
الفتح الإسلامي لمدينتي حرَّان والرُّها
الدكتور حسين علي/جامعة الجنان،لبنان
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد47 الصفحة 89.
Abstract:
This research deals with the history of the Islamic conquest of the city of HARRAN and RUHA from the island of Upper Euphrates in Turkey, which geographers described as the fairest of the regions. It is the northern part of Mesopotamia, the Tigris and the Euphrates. This study is an attempt to explore an important historical period in the history of this region, which is full of events and changes. The period of Islamic conquest.
The city was subjugated before Islam to the authority of Persia and Byzantium, and the area controlled by each was commensurate with its strength, and with the internal conditions under it. Therefore, this region was not stable in the pre-Islamic period because of the long conflicts between Byzantium and Persia in order to compete for control. Residents of the region have paid the price of instability due to the political turmoil and religious conflicts that prevailed in the region due to the multiplicity of religions and different doctrines.
The Muslims came to open the city at a time when the population was suffering from the psychological pressure, and social unrest caused by these political and religious conflicts. The victorious Muslims were the savior of the population of all ethnic and religious groups from the injustice and tyranny of the Byzantines and Persians against their inhabitants.
ملخص:
يتناول هذا البحث تاريخ الفتح الإسلامي لمدينتي الرها وحران من بلاد الجزيرة الفراتية العليا في تركيا الذي وصفه الجغرافيون بأنه أعدل الأقاليم. وهي الجزء الشمالي لمنطقة مابين النهرين أي دجلة والفرات، وهذه الدراسة محاولة لبحث فترة تاريخية مهمة من فترات تاريخ هذه المنطقة المزدحمة بالأحداث والتغيرات. وهي فترة الفتح الإسلامي.
ذلك أن المدينتين خضعتا قبل الإسلام لسلطتي فارس وبيزنطة، وكانت المساحة التي تسيطر عليها كل منهما تتناسب مع قوتها، ومع الأوضاع الداخلية التي ترزح تحتها. وعلى هذا فإن هذه المنطقة لم تكن مستقرة في الفترة السابقة للإسلام بسبب الصراعات الطويلة التي دارت بين بيزنطة وفارس من أجل منافسة كل منهما للسيطرة عليها. وقد دفع سكان المنطقة ثمن عدم الاستقرار بسبب اضطراب الوضع السياسي، والصراعات الدينية التي سادت أجواء المنطقة بسبب تعدد الديانات، واختلاف المذاهب.
وجاء المسلمون لفتح المدينتين في الوقت الذي كان سكانها يعانون فيه من الضغوط النفسية، والاضطرابات الاجتماعية التي سببتها تلك الصراعات السياسية والدينية. فكان المسلمون الفاتحون المنقذ للسكان بكافة فئاتهم العرقية والدينية من الظلم والطغيان اللذين مارسهما أباطرة بيزنطة وأكاسرة الفرس ضد سكانها.
الكلمات المفتاحية: الفتح الإسلامي، الجزيرة الفراتية العليا، الرها، حران.
مقدمة:
لقد حظيت الفتوح الإسلامية لبلاد الشام في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر(رضي الله عنهما) باهتمام علمائنا المسلمين، فأفردوا لتأريخها الفصول الطوال، لا سيما وأنها تتحدث عن أكثر الحقب إشراقاً في تاريخ الأمة، ألا وهي حقبة نشر الدعوة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية، والقضاءِ على ملكي فارس والروم.
امتدت هذه الفتوحات لتشمل دول العراق وفارس وأذربيجان شرقا، ودول الشام و مصرغرباً، وانتقلت من نصرٍ إلى نصرٍ حتى دانت لها تلك الدول.
وموضوع البحث سيكون عن مدينتي الرها وحران في جنوب تركيا، لقد خضعت هاتين المدينتين قبل الفتح الإسلامي لسلطتي فارس وبيزنطة، وكانت المساحة التي تسيطر عليها كل منهما تتناسب مع قوتها، ومع الأوضاع الداخلية التي ترزح تحتها. وقبل الفتح الإسلامي مباشرة كانت بيزنطة تسيطر على القسم الأعظم من تلك المنطقة، ذلك الجزء الذي يمتد من الفرات الغربي إلى منطقة طور عبدين، وكان الحد بين ما تسيطر عليه بيزنطة، وما يسيطر عليه الفرس يقع إلى الغرب من نَصِيبِين ودارا وسنجار.
