
حول الدعوة إلى “فيمينيزم إسلامية”
وهل من الممكن “تمكين” المرأة أو “التمركز حول الأنثى” في مجتمعات مقهورة؟
د. نهلة عبد الله الحريبي/جامعة صنعاء،اليمن
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 46 الصفحة 127.
ملخص:
كثرت الدعوات إلى “تطوير” النظرة الإسلامية لوضع المرأة في أسرتها ومجتمعها، بل ولتصورها لذاتها وهويتها تماشيا مع الواقع السائد وهيمنة الأيديولوجيا الغربية، منها مقال الدكتور طارق رمضان على موقعه باللغة الانجليزية تحت عنوان، “ولادة فيمينيزم إسلامية”[1] وتفاعلا مع هذه الموجة أتقدم بمقالي هذا والذي قسمته إلى جزأين، الأول منهما بمثابة مقدمة ضرورية لتبيان الخلفية الواقعية لاختياري موضوع المرأة والأسرة المسلمة في أبحاثي الأكاديمية وفي كتاباتي المنشورة. والجزء الثاني أفصل فيه محاولاتي التحليلية لإرساء مفاهيم في علم اجتماع الأسرة تكون أكثر تعبيرا من المفاهيم الغربية عن واقع المجتمعات العربية، وللوصول إلى تعريفات تعكس هوية وآمال المرأة العربية للانعتاق والتمكين والسعادة. وبالرغم من أننا نعيش عصر “العولمة” وما تزعمه من التعبير عن المشترك الإنساني، إلا أنه لم يعد خافيا على كل ذي بصيرة حاجتنا إلى نموذج بديل للنسوية الغربية نعيد فيه تشكيل حركة تحرير وتمكين المرأة العربية وصياغة تعريف مصطلحات هذا النموذج بما يلائم أوضاعنا وطموحاتنا. وبين التبني المطلق للنسوية الغربية والرفض المطلق لها، أقدم نموذجا مطروحا للحوار الأكاديمي قائم على نتائج أبحاثي للماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة والتي أجريتها على جاليتين عربيتين/إسلاميتين: الجالية اليمنية في مدينة ديترويت، ولاية ميتشيجن والجالية الصومالية في مدينة كولومبوس، ولاية أوهايو. كان المبحث المحوري في أبحاثي هو: كيف تشكل الأسر العربية/المسلمة نمط اندماجها في المجتمع الأمريكي الكبير من حولها – وخاصة فيما يتعلق بالأدوار والهويات والعلاقات “الجندرية” – بدون انعزال وانغلاق يهمش الجالية أو ذوبان يلغي كل خصوصية واستقلالية ثقافية. وقد خلص تحليلي بعد إجراء مقابلات شملت 20 إمرأة في بحث الماجستير و38 زوج وزوجة في بحث الدكتوراه إلى أن النساء في هاتين العينيتين نجحن إلى حد كبير في المواءمة بين الثقافتين اللتين ينتمين إليها: ثقافة البلد الأصلي وثقافة بلد المهجر، وأن فهمهن للإسلام كان عاملا مساعدا لتكوين والتناغم بين عناصر هويتهن المركبة الجديدة[2].
الكلمات المفتاحية: الأسرة المسلمة في الغرب، تحرير وتمكين المرأة العربية، النسوية الإسلامية، الإسلام واندماج المهاجرين المسلمين في الغرب.
في بداية مقالي أؤكد على نقطتين رئيستين:
* لنا- نحن معشر النساء العربيات – أن نناضل للمطالبة بما منحنا إياه الإسلام وأنكرته علينا العادات والتقاليد والتفسيرات المتنطعة البالية، وبحقنا في أن نخوض مجال العلم والتعليم والاجتهاد لنشارك مشاركة أصيلة في صياغة علاقة واقعنا ومقتضياته بالنصوص الثابتة. وعلينا أن نجاهد “رهاب التغيير” في أنفسنا ومجتمعاتنا لنتغلب على الجمود والتوجس من أي تغيير،
* عند اجتهادنا لتلمُّح الرؤية المستقبلية للمرأة العربية/ المسلمة ودورها المطلوب في هذه الأوقات العصيبة من تاريخ أمتنا، ليس هناك ما يمنعنا من أن نستفيد من التجارب السابقة لأخوات لنا في الإنسانية عايشن وتعاملن مع مشاكل وأزمات المرأة في المجتمعات الغربية، فليس مطلوب إسلاميا ولاهو ممكن عمليا في عصر العولمة مقاطعة نتاج عقود من الأفكار والحركات الاجتماعية نظرا لعدم انطلاقها من إطار إسلامي. غير أنه بدلا من أن تكون علاقتنا بالتجارب والفكر النسوي الغربي تبعية عمياء تتبنى الغث والسمين وتمليها انهزامية “المغلوب المولع بتقليد الغالب،” كما أشار ابن خلدون، حري بها أن تكون اقتباس المنفتح على الآخر بثقة المعتز بتراثه والناقد الحصيف لما هو وافد من الغرب ولما هو موروث من تطبيقات بشرية لشريعة الإسلام.
يشير الدكتور رمضان إلى أنه بالرغم من أن هناك ازدياد ملحوظ في ظاهرة تولّي المرأة المسلمة في الغرب لأدوار قيادية في مؤسسات الجالية الإسلامية، إلا أن هناك شعور عام بأن تقلّد المرأة لهذه الأدوار في الحياة العامة إنما هو استسلام لواقع ضاغط أكثر منه تغيير توجهات وقناعات. ويمضي الدكتور رمضان موضحا، أن العقليات والاتجاهات المنتشرة في الجاليات الإسلامية في الغرب لم تتغير بالتوازي مع تغير الأدوار “الجندرية” gender في واقعها، وأن كثيراً من المسلمين، رجالاً ونساءً، يستسلمون لهذه النقلات بدلاً من تقبلها واعتناقها، بل وأنهم في أعماقهم يشعرون بالصراع بين فهمهم وولائهم وانتمائهم للإسلام من جهة وبين هذه التغيرات من جهة أخرى. والحق أن هذا الاستنتاج ينطبق بالفعل على جزء كبير من مجتمعاتنا، ذات الأغلبية المسلمة أو تجمعاتنا الإسلامية في الغرب، بما في ذلك النساء اللائي وجدن أنفسهن في الصدارة بدافع ذاتي أو بدفع موضوعي من الظروف والقوى المحيطة بهن. غير أنني أرى أن هذا الشعور الجمعي يحتاج إلى وقفة وليس بمستحق للإدانة والإنكار وذلك للأسباب التالية:
- أن ما يحدث من خلط وتبدل للأدوار في مجتمعاتنا الإسلامية ليس حصيلة تغيير أصيل نابع من “تطور” الواقع الإسلامي تطوراً ذاتياً بهدف التجديد أو استجابة لتغيرات طبيعية في مساقاته النهضوية المستقلة، بل إن معظمه وبداياته كانت، و ما زالت إلى حد كبير، مفروضة من ملأ منا مرتبطين فكريا وشعوريا وماديا بدعم الخارج وهيمنته. ففي الحقبة الأولى للاحتلال الغربي العسكري، استخدم إداريو ومنظرو هذا الاحتلال الخطاب النسوي ذي المركزية الأوروبية لتبرير احتلال البلدان العربية والإسلامية[3] وبناء عليه، قُدِّمَت الهجمات الأوروبية على المجتمعات الإسلامية كحملة ذات دافع تنويري وحضاري بهدف تحرير النساء المضطهدات من قبل دينهن ورجالهن، منذ ذلك الحين يتم فرض قيم الغرب ومفاهيمه عن “المساواة” و”التقدم” بمختلف الوسائل والمقاربات. وبتحفيز ودفع خارجي أُريد من المرأة المسلمة، بدعوى نهضتها، أن تمارس قطيعة مع ماضيها بكل إيجابياته وسلبياته، بانحطاطه وازدهاره، وذلك على العكس من الحركة النهضوية لنسوية المرأة الغربية والتي مثلت، بالأصالة لا بالوكالة، قطيعة ذاتية المنشأ مع القرون الوسطى المظلمة في الغرب[4]. وإذا عقدنا مقارنة بين المجددات في قراءة النصوص الدينية اليهوديات والمسيحيات والمسلمات لوجدنا أن أحد الفروق الرئيسة أن نشاط الأخريات في الأغلب يملى عليهن بطرق مباشرة وغير مباشرة من أطراف خارجية وليس وليد اجتهادات شخصية/ محلية بالأساس وذلك بهدف “تحديث/ تهذيب” الإسلام والمسلمين. وبينما كانت قراءات التجديد للنصوص اليهودية والمسيحية تجرى باستقلالية تامة سياسية واقتصادية وفكرية، نرى أن القراءات التجديدية للنساء المسلمات تتعرض لخطر الاستغلال والتوجيه من قبل منصات المحافظين الجدد في الغرب والهادفة إلى تشجيع والإعلاء مما يسمى “الإسلام الجيد المعتدل أو الليبرالي،” والذي يتضح في محصلته العامة أنه لإلصاق صفة “الأصولية” والتطرف على كل ما عداه من نماذج إسلامية بأكثر مما يهدف إلى خدمة المجتمعات العربية والإسلامية. وبالنتيجة تساهم القراءات النسوية العربية التجديدية من حيث تعلم أو لا تعلم في العنف الفعلي أو المعرفي ضد الإسلام، وفي خدمة الهيمنة الثقافية والسياسية والاقتصادية الغربية[5]
- إن أهداف “التحرير” و “التمكين” و “التقدم” و”المساواة” وغيرها مما ارتبط بتنظيرات وممارسات غربية تتعلق بالمرأة لم تُصَغ لمعالجة حاجات أصيلة في مجتمعاتنا. والمشكل ليس في الأسماء، فالناس جميعا باختلاف ثقافاتهم وظروفهم يطمحون إلى أن يكونوا أحراراً، متمكنين، متقدمين ومتساويين مع غيرهم. ولكن المأزق الذي وُضعنا فيه أن قوى التغريب حينما استوردت هذه المصطلحات استوردتها بتعريفات خاصة كانت وليدة تطورات تاريخية واجتماعية وفكرية خاصة بمساقات أجنبية وفرضت علينا بالترغيب والترهيب. فأصبحنا ونحن نلهث للوصول إليها نعاني من كثير من التناقضات في حياتنا الاجتماعية والأسرية، منها ما أشار إليه الدكتور رمضان من ممارسات اجتماعية سُقنا سوقاً إلى الانخراط فيها بدون أن تعبر عن تطلعات ورغبات وحاجات ذاتية/محلية.
- أن هذا التغيير بالنسبة للغالبية العظمى ملجأ اضطراري من واقع اقتصادي خانق فرض على كثير من الأسر إخراج الزوجات والبنات للكسب المادي وإشباع الحاجات الأساسية، ولا يعكس قناعات تحولية جذرية بضرورة تولي المرأة لمناصب قيادية عامة.
