
شعرية النص الرقمي في رواية بوح الوجع بين الإيقاع النصي والحوار الإجناسي
الأستاذة: منى صريفق ـ جامعة محمد لمين دباغين، سطيف 02 ـ الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 47 الصفحة 125.
الملخص:
تخلق الرواية المعاصرة إيقاعها الخاص وتجعل بين كل العناصر التي تشكّل معمارها البنائي علاقات خاصة، سواء أكان ذلك على مستوى بنيتها أو اللغة التي كتبت بها. إنها تنقل عددا لا منتهيا من الخطابات التفاعلية والجدلية بين القارئ والكاتب الذي يرى بدوره في جنس الرواية اختيارا يمارسه من بين إمكانيات أدبية متعددة، إلا أن الحرية المطلقة في اختيار الجنس الأدبي المعبر عن رؤية الكاتب لعالمه التخيلي قد تتعارض عندما يحاول استلهام خطاب لغوي آخر يعزز به رؤيته الفنية فيجعل النص يخالف ما يعرف بالشكل الأدبي. إلا أن النص الرقمي/ الالكتروني ذا الشكل المتراوح بين الرسالة القصيرة والمراسلة الالكترونية كان ركيزة في بناء نص بوح الوجع لغويا. فقد استثمر الكاتب خاصية استيعاب الرواية لكل شكل أدبي ليوظف التداخل الإجناسي. من هنا نفترض أن شعرية النص الرقمي في رواية بوح الوجع ستكون مؤسسة على ما نستنطقه من خصائص هذا الخطاب الأدبي النوعي وكيف يبني هذا النص جل إيقاعاته الخاصة.
الكلمات المفتاحية: الشعرية، بوح الوجع، الرواية ، المعاصرة، النص الرقمي، التداخل الإجناسي .
الأدب فعل إنساني يتوسل اللغة سواء أكان ذلك شفاهة أم كتابة، يكون هدفه الرئيسي تصوير الواقع ونقله، لكن بإعادة صياغته صياغة فنية متطابقة معه أو متجاوزة له ، كما يبّن ذلك أحمد كمال زكي في تعريفه للأدب: “الأدب نشاط لغوي يستهدف توليد الحياة التي تحدث متعة جميلة”[1] ولكي يبلور الأديب رؤاه الخاصة في قالب فني مميز قصد إحداث لذة في نفس المتلقي له الخيار في نهج مسلكين هما: الشعر أو النثر(المنظوم أو المنثور). فهي أجناس أدبية تتفرع عنها أنواع مختلفة تعرف بأنواع التشكيل الفني الأدبي. هذا ما يقدمه لنا النص الروائي “بوح الوجع”* للروائي محمد الأمين بن ربيع، فقد استطاع هذا النص السردي أن يحقق لنفسه كينونة متفرّدة من حيث البناء الفني ،وهذا يتمظهر على مستوى لغة الخطاب السردي بالتحديد في خضم تقديم القصة المسرودة للقارئ التي تعتنق الرؤية السردية المصاحبة للأحداث طريقة لنقل الأحداث في أجواء إخبارية سردية لرسالة الوجع التي ألمت بروح إنسانية كان كل ما فعلته أنها ركزت كل مشاعرها نحو حلم جميل مشترك بين روحين لتخلق لنفسها إيقاعا روائيا متفردا. ولكن قبل الخوض في تشكيلات النص الذي يكتبه الرّوائي محمد الأمين بن ربيع، علينا إزالة الإبهام المفاهيمي الذي يعتري مساحة المناقشة التي تؤسس لرؤيتنا في هذا العمل الأدبي.