كانت أوضاع حران و الرها سيئة قبل الفتح الإسلامي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والتي كان من أهم أسبابها أن المنطقة كانت مسرحاً للنزاع البيزنطي الفارسي، وكثيراً ما جرت في الجزيرة حروب دامية. وترافق مع ذلك عوامل طبيعية من زلازل وفيضانات خربت الحياة، فانكفأ الناس، وتراجعت الصناعة، وعانت التجارة من سوء الأمن، وتحول المزارعون والملاك الصغار إلى عبيد، وأضف إلى كل ذلك الصراع المذهبي الذي نشب بين الأديان المختلفة التي وجدت في المنطقة، وبين مذاهب الدين الواحد.
حين كانت مدينتي حران و الرها تعاني من هذه الأوضاع السيئة كان الإسلام قد بدأ ينتشر بفضل الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق، وكان لابد للمسلمين من فتح حران والرها.
ويتضح من هذا أن موقع حران و الرها المهم هو الذي دفع المسلمين إلى التفكير في فتحها، إضافة إلى أنها تقع على الحدود الفاصلة بين الإمبراطورية البيزنطية والمناطق المفتوحة من قبل المسلمين.
لم تكن حران والرها تتميزان بالموقع الاستراتيجي المهم فقط، بل إنهما كانتا منطقة اقتصادية مهمة زراعياً وصناعياً وتجارياً، ثم إن غالبية سكانها من العرب الذين كان لابد من دعوتهم إلى الإسلام، أو على أقل تقدير تبعيتهم للخلافة الإسلامية.
ويمكن القول إن بعض أفراد هذه القبائل العربية من إياد والنمر وقيس وتغلب أسلموا وانضموا إلى المسلمين في فتحهم لتلك المنطقة، في حين أن بعضهم بقي على دينه حتى بعد أن أتم المسلمون فتحها، ورفضوا دفع الجزية، ووافقوا على دفع الصدقة مضاعفة.
لقد تميزت حران و الرها بالموارد الطبيعية التي ساعدتهما على تكوين موارد اقتصادية من إنتاجهما المحلي، بالإضافة إلى غناها السكاني المتنوع بين طوائف متعددة، مما جعلها تختلف عن غيرها بالصبغة السكانية وبالتمازج الذي حصل بين هذه الطوائف وأنتج مجتمعاً متحضراً.
يعد هذا البحث دراسة لتاريخ الفتح الإسلامي لمدينتي حران و الرها ودراسة للأحوال الاقتصادية والدينية والسياسية والاجتماعية قبل الإسلام وإبان الفتح الإسلامي وهو محاولة لدراسة مرحلة تاريخية مهمة من مراحل تاريخ هذه المنطقة المزدحمة بالأحداث والتغيرات.
أولاً ـــ الرُّها(أورفة):
تقع الرُّها عند منابع أحد روافد البليخ وهي من المدن المهمة للنصارى في الجزيرة وقال عنها ياقوت الحموي: “مدينة بالجزيرة بين الموصل والشام بينهما ستة فراسخ، سميت باسم الذي استحدثها وهو الرُّهاء بن البلندي بن مالك ابن دُعر. وكان اسمها بالرومية أذاسا([1]).
وهي مدينة متوسطة الكبر وبها كثير من المياه، والبساتين، والزروع. استولى عليها بلدوين- أحد أمراء الحملة الصليبية الأولى- الأول خلال الحملات الصليبية على بلاد الشام، وأسس فيها إمارة صليبية دامت نصف قرن، ثم فتحها عماد الدين زنكي سنة (539ه/1144م).وأعادها إلى الحكم الإسلامي بعد إنتزاعها من يد ملكها جوسلين الثاني([2]).
وللمدينة ثلاثة أبواب: باب حرَّان، باب أقساس،وباب شاع، وفيها عينان: العين الطويلة، والعين المدورة، وكان يوجد في المدينة قلعة على جبل يتصل بها سور المدينة من الجانب الغربي([3]).