- أن كثيراً من النساء الموهوبات والقادرات (من ذوات العلم والأدب والمهارات المختلفة) ما زلن زاهدات في الخروج والظهور، مفضلات سكينة وحميمية وأمن الفضاء الخاص لدوائرهن الجمعية المحدودة (الأسرة، العائلة الممتدة، الجوار، الصديقات…) على كل مغريات الفضاء العام وتحدياته (من بريق المناصب والجاه والشهرة والكسب المادي إلى شراسة وصقيع التنافس والصراع والفردانية). إن الكثير من ذوات الكفاءات قد اخترن طوعاً القرار في بيوتهن مفضلات بذلك الكسب الاجتماعي والعاطفي لهن ولأسرهن على الكسب المادي الاستهلاكي. فالغالبية من هؤلاء النسوة (رغم اهتماماتهن ومساهماتهن بما يستطعن بالشأن العام) لم يشاركن حتى الآن في موجة تصدير المرأة للقيادة وهن غير ممَثَلات في هذا التيار.
- أن جزء كبير من هذه التغييرات يحدث كرد فعل للاتهامات والصور النمطية في الإعلام والدوائر الأكاديمية الغربية عن سلبية المرأة المسلمة وجهلها وخضوعها المطلق المهين للرجل. فهو رد فعليّ دفاعيّ أكثر منه تجديد ذاتي.
ومنعاً للقراءات المغلوطة لمقالي فأجد من الضروري التأكيد على أن هناك العديد من مظاهر الظلم وإنكار الحقوق تعاني منه النساء المسلمات، كغيرهن من نساء الأديان والثقافات الأخرى بدرجات وأشكال متفاوتة، وأن هناك ما يمكن الاستفادة منه في تجارب وتنظيرات الأنثويات/النسويات (feminists ) في الغرب، بل واعتبار كل ما لا يتناقض مع أصول ومبادئ الإسلام من هذه الدعوات إسلامياً في الجوهر ولو حمل إطاراً ووعاءً ثقافياً غير معتاد بالنسبة للثقافات والعادات والتقاليد “الإسلامية”، وأضع صفة “إسلامية” بين قوسين لأنه من اللازم الإقرار بأن ممارسات وتقاليد المسلمين الثقافية ليست متطابقة دائما مع أصول التشريع ومبادئه ومقاصده الكبرى.
ما أنا بصدد محاجته ليس حقيقة اشتراكنا مع النسويات الغربيات في صفات ومطالب إنسانية عامة ومن ثم منطقية الاقتباس من تجاربهن ورؤاهن، ولكنني أشدد على ضرورة الانتباه إلى اختلافنا معهن في العديد من الاهتمامات والتحديات النابعة من حضارتنا وواقعنا ومن ثم رفض التسليم المطلق والسلبي وغير الناقد لحلول ولمقاربات غربية (قائمة في الكثير منها على الفردانية وأنانية الذات والمادية والتنافس بل والصراع في سياقات اجتماعية وحضارية خاصة) يتم تصويرها وترويجها وكأنها كونية تصلح لكل زمان ومكان وتتجاوز الخصوصية وتخلو من التناقضات وجوانب النقص.
ولكي تكون عملية الاقتباس والتبني من أدبيات وحركات النسوية الغربية مثمرة وواقعية ولا تساهم في تعزيز حالة التبعية والخضوع المزرية التي تعاني منها أمتنا ينبغي بادئ ذي بدء أن نعيد النظر في تعريفات المصطلحات الأساسية التي يقوم عليها بناء وتطبيقات دراسات المرأة. كما يجب استعراض تاريخ وواقع النسوية الغربية والتي تتنوع بداخلها الاتجاهات والنظريات والأهداف، فكونها غير متجانسة ولا موحدة[6] يمدنا بمجال أوسع للاختيار والموازنة. وأخيراً، يجدر بنا أن ندرس أسباب ومآلات حركة تحرير المرأة في الغرب، ومن ذلك مراجعة الأبحاث التي تزعم أن نسبة الراغبين في عودة الأم إلى البيت أو على الأقل في ضرورة بقاء أحد الوالدين في البيت لرعاية الأطفال في ازدياد مطرد[7].
الجزء الثاني: حركة تحرير وتمكين المرأة العربية:
نموذج بديل
مقدمة
تعتبر الأنثوية / النسوية (feminism) من أقوى حركات التغيير الاجتماعي الحديثة وأكثرها تأثيرا في الوقت المعاصر. وإذا كان العديد من علماء الاجتماع العرب قد بدأوا المطالبة بـ “توطين” (indigenization) علم الاجتماع العربي منذ سبعينيات القرن الماضي (أي بجعله معبرا أكثر عن واقع الوطن العربي وهمومه وتطلعاته[8])، فأولى بدعاة حقوق المرأة والنسويات العربيات ألا يتخلفن عن الركب وأن يبدأن في وضع الأساس النظري والمفاهيمي (conceptual) لتشييد بناء تحرير وتمكين المرأة العربية. إن توطين برنامج دراسات المرأة وفعاليات حركتها في الوطن العربي – أي إنشاء نموذج بديل للنموذج الغربي – يتجاوز الحدود الأكاديمية والحركية المرسومة في الغرب إلى رخاء ومنفعة وسعادة النساء العربيات وأسرهن ومجتمعاتهن. إن مفاهيم مثل “السعادة، الرضا، التوازن، التكامل” تغيب تماما عن أدبيات النسويات الغربيات ولكن هل يلزمنا – ونحن نصوغ تعريفاتنا ومفاهيمنا الخاصة – أن نتبع الخط نفسه في التنظير ومنهاج البحث؟
ومما ﻻ غنى عنه لتشييد هذا النموذج المعرفي إعادة تعريف المفاهيم الأساسية لدراسات وبرامج المرأة وتحريرها من الغموض والالتباس والخلط، وهي خطوة في غاية الأهمية إذ يقوم عليها بناء معرفي ضخم وشامل لأي مجتمع يريد الاتساق بين موروثه وهويته الحضارية والاستجابة لمتطلبات التغيير والتقدم. ما لم يتم إنجاز هذه اللبنة الأولى، فإن المجهودات الحثيثة لفرض نموذج النسوية الغربية في المجتمعات العربية (عن طريق لجان الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية، أو منظمات التنمية أو المؤسسات الأكاديمية وغيرها) لن تنتج إلا بناء غريب مهزوز معرض للنبذ أو مسبب للصراعات الداخلية ليس فقط بين عناصر المجتمع المختلفة ولكن في نفس كل امرأة تعتز بعروبتها وإسلامها وتسعى لنيل حقوقها في الوقت نفسه. وما أحرانا بتأمل تجربة الغرب نفسه حيث بدأ نموذج تحرير المرأة الجذري المطروح بقوة منذ ستينيات القرن الماضي يفقد الكثير من بريقه وعنفوانه ومن نساء وفتيات الجيل الجديد[9].
نموذجنا البديل الذي يتناسب مع واقعنا وأزماتنا وطموحاتنا وتطلعاتنا ورغباتنا يتوافق مع النموذج الغربي في جوانب ولكنه يختلف عنه بالتأكيد في جوانب أخرى. ما نلتقي فيه لا يحتاج إلى تفصيل لأنه إنساني تشترك فيه نساء العالم، غير أنا نحتاج أن نوضح جوانب الاختلاف والتي كثيرا ما يغض الطرف عنها عند الحديث عن “النسوية الإسلامية أو العربية”. وأنا هنا لا أدعي الحياد، بل أصف نفسي وصفا تحيزيا كامرأة عربية مسلمة نشأت في مجتمع عربي “محافظ” ثم أكملت تشكيل وعيها ورصيدها الأكاديمي في الغرب وانتهت إلى قناعة بضرورة استقلال المرأة العربية في نضالها لانتزاع حقوق كفلها لها الإسلام وأنكرتها عليها عادات وثقافات ومؤسسات كل من المجتمع المحلي والقوى الأجنبية. وأنها في هذا النضال يحبذ أن تستفيد من تجارب المرأة الغربية وفي الوقت نفسه تتسلح بالثقة بالنفس وتمحور مجهودها حول خصوصية الثقافة والواقع العربي، ورفض التبعية غير المميزة للنسق الفكري الغربي مهما كان هذا الرفض شاقا وشائكا بسبب هيمنة الغرب الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. وأثناء عملية التفاعل والاستفادة من تجارب وتنظيرات النسويات الغربيات ( الأكاديميات أو الناشطات) يجب أن يكون لدى هؤﻻء ولدينا نحن تصور واضح بأن التفاعل معهن هو من باب الندية وليس التبعية والتلقي السلبي وأنه لا مفر من الاختلاف الثقافي بيننا وبينهن، ولكن بدلا من جعل هذا الاختلاف تصادمي يهدف إلى فرض إرادة وأجندة أحد الأطراف على الآخر، يحسن أن يكون اختلافا متصفا بالاحترام المتبادل والإقرار بضرورة الاختلاف والتنوع البشري. “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ”
ركائز عملية إعادة تعريف المفاهيم
* الاتفاق على مرجعية الشريعة الإسلامية باعتبارها المكون الأساسي لضمير ووجدان الشخصية العربية رغم عناصر التشويه والجمود. ويلاحظ في هذا المجال أنه حتى التوجهات الفكرية والفلسفية التي لا تسلم بمرجعية الشريعة تسعى لتطويع هذه المرجعية وفق تأويلات وتفسيرات تعبر عن قناعاتها، وذلك حتى تسوّق نفسها للجماهير العربية.
* التمييز بين أصول الشريعة ومبادئها العامة وبين القوالب الثقافية الخاصة التي صاحبت تفسير وتطبيق هذه النصوص في مجتمعات وعصور زمنية مختلفة.
* السعي إلى التنسيق مع أولي العلم في أصول الفقه والاجتهاد لدراسة السياقات الاجتماعية والتاريخية التي نزلت فيها النصوص المثيرة للجدل لمحاولة استنباط أحكام ورؤى تتناسب مع السياقات المعاصرة، ذلك لأن التحدي الحقيقي هو القدرة على إسقاط النصوص على الواقع المعاش بلا تفريط ولا إفراط.
* مجاهدة أنفسنا للتحلي بالإنصاف والنقد البناء الحصيف في تقييم سلبيات وإيجابيات كلٍ من الوارد من الغرب (تجربة الحركة النسوية) والموروث من تراثنا البشري في تفسير وتطبيق النصوص (العادات والتأويلات والتي اكتسبت مع مرور الزمن قدسية النص).
ولتكون عملية تحرير المصطلحات واقعية وغير موغلة في التجريد، سأربطها بمساقاتها التاريخية والاجتماعية الغربية التي ظهرت فيها مع مقابلة هذه المساقات بنظيراتها في التاريخ والواقع العربي، ثم سأقدم إعادة التعريفات في إطار مقارني (comparative) مع التعاريف الغربية السائدة. وأخيرا، سأطرح النموذج البديل والذي تبلورت ملامحه لدي بعد تحليل بيانات الأبحاث الكيفية التي أجريتها في الوﻻيات المتحدة للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم الاجتماع.