- نظرية الأجناس الأدبية:
لو أردنا التأريخ لهذه النظرية لوجدنا جذورها تعود إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون إذ يعدُّ من الأوائل الذين تحدثوا عن فكرة الأجناس الأدبية وذلك في كتابه الجمهورية. والذي نجده خصص جزءا كاملا تضمن هذه القضية، إلا أنه لم يتجاوز الطرح للفكرة في إطار محاورات لا أكثر. بعد أفلاطون تبنى أرسطو الفكرة في كتابه المشهور “فن الشعر” وملامح هذه النظرية تظهر عنده من خلال تقسيمه الشعرَ إلى ثلاثة أقسام أساسية: التراجيديا والكوميديا والملحمة. إلا أن هذه النظرية الأرسطية للأجناس الأدبية لم تبق حبيسة عصره، وإنما تجاوزته ليشهدها العصر الحالي وهذا ما هو ملاحظ في الدراسات النقدية المعاصرة نبدؤها مع أعمدة التيار الشكلاني حول ما يعرف لديهم بالقيمة المهيمنة: “فعلينا أن نتذكر دائما أن العنصر الذي يحدد نوعا ما من اللغة يسيطر على البنية الكاملة ومن ثم يعمل بوصفه مقوما إجباريا وغير قابل للتحويل يتحكم بالعناصر الباقية جميعا ويمارس تأثيرا مباشرا عليها”[2] فهذا المسيطر يعد المكون المحوري في العمل الفني فعلى سبيل المثال نجد السرد هو القيمة المهيمنة في الرواية وبالتالي يصبح هذا المكون العنصر الأساسي في تصنيف الأعمال الإبداعية اللاحقة هذا من جهة ومن جهة أخرى فهذا يعني أن مبدأ صفاء الأجناس كان يعدُّ من أهم الصفات التي يتميز بها الخطاب الأدبي آنذاك. ففي الفصل نوع من التصريح بمبدأ التفريق بين الأجناس والأنواع الأدبية. ولكن هذا الرأي لا ينحصر في دائرة الغرب فقط، بل نجد على شاكلته عند العرب ويبدأ ذلك مع المؤرِّخ المشهور “ابن خلدون” في كتابه المشهور “المقدمة” والذي قدمّ فيه فصلا كاملا تحت عنوان” في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر” حيث يقول: “واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر ولا تستعمل فيه…”[3] يفهم من هذا القول أنه يقر بضرورة احترام الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية حتى يتحقق الإبداع بأتم معنى الكلمة. إلا أن هذا الحرص الذي يوليه أنصار نظرية الأجناس الأدبية لهذه القضية تعرض لنقد لاذع تولته الرومانسية كمرحلة مبدئية كانت في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر الميلاديين[4] إلا أن هذا الهجوم لم ينقطع وإنما تواصل حتى بلغ الذروة مع بنديتو كروتشه Benedetto Croce * وفي هذا يقول الناقد كارلو كاسولا:” سادت نظريات بنيديتو كروتشه الجمالية في إيطاليا خلال فترة ما بين الحربين وأحد المعتقدات الأساسية لتلك الجمالية هو رفض نظرية الأشكال والأجناس الأدبية، لقد تشاطرنا جميعا هذه الفكرة ولهذا فقد اقتنعنا بأنه لا يوجد فرق جوهري بين قصة قصيرة أو رواية حتى بين النثر والشعر”[5] هذا يعني أن بنديتو كروتشه هو الذي ساهم في ذيوع هذه الفكرة المضادة للتجنيس واعتناق النقاد لها كعز الدين المناصرة” الذي يقول: “ما يزال تصنيف الأجناس والأنواع مرتبطا بتصنيفات شكلية، أي جدلية البنية والمنظور وهذا التصنيف أضعف هوية الجنس، وجعل الشكل هو المرجعية للنوع الأدبي مما ولد ثنائية الداخل والخارج”[6] يتبين لنا من هذا الرأي أن الطرح المنطقي هو الإقرار بتداخل الأجناس، من منظور أن الرواية عالم كبير يصعب على الناقد أو الكاتب على السواء حصر مجالها وآفاق اشتغالها.
- اشكالية الجنس والنوع:
تعدّ من أهم القضايا الفلسفية التي يجب الوقوف عليها للتفريق بين الجنس والنوع. فالجنس GENRE حسب المفهوم الفلسفي: “المقول على كثيرين مختلفين بالنوع كالحي “[7] أما النوع Espès:”المعنى المشترك بين كثيرين متفقين بالحقيقة ويندرج تحت كلي أعم هو الجنس “[8] من خلال هذين المفهومين اللذين تم اصطلاحهما من قِبل أهل الفلسفة لكل من الجنس والنوع يتضح أن الجنس هو الأعم وما النوع إلا فرع منه. إلا أن قضية الجنس والنوع لم تبق حكرا على أهل الفلسفة وإنما امتدت جذورها إلى الحقل الأدبي أيضا.
