
نظريّة التّلقّي: الأصول العلمية و الإجراءات التّحليلية
بوخليفة بوسعد ـ طالب دكتوراه في جامعة عبد الرّحمن ميرة بجاية الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الادبية والفكرية العدد 47 الصفحة 35.
ملخّــــــــــــص:
إنّ ما يتغيّاه هذا المقال المتواضع، هو الوقوف على الإطار الزّماني و المكاني الّذي ظهرت فيه نظرية التّلقّي. هذه الأخيرة عُدّت واحدة من أهمّ النّظريات الأدبية و النّقدية الّتي حاولت أن تكسّر نمطية العملية النّقدية الّتي بدأت سياقية (تهتمّ بما هو خار نصّي)، ثمّ تلتها مناهج أخرى عُرفت بالنّسقية (داخل نصّية) مكرّسة اهتمامها على النّصّ كبنية مغلقة .
فخرجت من أنقاض كلّ هذه المقاربات نظرية التّلقّي محاولة الوقوف على نقائص ما سبقها فامتاحت من هنا وهناك فشيّدت صرحا نقديا أعاد النّظر في ماهية النّصّ الإبداعي مانحة القارئ مكانة معتبرة بعد أن طال تغييبه في السّاحة النّقدية .
فرأت النّور في جامعة كونسطانسl’ école de constance الألمانية في ستينيات القرن الماضي على يد رعيل من الأساتذة الجامعيين . و على رأسهم [” هانس روبرت ياوس “] Hans robert yaussالّذي غرف مادّته النّقدية من عدّة معينات فلسفية كالهيرمينوطيقاherméneutique والفينومينولوجيا phénoménologie و علم الاجتماع sociologie … كما رفد من الشّكلانية الرّوسية formalisme russe والسّيميولوجيا sémiologie …. ومن أهمّ الأدوات الإجرائية الّتي اتّكأ عليها ياوس ليفرض جدوى مشروعه النّقدي : أفق الانتظار كعصب للتّلقّي عنده ،المسافة الجمالية، اندماج الآفاق ، منطق السؤال و الجواب …..
الكلمات المفاتيح: نظرية التلقي- المناهج السياقية- المقاربات النصية – علم التأويل.
Abstract
This article investigates the background in which reception theory emerged. The latter is one of the most important theories to break away from contextual criticism (interested in what is outside the text)، and the textual approaches (concerned with the inside of the text) which see the text as a closed structure. Reception theory came as an attempt to address the weaknesses of those approaches by positioning the reader at the center of the interpretive process. It was born at the University of Constance in the 1960s thanks to a group of university professors، headed by Hans Robert Jauss، whose theory borrowed from several philosophies، such as Hermeneutic، Phenomenology، and Sociology. Jauss was also inspired by Russian Formalism، Semiology etc. Some of the most important critical concepts developed by Jauss are: the horizon of expectations، a key concept، aesthetic distance، the merging of horizons، the logic of question and answer، non-determinate context، etc.
Key words: reception theory – contextual criticism- textual approaches – hermeneutic.
لقد حظي النّص الأدبي على مرّ العصور بقسط وافر من الأهمّية .إذ تضاربت حوله الكثير من الآراء، وتساجل عليه النّقاد، بغية إعطائه حقّهُ أو بالأحرى، تفجير مكامن معانيه المتوارية بين كلماته و عباراته، وبيان قيمته الجمالية.
إنّ المتأمِّلَ لِمَا تَعٌجُّ به السّاحة النّقدية من مناهج تحمل على عاتقها مهمّة إظهار هذه الفائدة المرجوّة من النّص، ليجدها لا تعد و لا تُحصى. بيد أ نّ المتمعّن في ماهية هذه المناهج سرعان ما يتفطّن إلى التّباين الواضح من حيث السّمت المتّبع قصد النّفاذ إلى صرح المعاني المشيّدة في برج النّص. لكنّ المبتغى من وراء كلّ هذا النّشاط، بلا مواربة. يكمن في تعرية المعاني المبثوثة في ثنايا النّص.
إنّ تَعَدُّد هذه المقاربات سيُفضي لا محالة إلى تَعَدُّدٍ في الأدوات والآليات المتبّعة من قِبَل كُلّ ناقد عندما ينبري التّعاطي مع النّص.
في العقود الماضية تربّعت مجموعةٌ من المناهج التّي ادّعت أنّها سَتُعطي الأثر الأدبي حَقَّهُ الأوفر في استشفاف مكامن النص الجمالية، وأطلق على هذه المناهج مصطلح المناهج السّياقية التي تضمّنت أساسا المنهج الاجتماعي والدّراسات النّفسانية والثّقافية للأثر الأدبي…
وقد حملت هذه المقاربات على عاتقها، مهمّة إماطة اللّثام عن كنوز النّص وبثّها في أرض الوجود. بالالتفات إلى السّياقات الخارجية التّي حفّزت على إثارة قريحة المبدع. مركّزة على ميوله الأيديولوجية و السّياسية واقتناعاته وانطباعاته ، كونها انصبّت على شخص المبدع والظّروف المحيطة به، فانفلتت من غطائها الكثير من الجماليات المرتبطة ببنى النّص الدّاخلية. لكنّ هذه المناهج لم يُكتب لها الخلود، إذ سرعان ما قوبلت بالرّفض واتّهمت بالتّقصير. كونها انشغلت عن العمل بالاهتمام بصاحبه فضاعت فائدتها المرجوّة. في حين بزغت على أنقاضها ثلّة من المناهج تدعى النّسقية.
ترى المناهج النّسقية أنَّ في التّعويل على السّياقات المحيطة بالنّص وصاحبه، نسيانا للهدف المنشود و إهدارٌ للنّص ونسف لطاقاته البنوية، وتَعتِيم لوميضه. فنصحت بضرورة تقديس النّص بدلا من صاحبه. لكنّ هذه المناهج بدورها، لم يلبث النّقّاد أن انتبهوا إلى مواطن إخفاقها. فإذا كانت المناهج السّياقية قد أولت الأهمّية القصوى للمبدع، فإنّ النّسقيّة قد التفتت إلى الإبداع، فأغفلت بهذا عن عنصر مهمّ. لا يمكن التّغاضي عنه، ألا وهو القارئ le lecteur . فظهرت مقاربة جديدة من رحِم كلّ ما سبقها من مقاربات لتُقرن الإبداع بضرورة التّلازم بين بعدين أساسيين في الأعمال هما: الإنتاج النّصي production textuelle وكذلك التّلقّي la réception أو التّقبّل . ويطلق عليها اسم “نظريّة التلقّي”. Théorie de la réception
نظر روّاد نظرية التّلقّي إلى القارئ على أساس أنّه رتاج نلج عبره أغوار الأعمال الإبداعية. فهو العنصر الفعّال الّذي يكشف جمالية الأعمال بعيدا عن الانطباعية والملابسات التّاريخية. يقول الباحث حسن البنا عزّ الدّين: “تُعدُّ نظريّة التّلقي، فرعًا من الدّراسات الأدبية الحديثة المهتمّة بالطّرق التّي يتمّ بها استقبال الأعمال الأدبيّة من قِبل القُرّاء بدلا من الترّكيز التّقليدي على عمليّة إنتاج النّصوص أو فحصها في حدّ ذاتها“ ([1]) .
