
من مظاهر التّسلّط في النّقد العربي القديم، الموازنة بين الطائيين للآمدي أنموذجا
د. علي بن عبد الله / جامعة المنستير، تونس
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 47 الصفحة 47.
الملخص:
الرقابة كلّ عمل قامع للفكر وللإبداع، وخاصّة الأعمال الخارجة عن مألوف التّصوّر، فهي بهذا الشّكل موجودة في كلّ زمن يمارسها من كلّ من يری في نفسه القدرة، والتّمكين، والقهر إذ هي عمل يحتاج إلی شرعيّة تعضده، وتحمل علی الخضوع له، وهذه الشّرعية إنّما هي سلطويّة ضرورة، وربما نفهم السلطة انطلاقا من وجهة النّظر السّياسية، ولكنّها أوسع من ذلك بكثير؛ فالسّلطة إذا كانت فعلا قاهرا محقّقا للغلبة فإنّها ماثلة في كلّ فعل له هذه الصفة، والكلام هو فعل النّاس الغالب حضورا، ففي الخطابات إذن تتجسّم السّلطة، وقد لا تظهر علی سطح الخطابات بقدر ظهورها في عمقها، ومقصدها ما يتطلب نظرا وتحقيقا، بل لعل السّلطة هي في الحقّ التّجسيم الخطابي للقوة القاهرة، وإذا كانت السلطة فعل كلام فإنّها بهذا الشّكل أقرب إلی مجالات الكلام مثل الأدب، والنّقد، وهما مجال الفضل، والتفوق عند العرب القدامی، وفعلا، إذا نظرنا إلی بعض أعلام النّقد القديم أدركنا مدی إيمانهم بشرعيّة ممارسة الفعل النّقدي الرقابي التسلطي القاهر علی المبدعين من أجل تكريس مبادئ، والحفاظ علی توجّهات، وهذا أمر يستحقّ النّظر حقيقة، وهذا ما اتّجهنا إليه في هذا المقال الذي يتناول علما من أعلام السّلطة النقدية عند العرب هو الآمدي ممارسا لقهره السّلطوي الرّمزي، مراجعا علما من أعلام التّحدي الشّعري العربي هو أبو تمام، محاولا إيقاع غلبة قديمه علی حديث الشّاعر، وقمع سعيه إلی الإبداع، ومراقبة فعله الإبداعي كما تفعل كلّ سلطة مع كلّ تمرّد.
الكلمات المفتاحية: النقد، السلطة، الرقابة، الموازنة، العنف الرمزي، العمل النقدي، أبو تمام، البحتري
كان النقد العربي القديم سلطة([1]) رقابة حقيقيّة لها أثر شديد على الإبداع كما يكون أمر هيئات الرقابة الحديثة، فإن لم تكن للناقد القديم صلاحية منع المنتجات الفنية من النّشر والتّوزيع والإذاعة بين الناس، فإنّ له صلاحيات أكبر وأدوات أشد وقعا على الشّعراء مثل الحكومة في من أشعر، والتّصنيف، والمقارنة، والموازنة، والإهمال، والإبعاد، وطيّ الذّكر، والتناسي، وخصوصا التّنظير للإبداع، وتحديد خصائص المنظومة الشّعريّة المرجعيّة التي تصبح أداة القمع الرقابي لديه، وكل هذه الصلاحيات ملكها الآمدي في كتابه الموازنة([2])، المنجز النقدي الذي يقدّمه الباحثون أثرا مجسّما للاكتمال والتّطوّر في الخطاب النّقدي القديم، كما يقدّمونه مجسّما للمنهجيّه في الرّؤيه النّقديّة، وفي الممارسة الإجرائية للعمل النقدي([3]) ([4]).
هذه السلطة النقدية تعتمد العنف وسيلة لإنفاذ أحكامها كما يكون الأمر عند كل نوع من أنواع السلطة، وطبعا لا يمتلك الناقد أدوات العنف المادية، وإنما يمتلك أدوات عنف آخر ربما يكون أكثر شدة وأثرا، هو العنف الرمزي الذي هو ممارسة مؤسساتية للعنف، أي يمارسه المسؤولون في المؤسسة في ضوء سلطاتهم الشرعية على الأفراد بهدف السيطرة عليهم، والتحكم فيهم، وإخضاعهم بحسب ما يناسب أفكارهم، وأهدافهم، ومعتقداتهم، وطبعا كل عنف يجسم سلوكا عدوانيا، فالعنف يقترن دائما بالقوة والإكراه، وهو سلوك يتسم بالعدوانية، ويحدث أضرارا للطرف الأضعف([5])، ويتجسم العنف الرمزي في الممارسة اللغوية، وأشكال الخطاب لأن المتسلط يبث إشارات عدوانية تحتمل قرائن الاستهزاء، والتبخيس، والكراهية([6])، ولما كان النقد العربي القديم مؤسسة، لما كان الناقد يعتقد أنه قيم على مبادئ المؤسسة، ومكلف بحفظها من الزوال أقبل على ممارسة هذا العنف تجاه المبدعين، وفعّل سلطته القامعة بتقديمه لرؤاه التّصوّرية العامّة، وبتنفيذه منهجه النقدي، وباعتماده خطابا مخصوصا، فمقاصده الرقابية تتجسّم في الإنجاز التّلفظي، ومن تجليات هذا الإنجاز التّنظيم، والتّرتيب، واللّهجة، والطّريقة، وبكلمة ما نصطلح عليه الأسلوب، ومن الأسلوب فلسفة القائل في بناء أقواله، أو الكاتب في بناء كتابه، وعلى هذا نحن سنتناول كتاب الآمدي، وسننظر في ما يجسم عمله التسلطي الرقابي القامع للإبداع الشعري
الأسس الفكرية لعمل الآمدي النقدي:
وضع الآمدي القضية في إطارها الفكريّ منذ المنطلق؛ فقد أشار صراحة في بداية كتابه إلى الخلاف الواقع بين أنصار كل شاعر، وليس هذا الخلاف عرضيّا أو عابرا وإنّما هو أصيل، عميق الجذور، هو خلاف في القناعات، وأشكال اليقين لأن من فضّل أبا تمّام ” نسبه إلى غموض المعاني، ودقّتها، وكثرة ما يورده ممّا يحتاج إلى استنباط، وشرح، واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني، والشّعراء أصحاب الصّنعة، ومن يميل إلى التّدقيق، وفلسفيّ الكلام “([7])، ومن فضّل البحتري فقد “نسبه إلى حلاوة اللّفظ، وحسن التّخلّص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحّة العبارة، وقرب المأتى، وانكشاف المعاني، وهم الكتّاب، والأعراب، والشّعراء المطبوعون، وأهل البلاغة “([8])، ومن هؤلاء من اعتقد أن البحتريّ ” أعرابيّ الشّعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشّعر المعروف، وكان يتجنّب التّعقيد، ومستكره الألفاظ، ووحشيّ الكلام؛ فهو بأن يقاس بأشجع السّلمي، ومنصور، وأبي يعقوب المكفوف، وأمثالهم من المطبوعين أولى. ” أما أبو تمّام فـ ” شديد التّكلّف، صاحب صنعة، ومستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة، والمعاني المولّدة؛ فهو بأن يكون في حيّز مسلم بن الوليد، ومن حذا حذوه أحقّ، وأشبه “([9]). ولكن الآمديّ لا يبقى في مستوى العرض الموضوعي البارد، وإنما يأخذ بيد القارئ؛ فيوضح له طريقَيْ الاختيار بين الشاعرين انطلاقا ممّا لديه من أنواع الميل؛ فإن كان هذا القارئ ” ممّن يفضّل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحّة السّبك، وحسن العبارة، وحلو اللّفظ، وكثرة الماء والرّونق ” فالبحتريّ أشعر عنده ضرورة، وإن كان يميل ” إلى الصّنعة، والمعاني الغامضة الّتي تستخرج بالغوص والفكرة ” فأبو تمام عنده أشعر لا محالة.
هذه النصيحة لها دلالتان مختلفتان: واحدة ظاهرة هي عمل التوجيه، والمساعدة، وأخرى باطنة هي الهدف الحقيقي للكاتب، وهي تدرك من سياق الكلام، وخصائص الألفاظ، فمعلوم أن الكاتب ألحق دلالات السهولة، والصحة، والحسن، والحلاوة، وغير ذلك بالبحتري، وألحق نقيضها جميعها بأبي تمام؛ فأعلن ضمنيا أنّ الموازنة الّتي بني عليها كتابه تبدو متصنَّعة، وفعلا حاول الكاتب التأسيس لمواقفه، وأحكامه، وبدأ بحكم تصنيفيّ هو في الحق بيان لضوابط الشّعر المطبوع، وخصائص الشّعر المصنوع التي هي في الأصل أسس رقابيّة تجسّم سلطة النّاقد على الفعل الإبداعي([10]).