واشتهرت بالأديرة والكنائس الكثيرة المنتشرة فيها، والتي ازدادت كثيراً بعد فتح المدينة، نتيجة للتسامح الديني الذي كان سائداً، وذكر بأن فيها أكثر من ثلاثمائة دير للنصارى([4]).
كان للمدينة دور تجاري مهم، فقد كانت القوافل التجارية تمر من أراضيها، وكان التجار يدفعون لأهالي المدينة ضرائب لقاء مرورهم وتأمين الحماية لهم.
من أشهر مدن ديار مضر بينها وبين الرُّها يوم وبين الرقة يومان وهي على طريق الموصل والشام وبلاد الروم([5]) وهي أول مدينة وضعت على وجه الأرض بعد الطوفان، ويقال أن سيدنا نوح عليه السلام هو أول من بنى سورها([6]).
وكان اسم حرَّان هاران نسبة إلى هاران أخي إبراهيم عليه السلام لأنه أول من بناها فعرّبت فقيل حرَّان([7]).
وذكر أبو الفداء أنها كانت مدينة للصابئة، بها سدنتهم السبعة عشر، وبها تل عليه مصلى يعظمه الصابئون ويتجهون إليه في صلاتهم، وينسبونه إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام([8]).
ووصف ابن جبير حرَّان ومسجدها فقال:” فشاهدنا من بناء هذا الجامع، وحسن ترتيب أسواقه المتصلة به، مرأى عجيباً، قلّما يوجد في المدن مثل انتظامه”.
وكان بناء المدينة، وجامعها، وقلعتها وسورها، والخندق الذي يحيطها بالحجارة وهي مدينة كبيرة لها مدرسة، ومارستان، وبها نهر صغير في جبهتها الشرقية.
واختتم ابن جبير وصفه لها بقوله:” والبلد كثير الخلق، واسع الرزق، ظاهر البركة، كثير المساجد، جم المرافق على أفضل ما يكون من المدن. وصاحبه مظفر الدين بن زين الدين، وطاعته إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي”. وفي عام 670ه نقل المغول من بقي على قيد الحياة من سكانها إلى المناطق الشرقية من نهر الفرات بعد المجزرة التي ارتكبوها فيها”([9]).
ويوجد فيها مسجد لإبراهيم عليه السلام، وفيه صخرة مقدسة يقال بأن إبراهيم عليه السلام استند عليها([10]). ولها سبعة أبواب: باب الرقة،الباب الكبير، باب البيار، باب الفدان، الباب الصغير،باب يزيد، وباب الماء، وفيها نهران: ديصان، وجلاب، واستغل السكان هذه الأنهار وأقاموا حولها القناطر([11]).
ثالثاً ـــ فتح مدينة الرُّها وحرَّان من بلاد الجزيرة:
فتحت مدينتا الرها وحران سنة ثماني عشرة للهجرة وقد روى البلاذري في فتوح البلدان في فتح الرُّها وحرَّان فقال: ثم سار عياض إلى الرُّها وأهل الرُّها قد بلغهم يومئذ خبر عياض بن غَنْم وفتح الرقة فجزعوا لذلك جزعاً شديداً، وقد جمعوا الأطعمة والأشربة والأعلاف إلى مدينتهم وهم على خوف شديد من المسلمين، قال: وقد هيئوا العرّادات([12]) على أبرجة المدينة وقد جمعوا الحجارة وعزموا على حرب المسلمين. قال: فلم يشعروا إلا والخيل قد وافتهم بالتكبير والتهليل، فلما سمع أهل الرُّها ذلك أخذهم الخوف وهم في ذلك يتجلدون ويتشجعون، قال: وتقاربت خيل المسلمين من المدينة، قال: وتقدمت الرايات والألوية، فجعل أهل الرُّها يقول بعضهم لبعض: القوم في عشرين ألفاً أو يزيدون وما نظن أن لنا بهم طاقة. قال: وأقبل عياض بن غَنْم والكتائب عن يمينه وشماله يتلو بعضهم بعضاً،حتى نزل وضرب عسكره على الباب الأعظم من أبواب الرُّها وهو الباب الذي يخرج منه إلى أرض الروم. قال: والتحم الأمر بين الفريقين، فاقتتلوا خمسة عشر يوماً لا يَقُّرون ليلاً ولا نهاراً. قال: وجعل أهل الرُّها ينظرون إلى رجال أبطال فرسان في متون الخيل، فعلموا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين، فاستغاثوا إلى بطريقهم الأكبر – واسمه ميطولس – فقالوا: أيها البطريق إنه لا طاقة لنا بهؤلاء العرب، فإما أن تصالحهم كما فعل أهل الرقة وإلا سلمنا إليهم المدينة.