وما يمكن التّعقيب به في هذا المضمار، هو أنَّ نظريّة التّلقّي جدّدت نظرتها إزاء النّص وانتبهت إلى قضيّة غياب القارئ (المتلقّي) في العمليّة الإبداعيّة. فقرّرت أن تُسْنِيَه وتجعله سيّدها ( أي العملية الإبداعية) نظرا لتغييبه لردحٍ من الزّمن.
إنَّ ما يتغيّاه هذا البحث المتواضع، هو الوقوف على الإطار الزّماني والمكاني الّذي رأت فيه هذه النّظرية النّور، وعن أبرز خلفياتها المعرفيّة وأصولها المنهجيّة. مركّزين على رائدها الأوّل “ياوس” والمعينات التي غَرَفَ منها أدواته الإجرائية. ولن يفوتنا الوقوف على البدائل الّتي اقترحتها وأضافتها هذه المقاربة للنّقاد ليَصبوا إلى هدفهم المنشود. وفي النّهاية سنقف على بعض المزالق الّتي تحسب على هذه النّظرية وما تقترحه من مطارحات .
إنّ ما حدا بنا إلى الخوض في هذا الضّيع المنهجي ، هي الأسئلة الّتي راودتنا وحرِيَ بنا أن نحاول الإجابة عنها ولو بالنّزر القليل.
فما هو المنبت الأصلي لنظريّة التّلقّي؟ وإذا كان الرّائد الأساسي لهذه المقاربة هو ياوس، فما هي الإجراءات الّتي اتّكأ عليها لفرض جدوى دراسته؟ إلى أيِّ مدى وُفِّقت آراء ياوس في سدّ الثّغرات الّتي تعاني منها المقاربات الّتي سبقتها زمنيًّا؟ ما هي النّقائص الّتي لوحظت في هذه النّظريّة؟ وما هو أفق المساءلة النّقدية الّتي تضطلع به نظريّة التّلقّي مستقبلا؟
لعلّ الظّهور الأوّل لنظريّة التّلقّي كمنهج قائم بذاته يعود إلى ستينيات القرن الماضي. وبالضّبط في جامعة كونسطانس الألمانية. “فمنذ 1966 لم تتوقّف جمالية التّلقّي المعروفة باسم مدرسة كونسطانس عن التّطوّر لتتحوّل إلى نظرية للتّواصل الأدبي وينحصر موضوع أبحاثها في التّاريخ الأدبي بوصفه إجراء يوظّف ثلاثة عناصر فاعلة هي: المؤلِّف والعمل الأدبي والجمهور أي عملية جدلية تتمّ فيها دائما الحركة بين الإنتاج والتّلقّي“([2]).
ومن هنا يتّضح لنا بأنّ نظرية التّلقّي، أولت الأهمّية القصوى للقارئ والمتلقّي. وهذه خطوة جديدة، اقتحمت بها هذه النّظرية ما سلّمت به المناهج السّياقية والنّسقية.
لقد ظهرت نظرية التّلقّي إذن على يد مجموعة من الأساتذة الجامعيين وعلى رأسهم هانس روبرت ياوس، الذّي تربّع على عرشها وبهذا “فإنّ مفهوم جمالية التّلقّي بمفهومها الحديث، يضعنا وجها لوجه أمام إنجازات الرّائد الكونسطانسي ياوس صاحب هذا المفهوم الّذي تجاوز القصور الّذي عانت منه مجموعة من الفلاسفة والمفكّرين الأوائل الذين تحدّثوا كثيرا عن جمالية التّلقّي. وكانوا بمثابة الإرهاصات الأولى في هذا الاتّجاه”([3]).
يبدو انطلاقا من قول الباحث سامي إسماعيل أنّ ياوس هو الأب الشّرعي لنظريّة التّلقّي. وأنّ ألمانيا هي الأرض الخصبة التي نبتت فيها. وما يتبادر إلى أذهاننا في هذا المضمار، هو أنّ هذه النظريّة شأنها شأن المناهج التي سبقتها لم تنطلق من العدم، بل استأنست بالكثير من المقاربات والعلوم فامتاحت منها العديد من المفاهيم الإجرائية. وتأسيسا على ما سبق، تكون نظريّة التّلقّي قد أعادت الاعتبار للمتلقّي فأكسبته مصداقية في العملية التّواصلية من خلال الإلحاح على عقد قران بين السّياقات التّداولية للنّصوص بيد أنّ نشأتها تعزى إلى حقول معرفيّة عدّة، لذا “فنظريّة التّلقّي مدينة في ظهورها لثلاثة تيارات كبرى هي: التّاريخ، الهيرمنيوطيقا، البنائية وإذا كان الأمر كذلك فإنّ الكتاب البارزين في هذه التّيارات الثّلاثة كان لهم تأثير قلّ أو كثر في ظهور نظريّة التّلقّي وانتشارها على يد أصحاب مدرسة كونسطانس الألمانيّة“([4]).بمعنى أنّ أقطاب هذه النّظريّة قد استأنسوا بما نصّت عليه المقاربات السّابقة لها فاسترفدت ما تراه يخدمها .