وما البت في القضية التي نحن بصدد مناقشتها إلا لإزالة ذلك الغموض الذي يظهر جليا في تناول كل ناقد لمنظور معين في تسمية الجنس والنوع الأدبيين. لا جرم إذن لو تتبعنا المقولة الفلسفية بحذافيرها لنفصل في أمر الجنسين الأدبيين “الرواية/الرسالة” لنعتبرهما جنسين لا نوعين، فتكون للمعالجة النقدية تأصيلات على أسس ثابتة نابعة من خلفية فلسفية غير مناوئة لهدف المقال بأي حال من الأحوال.
فالرواية هنا جنس ينطوي تحت رايته العديد من الأنواع السردية الحكائية كالرواية البوليسية، الرواية الكوميدية، الواقعية، الخيالية، وهكذا فهي من الأنواع السردية التي تأخذ من الجنس الأكبر والأعم منها بعض الفنيات والتقنيات لتؤسس لحضورها الفني والجمالي على السواء، أما الرسالة فهي فن أدبي ظهر منذ القديم، يتداول حضوره بين الأصدقاء والخلان وبين الملوك والأباطرة في مختلف أصقاع العالم دون الجزم أنه فن عربي أم غربي، إلا أنه جنس أعم تندرج تحت رايته هو الآخر أنواع منها ما هو رسالة إخوانية ومنها ما هو إداري ومنها القصيرة “sms” في الزمن المعاصر تحديدا على اعتبار أنها نص تفاعلي بالدرجة الأولى، كلها عبارة عن أنواع أدبية لها من المميزات ما يأخذ من الأصل ليحقق أنطولوجيا خاصة به على مر الأزمان، ولكن دون المساس بفنيات الرسالة في حد ذاتها، فهي ذات هيكل لا يمكن تغييره حتى لو تغيرت بعض التقنيات الفرعية غير الرئيسية فيه.
هذا هو الحال الذي وجدنا عليه النص السردي “بوح الوجع”، فهو نص يشتغل على تعددية في النصوص السردية التي تتخد لنفسها أنماطا متعددة في التشكل، من بينها الرسالة القصيرة التي ترسل عبر الهاتف والتي تسمى «SMS». فهي انطلاقة حية من السياق النصي الثقافي المعاصر إلى لب الرواية في عمق تكوينها السردي ونمطها الحكائي بالذات، فالرواية تتشابك وتقنياتِ الرسالة التي تحمل بدورها قصصا وأفكارا عن أحداث تساعد في تخضيب الرواية بأحداث ثانوية وتجليات لقضايا تستحق المناقشة؛ بمعنى أن الرواية حوت تقنيات الرسالة والرسالة بدورها حملت قصة الومضة التي تعتمد في بنائها على سرد حدثي بسيط سريع زمنيا، كثيف لغويا في وصف للحادثة المركزّة داخل الرسالة في حد ذاتها، هذا ما جعل أواصر الرسالة والرواية تتفق وتتعاضد في كلِّ جمالي ساعد في نجاح الرؤية السردية ونمطية الحكي.