وصل الآمدي وصلا عضويا عمود الشّعر بصفة البداوة في الشّعر، ووصل الطّبع باتّجاه الأوائل الفنّي، كما فصل فصلا نهائيا عمود الشّعر باعتباره زبدة ما نتج عن تجربة القدامى الفنّيّة الأصيلة عن نقائص يمكن أن تنحطّ بالشّعر كالتّعقيد، وإيراد الوحشيّ من اللّفظ، والتّكلّف، وما إلى ذلك من الشّوائب، وطبعا الخروج مردود في اعتبار الآمدي، مرذول بل متّهم مدان، ولذلك كان الآمديّ متعاطفا مع البحتريّ، مثمّنا خضوعه، واتّباعه، و” الْتزامه “، وكان منكرا الطائيَّ، مدينا خروجه أو مروقه، ناعيا عليه خطأه، وعدم الْتزامه؛ فشرط الإبداع عند الناقد التقليدي أن يقول الشّاعر ما يناسب الحال، وما يوافق الواقع، وإلاّ حكم عليه بالخطأ، والإحالة، ومن هنا يمكن الجزم بأنّ الآمدي ناقد ممثّل للمؤسّسة النّقدية، وناهض بالوظيفة التي ارتضاها لنفسه داخل هذه المؤسسة، دور الرقابة والمحاسبة، ولن يكون ذلك إلا باكتساب السلطة العلمية والوجاهة المعرفية المشرعنة لذلك التسلط الرقابي
منهج الآمدي النقدي وتجليات السلطة الرقابية فيه:
نعني بالمنهج النقدي العمل الفعليّ للنّقد، أي ما يمكن أن نسمّيه النّقد التّطبيقي، وهذا النّوع كان له الحظّ الأوفر من كتاب الآمدي حتّى أنّ التنظير فيه كان قليل الحظ، اكتفى فيه النّاقد بإشارات مبثوثة ذكرنا بعضها آنفا.
قوله في مسألة الطّبع والصّنعة:
يميز النّاقد بين أبي تمّام والبحتري في مسألة الطّبع والصّنعة منذ المنطلق؛ فيسند الصّفات الحسنة إلى شعر البحتري وطريقته، ويلحق كل ما هو خبيث من الصّفات بأبي تمّام، وطريقته في الشّعر؛ فيظهر إعجابا بشعر البحتري، وإنكارا لشعر أبي تمّام، ويؤثّر بذلك على ميزان العدل الّذي اعتمده للمقايسة والموازنة ليجعله مائلا إلى البحتري، وينقض دعوى التّجرّد الّتي لطالما أكّدها له عدد من الباحثين([11])؛ فالآمدي يصف البحتريّ بأنّه ” أعرابيّ الشّعر، مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشّعر المعروف، وكان يتجنّب التّعقيد، ومستكره الألفاظ، ووحشيّ الكلام”([12])، وفي مقابل ذلك يصف أبا تمّام بأنه ” شديد التّكلّف، صاحب صنعة، ومستكره الألفاظ والمعاني، وشعره لا يشبه أشعار الأوائل، ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة، والمعاني المولّدة “([13])، بل يحاول النّاقد منذ المنطلق أن يجد لأبي تمّام نظيرا؛ فلا يجد إلاّ مسلما ابن الوليد، إلاّ أنّ الآمدي يستدرك؛ فيرى أنّ الطائيّ ” ينحطّ عن درجة مسلم لسلامة شعر مسلم، وحسن سبكه، وصحّة معانيه”([14])؛ فانظر إلى ما عامل به الآمدي الطائيّ من التّجنّي الّذي يظهر في الأوصاف، والاختيارات اللّفظية، والعناصر الأسلوبية الّتي تتضافر لتظهر مصادرة الآمدي الّتي هي منطلق الموازنة، وأساسها، والّتي تلخّص في أنّ الفضل يسند إلى البحتري، وأنّ النّقص يصيب أبا تمّام على أساس أنّ الأوّل وشعره رمز للصّحة، وأنّ الثّاني وشعره رمز للسّوء. لقد أقام الآمدي بهذا القول مطابقة بين الشّاعرين على أساس ثنائيّة الحسن والقبح؛ فوجّه التّلقّي، وأثّر على عمل القراءة، وحمّل اللّغة دلالة ثانية خفيّة أغرى بها قارئه؛ فانتقضت دعوى العدل لديه، وخطا خطوة في سبيل تحقيق مقصده الّذي هو بالضّرورة إنكار شاعريّة أبي تمّام، وتنصيب البحتري سادنا لمعبد الإبداع، حافظا لأسسه وشروطه. يقول الآمدي: ” ولكن أصحاب أبي تمّام ادعوا أنّه أوّل سابق، وأنّه أصل في الابتداع، والاختراع؛ فوجب إخراج ما استعاره من معاني النّاس، ووجب من أجل ذلك إخراج ما أخذه البحتري أيضا من معاني الشّعراء، ولم أستقص باب البحتري، ولا قصدت الاهتمام إلى تتبّعه، لأنّ أصحاب البحتري ما ادّعوا ما ادّعاه أصحاب أبي تمّام لأبي تمّام “([15]). يجد النّاظر في هذا القول انحياز الناقد للبحتري فكأنّ النّاقد صوت الرّدّ، وأداة الدفاع، وعنصر من عناصر الخصومة، يعين طرفا على طرف، ويسعى إلى نقض دعوى طرف، وإقامة دعوى الطّرف الآخر، أمّا الطّرف الّذي انحاز إليه الآمدي فهو البحتري، وقد نقض بهذا الانحياز أساسا من أسس التّميّز الّتي انفرد بها أبو تمام في الأدب العربيّ، وهو الاختراع للمعاني، والابتداع لها؛ فالناقد يعترف بأنّه استقصى سرقات أبي تمّام، ونقّب، وبحث، وأنّه بذل هذا الجهد لسبب، ومن أجل غاية. أمّا السّبب فهو كثرة ما يدعيه أصحاب الشّاعر من أنّه مخترع، وأمّا الغاية فهي ضمنيّة لم يعلنها الآمدي، ولكن يمكن إثباتها انطلاقا من بنية الخطاب، ومن طبقات المعنى فيه، وهي محاولة نفي هذه الخصيصة عن الشاعر، والسّعي إلى ردّه إلى جملة الشّعراء العاديّين، ونفي فضله، وإطفاء الشّعلة الّتي أسرجها الشاعر بشعره ليضيء بها مناطق جديدة في درب الشعر العربي؛ فمقصد الآمدي نفي الشّعرية عن أبي تمّام، ونفي الشّعرية عن الاتجاه الشعري الجديد، وفي مقابل ذلك إثباتها للبحتري رمز التّقليد، وإمام المتّبعين من أهل الطّبع والخاطر.
يقدم الآمدي حكما تأسيسيّا آخر يوجّه موازنته بكلّيتها، ويعبّر عن انحيازه ولا موضوعيّته، وعن كونه في الموازنة ليس إلاّ طرفا في الخصومة، وليس إلاّ داعيا إلى اتّجاه في الشّعر، ومعبّرا عن قناعة فئة من النّقاد الّذين يمكن تحديد خصائص نظرتهم منذ هذه اللّحظة بأنهم نقّاد الأدب الّذين جعلوا اللّغة أساسا لنقدهم، وجعلوا الصّحة سمة للشّعر الحسن عندهم، والبيان وظيفة للشّاعر عندهم، والطّبع لونا وفضلا يُفضّل به الشّاعر عندهم، رأي الّذين قصروا كل إحسان على القديم المتقدّم الّذي أطلّ عليهم من عمق التّاريخ، ومن عمق الصّحراء، رأي الّذين قصروا الإحسان على الأعراب أهل البادية الأصلاء، وراقبوا الإبداع بهذه الرؤية التسلطية. يقول: ” فأمّا مساوئ البحتري من غير السّرقات فقد دقّقت، واجتهدت أن أظفر له بشيء يكون بإزاء ما أخرجته من مساوئ أبي تمّام في سائر الأنواع الّتي ذكرتها؛ فلم أجد في شعره لشدّة تحرّزه، وجودة طبعه، وتهذيبه لألفاظه، من ذلك إلاّ أبياتا يسيرة أنا أذكرها عند الفراغ من سرقاته “([16]). لقد حقّق الناقد مقصده من الكتاب وهو مصادرة كل شعر لا يناسب ذوقه الفنّي، ومحاصرة كل اتّجاه إلى تمثّل الإبداعات المشوِّشة للذّهن، والواقعة وراء الانتظارات من أمثال أشعار أبي تمّام، وليست هذه المحاصرة إلاّ خطوة في سبيل إعادة الأمور إلى نصابها، ومحاولة للانقلاب على التّاريخ، بشلّ حركته والعودة به إلى منطلقاته، ومراحل البدء فيه. إنّ مقصد الآمدي من الفعل النقدي هو محاولة نفي للصّيرورة في حركة الإبداع، ولا يتحقّق له ذلك إلاّ إذا أدان رموز هذه الصّيرورة، ونفى فضلهم، وتسلط عليهم برقابته القامعة والموجّهة للتلقي، وأهمّ هؤلاء الرّموز أبو تمّام([17]).