I– الأصول العلمية
1- نظرية التّلقّي وجدلية المنعطف التّاريخي: لم يكن ياوس يهتمّ بالتاريخ كعلم إنساني محض ،إنّما أسقط هذا العلم على ساحة الأدب مقرًّا أنّ جدوى العمل الإبداعي يكون بتتبُّع مسار القراءات التي حظي بها العمل والثّمار التي جُنيت منه على مرّ الحقب الزّمنية. بمعنى أنّ العمل الإبداعي لا يمكننا أن نستنفذ كلّ معانيه أو بالأحرى أن نقف على كلّ صغيرة وكبيرة فيه، وعادة ما نكتفي بالقراءة الآنية الوحيدة؛ مصرّحا أنّ تكبيل العمل بقراءة واحدة وفي لحظة واحدة. ليس من ورائه كبير غَنَاءٍ، ولا يمكن وضع الثّقة الكاملة فيما أسفرت عليها من نتائج. و على صعيد آخر، “كان مؤسس نظريّة التّلقّي هانس روبرت ياوس مهتمّا بالعلاقة بين الأدب والتّاريخ. وقد أزعجه ما عاينه في فترة الستّينيات وما قبلها من إهمال شديد لطبيعة الأدب التّاريخية. فالاتّجاهات البنيوية والأسلوبية والألسنية والشّكلية كانت تُركّز على الجانب الوصفي (السّانكروني) مهملة تماما الجانب التّاريخي (الدّياكروني) ومن ثَمَّ أعطت للنّص سلطة تامّة مطلقة”([5]).
ومن جهتنا نعتقد أنّ ياوس على قدر من الحصافة في الرّأي . فهو لا يؤمن بمطلقية المعنى ولا بمحدوديته، فمهما تعدّدت القراءات؛ لن تقبض بالمعنى الكامل للعمل. لاسيّما إذا أدركنا أنّ الأدب كلامٌ على كلامٍ. لذا يستلزم في كلّ مرّة إضافة، ممّا يجعل القارئ يتفطّن إلى أمور فاتته فيما مضى من زمن. ويساعده على الاقتراب نوعًا ما من المعنى المرغوب، بأخذ القراءات الماضية بعين الاعتبار لما لها من فضل في تمهيد أرضية الفهم حتى وإن كان نسبيا. حيث يعدّ ياوس من الدّاعين إلى تفعيل القراءات الماضية للعمل الأدبي وفق استراتيجية حوارية تفاعلية بين ” العمل الأدبي و الجمهور المتلقّي، أي من خلال سلسلة التّلقّيات المتتالية الّتي تكشف بوضوح عن التّطوّرات الحاصلة في التّجربة الأدبيّة أي كيف يُعاد في كلّ مرّة تفحّص و تفكيك المعايير الأدبيّة الموروثة“([6]).
لذا عدّت عملية الالتفات إلى القراءات التاريخية في عملية التّلقّي ضرورة لابُدّ منها نظرا للأضواء التي تُلقيها على طريق الفهم حيث “رأى ياوس في محاضرة ألقيت بجامعة كونسطانس عام 1967م عن أنّ التّاريخ الأدبي لابدّ له أن يحتفظ على نوع من الصّلة الحيوية بين نتاج الماضي واهتمامات الحاضر. وقد عزا ياوس أزمة الأدبيّة إلى إهمال الأفكار القديمة الخاصّة بعلم تاريخ الأدب“([7])
لا يمكن نكران فضل القراءة التّاريخية للعمل الإبداعي، فيما يمنح لها من دينامية تسمها بميسم الانبعاث في كلّ مرّة. لكن ما يؤخذ على هذا الرّأي، هو أنّ تتبع كلّ هذه القراءات مُضْنٍ بالضّرورة وشاق جدا وليس ممّا يمكن الإلمام به. أضف إلى ذلك كون هذه القراءات المتعاقبة لا تنتمي إلى زمن ظهور النّص، فقد تُقوِّله ما لم يَقُلْ، فيسقط القارئ في مغبّة الأحكام القيميّة، وتجعله يغرِّدُ خارج السّرب الّذي ينتمي إليه أصلا.
2-الهيرمنيوطيقا l’herméneutique : تعدّ الهيرمنيوطيقا من الفلسفات الألمانية الّتي اهتّمت بالتّأويل أو التّفسير. بمعنى أنّها تروم الولوج إلى أغوار النّصوص وشرحها، وتنبغي الإشارة إلى أنّ الهيرمنيوطيقا، كانت تهتمّ في بداياتها بتفسير النّص المقدّس، ثمّ اتسعت دائرة اهتماماتها في القرن الثّامن عشر لتطال ميدان العلوم الإنسانيّة والأدب. وعليه فالمقصود بالهيرمنيوطيقا “مفتاح التأّويل…وهو مفتاح قصد فتح المعنى المتواري والخفيّ وراء أو تحت العبارات الظاهرة المرئية“([8])
يبدو لنا انطلاقا من هذه الكلمة بأنّها–الهيرمنيوطيقا- أفادت نظرية التّلقّي، خاصة إذا علمنا أنّها ترنو الوقوف على ما توارى خلف المكتوب في النّصوص. “ومن هنا فإنّ وظيفة التّأويل تنصبّ على إيضاح مقاطع غامضة وغير مستوعبة من النّصوص، لأنّ المعنى الجليّ والواضح لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل. وقد يحتاج إلى تأويل ليكون معقولا”([9])
وما دام هدف نظرية التّلقّي تقريبا هو نفسه ما تسعى وراءه الهيرمنيوطيقا، فغير مستبعد أن يكون ياوس ،H.R YAUSS قد تأثّر بها.
يُعدُّ غادامير GADAMER أب الهيرمنيوطيقا الحديثة. إذ ركّز على قضيّة الفهم والتّفسير والتّأويل. فالعمل وُجدَ أصلا من أجل أن يفهم ويستوعب، ثمّ يلي التّفسير الّذي لا يتمّ ما لم يتحقّق الفهم. فإنْ غاب الفهم أعوز التّفسير. و عليه “يعد هانس جورج غادامير من كبار الفلاسفة التّأويليين المعاصرين… ولكي يبلور غادامير معنى الهيرمنيوطيقا، وضع قواعد جديدة تساير التّطوّر الذي عرفته الهيرمنيوطيقا وتتمثّل هذه القواعد في ثلاث وحدات تندرج ضمن فعل الفهم والتّأويل والتّطبيق”([10]).
ويبدو أنّ للهيرمنيوطيقا فضلا في ظهور نظرية التّلقّي زمنئذٍ “إذ كان المناخ الفكري السّائد في أروبا بعد الحرب العالمية الثّانية هو الذي يساعد هذه النّظرية للخروج إلى الوجود حيث ازدهرت الفلسفات (الهيرمنيوطيقا، الفينومينولوجيا) الدّاعية إلى حرّية الذّات الفردية والانعتاق من النّزعة التّقنية ونبذ الأيديولوجيات الشّمولية والحقائق المطلقة”([11]) .