قال: فلما نظر البطريق إلى الجزع والفشل أرسل إلى عياض بن غَنْم يسأله الصلح على أن يعطيه ما أعطاه أهل الرقة، فأجابه عياض إلى ذلك، فكتب له ولأهل المدينة كتاباً بالصلح وأشهد عليه المسلمين([13]).
وهذا نصه: ” بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عياض بن غَنْم الفهري لأسقف الرُّها أنكم إن فتحتم لي باب المدينة على أن تؤدوا إلي ديناراً عن كل رجل ومدي قمح فأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم ومن تبعكم، وعليكم إرشاد الضال،وإصلاح الجسور والطرق، ونصيحة المسلمين شهد الله وكفى بالله شهيداً “([14]) ثم نادى عياض في عسكره: ألا إن أهل الرُّها في ذمتنا وعهدنا، فلا تؤذوهم ولا تدخلوا عليهم في منازلهم إلا بإذن. قال: فكفَّ المسلمون عن محاربة أهل الرُّها، وأخذ عياض منهم ما صالحهم عليه، وأعجبته المدينة وأقام بها أياماً([15]).
في هذه الأثناء سمع عياض بن غَنْم أن الروم قد جمعوا جيشاً في حرَّان يقدر بعشرين ألف رجل فأمر منادياً ينادي في الجيش بالاستعداد ثم سار به إلى أطراف حرَّان فوقع الرعب في قلوب الأهالي فأرسلوا إليه شخصاً يطلب الصلح فأجابهم إليه على النحو الذي صالح به أهل الرقة والرُّها. وكتب لهم بذلك عهداً ثم فتحت بوابة حرَّان ودخل المسلمون البلد([16]).
وروى الواقدي في فتوح الشام فقال: حدثنا ربيعة بن هيثم عن عبدالله التنوخي عن ابن عطية قال: ماأسلم في بداية الأمر من أهل الجزيرة إلاحرَّان، فلما رآهم أصحاب رسول الله r قد دخلوا في الإسلام، قالوا: اللهم ثبتهم على دينك ولا تمكن من بلدهم عدواً. وأعادوا الكنائس مساجدَ وجوامع وسلموا الصحابة ما حول حرَّان و الرُّها تسليماً([17]).
ونقل ابن الفقيه الهمذاني عن الزهري قوله: لم يبق بالجزيرة موضع قدم إلا فتح على عهد عمر بن الخطابt على يدي عياض بن غَنْمt ففتح حرَّان و الرُّها الرقة و قَرْقيسِيا ونَصِيبِين وسنجار، وأجمع المؤرخون أن جيش عياض فتح بالس والرقة وماردين ورأس العين وكان عياض بن غَنْمt قائداً عامَّاً لفتوح الجزيرة وأن جيشه افتتح مابيد الروم بالجزيرة صلحاً وعنوة.
وفتح عياض بن غَنْمt مَيَّافَارِقِين و كفرتوثا و نَصِيبِين عنوة في حين فتح آمِدْ صلحاً وكذلك طور عبدين و ماردين و دارا على مثل صلح الرُّها([18]).