السياق التاريخي والحضاري للنسوية الغربية
مما لا شك فيه أن هناك ظروف موضوعية دفعت بنساء ذوات قدرات قيادية وفكرية أن يطلقن نداء الدعوة لتحرير المرأة في الغرب من أغلال الظلم والاستغلال. ومما لا يقبل الجدل أيضا أن لدينا في مجتمعاتنا المسلمة ظروف وأوضاع صعبة تعاني منها النساء والفتيات، وأننا بالتالي بحاجة إلى حركة تغيير تضع معالم الطريق وأهدافه. إلا أنه من الضروري والعملي أن نكون قادرات على رؤية الاختلافات الجوهرية بين مساقات مجتمعاتنا التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية عن نظيراتها في الغرب ، وبالنتيجة، ألا ننساق خلف محاولات فرض برامج وخطط وأهداف الحركات النسوية الغربية على التغيير الذي تنشده وتتطلع إليه المرأة العربية، مهما كانت وعود التمويل والدعم مغرية. أؤكد على ضرورة هذا الاستقلال خاصة حينما تواجهنا معضلتان:
الأولى، موجات النسوية المتأخرة والتي تطالب فيها الجذريات بالاستغناء الكلي عن الرجل وبادعاء أن الصراع والتنافس المحموم هو التوصيف المناسب لعلاقة كل الرجال بكل النساء،والثانية، ارتباط منظمات النسويات (مهما كانت أهدافها نبيلة لتحسين حياة النساء العربيات) العاملة في بلداننا بالمصالح السياسية والاقتصادية للحكومات اللاتي ينتمين إليها أو يحصلن على التمويل منها (ذلك التمويل الذي يرتبط برسم الأهداف/الأجندات)، وهي حكومات إمبريالية تعمل على استخدام قضية “تخلف وقهر” المرأة العربية كوسيلة من وسائل تعزيز هيمنتها. وأعود للتنبيه إلى أن عملية إصلاح (Reform) التفكير الديني فيما يتعلق بالمرأة كان ذاتي الدافع والمنبع بالنسبة للمسيحية واليهودية على عكس الإسلام والذي غالبا ما نشأت حركات “الإصلاح” فيه والتغيير في هذا المجال من الخارج وخاصة من مؤسسات حكومية تتبع دولا غربية[10].
بدأت حركة النسوية في الغرب في القرن الثامن عشر تعبيراً عن مساءلة ورفض النظم الثقافية والاجتماعية المنتقصة للمرأة وحقوقها وإنسانيتها. فمثلا، كان لا يسمح للمرأة بحق التملك أو الاختيار السياسي إلا كتابع لزوجها. كانت المرأة إلى عهد قريب – وصل في بعض البلدان الغربية إلى خمسينيات القرن الماضي – غير مسموح لها بالإدلاء بصوتها في الانتخاب باعتبار أنها غير مؤهلة لذلك أو أن صوت زوجها يعبر عنها أيضا. وإلى نهاية القرن التاسع عشر كانت المرأة تعتبر في القانون الانجليزي كيان ينضوي كليةً بإرادته الاقتصادية والسياسية تحت كيان الزوج، فيعتبرا شخصا واحدا في نظر القانون وما إن ترتبط برجل حتى يمنع عليها التصرف بأملاكها إلا بإقرار منه. بل أن أطفالها وممتلكاتها ملك خاص لزوجها. كما كانت محرومة من التعليم المحترِم لقدراتها العقلية كإنسانة مفكرة [11].
بدأ طلب المرأة الغربية للمساواة بالرجل عبر الاحتجاج على النصوص الدينية في العهد القديم والجديد والتي انتقصت من إنسانيتها في عدة مواضع، مثل تحميل حواء مسؤولية إغواء آدم ليأكل من الشجرة المحرمة، وبالنتيجة تحميلها وزر “الإثم الأول” والذي حملته البشرية منذ ذلك الحين وهبطت بسببه إلى الأرض، بحسب المعتقدات المسيحية، بل واعتبار ألم الولادة لعنة عليها بسبب تلك الخطيئة![12] أدت النظرة الدينية والثقافية إلى خلق نمط تفكير وتقييم ثنائي قطبي حاد بين الرجل/المرأة: العام/الخاص، الأبوية المهيمنة/الأنثوية الخاضعة، الإيجابية/السلبية، الشهوانية/اللاجنسية، العقلانية/الانفعالية.
كان الطلاق غير وارد وإذا وجدت المرأة نفسها في علاقة زوجية متعسفة وبائسة فستصبح حبيستها لبقية حياتها بلا مخرج أو انعتاق. ولهذا طالبت النسوية المبكرة بحق المرأة في إبرام “عقد اجتماعي” في بداية الزواج لحمايتها من الظلم والاعتساف.[13]
وأثناء الثورة الصناعية وفي أعقاب الحربين “العالميتين” الأولى والثانية، وجدت كثير من النساء أنفسهن وأطفالهن بلا معيل واستجبن لدعوة السوق الرأسمالية للعمل بأجور زهيدة لا ترقى إلى أجور الرجال على نفس العمل. وهكذا توفرت الأجواء الخصبة، من استغلال وظلم وعدم أمن واحترام، لنمو حركة تطالب بالعدل والتقدير للنساء.
والمتأمل لواقع المجتمعات الإسلامية والعربية يجد أن هناك شئ من التشابه مع أوضاع ومشاكل المرأة الغربية في ذلك العصر مع الأخذ في الاعتبار الاختلافات. فالمرأة عندنا تعاني من مشاكل ثقافية – أو دينية تنشأ من تفسيرات ذكورية للنصوص – تصورها أقل قدرا من الرجل في القيمة الإنسانية وتبخس قدراتها العقلية وتحرمها من حقوقها الاقتصادية والسياسية. كما أن الأوضاع الاقتصادية الطاحنة تفرض على كثير من النساء الخروج للعمل والمساعدة في تأمين حاجاتهن وحاجات أسرهن المعيشية. بالإضافة إلى ذلك فإن توفير فرص تعليم متكافئة للبنات غير معمول به في كثير من المناطق وخاصة الريفية. غير أن هناك الكثير من الاختلافات أيضا، من هذه الاختلافات ذات الدلالة أنه في المجتمعات الإسلامية لا يوجد ذلك الفصل التعسفي والحاد بين ما هو “أنثوي خاص” وما هو “ذكوري عام” كما وجد في المجتمع الفيكتوري على سبيل المثال، حيث كان التعريف المثالي للأنوثة غاية في الضيق والتشدد والمحدودية لا يخرج عن قيام المرأة بشؤون المنزل والتزين والأناقة والظهور بمظهر الرقة في محيطها “المناسب”. حتى أنه كان على النساء الموهوبات والمتطلعات لدور أكثر من الزوجية والأمومة أن يئدن تطلعاتهن إذا لم تنسجم مع صورة الثقافة الفيكتورية المحدودة للأنثى.
بالمقابل نجد أنه على مر التاريخ العربي/الإسلامي، وحتى في الحاضر الذي يعاني من مستويات كارثية من الانحطاط والتخلف، مارست المرأة العديد من الأدوار العامة سواء في الفضاء العام أو من محيطها الخاص في منزلها، مثل التكسب من مشاريع صغيرة وتولي مسؤوليات سياسية بل وعسكرية، والتأثير في قرارات أفراد الأسرة التي تتعلق بأدوارهم هم العامة. كما أن من الاختلافات أن التعليم لم يكن يمارس كما هو الحال في النظام الحديث الغربي كوسيلة لتأمين وظيفة أو للتأهيل لسوق العمل، وإنما كان طلب العلم لذاته ومن أجل القيام بدور الاستخلاف على أكمل وجه في هذه الحياة. فكانت هناك كثير من النساء العالمات والفقيهات والأديبات والمحدثات[14] ولكن كان ذلك كله في إطار غير تنافسي و بمنأى عن محاولة تعسف التطابق الكلي بين الرجل والمرأة.[15]
المرأة في التشريع الإسلامي، وإن كان ذلك ينتهك في الثقافات العربية والإسلامية، لها كيان اقتصادي مستقل تستطيع من خلاله أن ترث وتتملك وتتكسب ويكون مالها خالص الملكية لها فتتصرف فيه بالبيع والشراء وغيره ولا سلطة للزوج عليه. كما أن من حقها أن تملي في عقد الزواج ما تراه مهما لسعادتها في حياتها الزوجية، فعقد الزواج في الإسلام هو عقد مدني يمكّن طرفي العقد من وضع الأسس المتفق عليها لحياتهما المشتركة.
وإذا كانت الموجات الأولى من النسوية الغربية قد دارت حول مطالب أساسية يصعب إنكار عالميتها (إذ أنها تمحورت حول مساواة المرأة للرجل في إنسانيته وروحانيته، حقه في التعليم والتملك الاقتصادي والاختيار والتمثيل السياسي والتشريعي، وحقه في تلقي خدمات الدولة الأساسية من صحية وغيرها)، فإن الموجات المتأخرة والتي بدأت من ستينيات القرن الماضي أصبحت تقوم على تعريفات فلسفية للمساواة تصادم بشكل صريح قناعات الغالبية العظمى من النساء المسلمات العربيات (وفي أحيان كثيرة قناعات كثير من النساء الغربيات أنفسهن)، مثل إنكار أي اختلاف بين الرجل والمرأة بدعوى أن كل الاختلافات إنما هي ثقافية ولا يولد بها الجنسان وأن الاختلافات البيولوجية ليس لها أي دور في تحديد طبيعة المرأة والرجل وإنما من يحدد ذلك هي حصرا التنشئة الاجتماعية، وأن الذكورة والأنوثة إنما هي هويات اجتماعية ثقافية لا علاقة لها “بالطبيعة” البيولوجية والنفسية للذكر والأنثى (وكلمات مثل “الطبيعة” و “الفطرة” توضع دائما بين قوسين للتشكيك أصلا بمصداقيتها في الواقع)[16]انتقلت النسوية الغربية من المطالبة بحقوق المرأة ورفض الانتقاص منها إلى محاولة تشكيل وعي ومفاهيم “ثورية” جديدة عن طبيعة الأنوثة والذكورة يتم بها التطابق الكامل التعسفي بين الرجل والمرأة (women’s complete, identical identity &roleswith men’s): في الهوية والأدوار، والحاجات، والتطلعات، وأصبحت المطالبة بالاعتراف بإنسانية المرأة تعني مساعدتها أن تكون في صورة الذكر التي خلقتها الممارسات والتصورات الثقافية المنحرفة! وبدا أن الهدف النهائي لقياس إنسانية المرأة هو قدر تشبهها بذلك الرجل، الذي أصبحت الإنسانية والرقي والقيمة العليا تُقرن بهويته وأدواره. ومن المفارقات العجيبة أن هذا التقديس والتضخيم لقيمة الهوية والأدوار الذكورية هو جزء مما ثارت عليه النسوية الأولى وطالبت بتعديله حتى يكون أكثر عدلا وتقديرا لهوية المرأة وأدوارها.
انتقلت المطالبة بالاعتراف بكامل إنسانية المرأة (باعتبارها شقيقة الرجل في الاستخلاف وكائن إنساني مستقل ذي قدرات ومسؤوليات ذات قيمة عليا في المجتمع وأمام خالقها) إلى اعتبار ماهية الرجل وما يفعله من أدوار هو المثال والنموذج المنشود للمرأة أن تصل إليه لتحقق إنسانيتها. وساد الاحتقار والتقليل من قيمة ما تفعله المرأة تماشيا مع طبيعتها كأم وزوجة، واتهمت النساء الراضيات والسعيدات بأدوارهن الأنثوية والأسرية في مجالهن الخاص بأنهن ضحية تزييف الوعي الممارس غالبا من قبل الرجال لإبقائهن تحت سلطتهم وخدمتهم.