يبدو أنّ الهيرمنيوطيقا، تعادي المناهج الّتي اكتسحت السّاحة النّقدية قبلها. سواءً السّياقيّة أو النّسقية. حيث تدعو إلى فكّ كلّ القيود التي من شأنها أن تكبل الإبداع. بل أعطت القارئ الحرّية المطلقة في استنطاق النّصوص، وفي هذا يتّضح لنا تداخلها مع نظريّة التّلقّي عند ياوسYAUSS. خاصة إذا علمنا أنّه تلميذ غادامير صاحب هذه الفلسفة “فالمعنى عند غادامير محصِّلة يتوصّل إليها المتلقي عبر سلسلة الترسّبات المتعاقبة من حقبة زمنية إلى أخرى. بحيث يستوعب الفهم الأخير الأفهام السّابقة ويزيد عليها في الحاضر”([12]).
إنّ ما يتجلىّ لنا انطلاقا ممّا قيل عن غادامير، هو أنّه أبلى بلاءً حسنا في نظرية التّلقّي، فَعُدت فلسفة الهيرمنيوطيقا من أخصب المعينات التي غرف منها ياوس عُدّته. “انطلاقا من أهمّ عمل قدّمه هانز جورج غاداميرH.G. GADAMER لنظريّة التّلقّي مجموعة من الأدوات الإجرائية المنهجية في التعامل مع النّص الإبداعي من خلال إعطاء المتلقي بعدا تأويليا رؤيويا يستخلص أبعاد النّص المستقبلية، وفق رؤية تأويلية تناسب الطّبيعة التّاريخية لعملية الفهم الأدبي”([13]).
تأسيسا على ما سبق ،يتّضح لنا بأنّ ياوس قد تأثّر بأستاذه غادامير في قضية التسلّح بالتاريخ أثناء التّعامل مع العمل الإبداعي. فبه يستنير الباحث و تنفتح أمامه أبواب تأويلية عديدة .
3-الفينومينولوجيا( الظّاهراتية )phénoménologie : لقد تأثّرت نظرية التّلقّي بدورها بالفلسفة الظّاهراتية. إذ كان لها باع كبير في ظهورها، كونها هي الأخرى تعترف بالدّور الفعّال الذي يلعبه الفرد في الوصول إلى معنى الأعمال. فهذا الفرد لا يمثل سوى الذّات القارئة، فالفينومينولوجيا إذن حركة فلسفية أو منهج في الفحص الفلسفي، يركّز على الدّور الحيوي والمركزي للإنسان المدرك في عملية تقرير المعنى ([14]). وما يمكن أن نضيفه في هذا المضمار أنّ العمل دون الذّات المدركة له ليس سوى جثّة هامدة، وبذا يمكننا أن نعترف بأنّ للفينومينولوجيا فضلا في بلورة نظرية التّلقّي. باعتبارها حقلا معرفيا ينادي بحضور الغير الّذي من شأنه أن ينفض عنه السّكون.
بيد أنّ النّص حسب انقاردنROMAN.INGARDEN لا يكتسب قيمته أو معناه إلاّ بواسطة التّحقّق، فالنّص بمنظور انقاردن بمثابة عملية واعية وُضِعَت على عاتق المتلقّي. وتعد الظّاهراتية أحد أهم الأسس الفلسفية التي رفدت نظرية التّلقّي إلى جانبها الهيرمنيوطيقا والسّيميائيات ([15]).
ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأنّ الفلسفة الظّاهراتية زوّدت ياوس بالعدّة اللاّزمة لإرساء نظريته الّتي صبّت جلّ اهتماماتها بالذّات القارئة ونعتتها بالعنصر الكفء الّذي بفضله يخرج العمل إلى دنيا الوجود. ويأتي هذا طبعا بالتّكتّل مع المبدع؛ حيث أشار إلى أنّ “العمل الفنّي موضوع قصدي صادر عن المبدع وأنّ التّحقّق نشاط قصدي ينجزه المتلقي. والعلاقة بين الموضوع القصدي للعمل والنّشاط القصدي للمتلقي تؤدي إلى إنتاج الموضوع الجمالي”([16]).
هذا يعني أنّ تعاضد المبدع بالمتلقي، هو الّذي يسفر على التّلقّي الفعّال للنّص، وهذه السّيرورة الإيجابية هي نتيجة جهد مشترك بين المبدع والمستقبل. وهذا ما يصبو إليه مشروع ياوس النّقدي. وما لا ينبغي أن نتغافل عنه هنا، هو تبنّي أعمدة الفينومينولوجيا لمبدأ عدم تناهي المعنى ولا محدوديته. فهو دائما مفتوح، يقبل دائما قراءات وإضافات جديدة. فمهما نجح القارئ في الإلمام بكنوز النّص، تبقى زوايا أخرى معتّمة تنتظر من يجسّ نبضها وهذا ما حاول ياوس فعله حين حمل المتعة الجمالية ضمن أفق إبستيمي أكثر رحابة .
4-الشّكلانيون الرّوس LES FORMALISTES RUSSE: تُعدُّ الشّكلانية الرّوسية من بين المناهج التي استرعى اهتمامها النّص والبحث عن موطن الجمالية فيه. وهذا ما أطلقت عليها اسم الأدبيّة littérarité إذ “ليس العمل الأدبي في حدّ ذاته هو موضوع الشّعريّة ، فما تستنطقه هو خصائص هذا الخطاب النّوعي الّذي هو الخطاب الأدبي. و كلّ عمل عندئذ لا يعتبر إلاّ تجلّيا لبنية محدّدة و عامّة ، ليس العمل إلاّ إنجازا من إنجازاتها الممكنة . ولكلّ ذلك فإنّ هذا العلم لا يعنى بالأدب الحقيقي بل بالأدب الممكن ، وبعبارة أخرى تُعنى بتلك الخصائص الّتي تصنع فرادة الحدث الأدبي ، أي الأدبيّة“([17]) .
وهذا دون الالتفات إلى صاحب النّص أو إلى الظّروف التي دفعته إلى إنتاج هذا النّص. ففائدة النّص تتأتّى من قدرة المؤلّف على جعل عمله يرقى إلى مصافّ الأدبيّة. هنا يتهافت عليه القرّاء وتعتريهم رغبة دقّ بابه للإطلال على مواطن الجِدّة فيه.