رابعاً ـــ الأسباب والعوامل التي ساعدت على فتح حرَّان والرُّها:
1 ـــ الأسباب السياسية و الاستراتيجية:
كانت حران و الرها قبل فتحهما خاضعة لسلطتي فارس وبيزنطة، ومن الصعب تحديد خط فاصل بين منطقة النفوذ الفارسي، ومنطقة نفوذ بيزنطة فيها بشكل دائم، لأن مساحة نفوذ كل دولة منهما كانت تتوقف على قوتها. ففي بداية القرن السابع الميلادي كانت عانة ونَصِيبِين تشكل خط الحدود بين الدولتين، ويبدو أن الفرس بعد هزيمتهم على يد هرقل اضطروا إلى تقليص عدد قواتهم في الجزيرة وحصرها، في سنجار، أو أنهم سحبوا قواتهم من الجزيرة بسبب الاستعانة بها في معاركهم مع المسلمين في العراق، وخاصة بعد يوم القادسية.
حين بدأ المسلمون فتح الجزيرة، لم يكن للفرس وجود عسكري إلا في سنجار التي كانت فيها حامية فارسية، وضعت للدفاع عن سهل ماردين، ودارا. بينما سيطرت بيزنطة على بقية مدن الجزيرة. وجعلوا من الرُّها قاعدة لإدارتها([19]).
لاشك أن وضع الجزيرة الفراتية السياسي وخضوعها لإمبراطوريتين عظيمتين، كان يشكل خطورة كبرى على وضع الدولة الإسلامية التي بدأت تتوسع شرقاً وشمالاً، وأن الفتوح التي حققها المسلمون في بلاد الشام والعراق كان له تأثير كبير في التحرك لفتح الجزيرة لتأمين الحدود من جهة، ولأن أهلها كانوا أعواناً لجيش البيزنطيين في الشام، من جهة أخرى فقد استنفرهم إمبراطور بيزنطة للانضمام إلى جيوشه لمحاصرة حمص ضد المسلمين([20])، ويذكر ابن حبيشي أن إمدادات الجزيرة لجيش بيزنطة المحاصرة لحمص قد بلغت ثلاثين ألف جندي وهذا يوضح حجم الإمدادات التي قدمتها الجزيرة لصد العرب الفاتحين، ومقدرة الجزيرة على تجنيد أعداد كبيرة من الجند وقد لفت هذا الوضع الخطير انتباه الفاتحين، ووجهوا اهتمامهم نحو الجزيرة الفراتية لأهميتها السياسية من ناحية، فهي قاعدة مشتركة لإمبراطوريتي فارس وبيزنطة. وأن بقاءها تحت سيطرتهما سيعطي الفرصة لهما لمحاولة السيطرة من جديد على العراق والشام بعد أن تستجمعا قواهما لمواجهة الفاتحين المسلمين.
أما الناحية الأخرى، فمنطقة الرها وحران تحتل موقعاً استراتيجياً مهماً، فهي تتوسط في موقعها بين الشام والعراق وبلاد بيزنطة، وفتحها يكفل تأمين حدود بلاد الشام من الشمال والشرق، كما يؤمن العراق من الشمال والشمال الغربي، وفي نفس الوقت تكون قاعدة لانطلاق الجيوش إلى أراضي بيزنطة، وفوق كل ذلك فهي قاعدة لامتداد الفتوح الإسلامية تجاه أذربيجان من ناحية الشرق والشمال الشرقي. إضافة إلى أهميتها العسكرية. والحقيقة أن المسلمين في جميع فتوحاتهم كانوا يسيرون على خطة تأمين الفتح، أي أن ذلك لم يكن شيئاً يخص منطقة الجزيرة فقط، ففتح الشام وفلسطين سهل فتح مصر، وفتح العراق سهل فتح الجزيرة، وأرمينية وأذربيجان وهكذا([21]).
قد تكون الأوضاع الاجتماعية التي كانت عليها تلك المنطقة أحد الأسباب التي أدت إلى فتحها. فمن المحتمل أن لموقف عرب الجزيرة، وعرب الشام من المسلمين الفاتحين- في اليرموك وحمص وغيرهما- كبير الأثر في نفوسهم، خاصة حين وجدوهم يقاتلون في صفوف البيزنطيين، مما دفع إلى العمل على ضم أبناء جلدتهم إليهم وتحريرهم من نير البيزنطيين والفرس، وكسبهم إلى صفوفهم([22]).