وبذلك ندرك كيف تحولت النسوية الغربية من حركة اجتماعية انطلقت في دفاعها عن حقوق المرأة من منطلق جمعي، أي أن المرأة جزء من المجتمع، إلى حركة” تمركز حول الأنثى”. ومع تصاعد معدلات العلمنة والفردانية “بدأت الأبعاد الإنسانية والاجتماعية لحركة تحرير المرأة في التراجع وتم إدراك الأنثى خارج أي سياق اجتماعي، كأنها كائن قائم بذاته ولم تعد المسألة قضية حقوق المرأة الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الثقافية، وإنما رؤية معرفية متكاملة نابعة من الإيمان بأن الأنثى كيان منفصل عن الذكر – بل وعن الأسرة – وبالتالي فالبرنامج الإصلاحي الذي تطرحه لا يهدف إلى تغيير القوانين أو السياق الاجتماعي للحفاظ على إنسانية المرأة باعتبارها أماً وزوجة وابنة وعضو في المجتمع، وإنما يهدف إلى تغيير اللغة والطبيعة البشرية ذاتها حتى يتم اختلاط الأدوار تماماً، وحتى يتحسن أداء المرأة في الصراع مع الرجل”[17]
أمام النقلة الهائلة لطبيعة الحركة النسوية الغربية وأهدافها، هل تلزم حركة تحرير وتمكين المرأة العربية باقتفاء خط الحركة في الغرب؟ أليس من الحكمة والفطنة، قبل اتخاذ خطوات غير مدروسة على درب النسوية الغربية، أن نقيم دراسات علمية للإجابة على السؤال الجامع:
ما هي جوانب الاستفادة والخسران للمرأة الغربية والمجتمع الغربي من استبدال عموم النساء لعملهن في البيت بعمل في مكتب حكومي أو بالمنافسة في حلبة سوق العمل والمصنع؟ وماهو الثمن الذي دفعته المرأة والأسرة الغربية في سبيل ذلك وهل يوازي هذا الثمن ما تم تحقيقه من أرباح ومنجزات مادية؟
السياق السياسي
أما الحديث عن الاختلاف الهائل في السياق السياسي الذي نشأت فيه الحركة النسوية الغربية والسياق الذي مطلوب فيه من المرأة العربية استنساخ أهداف ووسائل هذه الحركة فذو شجون. فحينما يقارن البعض بين الدول الغربية والعربية في تاريخ منح المرأة حق التصويت في الانتخابات مثلا يغفلون عن حقيقة جوهرية وهي أنه في الوقت الذي منحت فيه المرأة الغربية حق الإدلاء بصوتها لتفعيل إرادتها السياسية كانت مجتمعاتنا، برجالها ونسائها، ترزح تحت الموجة الأولى من الاحتلال الأوروبي. وفي المرحلة التالية حينما خرجت الجيوش الغربية حل محلها أنظمة قمعية استبدادية حظيت في الغالب بمساندة الغرب.
تغفل معظم النسويات الغربيات أو المستغربات، وهن يسعين لاستنساخ تجربة النسوية الغربية في البلدان العربية، أنه مما مكن للمرأة الغربية المطالبة بحقوقها هو أنها كانت، وما زالت، تعيش تحت رعاية دول مستقرة داخليا وذات سيادة مستقلة خارجيا. أما الاستقرار الداخلي فأهم مصادره مؤسسات تضمن حرية وكرامة ورفاه المواطنين وتفرض العدل والمساواة (بشكل عام بالطبع وإلا فهناك استثناءات). وأما الاستقلال الخارجي فيتمثل في قوة الدولة سياسيا واقتصاديا وعدم خضوعها للسيطرة والانتهاك من قبل أي دولة أخرى تملي عليها ما يجب أن تفعل ولا تفعل في شؤونها الداخلية.
وبالمقابل فإن الجو العام المصبوغ بالاستبداد والفساد والحرمان الذي تمارس من خلاله الفئات الحاكمة عملها السياسي في مجتمعاتنا ينعكس سلبا ليس على النساء فقط ولكن على المجتمع ككل، وخاصة الفئات المهمشة والمستضعفة/غير المحصنة (الأطفال، المعاقين، العجزة، الفقراء…الخ). إن التمكين الفرداني في هذا السياق التسلطي هو تمكين ترفي أناني وشكلي لا معنى له، فمجتمعاتنا المقهورة داخليا وخارجيا بحاجة لتظافر جهود أفرادها جميعا لإنهاء وضعها البائس. وليس معنى ذلك غض الطرف عن المظالم التي تتعرض لها النساء والبنات ولكن المطلوب:
* معالجة المظالم والاعوجاج داخليا في إطار توافق وطني وعدم السماح لأطراف خارجية بفتح جبهات بين مكونات المجتمع العربي تشغله عن تطلعاته للاستقلال والتحديث والنهضة.
* عدم إعطاء الفرصة لأنظمة القمع الداخلية لاستعمال قضية المرأة لتفريق صف المواطنين ووضع المرأة في مواجهة الرجل على طريقة “فرق تسد”، وللتقرب من الغرب سعيا لاكتساب دعمه المعنوي والمادي في قمع الشعب واستنزاف خيراته.
مفهوم المساواة
ولنبدأ بالمصطلح العام والذي رغم عدم اتفاق النسويات الغربيات أنفسهن على تعريفه – وفقا للتيارات الفكرية والأيديولوجية والسياسية المختلفة اللاتي ينتمي كل فصيل إليها – نستطيع أن نعتمد التعريف الشامل التالي: “النسوية هي وجوب حصول المرأة والرجل على فرص سياسية واقتصادية واجتماعية متساوية”[18] وقد اختلفت فروع النسوية المختلفة في تفسير هذا التعريف كهدف وفي وضع المقاربات المختلفة للوصول إليه. فمثلا، ترى النسوية الجذرية / المتطرفة (Radical Feminism) أن عدم المساواة بين الجنسين ينشأ من مفهوم “النوع/الجندر” نفسه فالعلاج الوحيد هو إلغاء النوع برمته بوسائل تكنولوجية تسمح بنقل وظائف الأنثى البيولوجية (الإخصاب والحمل والولادة والرضاعة) من جسد المرأة إلى أجهزة. أو القول بأن نظام الأسرة “التقليدي” (حيث الرجل مخول بالإنفاق والمرأة برعاية الأسرة) معاد للمرأة ويمارس “التمييز” ضدها، فالحل هو إلغاء هذا النظام واستبداله بأشكال “حداثية” أو حتى ما بعد حداثية للأسرة، مثل امرأتان وأطفال، وغيرها من رؤى جذرية للتعامل مع مشاكل المرأة.
لصياغة تعريفنا نحن للمساواة بين الرجل والمرأة، ننبه إلى:
-نصوص القرآن والسنة قطعية الدلالة عن المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة.
– التفريق بين المساواة التطاب(identical equality) والمساواة الإنصافي (equitable equality) . فالأولى تشير إلى تطابق الاهتمامات والتطلعات تطابقا كليا بين الجنسين وبالتالي إلى قيام المرأة والرجل بنفس الأدوار داخل وخارج البيت، بغض النظر عن نتائج ذلك على الرجل والمرأة والأسرة، وهو ما يحمل تناقضاً ذاتياً إذ تصبح غاية كفاح المرأة هي اعتناق هوية الرجل أو استنساخ موقعه وشخصيته ونفسيته. والثانية تشير إلى توزيع الأدوار تكامليا وتبادليا بينهما بما يوافق طبيعة وحاجات وقدرات واستعدادات كل منهما وبما يحقق التوازن النفسي والاجتماعي في الأسرة، ولكن في الوقت نفسه عدم ظلم المرأة باسم التكامل. ولضمان معاملة المرأة بالإنصاف ينبغي تفعيل قوانين الحفاظ على حقوق المرأة ومنع اضطهادها وفرض هذه القوانين عبر مؤسسات الدولة، والأهم من ذلك توعية وتربية أفراد المجتمع بمبادئ وتعليمات الإسلام التي تكفل الكرامة والحماية والعدل للجنسين، وخاصة للمرأة، باعتبارها الجنس الأكثر عرضة للظلم. وحينئذ، نستطيع أن نستبدل معاني “الاستقلالية المطلقة، الفردانية، والتنافس” بين الجنسين إلى معان أكثر تعبيرا عن الفطرة والواقع، مثل “الاعتماد المتبادلInterdependenceوالتفاوض“negotiation
تواجهنا في أدبيات النسوية الغربية مقولات متنوعة إلى حد التناقض ولعل ذلك في مصلحة المرأة العربية لتختار الأكثر ملائمةً لبيئتها وشخصيتها. فهناك مقولة “حتمية الاختيار بين قطبين متقابلين: إما مساواة تطابقية أو ظلم للمرأة”، هذه المقولة القطبية (إما أو) تغفل إمكانية المنازل بين الطرفين، مثل الإقرار باختلاف الأدوار الوظيفية بين الرجال والنساء توافقا مع الاختلافات البيولوجية والنفسية مع تأكيد مساواتهما في الجوانب الجوهرية، مثل الأصل الإنساني والروح والحقوق الإنسانية والأهلية الأخلاقية والعلاقة بالخالق في العبودية والثواب والعقاب على الأعمال. وهناك مقولة أخرى مفادها “مختلفان ولكن متساويان Different but Equal “ وإذا تبنيناها فلنا أن نزعم بأن الظلم لأحد الأطراف ليس نتيجة آلية تلقائية للتعامل المختلف معها بشرط أن توضع وتطبق بصرامة قوانين تكفل حقوق كل الأطراف. وسيكون من السهل علينا إدراك الوحدة الجدلية بين المعاني التي قد تبدو لأول وهلة متناقضة حينما نتأمل في معنى وسياق الآيات المتعلقة بالمرأة والتي تجمع بين مساواتها بالرجل مساواة مطلقة في إنسانيتها وعلاقتها بالله وتلك التي تنص على التكامل بتخصيص وظائف اجتماعية لكل منهما بفرض التكاليف المالية على الرجل مقابل الأعباء البيولوجية على المرأة[19]
إن تصنيف أدواراً خاصة بالمرأة وأخرى بالرجل هو نظام اجتماعي متعارف عليه عبر التاريخ وفي كل المجتمعات الإنسانية (وإن كانت تختلف تفاصيله من مرحلة زمنية إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر) وبه تتوفر بيئة تكاملية يظللها الاعتماد المتبادل البنيوي بين الجنسين (structural interdependence). والمشكلة ليست في التخصص في الأدوار في حد ذاته، فالمعروف في مفاهيم “الفاعلية والتأثير” الحديثة أن التخصص ميزة إيجابية لإتقان العمل وتكامله في أي تجمع إنساني، وأن التراتبية (hierarchy) العادلة المتوازنة كل بحسب قدراته ومسؤولياته وحاجاته لا غنى عنها لسير عجلة الأداء والإنتاج في أي جهاز أو مؤسسة، أما الانحرافات التي ترتكب تحت مظلة التخصص والتراتبية فإنما تنتج من المصادر التالية:
– استغلال المرأة وبخس حقوقها مع عدم توفير جهات للتقاضي والحماية تلجأ إليها
– التفاضلية أي إضفاء قيمة أعلى لأدوار الرجل ومسؤولياته على تلك المتخصصة بها المرأة
– انتشار وهيمنة التصورات الثقافية الظالمة والتأويلات البشرية المتحيزة في تقييم أدوار وهويات الجنسين على حساب التصور الإسلامي المنصف، والأدهى من ذلك إلباس هذه التقاليد والتفسيرات للنصوص لباس قدسي يصور معه أي منتقد وكأنه معارض للدين نفسه! فليس من الممكن إنكار أن الإسلام ينص على اختلاف الأدوار الوظيفية بين الرجل والمرأة تبعا للاختلاف الجنسي البيولوجي والنفسي، ولكن النصوص لا تلصق القيم الاجتماعية والقوة التأثيرية لهذه الأدوار، المجتمعات البشرية هي من يفعل ذلك.[20]
– التعنت والجمود في رسم حدود قاطعة صارمة بين أدوار الجنسين، وعدم إتاحة المجال للمرونة والتداخل بحسب تغيرات الظروف والطموحات الفردية لكل من الرجل والمرأة. وقد روي أن الرسولﷺ كان يقوم بمهام أصبحت بسبب تقاليد وثقافة المجتمع ينظر إليها كمهام أنثوية يعاب على الرجل القيام بها[21]. وليس هناك ما يمنع امرأة تجد في نفسها القدرة والتأهيل والرغبة في الاضطلاع بمهام وأداور غير تقليدية وخارج نطاق الزوجية والأمومة أن تفعل ذلك، فقد لعبت العديد من العربيات الأوائل أدوارا في إدارة الدولة وشؤون الحرب والتكسب التجاري ما لم يعبه أو ينكره عليهن أحد.[22] وبما أن عقد الزواج في الإسلام هو عقد مدني يستطيع الطرفان إملاء بنوده بما يتوافق مع مصالحهما ورغباتهما، فيحق للمرأة أن تملي فيه طموحها في الاضطلاع بأدوار خارج الأمومة والزوجية وإذا وافق عليه الزوج يصبح ملزما به.