- التناص والتداخل الإجناسي:
نجد أنفسنا ببعض من التدقيق أمام مصطلحي التداخل/ التناص اللذين وإن كان لكل منهما مجاله إلا أن هناك حدود التماس قد تخلق لبسا في ذهن المشتغل على الموضوع، فأفضل طريقة لفض الجدل بينهما هو تعريف كل منهما على حده حيث يقول “مصطفى الضبع”: “يعتمد التناص على تداخل البنية واستمداد تفاصيل النص المنتمي للنوع أو لغيره من الأنواع في مقابل اعتماد التداخل على التقنيات التي يستمدها لتكون إشارة دالة على النوع و ليس على مفردات النوع”[9] مما يعني أن التناص متعلق بالنصوص وامتصاصها وإعادة إخراجها من جديد من طرف المؤلف. في حين التداخل يكون على مستوى التقنيات. فالرواية مثلا لا تقوم بإدراج أو توظيف مجموعة من النصوص المتفاوتة الظهور في العمل الإبداعي لأن هذا يعد تناصا، بل تقوم هذه الأخيرة برحابتها على استمداد مجموعة من التقنيات المأخوذة من الأجناس الأدبية المختلفة كالأغنية والمسرحية والرسالة والرسم والنحت والسينما وغيرها من التقنيات التي تجعلها نصا يستشكل أمام القارئ بعديد التجليات. أما “محمد الصالح الشنطي” فيفرق بين الثنائيتين فيرى في التناص توظيفا فنيا للنصوص السابقة في النصوص الآنية في حين التداخل هو عملية تداعي داخل التشكيل الفني للنصوص بمعنى أن كل عنصر داخل جنس الرواية مثلا يستدعي جنسا آخر ويقدم لنا مثالا عن ذلك بالرواية فهي فن سردي يستدعي فنا سرديا أخر هو القصة القصيرة وهي بدورها تستدعي فنا آخر هو الشعر[10] ولكن هذه الرؤية قد توهمنا بحكم مناقشتها مناقشة حداثوية أنها صفة مميزة للنصوص المعاصرة فقط أبدا بل نجد هذه الفكرة في تراثنا النقدي فهذا “ابن طباطبا العلوي” يناقش فكرة الشعر القصصي في كتابه “عيار الشعر”، يفرد عنصرا كاملا للشعر القصصي في قول الأعشى فيما اقتصه من خبر السموأل[11] ولا يمكن القول إننا نبحث عسيرا حتى نجد مثالا على هذا القول فالأمثلة كثيرة في أدبنا القديم والحديث على المعاصر. فهنا كالقصيدة/الخطبة، القصيدة/الرسالة، القصيدة/القصة وهذا التداخل الحاصل بين هذه الأجناس الأدبية أوضحه عبد الملك بومنجل جيدا في مقالته: “تداخل الأنواع في القصيدة العربية”. هذا ويفرد ابن خلدون في قضية تمازج الأجناس ما يلي: “…وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع… وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه ولم يفترقا إلا في الوزن…”[12] وهذا يعني إلزاما أن القضية التي نحن بصدد البحث في كنهها ذات بعد تراثي بامتياز ولكن التراثي هنا ليس تراثيا متصلا بماض محدود وإنما هو تراث ماض يؤسس لحاضر ومستقبل متفردين فهذا أبو حيان التوحيدي يقول: “وأحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه وتلألأ رونقه وقامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم…”[13] وهذه دعوة صريحة للتجاوز الكتابي المباح للمبدعين. فإن الرونق كله في تشكيل كتابة لها من الأساليب النثرية والشعرية الالتقاء الغريب الذي يشكل مفارقة وفي الآن ذاته نصا له فسيفساء خاصة. يمكن إرجاع التعقيد الحاصل على مستوى الظاهرة الأدبية المضادة للتقاليد القديمة إلى سببين هما: السبب الأول : التحرر الكلي الذي يتمتع به المؤلف المبدع على غرار ما كان يلحقه من قواعد وتقاليد صارمة تضيق عليه الخناق. وتجعله يتبعها سواء أكان ذلك اختيارا نابعا من ذاته أم ضدها. فقد كانت الأجناس الأدبية صارمة في وقت معين، قواعدها شبه أوامر فنية تُفرض على المُبدع. في حين بدأ القيد ينفرج شيئا فشيئا في العصر الحديث إلى