ويوضح ذلك المحاورة التي جرت بين خالد بن الوليدt وبعض العرب المناهضين للفتوح، والتي جاء فيها:” ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب أو من العجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له زعيم قبيلة تغلب عدي بن عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لما تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية…”.
ويبدو أن عبارات خالد قد أثرت في هؤلاء العرب مما دفع بزعيمهم عدي إلى الانضمام وقومه تغلب ومعهم من حالفهم من النمر بن قاسط إلى العرب المسلمين مرددين عبارة: نقاتل مع قومنا، فصالحوهم على مئة وتسعين ألف دينار.
كما نجح الفاتحون في استمالة غيرهم من القبائل العربية التي استقرت في العراق، وفي حدود الجزيرة، وبقي بعضهم على نصرانيته مثل بني تغلب.
إلا أن هذا لم يقف حاجزاً بينهم وبين بقية العرب، ومن المرجح أن استجابة العرب لبني جلدتهم كان مرجعه رغبة هؤلاء العرب المتنصّرة في التخلص من الظلم والتعسف اللذين كانا يلقيانه من أباطرة بيزنطة وأكاسرة فارس، وما شاهدوه من حسن معاملة المسلمين لأهالي البلدان المفتوحة، في الشام والعراق([23]).
وتتمثل هذه الأسباب في حركة الجهاد الإسلامي في سبيل الله، فقد خرجت الجيوش الإسلامية وراء تيار الجهاد وتحت لوائه لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله في الدرجة الأولى، وكانت عبارة أبي بكر الصديقt حين استنفر أهل مكة، والطائف، واليمن، وجميع العرب بنجد، والحجاز، تتضمن الجهاد في سبيل الله والترغيب فيه([24]). وتؤكد معاهدات الصلح التي كتبها المسلمون لأهالي المناطق المفتوحة أن غاية المسلمين من الفتوح هي نشر الإسلام، لأنه المطلب الأول، فإن لم يكن فالجزية لحمايتهم، لذلك يختلط المسلمون بغيرهم، ويبدو تسامحهم علناً، وقد يؤدي تسامح المسلمين مع رعاياهم إلى دخولهم في الإسلام. ثم إن الفاتحين كانوا يستميتون في الدفاع عن الإسلام، ولا يقبلون إلا بالنصر أو الشهادة التي كان يسعى إليها غالبيتهم. وقد أمدهم الإسلام بطاقة من الإيمان كانت عاملاً فعالاً في استمرار فتوحهم، وإحراز انتصارات تجاوزت كل تقدير.
وهكذا يمكن القول بأن الأسباب الدينية كانت من أقوى الدوافع التي دفعت بالمسلمين إلى الانضمام لحركة الفتوح التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية منذ الوهلة الأولى التي كتب فيها الخليفة أبو بكر الصديقtإلى قبائل العرب يستنفرهم للجهاد. فسارعوا إليه مابين محتسب وطامع في الشهادة في سبيل الله. يحدوهم الأمل في متابعة سيرة رسول الله في نشر الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية([25]). وقد اتضحت نواياهم في نشر الإسلام من طريقة معاملتهم لأهالي البلاد المفتوحة، ظهر ذلك من معاهدات الصلح التي أُبرمت بين الطرفين، وبناء المساجد في كل بلد يتم فتحه.
ب ـــ العوامل التي سهلت على المسلمين فتح حرَّان والرُّها:
تذكر بعض المصادر أن حرَّان و الرُّها كانت أسهل البلدان أمراً وأيسرها فتحاً، على الرغم من بعض الصعوبات التي واجهتها جيوش المسلمين في بداية فتحها. ويمكن القول: إن حرَّان و الرُّها لم يشهد معارك دموية أو خسائر كبيرة في الأرواح، فيما عدا منطقة رأس العين التي استعصت في بادئ الأمر وأغلق أهلها أبوابها، ونصبوا العرّادات عليها، وتسببوا بقتل عدد من المسلمين بالحجارة والسهام، إلا أنها فُتحت صلحاً فيما بعد([26]). ويمكن أن نعزو سهولة فتح حرَّان و الرُّها إلى عدة عوامل منها:
1-انحصار أرض حرَّان والرُّها بين مناطق تابعة للعرب المسلمين في العراق والشام جعل فتحها ضرورة ملحة، لئلا تبقى منطقة خطر تهدد المسلمين في المناطق المجاورة، وتفصل منطقتين تابعتين للمسلمين عن بعضهما، ولذلك فإن المسلمين استعدوا لهذا الفتح استعداداً كبيراً أدى إلى سهولة فتحها.