فإذا توفرت الوقاية مما ذكر أعلاه من مصادر ظلم المرأة، كان تكامل الأدوار والاعتماد المتبادل الناتج عن تخصيص العمل بين الجنسين إيجابي وليس مؤدٍ حتمي لعدم المساواة والإنصاف. فوفقا لنظرية تراتبية الطبقات الاجتماعية، فإن الأدوار التي تقدر وتكافئ عاليا هي تلك التي تؤدي وظيفة مجتمعية أهم وألزم لاستمرار البناء الاجتماعي من غيرها. ولكن بالنسبة لأدوار الجنسين، فإن المجتمعات والثقافات تقدر عاليا الأدوار الذكورية فقط لأن الرجال يقومون بها أو بتأثير مقاييس خاطئة في تقييمها وليس لمكانتها في صحة وقوة وبقاء الكيان الاجتماعي. هذا التحيز لأدوار الرجال هو عام في كل المجتمعات ولو قيمت أدوار المرأة بحسب أهميتها وضرورتها لأي تجمع بشري لما وجدت مشكلة في تخصص الأدوار. فمثلا، ومن خلال تحليل مادي للقيمة الاقتصادية لأدوار المرأة، وجد أن عمل المرأة غير المأجور في الأسرة يساهم في الاقتصاد الإجمالي للدولة على الأقل بطريقين: الأول بإنجاب الجيل الجديد من العمال، والثاني برعاية الاحتياجات العاطفية والاجتماعية والمادية للزوج ثم فيما بعد لمن هم في سن العمل من الأطفال وبالتالي تجديد وإعادة إنتاج والحفاظ على حيوية وسلامة وقوة القوة العاملة.[23]
ومما زاد من انتقاص قيمة عمل المرأة غير المأجور بالمال بيئة الثورة الصناعية حيث ربطت أدوار الرجل بالقيم السائدة: المال، والإنتاج، والقوة.[24] في الحضارة الغربية الحديثة، بصفتيها الأبرز وهما المادية والرأسمالية، تعمقت النظرة الدونية لعمل ومهام المرأة لأنها لا تعود بالنفع المادي الفوري عليها .والأكثر من ذلك، أن الصفة الثالثة الصابغة للحضارة الغربية وهي الفردانية، قد عززت النظرة الدونية لعمل الزوجة والأم لأنه لا ينتج الربح المباشر للمرأة كفرد مستقل (أو هكذا ترى النظرة المادية غير المدركة للمنافع النفسية والاجتماعية التي تعود على المرأة وأسرتها عاجلا وآجلا من خلال أدائها لأدوارها الأنثوية الجمعية داخل الأسرة).
في ثمانينيات القرن الماضي بدأت ثقافة الانتقاص من عمل المرأة المنزلي تتعرض للمراجعة وذلك حينما قامت بعض النسويات الاقتصاديات بالتنبيه لضخامته في الاقتصاد القومي. قامت هؤلاء الاقتصاديات بحساب قيمة عمل المرأة غير المأجور ووزنه في الناتج القومي الإجمالي وبناء على ذلك عمل القانونيون على تضمين هذه القيمة أثناء سن القوانين المتعلقة بحقوق المطلقة.[25]
ما تحتاج إليه المرأة العربية هو تعديل ومراجعة تقييم عملها وهويتها بما يتوافق مع الخلفية الفكرية الإسلامية لتصحيح النظرة الدونية التي أصبغت عليهما من قبل كل من الثقافات المحلية والوافدة. وكما ننكر على الثقافات المحلية تحقيرها من شأن ودور المرأة أفلا يحق لنا أن ننكر بنفس الدرجة على الثقافات الوافدة محاولتها فرض المساواة التطابقية مما يتسبب في ظلم المرأة ومضاعفة أعبائها لعدم مراعاة اختلاف الحاجات والقدرات والاهتمامات بينها وبين الرجل؟
إن دور المرأة في حمل الأطفال وإرضاعهم من جسدها والقيام بتربيتهم ورعايتهم، وبالتالي الحفاظ على الجنس البشري ككل، لهو دور خطير ومقدر عاليا في الفكر الإسلامي، حتى جعلت “الجنة تحت أقدام الأمهات”. ولم يقتصر تقدير الإسلام لدور المرأة على شكل وعود أخروية أو غيبية فقط ولكن أيضا على هيئة قوانين دنيوية تكفل لها حق الرعاية والحماية والإكرام لتتمكن من تحقيق ذاتها وطموحها وأداء دورها. فحقها على الرجل في الإنفاق ليس تفضلا منه وإنما هو واجب عليه تلزمه سلطة الدولة بأدائه إذا حاول التملص. وحقها في التملك أيضا ملزم وإذا أرادت الإنفاق على نفسها أو أسرتها فإنما تفعل بمحض اختيارها وتجازى عليه كصدقة وتفضل.
ولو طرحنا جانبا التصورات الثقافية البشرية للعرب والمسلمين عن المرأة وقيمتها وهويتها واكتفينا في ذلك بنصوص القرآن والسنة وبسيرة الأعلام من المسلمات، لوجدناها تدل على أن الإسلام ومطبقيه إلى ما قبل عصر هيمنة الحضارة الغربية وقيمها نظروا للمرأة ليس باعتبارها أحد أعمدة الأسرة والمجتمع فحسب ولكن أيضا كإنسان يتحمل مسؤولية فردية ويتمتع بكيان مستقل اقتصادي وسياسي واجتماعي، ولما وجدنا أثرا لمعظم تلك الثنائيات أو لذلك التحقير والانتقاص.[26] فكيان المرأة المسلمة مركب من جانب فردي مستقل وجانب جمعي يرتبط بأعضاء الأسرة والمجتمع ارتباط ينشأ من الحاجة والاعتماد المتبادل.
وهذا التغيير في تقييم عمل المرأة وهويتها بعيدا عن الثقافات الواردة والعادات المتوارثة واستمدادا من مصادر الإسلام المعرفية هو مطلب عاجل لتتمكن المرأة من المساهمة في إنهاء حالة التردي التي تمر بها أمتنا. تفيد إحدى نظريات “الجندر” والسلطة بأن أوقات الارتباك والحيرة والفوضى والتغيير الهائل السريع هي أنسب الأوقات لتغيير أيديولوجية تحقير وانتقاص قيمة المرأة وأدوارها الأنثوية لأنه في هذه الأوقات يصبح من الممكن إعادة تقييم مصادر السلطة والقوة بجدية وإعادة تعريف ما كان في السابق مهانا ومزدر ليصبح جوهري وحيوي ولا غنى عنه لحل الأزمات الطارئة.[27] وبذلك فإن الظرف الطارئ والمأساوي الذي تعيشه مجتمعاتنا يشكل في الوقت نفسه سبب وعامل مساعد للتعجيل في حركة الإصلاح والتحرير والنهضة بالمرأة العربية. إن الفترة التي تعيشها أمتنا هي لحظة تاريخية فارقة: فإما أن تشكل قيمنا وأولوياتنا وفقا لمصالح ورؤى غيرنا وإما أن نأخذ زمام المبادرة فنتولى نحن عملية إعادة صياغة ثقافتنا تجاه القضايا المصيرية وفي مقدمتها قضية المرأة.
مفهوم التمكين
في سياق الحديث عن النسوية الغربية يأتي موضوع علاقة السلطة/القوة بين الرجل والمرأة. وكغيره من المصطلحات، وجدت له تعاريف عدة، منها “تزويد المرأة بالقدرة على اختيار واتخاذ قراراتها وإحداث تغيير إيجابي في حياتها وفي البيئة من حولها،” ومنها “أن تترجم مساهمات المرأة ومصادر قوتها في الأسرة إلى قوة اقتصادية ومكانة عامة سياسية.”وتأويل هذه التعريفات وتصميم المقاربات لتنفيذها يتفاوت بشكل واسع بين الفئات النسوية المختلفة. يرى بعض المؤرخون الاجتماعيون أن الأغلبية العظمى من العلاقات البشرية (الوالدين/الأطفال، الأستاذ/الطلبة، المدير/العمال أو الموظفين، الزوج/الزوجة) تبنى على علاقات السلطة (power relations)، وأنه كان هناك دائما عبر المجتمعات والعصور اختلاف في السلطة والقوة بين الرجال والنساء، بناء على التربية والتنشئة الاجتماعية وعلى الاختلافات البيولوجية والبيئية[28]. وكنتيجة متوقعة في واقع لم تتساوى فيه أبدا درجات القوة والسلطة، يكون الطرف الأقل في القوة المادية عرضة للظلم والاضطهاد ويكون فرض والالتزام بقوانين تحمي هذا الطرف لازما وضروريا لتستقيم الحياة، ومن هنا جاء تضمين الرسول التحذير والتخويف من ظلم النساء في خطبة الوداع. و لأن للتنشئة الاجتماعية دور حاسم في تشكيل علاقات السلطة بين الجنسين، أدت المفاهيم المنحرفة عن الاختلاف الجذري بين الرجل والمرأة في بعض الثقافات، كما كان الحال في المجتمع الفيكتوري كما تقدم، إلى تكون ثنائيات استقطابية بين الرجل الفعال والإيجابي والمستقل والقوي مقابل المرأة الخاملة والسلبية والتابعة والضعيفة، ومن هنا ظهر مصطلح “تمكين المرأة”.