المعاصر الذي تغير فيه كل شيء، فقد ألغيت كل القيود سواء على مستوى الكتابة أم الممارسة النقدية. فالقيد الوحيد الذي يجده المشتغل في هذا الحقل هو اللامحدود وبالتالي العدوى التي تنتقل بداهة إلى الأجناس الأدبية هي محو كل الحدود بين أساليب تعبيرها فتُمْسِي بذلك حرة في اختيار كل التقنيات التي تساعدها على نمطية معينة في تخريج النص الذي يشكله الكاتب في أي زمن تخيره، أما السبب الثاني: فيرجع هذا التعقيد الحاصل على مستوى التمازح التقني بين الأساليب إلى فكرة العولمة وعالمية النماذج البنائية للجنس الأدبي الواحد الرواية والشعر على السواء، والهجنة التي نلحظها في حياة الفرد النفسية نجدها تخطت حدود الذات لتصل الى إبداع الإنسان في مختلف تجلياته. إلا أن هذا التهجين الذي حصل على مستوى الظاهرة الإبداعية لا يمكن عدُّه ظاهرة سلبية بقدر ما هو ظاهرة ساهمت وبشكل كبير في تطوير وتنشيط وإعادة إحياء الكتابة والنقد على السواء. “من أجل خلق رواية حداثية تراهن على الإبداع وتتجاوز المعتاد وتعيد بناء شكل ومعنى المنجز الروائي، لابد من خوض غمار التجريب والتجديد، بأن يمزج الكاتب المبدع بين مجموعة من الأجناس الأدبية في إطار تقاطعي تتقاطع فيه الرواية مع الرسالة مع المشهد السينمائي مع الحوار المسرحي مع اللوحة الفنية. وحينها يتجاوز المألوف ويعري عن اللغة المحنطة ويكشف أسرارها، ويحثها على التناغم والتماهي في قالب جديد يستوعب العالم باعتبار الرواية اختصارا للعالم”[14]
- ايقاع الرواية الجزائرية المعاصرة :
أولا: شعرية الرسالة داخل المعمار الروائي:
“خوفي إن طال السفر، خوفي إذا جاء المساء وما جاء مع القمر، خوفي إذا عاد الخريف وما رجع مع المطر، خوفي حينها إذا ما الحزن عربد داخلي ورغم إخفائي ظهر.”[15] التركيز في الشريط اللغوي للرسالة يجعل منها رموزا تحمل العديد من الدلالات، فالجمل الأربعة التي تحملها هذه الرسالة ليست جملا عادية بل هي جمل تتوسط السرد الروائي بطريقة تمييزية لحضور هذا النمط من التشكيل الفني، تعني الكثير من الأحداث فهي خوف من طول بعد الحبيب فالسفر أبعده عنها. إن التركيز اللغوي الذي تميزت به الرسالة يجعل منها رسالة قصيرة لكنها مازالت تؤدي دور الرسالة في كل الأحوال على الرغم من تمازجها التّام مع طبيعة السرد الأولية للرواية. ذلك أنها نص له مرسل وله قارئ ؛كما أنها تؤدي معنى جليا لقضية معينة هي الفراق. وتتناوب الرسائل القصيرة في الحضور بين الفينة والأخرى داخل الكيان الروائي ككل فنجد: “أشمّ عطره، بيننا مسافة قصيرة ولكنّي أحس بأنّي أبعد عنه آلاف الكيلومترات.. فراق الأحاسيس. B8”[16] الرسائل كلها عبارة عن قضايا تناقش، فهي رسائل تحمل أبعادا أخرى غير الأبعاد التي تحملها الرسالة العادية. فقد تعدت مهمة الإخبار العادية لتصل إلى نوعية رفيعة من المهمات عالية الدقة على مستوى النص السردي فهي عبارة عن عتبات فيها تكثيف مخصص لسرد الأحداث لنقل أكبر عدد من الأخبار والقضايا من جهة ولبعث الحياة في القضايا الاجتماعية التي يريد الروائي مناقشتها بطريقة غير مباشرة تنأى عن التصريحية الاجتماعية الفجة. فهذا نص رسالة آخر ينقل لنا قضية التعفن الإداري” المكاتب المؤثّثة بأثاث فاخر، تضمّ سريرا في مكان ما.. التّوقيع على معاملتك أو عطلتك أو حتى على حقّك يحتاج إلى أن تمرّ على ذلك السرير وإلاّ… هل عليّ أن أمر؟ س.ج.