2- حسن معاملتهم لمن انضم إليهم أو دخل في ذمتهم، أو دان بدينهم.
3-انسحاب القوات البيزنطية من منطقة الجزيرة بعد فتح الشام([27])، واعتناق الجند الفرس المرابطين في سنجار للإسلام بعد فتح الجزيرة مباشرة. جعل حرَّان والرُّها خالية إلى حد ما من القوى العسكرية.
4-دخول بعض بطون القبائل العربية في هذه المناطق تحت سيطرة الفاتحين المسلمين بعد فتح الشام والعراق مما دفع ببقايا هذه القبائل القاطنة في منطقة حرَّان والرُّها إلى الالتحاق بمن سبقها، ودخلوا تحت طاعة المسلمين. فقد شعروا بأن الفاتحين ليسوا أعداء وبالإمكان تقبل دخولهم إلى المنطقة، إضافة إلى أن الفاتحين المسلمين كانوا يرون ضم أبناء جلدتهم من العرب في المنطقة إليهم، وتحريرهم من نير البيزنطيين، فبعضهم استجاب لهذه الدعوة، وآخرون رفضوا الدخول في الإسلام، كما رفضوا دفع الجزية باسمها، لشعورهم بالأنفة والعزة، ولأنهم رأوا في دفع الجزية مذلة لهم([28]).
5- معاناة تلك المنطقة من الوضع السياسي قبل الإسلام بسبب وقوعها تحت سيطرة دولتين متصارعتين، نشبت بينهما حروب طاحنة أدت إلى خراب أراضيها، ووجدوا في المسلمين المنقذ لهم من تلك الصراعات، مما دفعهم إلى عدم المقاومة، والقبول بعقد الصلح مع المسلمين([29]).
وخلاصة لما سبق ذكره نستنتج بأن فتح حرَّان والرُّها قد حدث في الوقت الذي كان سكانها يعانون من الضغوط النفسية، والاضطرابات الاجتماعية التي سببها لهم أباطرة بيزنطة وأكاسرة فارس. فكان هؤلاء الفاتحون المنقذ لهم من الظلم والطغيان اللَّذَينِ خيما على تلك المنطقة.
وقد كانت أسباب متنوعة سياسية واجتماعية ودينية أدت إلى قيام المسلمين بالفتح، وكانت الأسباب الدينية من أقوى الأسباب التي دفعت بجيوش المسلمين نحو المنطقة لفتحها، استمراراً لحركة الفتوح التي خرجت لنشر الرسالة الإسلامية في أرجاء العالم.
قائمة المصادر والمراجع :
- ابن أعثم الكوفي، أبو محمد أحمد(ت:314ه،926م)، الفتوح، تحقيق:علي شيري، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1414ه/1994م.
- ابن جبير، محمد بن أحمد(ت:614ه/1218م)، رحلة ابن جبير، تحقيق: حسين نصار، دار صادر، بيروت، 1384ه/1964م.
- ابن حوقل النصيبي، محمد بن علي( ت:367ه/977م)، صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1412ه/1992م.
- ابن شداد، عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم(ت:684ه/1285م)، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق: يحيى زكريا عبارة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1411ه/1991م.
- البلاذري، أحمد بن يحيى(ت:279ه/892م)، فتوح البلدان، تحقيق: عبدالله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت، 1407ه/1987م.
- الحارثي، عبد الله بن ناصر بن سليمان، الأوضاع الحضارية في إقليم الجزيرة الفراتية، الدار العربية للموسوعات،بيروت، ط1، 1427ه/2007م.
- الحميري، محمد عبدالمنعم(ت:900ه/1495م)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت، ط2، 1404ه/1984م.