وهنا أيضا ينبغي أن نضع جملة من الاعتبارات نصب أعيننا ونحن نعيد تعريف “تمكين” المرأة العربية. هذه الاعتبارات هي نفسها السابقة حول تعريف المساواة (الاتفاق على الخلفية الإسلامية والتفريق بين النصوص والتأويلات البشرية وبينها وبين العادات الثقافية) ولكن يضاف إليها عنصران مهمان:
* طبيعة مجتمعاتنا وثقافاتنا الجمعية (communalism) مقابل الفردانية (individualism) الطاغية على المجتمعات الغربية، فمصلحة الجمعي لدينا مقدمة على مصلحة الفرد في حالة ما إذا حدث صراع (مع ملاحظة أن أصول الشريعة تحد من حدوث هذا الصراع غالبا).كما أن من هذا المنطلق الجمعي فإن المرأة لا تترك وحيدة في مواجهة زوج متعد لحدود العشرة الطيبة، وكثيرا ما يتم التعامل مع حالات النزاع بين الزوجين بلجوء المرأة إلى أسرتها الممتدة لتعزيز موقفها ودفع الظلم عليها وإتاحة مجال أوسع للتفاوض لحصولها على أكبر قدر ممكن من المكتسبات.
* حقنا في مساءلة تعريف النسوية الغربية لـ “السلطة والقوة والتأثير” وحصرها هذا المعنى في القوة المادية، ولتعاملها مع النساء والرجال كفئتين منفصلتين وجماعتين متصارعتين ينبغي توصيف حدود سلطة كل منهما! ذلك أن كياني الرجل والمرأة متشابكان بمجموعة مصالح مشتركة يصعب ويكاد يستحيل فصلها عن بعضها البعض، وخاصة مع وجود أطفال. كما نجد أن مصادر قوة وسلطة المرأة تتطابق أحيانا مع تلك الخاصة بالرجل ولكنها تختلف أحياناً أخرى عنها، وأن هناك أشكال بديلة للثنائية الصارمة المعبر عنها في أدبيات النسوية الغربية. فمثلا هناك سلطة مباشرة وسلطة غير مباشرة، وهناك “قوة ناعمة” (Soft Power)[29]تفرض إرادة أحد الأطراف بلا إكراه أو عنف، وبدلا من تقسيم السلطة والنفوذ بندية حدية بين الرجل والمرأة، هناك حل الصراع بالتشاور والتفاوض كما أن هناك علاقة جدلية متداخلة من تآزر ومساندة إلى جانب الصراع والمنافسة، فعلاقة الاعتماد المتبادل والتكامل في الأسرة تتزامن مع العلاقة التراتبية “hierarchy” والتي تتغير أقطابها (قطب قوي ومؤثر وآخر ليّن ومتأثر) باستمرار مع تغير السياق والأوضاع. فأحيانا يكون الرجل قطب القيادة والقوة، “القوَام” على زوجته والراعي لأسرته، وأحيانا أخر تكون الزوجة هي القائمة على رعاية زوجها، والآخذة بزمام أسرتها إلى بر الأمان.[30] إن كلا الدورين منتج وحيوي ولا غنى عنه لسير الحياة، فالأنوثة “المتلقية” لا تلزم مرتبة التبعية والضعف، والذكورة “الفاعلة”[31] لا تحتل مرتبة القوةوالقيادة بل هي نسب متبادلة بحسب السياق، وفي مواقف كثيرة تتزامن المرتبتان. وفي مواقف معينة تثبت المرأة قوة وجلد عاطفي أكثر من الرجل والذي يظهر في مواقف أخرى قوة وتماسك عقلاني أكثر منها[32] إن علاقة السلطة والقوة بين الرجل والمرأة ليست بالبساطة والقطبية التي تصورها النسوية الغربية، بل هي معقدة تتداخل فيها عوامل كثيرة متشابكة نفسية واجتماعية وعاطفية ومادية، ومنها الأمومة كمصدر مهم من مصادر قوة وسلطة المرأة. ولكن بما أن مؤسسة الزواج كغيرها من المؤسسات المجتمعية تحتاج لربان سفينة، بإمكان الزوجين توصيف “حدود” سلطتيهما في عقد الزواج (إذا جارينا جدلا المفهوم النسوي الغربي في التقسيم الحدي لعلاقات القوة والتأثير بين المرأة والرجل).
إن تطورات واقع النسوية الغربية يمدنا بمزيد من شرعية مساءلة أطروحاتها وتوقعاتها. من ذلك افتراض بعض النسويات أن علاقات القوة والسلطة تصبح أكثر مساواة في أسر المثليات. ولكن هذه الفرضية لا تصمد أمام الواقع حيث تبين من خلال أبحاث أجريت في تقسيم العمل وسلطة اتخاذ القرارات أن أسر المثليات والمثليين تتشابه مع الأسر السوية من حيث أن ميزان القوة والسلطة دائما يميل مع أحد الطرفين على حساب الآخر لأسباب عديدة[33]. كما أن بعض الدراسات وجدت أن العنف الأسري الذي يمارس في الأسر المثلية أصبح مشكلة اجتماعية ملحوظة.[34]
نموذج بديل للثنائيات الحدية
في لقاءاتي مع مواطنات أمريكيات من أصول يمنية وصومالية وجدت أنهن فيما يتعلق بمفهوم التحرير فإنهن بالتزامهن بآداب الإسلام في مظهرهن وعلاقاتهن مع الذكور، استطعن الحصول على ثقة أسرهن للخروج خارج حدود الجالية لطلب العلم أو لممارسة مهنة. وبذلك تحررن من قيود فرضتها ثقافة جاليتهن الأصلية وفي الوقت نفسه، عن طريق إنجازاتهن الأكاديمية والمهنية، تحررن من أي إحساس بالدونية تقود إليه معاملة التعالي الممارسَة من قبل المجتمع الواسع نحو الأقليات الإثنية والدينية، وخاصة المسلمين.
أما عن مفهومي التمكين والمساواة، فإن معظم النساء في الجاليتين يفضلن قيام الرجال بمهمة الإنفاق على الأسرة واتخاذ القرارات مقابل تحملهم عبء نتائج هذه القرارات، ويتنازلن طوعا عن منافسة الرجل في ذلك بغية التفرغ لأمور وقرارات أخرى يولينها أهمية أكبر وتمدهن بشعور من الرضا والإشباع أعظم من التفرد أو المنافسة على مرتبة اتخاذ القرارات المصيرية وتحمل العبء المالي.[35]
والطريف أن هؤلاء النسوة يصّدّرن أزواجهن في واجهة الصراعات الناتجة عن تطبيق قواعد التربية والانضباط وخاصة على الفتية المراهقين، للتخلص من ضغط وعبء مواقف المواجهة وللتفرغ لأمور شخصية، مثل أداء واجبات الدراسات العليا اللاتي سجلن فيها أو حتى مجرد الاستمتاع بحياتهن بدون مواقف نزاعية مع الأبناء. بل والأكثر من ذلك أنهن قد أعدن باختياراتهن تعريف “القوة والسلطة” السائد في الغرب والذي يعتمد على أساس مادي تنافسي فرداني. تمكين المرأة بالنسبة لهن يتمثل في تلقيها ما تستحق من احترام وإكرام وتدليل ومن إنفاق مفروض لها شرعا لتتفرغ لأداء أدوارها الأنثوية والجمعية، لا بقدرتها على حمل العبء المالي عن الزوج أو بإعفائه من مسؤولية اتخاذ القرارات. هؤﻻء النساء رأين أن قوة وتماسك علاقاتهن الأسرية مع أزواجهن أو آبائهن، لغير المتزوجات، كانت مصدر أساسي من مصادر “تمكينهن” في المجتمع الكبير خارج حدود جالياتهن، إذ أنها أكسبتهن الثقة بالنفس والشعور بالأمن والدعم للنجاح في مجهوداتهن الأكاديمية والمهنية.
ومما يؤكد تفرد هذا المنهج البديل وتميزه أن النساء المشتركات في البحثين عملن على المحافظة على والاستفادة من ترابط العائلة الممتدة “التقليدية” – والتي تصدعت أركانها في النموذج الغربي – وذلك لأنها تمدهن وتمد أعضاء أسرهن بقدر عالِ من الطمأنينة والسكينة والأمن وإمكانية نقل الخصائص الحضارية والثقافية لأبنائهن، وكلها وظائف مهمة لازدهار وتمكين الأقليات العربية/المسلمة. بل أن العاملات منهن خارج المنزل وجدن في الأسرة الممتدة داعم لأدوارهن المهنية حيث تتكفل الأمهات والأخوات والقريبات برعاية الأطفال والمساعدة في الأعمال المنزلية للأم العاملة.
إن النموذج الجديد الذي رسمت ملامحه النساء العربيات-الأمريكيات في دراساتي يقوم على الانفتاح على الثقافتين (الأصلية برغم ما فيها من تضييق لمواهب المرأة، والمضيفة على ما فيها من قيم وممارسات تظلم المرأة بتحميلها أعباء إضافية على أعباء الأمومة والزوجية) وعلى الاسترشاد بالإسلام لاختيار والدمج بين جوانب كل من الثقافتين الإيجابية، فهن يؤكدن على حق المرأة كفرد في التعليم والمشاركة البناءة في المجتمع الخارجي وأن تكون جزءا أصيلا من المجتمع الأمريكي الواسع (في تحد واضح لقيم ثقافة جاليتهن الأصلية). وفي الوقت نفسه هن يقدرن عاليا علاقاتهن الأسرية والجمعية ويعتبرن الالتزام بها مصدر من مصادر تمكينهن وتوازنهن النفسي ونجاحهن الأكاديمي والمهني (في تحد واضح لقيم الثقافة المستضيفة). وفي أسلوب حياتهن الذي جمعن فيه أفضل ما في الثقافتين رد بليغ على إصرار بعض النسويات الغربيات على رفض الخصوصيات الثقافية وعلى استخدام “العولمة” لفرض مفاهيم معينة بدعوى أنها قابلة للتطبيق في كل مجتمع (هذا على الرغم من أن في صعود التيارات اليمينية والشوفينية في الولايات المتحدة وأوروبا تحد من نوع آخر لمزاعم العولمة هذه). والإنصاف يقتضي أن أذكر بأن قيم الحرية والتعدد واحترام التنوع في المجتمع الأمريكي قد أوجدت المناخ الملائم لتكوين ونمو هذا النموذج الوسطي البديل، رغم أن تنامي التعصب والإسلاموفوبيا في الغرب مؤخرا يمثلان معوقان خطيران له.