[17] تتعدد القضايا في تكوين الرؤية العامة للروائي في عملية السرد، فمن مواضيع اجتماعية إلى قصص تروي أحداثا لشخوص يتم ذكرهم. إلا أن هذا التوظيف لا يخل بطبيعة السرد العادي لمجريات الرواية، كما أن القصص الومضة التي تحملها الرسالة الواردة في كل لحظة داخل السرد التراتبي لأحداث الرواية يجعل من مساحة السرد الروائية بعينها تقترض نوعا من التقنيات التي تشتهر بها الرسالة وهي وجود مرسل ومرسل إليه مع الوظيفة الإخبارية التي لا يمكن فصلها أبدا عن الطرفين السابقين، فيتشكل هنا عمق في التمازج الأجناسي كثيفا لا يمكن الفصل فيه، فالأمر يتعدى كون الرسالة موجودة في النص بل كون النص في ترابط شديد ببنية الرسالة في حد ذاتها. والأمر الذي يجعل من هذا الالتحام يتم بطريقة غير مريبة للقارئ هي حضور القصة الومضة داخل بنية الرسالة عينها. “آخر مرّة قررت مفارقة شخص جمعتني به علاقة دخلت في حالة نفسية غريبة, كانت أشبه بفقدان الثقة في النفس, الحقيقة أن فراقه كان أمرا محتوما فقد وصلنا لمرحلة سدّت فيها علينا قنوات التواصل والمفاهمة, فقررت الانفصال, قراري كان بلا رغبة مني, كنت أعلم أننا إذا افترقنا فلن أجد حينها من سيفهمني. أحس بانعدام الشخصية فمنذ عام تقريبا لم أتمكن من إنشاء علاقة تواصل مثل السابقة. هل أنا إنسان فاشل ؟”[18]
القصة رقم01 | مقاطع الرسالة/القصة الومضة | البنية السردية |
القصة التي تعالج موضوع الفراق……فراق الأحاسيس | آخر مرّة | بداية القصة الومضة داخل هيكل الرسالة القصيرة |
قررت مفارقة شخص | الحدث القصصي الموجز/السبب/العقدة | |
دخلت في حالة نفسية غريبة, كانت أشبه بفقدان الثقة بالنفس, الحقيقة أن فراقه كان أمرا محتوما فقد وصلنا لمرحلة سدّت فيها علينا قنوات التواصل والمفاهمة, قراري كان بلا رغبة مني | الوصف الدقيق و المكثف للحدث الرئيس الذي تدور حوله القصة | |
كنت أعلم أننا إذا افترقنا فلن أجد حينها من سيفهمني. | الحل/الانفراج | |
أحس بانعدام الشخصية فمنذ عام تقريبا لم أتمكن من إنشاء علاقة تواصل مثل السابقة. هل أنا إنسان فاشل؟ |
ولو أكملنا دراسة كل النماذج السردية التي أخذت هيكل الرسالة في البنية السطحية لتكون قصة ومضة في البنية العميقة للرسالة لوجدناها في مجملها تنبني بهذه النمطية التشكيلية. وهذا ما يبيّن لنا مدى مقدرة الكاتب على تعرية جل التقنيات السردية التي تنبني على أساسها الفنون النثرية الأخرى من بينها الرسالة.
ثانيا: التمازج التقني بين الرسالة/ الأسلوب الإخباري والسرد:
يصعب على القارئ الخوض في مساحات التمازج التقني بين الرواية كبنية كلية والرسالة كبنية جزئية تساهم في تأسيس فسيفساء نصية عميقة، فهي أشبه ببيت العنكبوت المتشابك ولكنه هش الصنع طبعا فإن نحن حاولنا الوثوق بقدرتنا على ولوج تلك المناطق ذلك أنه علينا الحذر أيما الحذر من تلك المنحدرات التي توجد على مستوى النص الأدبي الذي بين أيدينا، ذلك أن النص في حد ذاته يكون فلوتا غير قابل للاستقرار على نمط معين وفرادي بل يريد لنفسه التشكل والتجدد في كل وقفة قراءة، إنه فينيق يتجدد من رماده بعد اعتقاد الكل أنه ذهب مع الريح وأن حيلولته لن تعاد من جديد، وهذا ما يُصَّعِب علينا الخوض الجريء في خباياه وتمظهرات التداخل الإجناسي فيه. إلا أن الأمر الذي يشجعنا على الخوض في هكذا قضية هو أن المعالجة ستكون منطقية أكثر منها تأويلية تلعب في مناطق محرمة أو لنقل مناطق ملغمة كالتأويل مثلا، فالتحليل على مستوى البنية السطحية للغة الخطاب السردي تجعل من المناقشة تتخذ أفقا جديدا غير الذي تتخذه القراءة التأويلية التي ترمي القبض على المعنى من خلال البنية العميقة للبنى التركيبة للنص في حد ذاته.