صور أخرى من العمل النّقديّ الإجرائي للآمدي:
- عرضه لاحتجاج صاحبي أبي تمام والبحتري:
أورد الآمدي هذا القسم الأوّل من الموازنة على لسان صاحبي أبي تمّام والبحتري تنفيذا لما وعد به من الإمساك عن الحكم، ومن ترك المجال للمتلقّي ليحكم بنفسه إذا تبيّن له الأمر، وقد بني هذا الاحتجاج على مسألة أساسية يمكن اعتبارها مركز الحوار، والغاية الّتي ينتهي إليها السّجال بين الفريقين، وهي منْ أشعر، أبو تمّام أم البحتري؟. وانطلق هذا الاحتجاج بإنكار صاحب أبي تمّام قول القائل: إنّ البحتري أشعر من أبي تمّام والحال أنّه أخذ عنه، وحذا حذوه، وصاحبه، وتتلمذ عليه([18]). هذه المسألة ستكون منطلقا للجدل في مجموعة من القضايا الفرعية الّتي سيستعملها كلّ من الفريقين إمّا لإثبات فضل أبي تمّام، وتقدّمه وتفرّده، وبالتّالي تفوّقه على البحتري، وإمّا العكس، أي نفي هذا الإدّعاء، وإثبات نقيضه، أي تفوّق البحتريّ، وفوزه، وسبقه، وفضله. لقد كان المنطلق والمبدأ في إثارة مسائل الاحتجاج دائما لأصحاب أبي تمّام؛ فهم الّذين يسبقون بالدّعوى، ويثيرون القضيّة، وكانت الرّدود دائما لأصحاب البحتري؛ فهم الّذين يقابلون الزّعم بالتّفنيد، والاحتجاج، من ذلك مثلا المسألة عدد 21: ” قال صاحب أبي تمام: قد علمتم، وسمعتم الرواة وكثيرا من العلماء بالشّعر يقولون: جيّد أبي تمّام لا يتعلّق به جيّد أمثاله (…)، قال صاحب البحتري: إنّما صار جيّد أبي تمّام موصوفا لأنّه يأتي في تضاعيف الرّديء السّاقط؛ فيجيء رائقا لشدّة مباينته لما يليه؛ فيظهر فضله بالإضافة “([19])، وعموما كانت دعاوى صاحب أبي تمّام تُجْمَل في محاولة البحث عن الشواهد المؤكدة شاعريّة أبي تمّام، فهو في نظره: ” انفرد بمذهب اخترعه، وصار فيه أوّلا، وإماما متبوعا، وشهر به حتّى قيل: هذا مذهب أبي تمّام، وسلك النّاس نهجه، واقتفوا أثره، وهذه فضيلة عرِي عن مثلها البحتري “([20])، ورأى كذلك أنه: ” إنّما أعرض عن شعر أبي تمّام من لم يفهمه لدقّة معانيه، وقصور فهمه عنه “([21])، وقال كذلك: ” قد عرّفناكم أنّ أبا تمّام أتى في شعره بمعان فلسفيّة، وألفاظ غريبة؛ فإذا سمع بعض شعره الأعرابيّ لم يفهمه؛ فإذا فُسّر له فهمه واستحسنه”([22]). بيّن من هذه الدّعاوى أنّ صاحبها ينطلق من مجموع المواقف الشّائعة، والأفكار الّتي استقرّت قواعد في تناول شعر أبي تمّام، وفي الحكم على الشّاعر، ومن ذلك: نفْيُ الشّاعرية عنه، وتفضيل البحتري عليه، وتعلّقه بالكلام الفلسفيّ، وأخذ البحتري من أبي تمّام، وغير ذلك من مسائل الخلاف، فهذا الاحتجاج الّذي أورده الآمدي يستند إلى ذلك السّجال الّذي نشأ في أبي تمّام، ثمّ في أبي تمّام والبحتري في الزّمن السّابق للنّاقد، وعلى العموم يبدو صاحب أبي تمّام ضمن هذا الاحتجاج مدافعا عن الشاعر، وساعيا إلى إقناع الآخر المحاجّ بأن تلك التّهم والمساقط الّتي لحقت أبا تمّام، وشوّهت صورته شاعرا إنّما هي في حقيقة الأمر فضائل تؤكّد الشّاعرية، وتحفظ للشّاعر مكانته بين جملة الشّعراء، بل تؤكّد تفرّده، وإمامته لمذهب في الشّعر طالما لهج به أصحابه، واستندوا إليه لتأكيد تفوّق صاحبهم، غير أنّ هذه المحاولة أصابها الوهن الشديد، فحجج أصحاب أبي تمّام مقتضبة تكتفي بالتّسمية دون الاحتجاج إلاّ في مواطن قليلة هي مواطن الاعتذار لأبي تمّام، ومواطن الاتهام والإدانة لمن عاب شعره؛ فقد اعترف المدافع عن أبي تمام بما وقع فيه صاحبه من الوهم، والميل عن الصّواب، واعتذر له على هذا السّقوط، فقال: ” وغير منكر لفكر نتج من المحاسن ما نتج، وولّد من البدائع ما ولّد أن يلحقه الكلال في الأوقات، والزّلل في الأحيان، بل من الواجب لمن أحسن إحسانه أن يسامَح في سهوه، ويُتجاوز له عن زللـه؛ فما رأينا أحدا من شعراء الجاهلية سلم من الطّعن، ولا من أخذ الرّواة عليه الغلط والعيب “([23])، ثمّ انبرى يذكر مآخذ العلماء على الشّعراء في شيء من التّبسّط، والتّوسّع الّذي قد يوهم بالقدرة على الجدل والرّد، ولكنّه في الحقيقة مؤكّد لضعف حجّته، وقلّة حيلته في ما سبق من المسائل. إنّ احتجاج صاحب أبي تمّام إذن دليل ضعف، بل هو أقرب إلى استعطاف الفضل، واستدرار الاعتراف من صاحب البحتريّ على أساس أنّ صاحب البحتري يصدر عن فكر سائد، وأنّ صاحب أبي تمّام يواجه تيّارا لا رادّ له، هو تيّار تفضيل الطّبع على الصّنعة، وتفضيل البحتري رمز الطّبع والسّماحة على أبي تمّام رمز التّعمّل والتّكلّف.
كانت لمواقع المحتجين في إطار هذا الحوار دلالة، إذ ظهر صاحب أبي تمّام مثيرا للقضايا، وظهر صاحب البحتريّ مفسّرا، ومحتجّا، ومتوسّعا في الرّدّ، ومتبسّطا في التّوضيح والبيان، وهذا طبعا يؤكّد بما لا يدع مجالا للشّك أنّ صاحب أبي تمّام قليل الحجّة، ضعيف الإقناع، يتوسّل الاعتراف بشاعريّة صاحبه، بينما صاحب البحتري شديد الموقف، قويّ الحجّة، لا يمكن ردّ أقواله، أو تكذيب دعاواه، ولنا في حديثه عن اللّحن في الشّعر وفي تفسيره تسمّح النّقّاد مع لحن القدامى وتشدّدهم مع لحن أبي تمّام خير دليل على صلابة موقعه محاجّا لصاحب أبي تمّام، فقد استعمل صاحب البحتري كلّ الحجج الممكنة، وعضد حجاجه بأدوات البيان والتّفسير، وانتهى إلى الاستنتاج المفحم، والقانون النّهائيّ الّذي لا يقدر صاحب أبي تمّام على أن يردّه؛ فأثبت أنّ أبا تمّام ” يتبهرج شعره عند التّفتيش، والبحث، ولا تصحّ معانيه على التّفسير، والشّرح “([24]).