فالشّكل الّذي يقدَّم به النّص الإبداعي، يؤدي دورا كبيرا في عملية الإقبال على النّتاج من لُدن القارئ. و بذا “فلقد أسهم الشّكلانيون الرّوس، بتوسيعهم مفهوم الشّكل بحيث يندرج فيه الإدراك الجمالي، وبتعريفهم للعمل الفنّي بأنّه مجموعة «عناصره»، وبجذبهم النّظر لعملية التّفسير ذاتها، أسهموا في خلق طريقة جديدة للتّفسير، ترتبط ارتباطا وثيقا بنظرية التّلقّي”([18]).
يبدو أنّ اهتمام الشكلانيين بشكل النّص، لا يقتصر على مفهوم الإستيطيقا (الجمالية) من جهة اللّغة كمتتالية من الجمل وكفى، بل استرعى اهتمامهم فضل هذا الشّكل الفخم للنّص في استمالة القرّاء. من هنا يتّضح لنا دور الشكّل في جذب القارئ وترغيبه على معانقة النّص. فإذا أعجب القارئ بالنّص، فلابد أنّه سيسعى جاهدا وراء البحث عن معانيه و سبر أغوارها ثمّ تأتي مرحلة التّفسير. و من هنا تتجلّى لنا علاقة الشّكلانية بالتّلقّي سيما إذا رجّحنا بأنّ توليد الدّافعية نحو القارئ مرهونة بالزيّ الّذي يأتي على شاكلته النّصّ الإبداعيّ
5-سوسيولوجيا الأدب SOCIOLOGIE DE LA LITTERATURE: ينصبّ اهتمام سوسيولوجيا الأدب على دور الظّروف الاجتماعية للنّاقد في ممارسته العملية النّقدية، فالأفكار التي تصدر عنه لا تأتي من فراغ بل هي زبدة ما تشرّبه من مجتمعه. فقراءة النّاقد لا تخرج عن فلك المجتمع الذي شبّ أو ترعرع فيه. لذا نجد القراءات تختلف من مجتمع لآخر، كلّ يتعامل مع الأثر وِفق ما أملته عليه ظروف مجتمعه فلهذه العوامل وقع على قريحة القارئ شاء أم أبى وبهذا فقد “ساعدت سوسيولوجيا الأدب، نظرية التّلقّي على فهم العلاقة التي تجمع بين المتلقّي والظّروف الاجتماعية التي تمّ فيها التّلقّي، من خلال الترّكيز على فحص المنظومة الاجتماعية في تلقيها للعمل الأدبي”([19]).
لعلّ المقام لا يسمح لنا بالإلمام بكلّ الخلفيات الفلسفية التي مهّدت الأرضية لنظرية التّلقي، ولهذا اكتفينا بذكر بعضها دون الأخرى. علمًا أنّ هذه النظرية قد ضربت بجذورها في حقول معرفية وفلسفية شتى. وعليه “فالنّقد الموجّه للجمهور ليس حقلا واحدا، وإنّما هو حقول عدّة، وليس طريقا مفردا أو سالكا إلى حدِّ بعيد، وإنّما هو تشابك وفير، ومسالك متشعِّبة تغطي منطقة واسعة من المشهد النّقدي بشكل يُفزع تعقيدُه الجريء، ويشوّش ضعيف الهمّة”([20]).
ومن هنا، فَحَرِيٌّ بنا أن نُقِرَّ بأنَّ نظرية التّلقّي كانت زبدة لتيارات عديدة من حقول معرفية متباينة، ولا نبالغ إن قلنا بأنّها منحت لمفهوم القارئ إضافة جوهرية بما قدّمته من قيم إجرائية، تُفعل لاستراتيجية مُنتجة، تنطلق من النّص إلى القارئ ومن القارئ إلى النّصّ .
II– الإجراءات التّحليلية
1 أفق الانتظارHORIZONS D’ATTENTE : يعدُّ هذا المفهوم عصب نظرية التّلقّي عند ياوس، والمقصود به الوقع الذي يتركه العمل الأدبي في قارئه. وهذا الوقع قد يُرضي أفق توقّع القارئ كما قد يُخَيِّبه إذا وجد خِلاف ما كان ينويه، فالعمل إذن يرضي أفق قارئه متى تماشى مع كان يخمّن له القارئ و هو يستعدّ لمعانقة الإبداع ، وفي هذه الحالة لا فائدة تُرجى من العمل. ويخيِّبه متى تنافى مع ما ألفه، هنا يصاب بالدّهشة والاستغراب، فيبدأ رحلة الفضول والاستكشاف بحثا عن سبب الصّدمة، حيث “يعدّ مفهوم أفق الانتظار مدار نظرية ياوس الجديدة، لأنّه الأداة المنهجية التي ستُمكّن هذه النّظرية من إعطاء رؤيتها الجديدة القائمة على فهم الظاهرة الأدبيّة في أبعادها الوظيفيّة والجماليّة، من خلال سيرورة تلقّيها المستمرّة، شكلا موضوعيا ملموسا”([21]).
وما يمكننا أن نُضيفه بخصوص هذا القول، هو أنّ أفق الانتظار بمثابة الدِّرّة التي تزجٌر كيان القارئ في كل مرة وتنبغي الإشارة إلى أنّ أفق الانتظار يختلف من إنسان إلى آخر، وموضوع الاختلاف تُمليه تجربة القارئ واطّلاعه وتربيته الأدبية والفنّية. فكلما كان القارئ ذا اطّلاع بالأعمال الإبداعية، كلّما استخفّ بالعمل، ووضعه في قائمة المعتاد. بيْدَ أنّ المبدع لو عمد إلى التّجريب، إثرها سيصاب القارئ بالصدمة، فتتسلّل الدّهشة والغرابة إلى كيانه لتستيقظ جذوة الفضول والبحث عن المقصود. وهذا ما يستهوي ياوس بالتّحديد، لهذا فأفق الانتظار يتأسس بالإحالات التي تنتج عن الموضوع المتلقي. وهذا الأفق يتشكل أو يتأثّر بثلاثة عوامل أساسية تتمثل في تمرّس الجمهور السّابق بالجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا العمل ثمّ أشكال وموضوعات وأعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل (التّناص) وأخيرا التّعارض بين اللّغة الشّعريّة واللّغة العمليّة بين العالم الخيالي والعالم اليومي ([22]).