سبق وذكرنا أن رواية بوح الوجع من الروايات المعاصرة التي جعلت من تركيبتها لوحة تشكيلية تنضخ بالتقنيات الفنية التي تتوفر عليها أجناس أدبية أخرى مثل الرسالة من خلال ما ورد في متن الرواية والحوار المسرحي الذي تمظهر في المناجاة أو المنولوج الذي يظهر جليا على مساحات السرد من البداية إلى نهاية الرواية. تستشكل أمام القارئ تلك المساحات اللغوية التي يمكن تشبيهها ببرزخ بين نمط السرد وبين التقنية الأخرى التي تتمازج وإياها البنى الفنية للشريط اللغوي الخاص بالرواية.
وهذا ما يحدث في هذه الحال: لكنّي اليوم وأنا جالس قبالة نافذتي المطلّة على زحمة الشارع الرئيسي الخانقة، داخلني شعور نافذ بأنّني أنا الصابر على كلّ بلواي سيأتيني الفرج، الصابر ينال في ثقافتنا واعتقادنا. مرّرت بسرعة مقطع للصّبر حدود.[19] مقطع سردي من لحظة تذكر في أثناء السرد/الاسترجاع، المقطع فيه مجموعة من الأفعال (05) تؤكد لنا نمطية سيرورة السرد عن طريق مستوى السرد المتراوح بين السرد الطبيعي وتقطعات الزمن بين استرجاع واستباق وبرزخ بينهما تتخلله الرسالة كما سيأتي:
-…. وصلتني من:
De : samir.debi@….. |
النهاية
أعدت الاستماع للرّسالة مرّة أخرى. في ذلك الوقت تمنّيت لو أنّي التقيت بسمير، ثمّ لم ألبث أن حقّقت مرادي. والتقينا، أردت أن أسمع حكايته منه بتفصيل أكثر وأناقشه في رأي خطيبته السابقة التي اتصلت بعد قراءتي لرسالته بوقت قصير.
العودة إلى الطبيعة السردية التراتبية للرواية من جديد و لكن على مستوى تداخل بسيط بين مستويات السرد ومفارقات الزمن فنحن هنا لا نزال في ذاكرة السارد ضمن الاسترجاع للحدث الروائي داخل الرسالة.
تلاحم لغوي وفني فالرسالة هنا متكاملة الأجزاء من مرسل “سمير” إلى مرسل إليه “يوسف” نص إخباري ومتن فيه كل المقومات الإخبارية إضافة الى عتبات الرسالة التي تعرف بتقليد التراسل الذي هو التحية ، إلا أن التقنيات السردية للقصة الومضة التي تشكلت داخل البناء العميق للرسالة الموضحة أعلاه من الشخصيات والزمان والمكان المتعدد والوصف الدقيق والمركز جعل من التمازج الأجناسي قوي الحضور وجلي الظهور. مما زاد النص رصانة على مستوى الحدث في حد ذاته فنحن نقرأ قصة داخل قصة داخل قصة وهذه العملية الخلاقة بين تلك العناصر اللغوية و البنيوية تجعل من الكاتب منتقيا على مستوى لغة السرد فقد تلاعب بالمستوى السردي بكيفيات تجعل من النص ثريا بالأحداث والقضايا المناقشة على كل مساحات السرد في حلة تشابه الفسيفساء من حيث البناء.
بعد هذا العرض البسيط للتقنيات التي تداخلت و تلاحمت في رواية بوح الوجع نضع المخطط الأتي لهيكل الرواية ككل:
المصادر والمراجع:
- احسان بن صادق بن محمد اللواتي: اشكالية النوع السردي في لا يجب ان تبدو كرواية ، تداخل الأنواع الأدبية مؤتمر النقد الدولي الثامن عشر، سنة 2009.
- أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث أصوله و اتجاهاته، دار النهضة العربية ط2، بيروت “لبنان” ، سنة 1981.
- تداخل الأنواع الأدبية، مجموعة من المؤلفين، عالم الكتاب الحديث،المجلد 1، اليرموك الأردن، سنة 2009.