لقد أورد الآمديّ في هذه المسألة النّقديّة الّتي هي: ” احتجاج الفريقين ” سجالا غير متكافئ الأطراف؛ فمن جهة صوت يستدرّ العطف، ويتوسّل المكانة، ويتشاكى، ويتمسّح هو صوت صاحب أبي تمّام، ومن جهة مقابلة، صوت يفسّر، ويبرهن، ويؤكّد، ويحكم، فهل يمكن للحجاج أن يكون بهذه الصّورة غير المتكافئة؟. إنّنا نذهب إلى القول إنّ هذا البناء، وهذا التّرتيب مقصود من الآمدي؛ فقد قصد إلى أن يجعل صوت شعر أبي تمّام خفيضا عييّا، وأن يجعل صوت صاحب البحتري أو صوت شعره صادحا لا لبس فيه، ولا تردّد، ومظهر ذلك نمط الأحكام وأسلوب الخطاب، ذلك الأسلوب الاتهامي، المباشر، الصّادح بالمواقف كأن يقول صاحب البحتريّ مثلا إنّ أبا تمّام ” يأخذ المعاني، ويحتذيها؛ فليس لها في النّفوس حلاوة ما يورد الأعرابيّ “([25])، أو أن يقول ” إنّما عبناه (يعني أبا تمّام) بخطئه في معانيه، وإحالته في استعاراته، وكثرة ما يورده من السّاقط، والغثّ، البارد، مع سوء سبكه، ورداءة طبعه، وسخافة لفظه “([26])، أو أن يقول متصاعد الصّوت، شديد اللّهجة: ” فلا تدفعوا العيان، فلن يمحق وصف البحتري أبا تمّام في حياته، وتأبينه إيّاه بعد وفاته ما ظهر من مقابحه وفضائح شعره”([27])، أو أن يقول: ” وأبو تمّام لا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من عدّة أبيات يكون فيها مخطئا، أو محيلا، أو عن الغرض عادلا، أو مستعيرا استعارة قبيحة، أو مفسدا للمعنى الّذي يقصده بطلب الطّباق، والتّجنيس، أو مبهما بسوء العبارة، والتّعقيد؛ حتّى لا يفهم ولا يوجد له مخرج، ممّا لو عددناه لكان كثيرا فاحشا “([28]).
نحن نعتقد انطلاقا من هذا التّفسير أنّ هذه المحاجّة مفتعلة، ولم تقع في أرض الواقع، إذ الآمدي هو صاحب النّصّ، وهو المتحكّم فيه، وهو الموجّه له الوجهة الّتي يرتضيها، وهذه المحاجّة تخرج عن كلّ أسس المناظرة والمساجلة الّتي من أهمها الاستعداد، وخاصة المساواة بين المتناظرين، وهذا ما لم يكن بين صاحبي أبي تمّام والبحتري.
- رأي الناقد في سرقات أبي تمّام:
أكد الآمدي ما اشتهر به أبو تمّام من شغف بالشّعر، وانشغال بتخيّره ودراسته، حتّى أنّه كتب فيه كتبا واختيارات ” مشهورة معروفة “، ثمّ انتهى إلى القول: ” وهذه الاختيارات تدلّ على عنايته بالشّعر، وأنّه اشتغل به، وجعله وُكده، واقتصر من كل الآداب والعلوم عليه، فإنّه ما شيء كبير من شعر جاهليّ ولا إسلاميّ، ولا محدث إلا قرأه واطّلع عليه، ولهذا أقول: إنّ الّذي خفِيَ من سرقاته أكثر ممّا قام منها على كثرتها “([29])، وكانت هذه المقدّمة أشبه بالمصادرة الأولى الأساسية الّتي تبنى عليها نظرة النّاقد إلى الأديب، والّتي توجّه مسار البحث النّقدي، أي مسار الموازنة. إنّها قناعة الناقد الّتي سوف تلقي بظلالها على العمل النّقدي بجملته، وعلى مبحث السّرقات خصوصا، ولأجل ذلك بيّن النّاقد إقباله على بذل الجهد في البحث عن سرقات أبي تمّام، فقال: ” وأنا أذكر ما وقع إليّ في كتب النّاس من سرقاته، وما استنبطّه أنا منها، واستخرجته، فإن ظهرْتُ بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله “([30]). لقد استعدّ الناقد بأحسن ما يمكن من أجل كشف ما خفي من سرقات أبي تمام، وقد دفعه هذا الأمر إلى تصفّح الكتب، والبحث في المتون عن ما يؤكّد هذه الدّعوى، بل أكثر من كلّ ذلك إلى ترك المبحث مفتوحا إلى غير نهاية بسبب اليقين بأنّ السرقات كثيرة، وأنّها خفيّة قد ينفتح فيها القول في زمن متأخّر بعد أن تتوفّر أدوات الإدراك المساعدة على ذلك، أي بعد أن تتطوّر معارف الباحث بالأشعار والأقوال، وبعد أن تتعمّق دراساته وقراءاته، ولقد تجسّم هذا التّوجيه في العمل التّطبيقي الّذي تلا هذه المقدمة
حكم الآمدي بإدانة أبي تمّام بالسرق في مائة مسألة من أصل مائة وعشرين اتهم فيها الشاعر، وهذا العدد يدلّ دلالة واضحة على مدى جهد النّاقد في البحث، والتّقصّي، وفي اتّجاهه إلى عدم التّسمّح مع الشّاعر؛ فأظهر الشاعر سارقا متّبعا، لا خالقا، أو مبتدئا.
في نفس هذا المبحث، أي مبحث السرقات، تناول الآمدي بالدرس ما خرّجه ابن أبي طاهر من سرقات أبي تمّام؛ فحاول مراجعة أحكام هذا النّاقد بالتّمييز بين ما أصاب فيه لأنّه من المعاني الخاصّة، وما أخطأ فيه لأنّه من المشترك الّذي لا يمكن أن ينفرد به فرد بعينه([31])، وانتهى في هذا القسم من مبحث سرقات أبي تمّام إلى ترجيح رأي ابن أبي طاهر في إحدى وثلاثين مسألة، وإلى تخطئته في أربع وعشرين، تسع منها بسبب الاشتراك في المعنى، وواحدة بسبب الاشتراك في اللّفظ، وأربع عشرة مسألة بسبب اختلاف المعنى بين أبيات أبي تمّام وأبيات من أخذ عنهم، وهذا خطأ وقع فيه ابن أبي طاهر؛ فإذا جمعنا ما أكّده النّاقد من أحكام ابن أبي طاهر إلى ما خرّجه هو وأطلق فيه الحكم الباتّ القاطع وجدنا أنّ أبا تمّام في هذا القسم من الموازنة شُنّع من الناقد في مائة وإحدى وثلاثين مرة، وعُومل برفق في أربع وأربعين، وليس خفيّا ما بين الأمرين من الفارق، حتّى أنّنا نجزم أنّ الآمدي كان يقصد إلى إثبات تهمة السّرقة على الشّاعر لا إلى البحث والتقصّي أو الدّرس العلمي الموضوعيّ في المسألة.
لم ينته حديث الآمدي عن سرقات أبي تمّام عند هذا الحدّ، وإنّما تواصل في صدر الجزء الثّاني من كتاب الموازنة في شكل ملخّص لما قدمه في الجزء الأول، ولكنّ الآمدي لم يكتف بالتّلخيص وإنّما أطلق الحكم واحتجّ له، فهو يقول: ” فإنه كثير السّرق جدّا “، ويقول كذلك: ” وقد سمعت أبا علي محمد بن العلاء السّجستاني يقول: إنّه ليس له معنى انفرد به فاخترعه إلا ثلاثة معان… “([32])، وبالرغم من أنّ الآمدي استدرك على السّجستاني في الصّفحة الموالية بأن قال: ” ولست أرى الأمر على ما ذكره أبو علي، بل أرى أنّ له، على كثرة مآخذه من أشعار النّاس، ومعانيهم، مخترعات كثيرة، وبدائع مشهورة”([33])، بالرغم من هذا الاستدراك بقيت تهمة السّرقة، والأخذ في ذهن النّاقد يرمي بها الشّاعر؛ فينفي عنه فضيلة الاختراع، أي ما به ظهر على أقرانه، وما به حُكم له بالتّفرّد والسّبق، وما به عدّ إماما في الصّناعة.