ذلك أنّ الإقبال على قراءة النّص لا يكون بطريقة ساذجة ،إنّما يتهافت القارئ على النّص وهو مُحمَّل بالذّخيرة اللاّزمة، فإذا أرضى النّص ذوقه فالفائدة قد ضاعت حسب ياوس، لأنّ العمل الّذي لا يرسم الدّهشة في نفس القارئ، ليس وراءه فائدة تُطال . فهو عمل فارغ أو قل استهلكت كل طاقاته. والأحرى أن يقذف به في غياهب النّسيان، كون القارئ قد اعتاد عليه أو علم بأسراره قبل أن يتفحّصه.
لكن إذا حدث أن شوّش العمل ذهن القارئ، فهنا مكمن الجمالية. ففي تخييب أفق انتظار القارئ فضل كبير في السّعي الحثيث وراء إيجاد أبواب جديدة لسبر أغواره “فالمقصود من عدم التّوقّع هو تعطيل قدرة الاستنتاج السّريع أي إحداث نوع من أنواع الصّدمة عند المتلقّي تقطع عليه تسلسل أفكاره باتّجاه معيّن، وتدفعه إلى تأمّل جديد للنّص”([23]).
هذا يعني أنّ الإمساك بمعنى النّص مطلقا ضرب من المستحيل والقراءة الجامعة المانعة للأثر لا وجود لها أصلا. ممّا يحفّز القارئ على التّنقيب أو البحث عن سرّ هذه المفاجأة. وبما أنّ الأدب بحر لا ساحل له، فمن السّخف تكبيله وإذا فعلنا ذاب في علوم أخرى. “فالحدث الأدبي. خلافا للحدث السّياسي. لا يتحمل نتائج و تبعات حتمّية تجعله يتمتع لاحقا بوجود خاصّ. وتجعل الأجيال اللّاحقة تتحمّله و تعانيه كما هو في ذاته. فهو لا يستطيع الاستمرار في التّأثير إلاّ إذا استقبله قراءُ المستقبل على نحو دائم ومتجدد”([24]).
وما يمكن أن نضيفه في هذا الصّدد، أنّ النّصّ الأدبيّ لا يتّفق مع التّاريخ من حيث الهدف، فمن سماته الثّبات والاستقرار، بيْد أنّ العمل الأدبيّ، كلّما رجّه القارئ كلّما وهب له معنى جديدا.
2-المسافة الجماليّة distance esthétique : لقد تفطّن ياوس إلى سلوك ينجرُّ من المتلقيّ عندما يقبل على الأثر الأدبي، مدركا أنّ ردّة فعله قد تختلف و تتنافى مع ما يريد النّصّ قوله بيد أن القارئ يتعامل مع العمل وفق ما يتوفرّ لديه من عتاد ثقافي ومعرفي، ونسمّي هذا المسار الّذي يسلكه القارئ كي يصل إلى ما يريد قوله بالمسافة الجمالية التّي تعني ذاك الفرق بين ظهور النّصّ وأفق انتظره، فكلّما أجهد القارئ نفسه للوصول إلى صرح النّصّ لإماطة اللثّام عن معانيه، كلّما بدا راقيا وبتعبير أدق، كلّما طالت المسافة الجمالية، أيّ المشوار الّذي يسلكه المتلقيّ ليدقَّ باب المعاني، كلّما اتّسم بالسّموla sublimation لأنّ العمل الّذي يضع معانيه على طبق جاهز لا يفتح باب المساءلة من زاوية أنه لا يؤدي إلى تخييب أفق انتظار القارئ و قلقه ليرسو في ميناء المعنى، مسافة جمالية فاصلة بين أفق الانتظار السّائد وبين الأفق المستحدث في العمل الجديد وهذا ما ينتج استجابات مختلفة كعدم الاعتراف بقيمة النّصّ، أو فهمه على نحو متأخّر، وبفضل هذه الضّجّة التّي يثيرها النّصّ، تقاس درجة أهميّة وقيمة الجمالية ([25]).
فالمعركة التّي يخوضها القرّاء بحثا عن المعنى المبثوث في ثنايا النّصّ لإظهاره وإبراز جدواه هي التّي تسمى بالمسافة الجمالية، لأنها تصدح بمشوار طويل لا يكاد يبلغه القارئ حتّى يجد الطريق ممدّدًا أمامه كونه لم يبلغ بيت القصيد، ولم يرمِ صائبًا لبَّ النَّصّ.
3– منطق السّؤال و الجوابla logique des questionnaires : استقى ياوس هذا المفهوم من فلسفة غادامير، الّذي يرى أنّ هضم ما ورد في نصّ ما من معانٍ، يستلزم على القارئ أن يعي الأسئلة التّي يطرحها النّصّ ويتوق الإجابة عنها. فالنّص حينما يقع بين يدي القارئ، فإنّه لا محالة ينتظر التّأويل، أي التّفسير وتوضيح الغامض منه. وتوضيح هذا الغامض عمل يتمّ الشّروع فيه ريثما يبدأ القارئ في وضع اقتراحات للأسئلة الّتي أفرزها النّصّ، لهذا ففهم نّص أدبيّ ينتمي إلى الماضي يقتضي إعادة اكتشاف السّؤال الّذي قدم له جوابًا في الأصل، أي إعادة بناء أفق الأسئلة أو أفق نظر القرّاء الأوائل. فمهمّة المؤرّخ الأدبيّ تمتد لتشمل مسألة تتبّع الأسئلة التّاريخية المتعاقبة وصولاً إلى مرحلة يتّم فيها استنطاق النّصّ ليجيب عن سؤال ينتمي إلى أفق الحاضر([26]).
ذلك أنّ عمر النّتاج الأدبيّ يمتد بامتداد هذه الأسئلة التّي يطرحها النّصّ على القارئ أو العكس لينتظر كلّ منهما الجواب من الآخر، فهي بمثابة لعبة يمارسها كلّ من النّصّ والمتلقيّ، كلّ واحد ينتظر جوابًا من الأخر وهذه اللّعبة التّي يمارسها النّص مع القارئ أو العكس تورث النّص نوعًا من الدّيناميّة المنتجة عن تراتبية السّؤال والجواب من أجل بلوغ المعنى .