- تداخل الأنواع الأدبية، مجموعة من المؤلفين، عالم الكتاب الحديث،المجلد 2، اليرموك الأردن، سنة
- توفيق الطويل وسعيد زايد المعجم الفلسفي ، مجمع اللغة العربية الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية ، القاهرة “مصر” سنة 1983 .
- ابن خلدون عبد الرحمان، المقدمة ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب و البربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر ،دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان. سنة 2007.
- ابن طباطبا العلوي ، عيار الشعر، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الاسكندرية مصر. دط، دت.
- عز الدين مناصرة، علم التناص المقارن نحو منهج عنكبوتي تفاعلي ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان الاردن ط 1 ، سنة 2006.
- ك.م نيوتن، نظرية الأدب في القرن العشرين، ترجمة عيسى على العاكوب للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، ط1، سنة 1996.
- محمد الأمين بن ربيع، بوح الوجع، موفم للنشر، ط1، الجزائر، سنة 2014.
- محمد يوب، شعرية السرد الروائي في رواية ظلال إمرأة عابرة ، مقال منشور في مجلة دروب .25نوفمبر 2011.
- يوسف وغليسي، اشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد. الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1 بالجزائر، سنة 2008.
– أحمد كمال زكي، النقد الأدبي الحديث أصوله و اتجاهاته، دار النهضة العربية بيروت “لبنان” ط2 ، سنة 1981.ص 76. [1]
*بوح الوجع، رواية للروائي “محمد الأمين بن ربيع” حاصلة على جائزة رئيس الجمهورية علي معاشي للمواهب الشابة سنة 2012. طبعت بالمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، موفم ، وحدة الرغاية، الجزائر، سنة 2014.
[2]– ك.م نيوتن، نظرية الأدب في القرن العشرين، ترجمة عيسى على العاكوب للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، ط1، سنة 1996. ص 120
[3] – ابن خلدون عبد الرحمان، المقدمة ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب و البربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت لبنان سنة 2007 ، ص 619.
[4]– احسان بن صادق بن محمد اللواتي: اشكالية النوع السردي في لا يجب ان تبدو كرواية ، تداخل الأنواع الأدبية، مؤتمر النقد الدولي الثامن عشر، ، عالم الكتاب الحديث، اليرموك الأردن، سنة 2009، ص 42.
بنديتو كروتشيه: ناقد وفيلسوف ايطالي عرف برفضه لمقولة تصنيف الأنواع الأدبية والفنية. *
– احسان بن صادق بن محمد اللواتي: اشكالية النوع السردي في لا يجب ان تبدو كرواية ، تداخل الأنواع الأدبية، مرجع سابق ، ص 42.[5]
[6] – عز الدين مناصرة، علم التناص المقارن نحو منهج عنكبوتي تفاعلي ، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان الأردن ط 1 ، سنة 2006 ، ص 79.
[7]– توفيق الطويل وسعيد زايد المعجم الفلسفي ، مجمع اللغة العربية الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية ، القاهرة “مصر” سنة 1983، ص 63.
– مصطفى الضبع : تداخل الأنواع في الرواية العربية ، تداخل الأنواع الأدبية ، م2 ،مرجع سابق، ص 647.[9]
محمد الصالح الشنطي، تداخل الانواع الأدبية في الرواية الأردنية، تداخل الأنواع الأدبية ،م 2، مرجع سابق، ص 422. – [10]
– ابن طباطبا العلوي ، عيار الشعر، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الاسكندرية مصر، ص 84/85. [11]
– ابن خلدون، المقدمة، مصدر سابق، ص 619[12]
[13]– نقلا عن يوسف وغليسي، اشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد. الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، بالجزائر، سنة 2008، ص 318.
ينظر محمد يوب، شعرية السرد الروائي في رواية ظلال إمرأة عابرة ، مقال منشور في مجلة دروب .25نوفمبر 2011. -[14]
– محمد الأمين بن ربيع، بوح الوجع، موفم للنشر،ط1، الجزائر، سنة2014، ص 07.[15]
– محمد الأمين بن ربيع، بوح الوجع، ص08[16]