لقد أراد الآمدي بتناوله مبحث السّرقة عند أبي تمّام أن يردّ الشّاعر إلى مستوى الشّعراء العاديّين، بل إلى مستوى الشّعراء الّذين يصنّفون في الطّبقات الدّنيا، فكأنّه سحب البساط من تحت أبي تمّام ومذهبه والمتعصّبين له، وكأنه جرّدهم من أسلحتهم الّتي بها يواجهون التّهم والرّدود. إنّ مقصد النّاقد من هذا القسم من منجزه النّقدي إنّما هو نفي فضيلة الإبداع عن أبي تمّام ثمّ الانحطاط به وبشعره، وتعجيز المدافعين عنه عن النّهوض بمهمّتهم. إن مقصده في الحقيقة المراقبة، مراقبة الإبداع بتتبع المساقط، ومراقبة اعتقاد هذا الإبداع، والاحتفال به، والجذل بالتفرّد فيه، وطبعا لن تكون المراقبة إلا بتفعيل أدوات التسلط الرمزي التي يمتلكها المراقب عادة، وما هي أدوات المتسلط الناقد؟، إنها طبعا إحاطته بأحكام النقد، وتصنيفات النقاد للمبدعين، وتنصيبه نفسه سلطة معرفية قاهرة
- رأي الناقد في أخطاء أبي تمّام في اللّفظ و المعنى:
بدأ الآمدي في هذا القسم من الكتاب بتهوين أمر السّرقة عند أبي تمام لأنّ خللا أشنع أصابه وانحطّ بشعره وهو كثرة الخطإ، والزّلل، والإحالة في شعره سواء كان الخطأ في الألفاظ أو في المعاني، ثم احتج فقال: “ومع هذا فلم أر المنحرفين عن هذا الرجل يجعلون السّرقات من كبير عيوبه لأنّه باب ما يعرى منه أحد من الشّعراء إلاّ قليل، بل الّذي وجدتهم ينعونه عليه كثرة غلطه، وإحالته، وأغاليطه في المعاني والألفاظ “([34])، غير أنّ النّاقد لم يكتف بإثبات الخلل والإشارة إليه فقط، وإنّما حاول تعليل الحكم بالفزع إلى جملة أصحاب الرأي في الإبداع كعادته؛ فنقل رأي أبي عبد الله محمد بن داود الجرّاح عن محمد بن القاسم ابن مهرويه، عن حذيفة بن أحمد، المشابه لما ذكره أبو العبّاس عبد الله بن المعتزّ من أنّ ” أبا تمّام يريد البديع؛ فيخرج إلى المحال”، كما استند الآمدي إلى قول ” محمد بن داود عن محمد بن القاسم بن مهوريه عن أبيه أنّ أوّل من أفسد الشّعر مسلم بن الوليد، وأنّ أبا تمّام تبعه؛ فسلك في البديع مذهبه؛ فتحيّر فيه، كأنّهم يريدون إسرافه في طلب الطّباق، والتّجنيس، والاستعارات، وإسرافه في الْتماس هذه الأبواب، وتوشيح شعره بها حتّى صار كثير ممّا أتى من المعاني لا يُعرف، ولا يُعلم غرضه فيها إلاّ مع الكدّ، والفكر وطول التّأمّل “([35]). لقد اتّخذ الآمدي الأفكار الشّائعة في أبي تمّام سندا يؤسّس عليه دراسته لأخطاء أبي تمّام في الألفاظ والمعاني؛ فوجّه الدّراسة إلى محاولة تأكيد هذه الآراء، ومحاولة البحث في شعر الشّاعر عن ما يسوّغها، فالقناعة حاصلة نهائيّة لا يمكن الشّكّ في تمكنّها من ذهن النّاقد، وفكره، ولذلك يمكن القول إنّ الآمدي لن يكون مضيفا إلى النقد، ولن يكون متقدّما بالبحث في قضيّة الخطأ والإحالة عند الشّاعر، وإن أمكن أن يحقّق فيه تقدّما مّا فإنّ ذلك لن يكون إلاّ ما يمكن أن يدرج في باب التّعميق، والتّأكيد، والتّوسيع لما رسخ في النفوس من الآراء، وفعلا كان النّاقد عند البحث التطبيقي يورد بيت الشّاعر، ثمّ يحكم عليه بالخطأ، ثمّ ينصرف إلى التّفسير، والتّبرير، وكان يتوسّع، ويُفيض إمّا بإيراد الشّواهد حول معان محايثة للمعنى الّذي طرقه الشّاعر، وإمّا بإيراد شواهد من المخطئين ومن المصيبين ممّن طرق ذلك المعنى([36])، وكان يقلّب الأمر على وجوهه بذكر ما يمكن أن يرد عليه الخطاب([37])، وكان يكثر من أدوات الاحتجاج، ووسائل الدّفاع، وطرق الحمل على الاقتناع حتّى ينقلب الخطاب تطبيقا لتمرين في علم الكلام، ولكنه علم كلام الشّعر لا العقيدة. في الحقيقة أفكار الآمدي انقلبت عقائد، هي عقائد المتمسّكين بالقديم، المراقبين لكلّ حركة خروج عن السّنن، ولكلّ فعل إبداعيّ، والمتسلطين في عمل الرقابة هذا([38])، وكان الناقد يفترض مخالفين له، ومجادلين لآرائه؛ فينصرف إلى الرّدّ عليهم بحجج منطقيّة أو نقليّة([39])، وكان يورد الوجه الصّحيح نثرا أو شعرا؛ فهو ينفي الشّعر من أجل المعنى([40])، وكان يفزع دائما إلى الشّاعر الّذي أصاب في تناول ذلك المعنى، وهو بالضّرورة البحتري([41]).
لقد أنفق الآمدي جهدا فكرّيا عظيما في تخريجه لأخطاء أبي تمّام حتّى أنّنا نخال النّاقد يحمي عقيدة أو يدافع عن مذهب، وفي الحقيقة هو يقصد إلى إسقاط الشّاعر، وإلى إخراجه من مملكة الشّعر بإثبات شنع الخطأ، والإحالة والتّفاوت والخلل، وخصوصا بنفي خصيصة الإبداع، والجدّة، والفرادة عن إنتاجات الشّاعر، وبإسنادها إلى خصمه، ونظيره، ومنافسه، البحتري. أفلا ترى أنّ مبحث الأخطاء انقلب محاكمة لأبي تمّام، ولشعره عموما، ولطريقته في الشّعر؟، ثمّ ألا ترى أنّ مبحث الأخطاء انقلب موازنة ضمنيّة بين أبي تمّام والبحتري؟
إنّها موازنة داخل الموازنة، ولكنّها موازنة غير عادلة لأنّها تستند إلى مصادرات تعطي الفضل، والإحسان، والإصابة، وموافقة الذّوق السّائد، ومواصلة الرّؤية الأصيلة إلى البحتري، وتعطي القصور، والإساءة، والخطأ، والخروج، وخدش الذّوق السّليم، والقطع مع القديم السّمح إلى أبي تمّام.
لقد أثّرت هذه الطّريقة في تناول أخطاء أبي تمّام على خطاب الآمدي؛ فكان انفعاليّا في مواطن كثيرة، وقد تجسّم هذا الانفعال من خلال تواتر الأحكام المُدينة لأبي تمّام، ومن خلال وسائل لغويّة وأسلوبيّة كالخطاب المباشر الموجّه إلى ضمير ” أنت “، والاستفهام الإنكاري([42])، ولهذا نحن نقول: إنّ نقد الآمدي انقلب معركة انظم فيها النّاقد إلى جانب البحتري، وانبرى يدافع عن طريقته، ويهاجم الآخر المعادي في طريقته؛ فانكشفت بذلك نقائص النّاقد ” الحصيف “، “العاقل”، ” ذي الدّربة “، هذه النّقائص الّتي تلخّص في التّحيّز إلى طرف على حساب آخر من أجل هدف أصبح معلوما، هو إخراج أبي تمّام من جملة الشّعراء بنفي قدرته على القول الصّحيح، والموافق للبيئة الأدبيّة، وللتّراث الفكريّ الأصيل.
- رأي الناقد في استعارات أبي تمّام:
قال الناقد في بداية هذا القسم من الموازنة إنّه سيذكر “السّاقط” من ألفاظ الشّاعر، ومعانيه، و” القبيح ” من استعاراته، و” المستكره ” ” المعقّد ” من نسجه، ونظمه، ثمّ بيّن أنّ الشاعر، والمحدثين وجدوا المتقدّمين يأتي ذلك في شعرهم عفوا، فتتبّعوه، ثمّ بيّن ما يجب على الشاعر المتأخّر، وهو أن يتتبّع المتقدّمين في الجيّد أو المتوسّط إن لم يقدر على الجيّد، وذلك بالبعد عن الصّنعة، والتّحمّل([43]). أما في العمل الإجرائي فقد قدّم الآمدي في أوّل الأمر ثلاثة وعشرين بيتا لأبي تمّام يتجسّم فيها اللّفظ المرذول، والاستعارة القبيحة، ولكنّه لم يعلّق على كل بيت على حدة، وإنّما أجمل التّعليق معتمدا أسلوبا ساخرا انتهى إلى إطلاق الحكم في أنّ هذه الاستعارات: ” في غاية القباحة، والهجانة، والبعد عن الصّواب “([44])، ثمّ بيّن النّاقد حقيقة الاستعارة عند العرب، وذكر شروطها الّتي من أهمّها: المشاكلة، والمشابهة، والقرب، واللّياقة، واحتجّ لهذه الرؤية بشواهد من التّراث الشّعري، فعرض استعارة امرئ القيس القائمة على المآلفة بين طول اللّيل وحركة بروك النّاقة، وحاول تفسير ما أتاه الشّاعر الجاهلي تفسيرا معنويا، ودعا إلى التّأمّل، والتّلذّذ، والانتباه إلى إصابة الشّاعر، وقرب استعارته من الحقيقة([45])، كما أطلق الآمدي الأحكام نفسها على استعارات أخرى لزهير بن أبي سلمى، ولعمرو بن كلثوم، ولأبي ذؤيب الهذلي([46])، ثمّ التفت الآمدي إلى استعارة أبي تمّام الّتي بدا أنّها أقضّت مضجعه وهي استعارة الأخادع للدّهر، فحاول بيان وجوه الخلل فيها معتبرا أنّ اللّفظ لم يناسب المعنى المقصود، أو أنّ المعنى لم يكن مألوفا، ولا في عادات العرب قوله([47]). لكن النّاقد لم يقف عند اتّهام أبي تمّام، وإنّما أنصفه بأن ذكر له عددا من الاستعارات الحسنة القريبة مما قاله البحتري والفرزدق([48]) على الرغم من أنّ ذلك لم يتواصل إذ عاد النّاقد إلى إدانة أبي تمّام، واتّهامه بأنه وطّن نفسه على الإكثار منها؛ فوقع في المحظور، وكان لا بدّ له من أن يقع ” لأنّ للاستعارة حدّا تصلح فيه، فإذا جاوزته فسدت، وقبحت “([49])، ثم واصل الآمدي تخريج عدد من الاستعارات القبيحة الأخرى لأبي تمّام، وكان يذكر البيت، ويحكم برداءة الاستعارة، ويحاول التّعليل، والتّوضيح بأدوات البيان، وأشكال الاحتجاج، وكان يعتمد في رده استعارات الطّائي على ما قالته العرب، وما استقرّ في الذّائقة الشّعرية، وما ألفته الأذن العربيّة.