4- اندماج الأفاقfusion des horizons : نعني باندماج الآفاق ذاك التّداخل بين الآفاق الناتجة عن القراء المتقدّمين و المتأخّرين ، إذ عادة ما يعود القارئ المتأخّر إلى أفق القارئ المتقدّم ليجعله كمصباح يساعده في اتّخاذ رأي معيّن إزاء العمل نفسه فاندماج الآفاق هو الاحتكاك بتجارب وشهادات الآخرين إزاء النّصّ المقروء فتندمجُ بهذا أفكار القارئ الحاضر بأفكار القارئ الماضي فبفضله يتمكنّ المؤرّخ الأدبيّ من الارتحال إلى الآخرين والاستنجاد بآرائهم و تطويعها لتخدم أفكارنَا.([27])
يتجلىّ لنا من هذا القول أنّ الاستئناس برأي الماضيين إزاء عمل معّين من شأنه أن يفضيَ إلى إضاءات جديدة من شأنها أن تساعد في الاقتراب أكثر من أسرار الأثر الإبداعيّ.
5- مواقع اللاّتحديد les limites indéterminées : تتميّز النّصوص كلّ النّصوص إن لم نبالغ – بعدم التّفصيح التّام بالمعاني التّي تكدست في جثتها فهي تفسح المجال للقارئ بين الفينة والأخرى كي يبحث عنها، فالنّصّ أحيانا يصمت من
أجل أن يتكلم القارئ أو يتجرد من بعض لبوسه (معانيه) ليلبسها إياه القارئ. لذا ترى القارئ أحيانا يصادف ثغرات و انقطاعات أو بالأحرى ألغازا تطلب منه استنطاقها وإجلاءَها، وتعدُّ هذه أصعب عملية توكل إلى القارئ لأنُّه مهما قال لن يعطيَ الفراغ حقّه، وهذا ما يطلق عليه اسم اللاّتحديد إذ “تتمثّل مواقع اللاّتحديد في الأفكار الغامضة، الرموز المبهمة، الألغاز، الإيحاءات الضّمنّية و المفارقات هذه الأمور كلّها، يسعى القارئ أو المتلقيّ وراء ملئها أو إزاحة غموضها و التباسها بما اذخره من قدرات معرفية وموسوعية([28]). فاللاّتحديد معيار الجمالية و آلة انفتاح النّتاج الأدبيّ وبفضله استطاع القارئ أن يضمن الخلود للعمل عن طريق توالد المعاني المترتّبة عن التّدخّل المستمرّ له.
بعد اطّلاعنا على المشروع النقديّ لياوس و ترصّد تفاصيله توصّلنا إلى مجموعة من الأفكار التّي نلخّصها فيما يلي:
إنّ الأثر الأدبيّ أوسع من أن يقبل منهجًا واحدًا، لذا وجدنا نظريّة التلقيّ قد رفدت من عدّة علوم و فلسفات وطوّعت آليات هذه العلوم وفق ما يخدم التّلقيّ.
ظهور نظريّة التّلقيّ ليس وليد الصّدفة والجزاف، إنّما عدتّ سخطًا و ثورة على المناهج التّي سبقتها زمنيًا، وذلك بعد اكتشاف الثغرات التّي تعاني منها وعجزها عن إعطاء النّصّ حقه.
نظريّة التّلقيّ تفسح المجال للنّقاد والباحثين و تتيح لهم مهمة ولوج أغوار الأثر الأدبيّ .فمهما بلغت قراءتهم أيّ مبلغ، يظّل الحكم الّذي يطلق على النّصّ تعسفيّا، لذا يبقى السّعي حثيثا وراء المعنى.
نظريّة التّلقيّ بوَّأت القارئَ المكانة التّي ربّما يستحقّهاَ والتّي طالما غٌيّبت وهُمّشت في حقب زمنّية ماضية فأعادت له الاعتبار الّذي يستحقه.
نظريّة التلقيّ ذات طابع فلسفي فهي تجنح إلى التّفسيّر و التّأويّل أكثر منه إلى الوصف.
لا يمكن نكران الخدمة الجليلة التّي أسدتهاَ نظريّة التّلقيّ للبشرية وذلك نظراً لثراء خلفيتها المعرفية.
لعلّ ما يُحسب على ياوس في نظريّته هذه، أنّه لم يقّدم للنّاقد أيّ نموذج أو قالب للتّحليل والدّراسة وفق نظريته، إذ تعاني من نقص رهيب في الجانب التّطبيقي الشّيء الّذي من شأنه أنّ ينفّر القارئ أو يقذفه إلى حلبة المغامرة.
إنّ قضيّة إيمان ياوس بلامحدودية التّأويل يجعل القارئ يسافر بعيدًا بأفق انتظاره ويلبس النّصّ لبوسًا غير لائق له، فالتّمادي في التّأويل من المنطقّي أن يفضي بالمؤوّل إلى أن يُقوّل النّص ما لم يقل، و في هذه الحالة بالذّات يصاب الإبداع بالتّخمة، كالإنسان الّذي أفرط في تناول الطّعام وهذا عيب.
ومن المزالق التّي تُحسب أيضا على ياوس، تقديسه للقارئ التّاريخي ومناداته بضرورة تتبّع ردود أفعاله إزاءَ عمل معيّن فهذا في اعتقادنا ضرب من ضروب المستحيل. فالتّطرق إلى القراءات التّي حظيَ بها العمل الإبداعيّ أمرٌ شاقٌ ومضن، بل لا يمكن بلوغه أصلاً ، ممَّا يسلّم بنسبية المعرفة عند ياوس، وبما أنّ نظريتهُ هذه تزيدُ لنا فضولاً على فضول فما الجدوى من وجودهاَ.؟
وما لا يمكن نكرانه في الخاتمة، هو قدرة نظريّة التّلقيّ على اكتساح السّاحة النّقدية و إعطاء بدائل أكثر معقولية من أجل بلوغ المعرفة، ويبقى الشيّء المأمول في هذا المضمار، هو العثور على حلّ منصف- إلى حدّ ما -من شأنه أن يقيَ الدّارسين من شرّ الإسهاب، أو من الشّطحات الّتي قد تصدر من لدن النّاقد المتسلّح بهذه النّظريّة. وعليه فإنّ نظريّة التّلقّي تتوق تصوّرات و اقتراحات جديدة تخلّصها و إن نسبيا من التّعويم والضّبابية الّتي اتّصفت بها .
قائمة المصادر والمراجع:
- أسامة عميرات، نظرية التّلقّي النّقدية وإجراءاتها التّطبيقية في النّقد العربي المعاصر رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر باتنة 2010، 2011، ص41، 4
- تزفيطان طودوروف، الشعرية، تر: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ط2، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب ، 1990، ص 23.