من منطلق نقد وصاية المرأة الغربية على حركة تحرير وتمكين المرأة العربية، نحتاج أن نعيد تعريف النسوية وما تتضمنه من مصطلحات ومفاهيم بما يتلاءم مع واقعنا وقناعاتنا، وباعتبار أوجه الاختلاف التالية:
– الخلفية الفكرية الإسلامية التي تصرح بلهجة حازمة لا لبس فيها ولا غموض تساوي المرأة والرجل في الأصل والإنسانية وشرف العبودية لله والفروض التعبدية والجزاء أو العقاب على الأعمال كفرد مستقل مسؤول.
– الواقع الذي تشكله علاقات القوى والهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية الخارجية ونظم الفساد والتخلف والاستبداد من الداخل.
– الطموحات والتطلعات المحكومة غالبا بالواقع وإملائاته، وبالسيكولوجية الجمعية للنساء العربيات المتأصلة والمتشكلة ضمن إطار تاريخي خاص.
وبناء على ما تقدم، ومن خلال النموذج البديل الذي تشكل من تحليل بيانات دراساتي، أضع تعريفات أولية قابلة للتطوير والإضافة من منظور عربي/إسلامي:
النسوية / الأنثوية: توفير الظروف المادية والاجتماعية والفكرية لمساعدة المرأة على أن تعيش هويتها الأنثوية المتماشية مع فطرتها وأدوارها الحميمية والجمعية كزوجة وأم. وإتاحة الفرص لمن تختار وتتأهل لأدوار تتجاوز أدوار الزوجية والأمومة أن تفعل ذلك في بيئة إسلامية تحمي كرامتها وإنسانيتها وتحترم هويتها المتميزة عن هوية الرجل. إن التيار السائد اليوم يرفع من منزلة أدوار المرأة خارج المنزل وينتقص من تلك الممارسة بداخله، مما يجعل من أهم أهداف النسوية العربية العمل على الوصول بالوعي المجتمعي إلى التوازن الذي يقتضي عدم المبالغة في تقييم عمل خارج المنزل ورفع الحرج عن، بل ودعم، من تختار التفرغ لممارسة أدوارها الحميمية داخل الأسرة.
المساواة: الاعتقاد اليقيني بمساواة المرأة المطْلَقَة بالرجل في الأصول الوجودية (الأصل الإنساني، الروح، القيمة والمسؤولية الأخلاقية، والعلاقة بالخالق) مع تقدير الطبيعة التكاملية/التبادلية لأدوارهما الوظيفية والتي رغم تمايزها إلا أنها تحمل نفس الأهمية لاستمرار وعافية البناء الأسري والمجتمعي، كما أنها تتساوى في الوزن والثواب عند الله. وعليه، القبول بالتراتبية التكاملية المتغيرة الأقطاب والناتجة عن اختلاف الأدوار وعدم الافتراض الآلي لمعارضتها للمساواة الانصافية، فالتاريخ الاجتماعي وواقع كثير من الثقافات غير الغربية يشهد تواجدهما معا.
تحرير المرأة: العمل على إلغاء قيود الثقافات المحلية، بما فيها التفسيرات الذكورية الجامدة والمتحيزة للنصوص، التي تنتقص من ملكات المرأة وتنكر عليها حقوقاً أقرها وفرضها الإسلام، وفي الوقت نفسه العمل على الانعتاق من هيمنة وإملاءات الثقافات الغربية التي تنكر على المرأة العربية تقرير ورسم طريقها المستقل للكفاح من أجل بلوغ سعادتها في الدنيا والآخرة. والعمل بجدية لتأهيل المرأة ثقافياً وأكاديمياً وحركياً ومؤسسياً لتكون قادرة على التفكير باستقلالية والتعبير عن نفسها لقطع الطريق أمام من يتحدث نيابة عنها (سواء من المتشددين في فهم الإسلام، أو النسويات الغربيات أو المستغربات، أو التقليدين الذين يدافعون عن الثقافات المحلية الراكدة وكأنها دين لا يأتيه الباطل من بين يديه وﻻ من خلفه). وبما أن الحرية تقترن دائما بالمسؤولية، يجدر بمصطلح تحرير المرأة أن يتضمن التعريف بواجباتها حتى تنعتق من الأدوار السلبية والتافهة والخانعة أو التابعة والأنانية التي فرضتها عليها الثقافتان: المتوارثة والواردة.
تمكين المرأة: فرض وتفعيل قوانين الأسرة في الإسلام لحماية المرأة وتحريرها من الاستغلال والظلم والعنف، ولتهيئتها وتمكينها من ممارسة سلطتها الشرعية داخل وخارج الأسرة كعضو ذي كرامة وعزة. هذه القوانين تشمل تلك التي نص عليها بوضوح في النصوص إلى جانب تلك التي تفرزها عملية الاجتهاد المعاصر لمواكبة التغيرات الحديثة. وسينتج تلقائيا من هذا الانعتاق تكوين أسر على قواعد صحيحة من العدل والتوازن تستطيع وترغب فيه المرأة أن تسير جنبا إلى جنب مع الرجل لتحصيل الانعتاق والتمكين الأكبر من قيود الهيمنة الأجنبية والفساد والاستبداد الداخلي. مثل هذا التحرر يحتاج إلى أسر يسودها مناخ متوازن من العلاقات التعاقدية (يمليها عقد الزواج وتفرضها مؤسسات القانون في الدولة) والعلاقات التراحمية (تمليها مبادئ الإسلام الروحانية والأخلاقية من التقوى والإحسان والسكينة والإيثار والمودة والرحمة والرضا، والفضل) وإحلال مفاهيمها محل مدلولات النموذج الغربي المهيمنة، مثل المادية والفردانية والصراع والتنافس والنفعية “العقلانية” والكفاءة/الإنتاجية. وبموازاة تفعيل قوانين داعمة للمرأة وحامية لها من الظلم والاستغلال والعنف، يجب أن تسير عملية التربية والتعليم والإعلام وغيرها من وسائل رفع الوعي المجتمعي للإعلاء من أدوار الفضاء الخاص الحميمي للأسرة.
خاتمة:
إذا كان نسق النسوية الغربية الحديثة قد قام على فكرة التمركز حول الأنثى كفرد مستقل متنصل من الروابط الأسرية والمجتمعية في سبيل تحقيق “تحريرها” و “تمكينها” و”تقدمها” (وكلها مصطلحات ومفاهيم أصبحت – كما تقدم – معبأة بمعان محددة لصيقة بالتاريخ والثقافة والايديولوجيا الغربية، وليست حيادية قابلة للتبني في المجتمعات العربية/الإسلامية إلا من حيث المعنى العام المشترك)، فهل يمكن تبرير عولمة وفرض هذا النسق كنموذج للنساء العربيات؟ وهل من الواقعي الادعاء بأن مصالح النساء في البلدان التابعة المقهورة، ومنها بلداننا العربية والإسلامية، هي نفسها مصالح النساء في البلدان المهيمنة والمستقلة؟وكيف يمكن لنا أن نؤمن بذلك في حين أن النسويات الغربيات وجدن أن التيار السائد لنسوية المرأة البيضاء المنتمية للطبقة المتوسطة (أي الموسرة) لا يعبر عن مصالح ومعاناة نساء الأقليات (غير البيض والمنتميات للطبقة الكادحة أو المعدمة) داخل المجتمع الغربي نفسه؟
إن النصوص الإسلامية تدعم بقوة بعض مفاهيم النسوية الغربية، غير أنها لا تنسجم مع البعض الآخر. فهل هذا التمايز يدفعنا إلى مساءلة عدل الإسلام أم عالمية مفاهيم النسوية الغربية عن التقدم والمساواة والتحرر، والتي بسبب تجذرها وتشكلها في سياق حضاري معين تصبح مقيدة بخصوصية ذلك السياق التاريخية والجغرافية والثقافية؟
إن ادعاء حركة النسوية الغربية للعالمية ورفضها للخصوصيات يجعل من الارتباط بها وتبنيها في مجتمعاتنا أمرا شائكا يستوجب الكثير من التروي والتمحيص والغربلة والثقة بالنفس للوصول إلى العولمة الإيجابية التي تلتقي فيها الثقافات للتبادل والحوار والاقتباس من بعضها البعض، لا العولمة السلبية التي تفرض فيها قيم وأسلوب حياة حضارة على مجتمعات العالم. وهذا هو ما يشير إليه النموذج البديل والذي يحقق التوسط بين ذوبان شخصية المرأة العربية في المحيط الأمريكي، أو ما يسمى في علم اجتماع الهجرة والاندماج بـ (Assimilation) ، أو الانعزال والانغلاق والتهميش عن هذا المحيط، أو ما يوصم بـ (Isolation). ومنهاجها في ذلك يقوم على الثقة بالنفس والانفتاح الحقيقي المرن على الآخر لا الخضوع التام والتبعية العمياء وﻻ الرفض التام المتعصب المنغلق.
وسواء في المجتمعات ذات الأغلبية العربية/المسلمة أو في الأقليات في الغرب لكي يكون الاقتباس والتبني من النموذج الغربي صحيحا، فلا بد أن يواكبه ” التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقة عن الحضارة الغربية وتوضيح أن كثيراً من “القوانين العلمية” في العلوم الإنسانية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تظافر ظروف فريدة في لحظة فريدة”[36]
ليس المطلوب منا أن نكابر وننكر ما تعانيه المرأة في مجتمعاتنا فواقعنا بالتأكيد ليس مثاليا ولا يعكس ما تهدف إليه رسالة الإسلام السمحة من العدالة والمساواة المنصفة والرحمة. كما أن حالة الانحطاط التي تعاني منها بلداننا تستلزم استنفار أقصى الجهود من الرجال والنساء للعمل على نهضتها وانعتاقها من قابلية الاستعمار الداخلية[37] ومن الهيمنة الخارجية. وبالتالي، نحن بحاجة إلى حركة لتحرير وتمكين المرأة العربية. غير أني لا أعتقد أن ما تعيشه المرأة الغربية هو النموذج الذي علينا أن نناضل لنصل إليه، فواقع المرأة الغربية ليس المثال للسعادة والرضا والعدل بأي حال من الأحوال، ومن أراد فليطلع على نتائج الدراسات الاجتماعية والنفسية عن أزمات هذا الواقع.