عموما تبدو حجّة الآمدي هي الأقوى، ويبدو سلاحه البتّار هو ما قالته العرب حتّى وإن لم تكن هذه الحجة مقنعة، ولعلّ أكبر مظهر لعدم الإقناع مقارنة الآمدي بين استعارة أبي تمّام أخدعا للدّهر، وهي حسب الآمدي من القبيح المردود المرذول، واستعارة أبي ذؤيب الهذلي الأظافر للموت، وهي من الحسن المقبول([50])، فمهما أجهد الآمدي نفسه للإقناع بقيت الاستعارتان من طبيعة واحدة، وهي التّشخيص والتّجسيم؛ أما في مستوى كيفية التّناول فإنّ الآمدي حاكم أبا تمّام بمعايير ومقاييس لا تتناسب مع عصره، حاسبه بمقاييس القدامى؛ فنفى عن شعره الإبداع، وجعله في نفس الوقت غير قادر على أن يكون متبعا، بل، وتشدّد معه في الحكم؛ حتّى ظهر هذا التّشدّد على سطح الخطاب من خلال ظهور قرائن لغويّة تعبّر عن انفعال النّاقد عند إطلاق الحكم، أو عند التّعامل مع الظّاهرة المدروسة، فانظر مثلا في هذا القول، وتبيّن مدى التّحامل الّذي حكم رؤية الآمدي لأبي تمّام، ولشعره. يقول: ” فجعل للدّهر عقلا، وجعله مفكّرا في أي العبأين أثقل، وما معنى أبعد من الصّواب من هذه الاستعارات “([51])، وانظر في هذا التّعليق على استعارة قبيحة للشّاعر حين يقول الناقد: “فيا معشر الشّعراء والبلغاء، ويا أهل اللّغة العربيّة، خبّرونا كيف يجاري البين وصلها، وكيف تماشي هي مطلها؟، ألا تسمعون؟، ألا تضحكون؟ “([52])، إلى غير ذلك من الأقوال المُدينة لأبي تمّام، المتشدّدة معه، المؤكّدة لأحكام ” الغثاثة “، و” القباحة “، و”الهجانة “، و” البعد عن الصواب “، و” التّخليط ” الّتي أطلقها النّاقد على استعارات الشّاعر سعيا إلى نفي الشّاعرية عنه، وإلى نفي الأصالة كذلك، أي إلى إخراجه من جملة الشّعراء.
- رأي الناقد في الجناس عند أبي تمّام:
الأمر الّذي يلفت النظر في هذا القسم من كتاب الناقد هو طبيعة الصّفات الّتي أطلقها الآمدي على تجنيسات أبي تمّام، فقد كثرت ألفاظ مثل ” الهجنة “، و” الشّناعة “، و” الرّكاكة “، و” الهجانة “، و” القبح “، وكل هذه الصّفات لحقت ما قاله أبو تمّام، والعجيب أنّهالم تعتمد لوصف تجنيسات العرب الرّديئة، أفليس الآمدي متجنّيا على أبي تمّام؟، أوليس في نقده غاية خفيّة يريد الوصول إليها بتلك الإشارات، والقرائن؟. لقد كان غرض الآمدي من هذا القسم النّقدي إثبات التّهمة على أبي تمّام، وكان هذا داخلا في خطّة الإيقاع بالشّاعر، ونفي الشّاعرية عنه.
- موازنة الآمدي بين أبي تمّام والبحتري:
القسم الأخير في كتاب الآمدي هو قسم الموازنة، وهو غاية العمل ومنتهاه، وقد بناه الناقد على مقدّمة وثلاثة أبواب: باب في فضل أبي تمّام، وباب في فضل البحتري، وباب في الموازنة الفعليّة. في المقدّمة بيّن النّاقد خطّة الموازنة؛ فذكر أنّه سيقدّم المعاني الّتي يتّفق فيها الطّائيان، وأنه سيوازن بين معنى ومعنى إذا اتّفقا مع الإمساك عن الحكم، وقد علّل إمساكه عن الحكم بالخوف من انتفاء الفائدة إذا قدّمت الأحكام للمتلقّي، وكذلك بأنّ أدوات الموازنة وأسباب التّفضيل قد قدّمت في متن الكتاب من خلال تحليل طريقة كلّ شاعر، فليس للقارئ إلاّ أن ينظر ويتأمّل ويحكم بنفسه، ثمّ بيّن أنّ صناعة النّقد يحذقها أهلها من العلماء؛ فلا بد من الاستعانة بهم، وأكّد في هذا السّياق أنّ النّاقد يحتكم إلى طبعه، وربّما أورد الأحكام دون حاجة إلى تعليل وتبرير، واحتجّ لهذه الدّعوى ببعض أقوال السّلف الصّالح وببعض التّشبيهات والصّور، وانتهى إلى بيان طريقة المعرفة، ووسيلة التّمييز عند المتصدّي لنقد الشّعر، وأساسها النّظر في ما قاله أيمّة الشّعر من تفضيل بعض الشّعراء على بعض، ودعا على هذا الأساس إلى تأمّل الشّاعرين، ومكامن التّفاضل فيهما مشترطا ضرورة معاناة العلم من أجل الإحاطة به؛ فليس علم الشّعر منوطا بمعرفة بعض أدوات المنطق([53])، وبذلك أغلق الآمدي بهذه المقدمة باب النّقاش، وحفظ لمؤسسة النّقد مكانتها وهيبتها وسطوتها، وأجبر المتلقّي على قبول أحكامه باعتباره رقيبا على الإبداع منتدبا من هذه السلطة لإنفاذ قوانينها، وبهذا أجاز لنفسه أن يقول على هواه، أو كما يرى هو على طبعه وسجيّته، وأن يوجّه الخطاب النّقديّ الوجهة الّتي يرتضيها، وأن يحقّق به المقاصد الّتي يسعى إليها، بل إنّ الآمدي تشدّد في الحجر على القارئ؛ فقال: ” فينبغي – أصلحك الله – أن تقف حيث وُقف بك، وتقنع بما قُسم لك، ولا تتعدّى إلى ما ليس من شأنك، ولا من صناعتك “([54])، فحقّق لنفسه صورة المؤسّسة المسيطرة على فعل النّقد، وهذه المؤسّسة كما ظهرت معالمها، وكما عبّر عنها الزّيدي ” لها ثلاث قواعد أولاها الأهليّة، إذ بدونها يكون التّسيب (…)، والقاعدة الثّانية هي الإجماع (…)، والقاعدة الثّالثة (…) هي التّسليم بأحكامها “([55])، ولعل القاعدة الرابعة التي تشرع لوجود المؤسسة الرقابية وجود ممارسة معيارية تقليدية مستند في الرقابة، وهدف لها من أجل منع كل خروج عنها باعتبارها العادة، والتقليد، وعمل السلف الأثير، وفعلا نلاحظ من الناقد تأكيدا لأفكار سابقة، وسعيا إلى تعميقها، وإثباتها في الأذهان، وهي تلك الّتي تدين في أبي تمّام أخطاءه في الشّعر، فهو ” وإن اختل في بعض ما يورده منها، (يعْنون المعاني الدّقيقة اللّطيفة)، فإنّ الّذي يوجد فيها من النادر المستحسن أكثر مما يوجد من السّخيف المسترذل، وإنّ اهتمامه بمعانيه أكثر من اهتمامه بتقويم ألفاظه، على كثرة غرامه بالطّباق، والتّجنيس، والمماثلة، وإنّه إذا لاح له أخرجه بأيّ لفظ استوى من ضعيف، أو قوي “([56]). إنّ جملة هذه الأقوال، وما فيها من الاختيارات اللّفظية والأسلوبيّة تؤكّد بما لا يدع للشّك أنّ لها ظاهرا وباطنا: ففي الظّاهر هي أقوال مدح، وإكبار لأبي تمّام، وفي الباطن هي ذمّ له، وإدانة لانحطاطه، وسقوط شعره، وحتّى إذا نظرنا إلى الأوصاف، والأحكام من الجانب الكمّي، فإنّنا نرى أنّ الصّفات المشينة أكثر عددا من تلك المكبرة للشّاعر، فلا ننسى أنّنا في معرض ذكر الفضائل، فكيف سيكون الأمر إذا كان السّياق سياق ذكر للرّذائل؟. لقد قصد الآمدي إلى نفي الفضل عن أبي تمّام، وأوهم أنّه يؤكّد هذا الفضل، ويسمّيه وبذلك انظمّ هذا الباب إلى جملة أبواب الكتاب في النّعي على أبي تمّام، وطريقته، ومريديه.
