، آية34
[21]الأحقاف، آية15
[22]أرلوند توينبي: مختصر دراسة التاريخ، مصدر سابق،ص35
[23]ينظر عبد القادر بوعرفة: مقدمات في السياسة الدينية، رياض العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر،ط1،2005ص41
[24]ينظر صدر الدين القبانجي: المذاهب السياسية في الإسلام، دار الأضواء،ط2 ،1985 ،ص74
[25]ابن خلدون: المقدمة، ص165
[26]المصدر نفسه، ص165
[27]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص165
[28]صالح بن طاهر مشوش: علم العمران الخلدوني، وأثر الرؤية الكونيّة التوحيديّة في صياغته، مكتب التوزيع في العالم العربي، لبنان ، ط1 ،2012، ص320/321
[29]ابن خلدون: المقدمة، ص139
[30]المصدر نفسه، ص139
[31]ابن خلدون: المقدمة، مصدر سابق، ص139
[32]المصدر نفسه، ص292
[33]شروط النهضة :مالك بن نبي، دار الفكر، دمشق، 2000،ص78،79
[34]شروط النهضة :مالك بن نبي،ص78،79
[35]مالك بن نبي: تأملات، دار الفكر ، دمشق،1986، ص190
[36]مالك بن نبي: مشكلة الأفكار، دار الفكر، دمشق، 1992، ص51
[37]مالك بن نبي: تأملات، مصدر سابق، ص49
[38]أبو يعرب المرزوقي: فلسفة التاريخ الخلدونية، الدار المتوسطية، تونس، 2007، ص89
[39]الإسراء، آية58
[40]عبد الحميد ابن باديس:تفسير ابن باديس، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1، 2003، ص189-190
[41]Study of History: The Breakdowns of Civilization، 1939، Vol. IV، p. 3
[42]رضوان إبراهيم: المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بمصر، طـ1 / 1960م، ص 12
[43]سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار ، الأعداد 75، 76، 77، 1424هـ
[44]سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار ، الأعداد 75، 76، 77، 1424ه
[45]محمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد إقبال: روح الحضارة والثقافة الإسلامية، مجلة الأزهر، شعبان 1433 ص61/66