- السيد سعدي، محمدرشيد، قرة العين في تاريخ الجزيرة والعراق والنهرين، مطبعة الرشيد، 1325ه/1907م.
- العمري، سعاد أحمد، الجزيرة الفراتيةمن الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الأموية، أطروحة دكتوراه، قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، 1416ه/1995م.
- الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب(ت:817هـ/1414م)، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1426هـ/2005م.
11-الواقدي، فتوح الشام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417ه/1997م.
- الواقدي، محمد بن عمر(ت:207ه/823 م)، تاريخ فتوح الجزيرة والخابور وديار بكر والعراق، تحقيق: عبدالعزيز حرفوش، دار البشائر، دمشق، 1417ه/1996م.
13-ياقوت الحموي بن عبد الله الرومي(ت: 626ه/1229م)، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1397ه/1977م.
([1])ياقوت الحموي بن عبد الله الرومي(ت: 626ه/1229م)، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1397ه/1977م، ج3، ص106.
([2])الحارثي، عبد الله بن ناصر بن سليمان، الأوضاع الحضارية في إقليم الجزيرة الفراتية، الدار العربية للموسوعات، بيروت، ط1، 1427ه/2007م، ص34.
[3])) ابن شداد، عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم(ت:684ه/1285م)، الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، تحقيق: يحيى زكريا عبارة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1411ه/1991م، ج3، ق1، ص86.
([4]) ابن حوقل النصيبي، محمد بن علي( ت:367ه/977م)، صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1412ه/1992م، ص204.
[5])) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2، ص235.
([6]) ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ج3، ق1، ص44.
([7]) ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج2، ص235.
([8])السيد سعدي، محمدرشيد، قرة العين في تاريخ الجزيرة والعراق والنهرين، مطبعة الرشيد، 1325ه/1907م، ص17.
[9])) ابن جبير، محمد بن أحمد(ت:614ه/1218م)، رحلة ابن جبير، تحقيق: حسين نصار، دار صادر، بيروت، 1384ه/1964م، ص221-222.
[10])) ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ج3، ق1، ص42.
[11])) المصدر نفسه، ص40-41.
[12])) العرّادات بالتشديد: شيءٌ أصغرُ من المنجنيق، الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب(ت:817هـ/1414م)، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1426هـ/2005م، ص298.
[13])) ابن أعثم الكوفي، أبومحمد أحمد(ت:314ه،926م)، الفتوح، تحقيق:علي شيري، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1414ه/1994م، ج1، ص252.
[14])) البلاذري، أحمد بن يحيى(ت:279ه/892م)، فتوح البلدان، تحقيق: عبدالله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت، 1407ه/1987م، ص239.الحميري، محمد عبدالمنعم(ت:900ه/1495م)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، مكتبة لبنان، بيروت، ط2، 1404ه/1984م، ص3.
[15])) ابن الأعثم، الفتوح، ج1، ص253.
[16])) المصدر نفسه، ص255.
[17])) الواقدي، فتوح الشام، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417ه/1997م، ج2، ص120.
[18])) الواقدي، محمد بن عمر(ت:207ه/823 م)، تاريخ فتوح الجزيرة والخابور وديار بكر والعراق، تحقيق: عبد العزيز حرفوش، دار البشائر، دمشق، 1417ه/1996م، ص8.
[19])) المصدر نفسه، ص92.
[20])) البلاذري، فتوح البلدان، ص122.
[21]))العمري، سعاد أحمد، الجزيرة الفراتية من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الأموية، أطروحة دكتوراه، قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة الملك سعود، 1416ه/1995م، ص93.
[22])) البلاذري، فتوح البلدان، ص140-141.
[23])) العمري، الجزيرة الفراتية من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الأموية، ص94-95.
[24])) البلاذري، فتوح البلدان، ص115 وص187.
[25])) المصدر نفسه، ص115.
[26])) البلاذري، فتوح البلدان، ص181.
[27])) المصدر نفسه، ص142-143.
[28])) المصدر نفسه، ص184.
[29])) العمري، الجزيرة الفراتية من الفتح الإسلامي حتى نهاية الدولة الأموية، ص98.