الخاتمة:
لقد جعل الآمدي وظيفة النّاقد تتحوّل من كونه عالما ناظرا مميِّزا إلى أن يكون طرفا في الخصومة، متبنّيا لآراء فريق، ومندفعا يصارع الفريق المخالف، ولقد رضيَ لنفسه بهذا الدّور، فتهيّأ كما يجب لإنجازه، وكان تهيّؤه يتحقّق بجمع الأقوال الّتي سبقت عصره في أبي تمّام وفي البحتري، وهذه الأقوال مصدرها معلوم معروف، وهو كتاب الصولي ” أخبار أبي تمّام “، فالآمدي لم يضف في نقده إلى النّقد، ولم يتناول المسائل النّقدية والقضايا المتعلّقة بالشّاعرين بالنّظر والبحث من أجل التّقدم بالدّرس النّقدي، وإنّما كان كلّ ما يهّمه هو “مجرّد تأييد هذا الشّاعر أو الاعتراض على الآخر، بل إنّ تفسيرات الآمدي لهذه الأبيات المتفرّقة لم تكن سوى ردود فعل على تفسيرات سابقة طرحها نقّاد متقدمون بدلا من أن تكون استجابات متجدّدة للشّعر نفسه “([57])، و” قد شدّ عليه التّعصّب على أبي تمّام “، فسعى إلى أن يسدّ عليه باب الطّبع، وكذلك باب الاحتذاء؛ فكان هدفه ” إخراج أبي تمّام من دائرة الشّعراء “، ولم يجعل من القضايا المطروحة في الخصومة في الطّائيين ” إشكاليات نقديّة جديرة بالتّحليل “، وكان كجملة النّقاد لا يعترف ” بأنّ الإبداع الفنّي لا بدّ فيه دائما من جانب التّجاوز، وأنّ معاناة المبدع هي مدى تحقيقه للمعادلة الصّعبة بين الوفاء للمعايير الجماعيّة ونزعة المروق الجماعيّة “([58])
لم تكن الموازنة إذن إلاّ ” محاولة منهجيّة لعرض وجهة النّظر المحافظة، والسّائدة في القرن الرّابع الهجري حول الشّعر، والّتي كانت مناقضة لفكر المعتزلة الّذي نشأ في تربته شعر أبي تمّام “([59])، إنّها عرض لوجهة النّظر هذه، وتسييج لها بحدود النّقد وضوابط السّلطة النّقديّة، وفي تسييجها حفظ لها من الضّياع والاندثار بفعل الزّمن، وبفعل ما قد يصيب الذّائقة من التّحوّل والتّبدّل، فالآمدي يمثّل السّلطة النّقديّة، إنّه المؤسّسة الّتي تثور من أجل مكانتها حارسة للشّعر، وموجّهة للإبداع، وهي المؤسسة الّتي تسعى دائما في فترات متباعدة إلى التّصحيح، أي إلى تصحيح “التّحديث النّقدي”، أو بمعنى آخر إعادة شحذ أدوات النّقد، وإعادة تكوين الشّاعر وكذلك المتقبّل، وتذكيرهما بالثّوابت حتّى لا ينساقا مع تيّار الإبداع؛ فتضيع تلك الأسس، ويُهمل الماضي، أو يُطوى أثره؛ فيخفت نوره على الحاضر، وتكون القطيعة، وتكون الكارثة الّتي طالما تحسّب لها الفكر التّقليديّ المحافظ الّذي يمثل الآمدي رمزا له وحارسا من حراسه الكبار رقيبا على كل ساع إلى الخروج عليه. إنّ تصحيح التّحديث([60]) النّقدي الّذي انصرف إليه الآمدي يمرّ عبر كسر رمزيّة من يمثّل الحداثة الشّعرية، ولا يكون ذلك إلاّ بالتّخطئة، والنّعي، والإدانة، والاحتجاج، والإقناع، وبذل الجهد، والإدعاء، وإخلاف الوعد، والإيهام، وتوجيه التّلقّي، والتّرميز في الخطاب، والتّسلّط على القارئ، والكذب، وهذه كلّها أدوات النّاقد. إنّ تصحيح التّحديث النّقدي يمرّ عبر إدانة أبي تمّام رمز التّجديد، وإعلاء شأن البحتري رمز الالتزام بطريقة العرب ومنهج المتقدّمين، هذا المنهج الّذي أظهره الآمدي دليل كمال وعنوان إصابة وصحّة، ولأجل ذلك نحن نقول: إنّ كتاب الموازنة يعبّر عن عجز السّلطة النّقديّة أو مؤسّسة النّقد الّتي يمثّلها الآمدي عن استيعاب الاتجاه إلى الحداثة في الشّعر، فكان مقصد هذه السّلطة إيقاف هذا التّوجّه الحداثي، وقمع كل ما فيه من سعي إلى التّجديد.
المصدر:
- الآمدي ( الحسن بن بشر ): الموازنة بين أبي تمّام والبحتري، تح محمد محيي الدّين عبد الحميد، بيروت، المكتبة العلمية ( دت )
المراجع:
- إبراهيم ( طه أحمد ): تاريخ النّقد الأدبي من العصر الجاهلي إلى القرن الرّابع الهجري، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1، 1985
- أبو حمدة ( محمد علي ): النّقد الأدبي حول أبي تمّام والبحتري في القرن الرّابع الهجري، عمان، الأهليّة للنشر والتّوزيع، مكتبة الجامع الحسيني، ط1، 1969
- الأسود ( صادق ): علم الاجتماع السياسي، أسسه وابعاده، بغداد، دار الحكمة للطباعة والنّشر، 1991
- بينكني ستتكيفتش ( سوزان ): أبو تمّام في موازنة الآمدي، حصر المؤسّسة النّقدية لشعر البديع، مجلة فصول، مجلّد6، عدد2 ( جانفي، فيفري، مارس 1986 )
- ابن رشيق: العمدة في محاسن الشّعر وآدابه ونقده، تح محيي الدّين عبد الحميد، بيروت، دار الجيل، 1972
- الزّيدي ( توفيق ): خطاب التّفاعل، شعر أبي تمّام والنّقد القديم، تونس، دار قرطاج للنّشر والتّوزيع، ط1، 2000
- الزيدي: عمود الشّعر في قراءة السّنّة الشّعرية عند العرب، تونس، الدّار العربيّة للكتاب، 1993
- صبحي ( محيي الدين ): نظريّة النّقد العربي وتطوّرها إلى عصرنا، الدّار العربيّة للكتاب، 1984
- عبد الوهاب ( ليلى ): العنف الأسري…الجريمة والعنف ضد المرأة، القاهرة، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 1994
- علي أسعد ( وطفة ): الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي،لندن، مركز الشرق العربي للدراسات، 2012
- الفيروزآبادي ( محمد بن يعقوب ): القاموس المحيط، ضبط وتوثيق يوسف الشيخ محمد البقاعي بيروت، دار الفكر، 1999
- لابيار ( جان وليام ): السلطة السياسية، ترجمة حنا إلياس، بيروت- باريس، منشورات عويدات، 1983
- مندور ( محمد ): النّقد المنهجي عند العرب، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1972
- ابن وكيع التنيسي: المنصف للسّارق والمسروق منه في إظهار سرقات المتنبّي، تح محمد يوسف نجم، الكويت، ط1، 1984 .