إن استمرار تقديم حركات نهضة المرأة العربية في إطار غربي لا يخدم هذه الحركات بل يرسخ اغترابها عن هوية أمتها وعزلها عن قوى التغيير والعدل الاجتماعي والانعتاق السياسي في مجتمعاتها. إن النجاح الذي حققته نساء النموذج البديل جدير بأن يعطي للمرأة العربية المسلمة في أنحاء العالم العربي الإسلامي الثقة في إمكانية مواجهة التقاليد الراكدة الفاسدة الظالمة للمرأة وفي الوقت نفسه الانتقاء والاختيار لأفضل ما يقدمه النموذج الغربي انطلاقا في كلتي الحالتين من روح الإسلام ونصوصه قطعية الدلالة. والله أعلم
قائمة المراجع :
المراجع العربية
عبد الوهاب المسيري. 1995. “إشكالية التحيز”. تقديم وتحرير: د. عبد الوهاب المسيري. المعهد العالمي للفكر الإسلامي أحمد بن حجر أبو الفضل العسقلاني/ تحقيق: علي محمد البجاوي. الإصابة في تمييز الصحابة دار الجيل – بيروت
إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بعد عقد مؤتمر المرأة في عام 1985
عبد الحليم أبوشقة. 1995. تحرير المرأة في عصر الرسالة: دراسة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيحي البخاري ومسلم. الكويت: دار القلم
مالك بن نبي “شروط النهضة” ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين دار الفكر دمشق 1979م
مروة كريدية، “الأنوثة” في فكر ابن عربي. 2017 https://www.kasnazan.com/article.php?id=910
جورج طرابيشي. 2000. من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة. بيروت: دار الساقي
http://hadithportal.com/index.html لتخريج الأحاديث الواردة
المراجع الأجنبية :
Ahmed, Leila. 1992. Women and Gender in Islam: Historical Roots of a Modern Debate. New
Haven: Yale University Press
al-Huraibi, Nahla. 2014. Islam, Gender, and Migrant Integration.: the Case of Somali Immigrant
Families. LFB Scholarly Publishing LLC
al-Huraibi, Nahla and Konradi, Amanda. 2012. Second-Generation Yemeni American Women
at the Turn of the Century: Between Individual Aspirations and Communal Commitments. Humanity & Society. Vol 36,Issue 2
al-Huraibi, Nahla. 2017 “Navigating the Cultural Divide: Islam, Gender, and the
Integration Of Somali Immigrants.” Sociology of Islam. SOI 5
Hammer, Juliane. American Muslim Women, Religious Authority, and Activism: More Than a Prayer. Austin University of Texas Press, 2012
Hidayatullah, Aysha. 2014. Feminist Edges of the Qur’an. Oxford University Press
Open Education Sociology Dictionary
http://sociologydictionary.org/feminism/
Encyclopædia Britannicahttps://www.britannica.com/topic/feminism
Lipman-Blumen, Jean. 1984. Gender Roles and Power. New Jersey: Prentice-Hall, Inc.
Lipman-Blumen, Jean (1994). The Existential Bases of Power Relationships: the Gender Role Case. In, H. Lorraine Radtke and Henderikus Stam (eds.) Power/Gender: Social Relations in Theory and Practice. London: SAGE Publications
McClure GMG. Changes in suicide in England and Wales, 1960-1997. Br J Psychiatry.
2000;176:64–67.
Moore, Mignon R. 2008. “Gendered Power Relations among Women: A Study of Household Decision-Making in Black, Lesbian Stepfamilies.” American Sociological Review vol 73, 2: 335-356; Oreffice, Sonia. 2008. Sexual Orientation and Household Decision Making. Same-Sex Couples’ Balance of Power and Labor Supply Choices.
http://ageconsearch.tind.io//bitstream/44468/2/81-08.pdf
Nadwi, Mohammad A. 2007. al-Muhaddithat: The Women Scholars in Islam. Interface Publications: Oxford, Londonhttp://www.islamicstudies.info/literature/almuhaddithat.pdf
Nye, Joseph. 2004. Soft Power: The Means to Success in World Politics. U.S. Public Affairs
Ramadan. Tariq. November 14, 2016. The Birth of an Islamic Feminism. Official website
http://tariqramadan.com/english/the-birth-of-an-islamic-feminism/
Rose, Suzana. 2000 LesbianPartnerViolence Fact Sheet. National Violence Against WomenPrevention Research Centerhttps://mainwebv.musc.edu/vawprevention/lesbianrx/factsheet.shtml
Sabagh, Georges and Ghazallah, Iman. 1986. Arab Sociology Today: A View From Within.
Annual Review of Sociology, Vol. 12, pp. 373-399 Published by: Annual ReviewsStable URL: http://www.jstor.org/stable/2083208 Accessed: 23-11-2015
Velassco, Schuyler. April 17, 2017. More Young Americans want Moms Stay Home. What’s
Behind That? Christian Science Monitor https://www.csmonitor.com/Business/2017/0417/More-young-Americans-want-moms-to-stay-home.-What-s-behind-that?cmpid=FB
Wadud, Amina. 1999. Qur’an and Woman: Rereading the Sacred Text from a Woman’s Perspective. Oxford University Press
Walters, Margaret. 2005. Feminism: A Very Short Introduction. Oxford University Press
[1] Tariq Ramadan, The Birth of Islamic Feminism. November 2016. Official Website
[2] al-Huraibi, Nahla. 2014; al-Huraibi, Nahla and Konradi, Amanda. 2012; al Huraibi, Nahla. 2017
[3] Ahmed, Leila. 1992
[4] انظر، الجزء المعنون بـ “عصر النهضة والجرح النرجسي: نسوية قاسم أمين وآلية التماهي مع المعتدي” في كتاب جورج طرابيشي: من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة
[5] Hidayatullah, 2014
[6] للاستزادة عن تاريخ وواقع والاختلافات في الغرب نفسه حول النسوية، انظر Walters, 2005
[7]أنظر، على سبيل المثال الأبحاث المذكورة في مقال بعنوان “أعداد أكبر من الشباب الأمريكان يرغبون في بقاء الأم في المنزل. ماذا وراء ذلك؟” Velassco, 2017
[8] Sabagh and Ghazallah, 1986
[9] Walters, 2005
[10] ﻻحظت جوليان هامر في مقالها، “الهوية، السلطة، والنشاط السياسي: مقاربة النساء الأمريكيات المسلمات للقرآن” أن المسلمات الأمريكيات أصبحن عرضة لاستخدام المؤسسات الحكومية لهن في البرامج السياسية داخل وخارج أمريكا لتعريف المسلم “المعتدل أو الليبرالي” ولتغذية خطاب المسلم “السيئ” مقابل المسلم “الجيد” ونسخة الإسلام “الحداثية” بما يتوافق مع المصالح الأمريكية. Hammer, 2012
[11] Walters, 2005
[12] وغيرها من النصوص، مثل ما جاء في رسالة بولس إلى أهل كورونثوس في الإصحاح الرابع عشر “34لتصمت نساؤكم في الكنائس، لأنه ليس مأذونا لهن أن يتكلمن، بل يخضعن كما يقول الناموس أيضا ” وبإمكاننا مقارنة ذلك بعدة مواقف عبرت فيها النساء عن آرائهن في المساجد بحضور النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، كقصة المرأة التي اعترضت على عمر لتحديده المهور فنزل على قولها أمام الجماهير.
[13] Walters, 2005
[14] على سبيل المثال، فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. كما نشر الدكتور محمد أكرم ندوي كتابا باللغة الانجليزية بعنوان “المحدثات: النساء العالمات في الإسلام”، Nadwi, 2007
[15]على سبيل المثال لا الحصر، يطالعنا نموذج المرأة العالمة العاملة في فاطمة الفهري التونسية، المولودة عام 800 م والتي أسست جامعة “القرويين”، أول جامعة أكاديمية في العالم.
[16] رغم أن النسوية الغربية مع إنكارها لأي اختلاف فطري بين الذكر والأنثى، تطالب بإيلاء المرأة أهمية ورعاية خاصة لمساعدتها وحل مشاكلها الخاصة بطبيعتها البيولوجية كأم وزوجة، كما ورد في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بعد عقد مؤتمر المرأة في عام 1985
[17] المسيري، ص 105 بتصرف.
[18] قاموس علم الاجتماع للتعليم المتاحhttp://sociologydictionary.org/feminism/
Encyclopedia Britannica https://www.britannica.com/topic/feminism
[19] على سبيل المثال الآية 36 من آل عمران “وليس الذكر كالأنثى” والتي تعبر فيها امرأة عمران عند ولادتها بأنها كانت تتوقع ذكرا نذرته لخدمة المعبد ولكن كانت المولودة أنثى، والآية 195 من نفس السورة “أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض”، والتي تحمل تصريح من الله عز وجل أنه سيجازي كل المؤمنين، ذكرانا وإناثا، بشكل متساو بلا تفرقة ناتجة من اختلاف الجنس فكلهم سواء في الإنسانية، بعضهم من بعض، وكلهم سواء في الميزان والثواب أو العقاب.
[20] Wadud, 1999: لنأخذ على سبيل المثال نصا من السنة للدلالة على هذا المعنى، وفيه يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ… وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا… وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ). فهذا الحديث يشير إلى اضطلاع كل من الرجل والمرأة بمسؤولية متميزة، ولكنه يضع المسؤوليتين في درجة واحدة من الأهمية والمساءلة أمام الله، ويؤكد على ذلك بتكرار عبارة “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” في بداية ونهاية النص. ورد الحديث في البخاري ومسلم
[21] وقد سئلت عَائِشَة رضي الله عنها : ” مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟ فقَالَتْ: كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ ” رواه أحمد (26194) ، وصححه الألباني في “الصحيحة” (671) .وفي رواية له أيضا (24903) : ” كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ ” وصححه الألباني في “صحيح الجامع” (4937) وروى البخاري (676) عَنِ الأَسْوَدِ ، قَالَ: ” سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ – تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ – فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ “
[22] انظر للاستزادة، عبدالحليم أبوشقة. 1995
[23] Lipman-Blumen, 1984
[24] Ibid
[25] Ibid
[26] لمزيد من التفصيل، انظر: عبد الحليم أبوشقة. 1995
[27] Lipman-Blumen, 1994
[28] Ibid
[29]استعرت مفهوم “القوة الناعمة” من علم السياسة بين الدول الذي يشير إلى “قدرة دول على جعل أخرى تفعل ما تريد عن طريق الإقناع وليس الجبر والإكراه” Nye, 2005
[30] وليس هناك أبلغ في تلخيص والتعبير عن هذا الوضع التبادلي والمتكامل من الآيتين الكريمتين، “هُنَّ لِباسٌ لَكُم وأَنْتُم لِباسٌ لَهُنَّ” البقرة 187، والآية الكريمة، “والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض..” التوبة 71
[31] “الأنوثة المنفعلة والذكورة الفاعلة” مصطلحات وردت في رسائل ابن عربي عن نظرته لكل شئ في الكون من منظور قطبي الأنوثة/الذكورة. بناءً على هذا التصور، فإن أي فعل “مقسم على الحقيقة بين الفاعل والمنفعل، فمن الفاعل الاقتدار ومن المنفعل القبول للاقتدار فيه“، وبذلك يكون كل من الدورين إيجابي في إتمام أي فعل. منقول من مروة كريدية، 2017
[32] McClure GMG, 2000
هذه الدراسة من الأمثلة على المواقف التي تكون فيها المرأة تكون أكثر تحكما وجلدا بما رصدته من هشاشة الرجل العاطفية والنفسية مقارنة بالمرأة حين وجدت أن معدلات الانتحار بين الشباب أعلى عدة مرات منها بين الشابات، وأن معدل الفرق هذا يرتفع منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي في بريطانيا وعدة دول غربية
[33] Moore, 2008; Oreffice, 2008
[34] Rose, 2000
[35] al-Huraibi, Nahla. 2014; al-Huraibi, Nahla and Konradi, Amanda. 2012; al Huraibi, Nahla. 2017
[36] المسيري، ص. 55
[37] مالك بن نبي 1979م