- حامد أبو حامد، الخطاب والقارئ: نظريات التّلقّي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة، د ط، سلسلة كتاب الرّياض، ع 30، 1996، ص 30.
- حسن البنا عزّ الدّين، قراءة الأخر/ قراءة الأنا: نظرية التّلقّي وتطبيقاتها في النّقد العربي المعاصر، ط1، الهيئة العامّة لقصور الثّقافة، القاهرة، 2008، ص25.
- روبرت هولب، نظرية التّلقّي: مقّدمة نقديّة، تر: عزّ الدّين إسماعيل، ط1، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2000، ص50.
- سامي إسماعيل، جماليات التّلقّي، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2002، ص45.
- سوزان روبين سليمان، انجي كروسمان، القارئ في النّص: مقالات في الجمهور والتأويل، تر: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، ط1، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، 2007، ص19.
- عامر عبد زيد، قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي، ط1، ابن النّديم للنشر والتّوزيع، دار الرّوافد الثقافية ناشرون، الجزائر، 2015، ص08.
- عبد الكريم شرفي، من فلسفات التّأول إلى نظريات القراءة، دراسة تحليلية نقدية في النّظريات الغربية الحديثة، ط1، منشورات الاختلاف، 2007، ص162.
- محمد المبارك٬ استقبال النّص عند العرب٬ ط1، المؤسسة العربيّة للدّراسات و النّشر٬ بيروت٬ 1999، ص 42.
- محمد شوقي الزّين، تأويلات وتفكيكات: فصول في الفكر العربي المعاصر، ط1، منشورات ضفاف، الجزائر، 2015، ص 29.
- هانس رُوبرت ياوس، جمالية التلقي، من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي، تر: رشيد بنحدّو، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ، 2002، ص101.
- ينظر حسن البنا عزّ الدّين، قراءة الأخر/ قراءة الأنا: نظرية التّلقّي وتطبيقاتها في النّقد العربي المعاصر، ص39.
- ينظر، سعيد عمري(سعيد خرّو). الرّواية من منظور نظرية التّلقّي مع نموذج تحليلي حول رواية أولا حارتنا لنجيب محفوظ. ط1، منشورات مشروع البحث النّقدي. فاس 2009، ص 17.
- ينظر، محمّد بن عياد، التّلقّي والتّأويل: مدخل نظري، علامات في النّقد،ع1، المغرب، 1998، ص 09.
- ينظر، هانس روبرت ياوس. جمالية التّلقّي: من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي، تر: رشيد بنحدو، ط1، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، 2004، ص44.
- حسن البنا عزّ الدّين، قراءة الآخر/ قراءة الأنا: نظرية التّلقّي وتطبيقاتها في النّقد العربي المعاصر، ط1، الهيئة العامّة لقصور الثّقافة، القاهرة، 2008، ص25.
[2]– هانس رُوبرت ياوس، جمالية التلقي، من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي، تر: رشيد بنحدّو، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ، 2002، ص101.
[3]– سامي إسماعيل، جماليات التّلقّي، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، 2002، ص45.
- حامد أبو حامد، الخطاب والقارئ: نظريات التّلقّي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة، د ط، سلسلة كتاب الرّياض، ع 30، 1996، ص 30.
3.حامد أبو حامد، المرجع نفسه، ص 33.
[6]– عبد الكريم شرفي، من فلسفات التّأويل إلى نظريّات القراءة، دراسة تحليلية نقدية في النّظريات الغربية الحديثة ،ط1،منشورات الاختلاف، الجزائر،2007، ص161.
[7]– حامد أبو حامد، المرجع السّابق، ص 33.
3- محمد شوقي الزّين، تأويلات وتفكيكات: فصول في الفكر العربي المعاصر، ط1، منشورات ضفاف، الجزائر، 2015، ص 29.
4- عامر عبد زيد، قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي، ط1، ابن النّديم للنشر والتّوزيع، دار الرّوافد الثقافية ناشرون، الجزائر، 2015، ص08.
- ينظر، سعيد عمري(سعيد خرّو). الرّواية من منظور نظرية التّلقّي مع نموذج تحليلي حول رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. ط1، منشورات مشروع البحث النّقدي. فاس 2009، ص 17.
- المرجع نفسه، ص08.
- محمّد بن عياد، التّلقّي والتّأويل: مدخل نظري، علامات في النّقد،ع1، المغرب، 1998، ص 09.
4- أسامة عميرات، نظرية التّلقّي النّقدية وإجراءاتها التّطبيقية في النّقد العربي المعاصر رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر، باتنة ، 2010، 2011، ص41، 42.
5- ينظر حسن البنا عزّ الدّين، قراءة الأخر/ قراءة الأنا: نظرية التّلقّي وتطبيقاتها في النّقد العربي المعاصر، ص39.
1- ينظر، سعيد عمري(سعيد خرّو). الرّواية من منظور نظرية التّلقّي، ص25.
[17]– تزفيطان طودوروف، الشعرية، تر: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ط2، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب ، 1990، ص 23.
1- روبرت هولب، نظرية التّلقّي: مقّدمة نقديّة، تر: عزّ الدّين إسماعيل، ط1، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، 2000، ص50.
2- أسامة عميرات، نظرية التّلقّي النّقدية وإجراءاتها التّطبيقية في النّقد العربي المعاصر، ص43.
3- سوزان روبين سليمان، انجي كروسمان، القارئ في النّص: مقالات في الجمهور والتأويل، تر: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، ط1، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، 2007، ص19.
- عبد الكريم شرفي، من فلسفات التّأول إلى نظريات القراءة، دراسة تحليلية نقدية في النّظريات الغربية الحديثة ، ص162.
- ينظر، هانس روبرت ياوس. جمالية التّلقّي: من أجل تأويل جديد للنّص الأدبي، تر: رشيد بنحدو، ط1، المجلس الأعلى للثّقافة، القاهرة، 2004، ص44.
- محمد المبارك، استقبال النّص عند العرب، ط1، المؤسسة العربيّة للدّراسات و النّشر، بيروت، 1999، ص 42.
- هانس روبرت ياوس، جمالية التّلقيّ: من أجل تأويل جديد للنّصّ الأدبي، ص 43.
- ينظر، سعيد عمري ،( سعيد خرّو)، الرّواية من منظور نظرية التّلقيّ، ص 34.
- ينظر، سعيد عمري ، المرجع السابق ،ص35.
- ينظر ، المرجع نفسه، ص35.
- ينظر ،المرحع نفسه، ص36.