([1] ) : تتأسس السّلطة على القوّة، وربّما كانت مقنّعة بتوجّهات مفهوميّة، ولا تستقيم السّلطة إلاّ على علاقة قوامها الأمر، والاستجابة، إذ لها وجه قهريّ قاهر، ولذلك اتّصلت وثيقا بالمسألة السياسيّة ( راجع جان وليام لابيار: السلطة السياسية، ترجمة حنا إلياس، بيروت- باريس منشورات عويدات، 1983، ص18، وراجع صادق الأسود: علم الاجتماع السياسي، أسسه وابعاده، بغداد، دار الحكمة للطباعة والنّشر، 1991، ص126 )، وجاء في القاموس المحيط: ” السّلط والسّليط: الشّديد واللسان الطّويل والطّويل اللسان، … والسّلطان الحجّة وقدرة الملك، … والتّسليط: التّغليب وإطلاق القهر والقدرة “، ( الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ضبط وتوثيق يوسف الشيخ محمد البقاعي بيروت، دار الفكر، 1999، ص604 ). إنّ السّلطة بهذا التّعريف قدرة، وتمكّن، ومشروعيّة، وحجّة، وتجسيم لكل ذلك في الفعل، والخطاب
([2]) : الحسن بن بشر الآمدي: كتاب الموازنة بين أبي تمّام والبحتريّ، تح محمد محيي الدّين عبد الحميد، ببيروت، المكتبة العلميّة (د ت)
([3]) : قال محمد علي أبو حمدة: ” جاء أبو القاسم بكتابه الموازنة ليضع حدّا لكل تلك النّظرات الجزئيّة في المفاضلة بين الشّعراء، كأن يفضّل شاعر على غيره لبيت قاله أو نصف بيت، وبذلك طفر بالنّقد الأدبي عند العرب طفرة عالية، إذ أخرجه ولأوّل مرّة من حدود النّقد الذّاتيّ، والإعجاب الشّخصي إلى نقد مشروع يقوم على أساس الموازنة بين الآثار الأدبيّة جملة مع دراسة خصائص كل شاعر”، ( محمد علي أبو حمده: النّقد الأدبي حول أبي تمّام والبحتري في القرن الرّابع الهجري، عمان، الأهليّة للنشر والتّوزيع، مكتبة الجامع الحسيني، ط1، 1969، ص30 ).
([4]) : قالت سوزان بينكني ستتكيفينش: ” وإذا كنّا نجد في أخبار الصولي أسس الخلاف حول أبي تمّام وشعره فإنّ هذه الأسس قد قعّدت، ورتّبت بقدر أكبر من المنهجيّة، وعرضت بأقلّ قدر ممكن من الانفعالية في الموازنة”، وتقول كذلك: ” الموازنة ليس إلا محاولة منهجيّة لعرض وجهة النّظر المحافظة، والسّائدة في القرن الرّابع الهجري حول الشّعر، والّتي كانت مناقضة لفكر المعتزلة الّذي نشأ في تربته شعر أبي تمّام”، ( سوزان بينكني ستتكيفتش: أبو تمّام في موازنة الآمدي، حصر المؤسّسة النّقدية لشعر البديع، مجلة فصول، مجلّد6، عدد2 ( جانفي، فيفري، مارس 1986 )، ص42)، كما صرّح محمد علي أبو حمده بأنّ روح الاحتراس العلميّ، وتحرّي العدل والإنصاف شائعة في هذا الكتاب، وأكّد أنّ الآمديّ يشبه القاضي العدل الّذي يوازن بين الخصمين في مجلس القضاء، وأنّه في تحرّيه العدل يجمع الأقوال والآراء الّتي سبقته في الزّمن، أي الّتي نتجت عن ذلك السّجال في أبي تمّام، أو في أبي تمّام والبحتري، (راجع: أبو حمده النّقد الأدبي حول أبي تمّام والبحتري، ص91، 71، 68، وراجع: محمد مندور: النّقد المنهجي عند العرب، القاهرة، مطبعة نهضة مصر، 1972، ص104 وما بعدها ) وذكر طه أحمد إبراهيم أنّ فضل الآمديّ في كتابه الموازنة إنّما هو توثيق هذه الأفكار الّتي وصلت إليه، وتدوينها، وإضافة أفكار أخرى إليها سواء كانت أفكاره الشّخصيّة، أو أفكار معاصريه مع اتجاه إلى التّعليل، والتّحليل (طه أحمد إبراهيم: تاريخ النّقد الأدبي من العصر الجاهلي إلى القرن الرّابع الهجري، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1، 1985، ص166 )
([5]) : راجع: ليلى عبد الوهاب: العنف الأسري…الجريمة والعنف ضد المرأة، القاهرة، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 1994، ص14
([6]) : راجع: وطفة علي أسعد: الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي،لندن، مركز الشرق العربي للدراسات، 2012، ص10
([10]) : راجع: الموازنة، ص10- 11.
([11]) : راجع: مندور: النّقد المنهجي، ص102، 103، 115، 135، 153، 156، …، وراجع: محيي الدين صبحي: نظريّة النّقد العربي وتطوّرها إلى عصرنا، الدّار العربيّة للكتاب، 1984، ص47، 48.
([17]) : سمّى الآمدي كتابه ” الموازنة ” ” كما سمّى اللّديغ سليما، وما أبعد الموازنة عنه “، قال ابن رشيق نفس هذا الكلام في تعليقه على كتاب ابن وكيع المنصف ( راجع: ابن رشيق: العمدة في محاسن الشّعر وآدابه ونقده، تح محيي الدّين عبد الحميد، بيروت، دار الجيل، 1972، ج2، ص281، وراجع: ابن وكيع التنيسي: المنصف المنصف للسّارق والمسروق منه في إظهار سرقات المتنبّي، تح محمد يوسف نجم، الكويت، ط1، 1984 )، فالنّقد متّهم في مصداقيته، وقد أثبت الآمدي هذه التّهمة، وعمّق هذه الصورة، ولعلّ الآمديّ غير مخيّر في ذلك، إذ هو بالضّرورة يصدر عن قناعات يحاول أن يجسّمها، أو يدعو إليها ويعمّقها، ولا يكون ذلك إلاّ بتوجيه المنجز النّقدي وجهة يرتضيها النّاقد، وبتحميل الخطاب مقاصد يسعى النّاقد إلى تحقيقيها، وعموما بدأ الآمدي في تحقيق مقاصده من كتاب الموازنة في تنظيراته، وفي مقدماته، وأكيد أنّه سيحقّق هذه المقاصد في تناوله للمسائل النّقدية الجزئيّة الّتي وزّعها على كتابه الموازنة بين أبي تمّام والبحتري.
([18]) : ” قال صاحب أبي تمّام: كيف يجوز لقائل أن يقول: إنّ البحتريّ أشعر من أبي تمّام وعن أبي تمّام أخذ، وعلى حذوه احتذى، ومن معانيه استقى؟، وباراه؛ حتّى قيل: الطّائي الأكبر، والطّائي الأصغر، واعترف البحتري بأنّ جيّد أبي تمّام خير من جيّده، على كثرة جيّد أبي تمّام، فهو بهذه الخصال أن يكون أشعر من البحتري، وأولى من أن يكون البحتريّ أشعر منه “، ( الموازنة، ص12 )
([24]) : نفسه، ص35، وراجع كل احتجاج صاحب البحتري من ص28 إلى ص35.
([31]) : نفسه، ص103، وما بعدها.
([35]) : راجع: الموازنة، ص124-125.
([36]) : راجع مثلا المسألة 15 من ص186 إلى ص189.
([37]) : راجع مثلا المسألة 16 من ص189 إلى ص192.
([38]) : راجع مثلا المسألة 19 من ص193 إلى ص196.
([39]) : راجع مثلا المسألة 5 من ص141 إلى ص146.
([40]) : راجع مثلا المسألة 30 من ص209 إلى ص210.
([41]) : راجع الصّفحات: 142، 168، 175، 182، 185، 186، 189، 193، 197، 207، 215، 224، 225. في كل هذه الصّفحات ثمّن الآمدي أقوال البحتري، وقدّمه رمزا للإصابة في مقابل رمز الإخطاء، أبي تمّام.
([44]) : ص234، وراجع طرق السّخرية من استعارات أبي تمّام في نفس الفقرة.
([47]) : نفسه، ص238، وراجع مجموعة أبيات لأبي تمّام يستعير فيها الأخادع للدّهر في الصفحتين 227 و228 من الموازنة.
([50]) : راجع: ص237، وما بعدها.
([53]) : راجع: مقدّمة الموازنة ص ص372، 378.
([55]) : توفيق الزّيدي: خطاب التّفاعل، شعر أبي تمّام والنّقد القديم، تونس، دار قرطاج للنّشر والتّوزيع، ط1، 2000، ص128.
([57]) : ستتكيفتش: أبو تمّام في موازنة الآمدي، ص56.
([58]) : راجع: توفيق الزّيدي: عمود الشّعر في قراءة السّنّة الشّعرية عند العرب، تونس، الدّار العربيّة للكتاب، 1993، ص70.
([59]) : ستتكيفتش: أبو تمّام في موازنة الآمدي، ص42.
([60]) : راجع في هذا المفهوم وفي مفهوم المؤسّسة النّقدية: الزّيدي: خطاب التّفاعل، ص ص125، 127، 128…