
العنف وسبل مواجهته محاولة في سوسيولوجيا العنف في المجتمع التونسي
د.عادل بوزيد/جامعة أم القرى،المملكة العربية السعودية
مقال منشور في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 45 الصفحة 39.
ملخص:
تهدف هذه الورقة البحثية إلى تأصيل مفاهيمي وسياقي اجتماعي لمقولة العنف عبر تتبع أشكاله وتمظهراته المختلفة في السياق التونسي الثوري خاصة بالتركيز على العنف الموجهة ضد الطفل باعتباره أقسى أنواع العنف على مستوى التأثير والتداعيات،ومرورا بأهم النظريات السوسيولوجية التي قدمت مقاربات لظاهرة العنف،لتنتهي هذه الورقة إلى أهم السبل والآليات الكفيلة لمواجهة العنف أو بالأحرى كيفية التعاطي مع السلوكيات العنفيّة.
عموما هي دراسة مونوغرافية لظاهرة العنف في السياق الاجتماعي التونسي الراهن تنقسم إلى ثلاثة محاور أساسية أما المحور الأول فيبحث في مفاهيم وأشكال العنف بينما يتناول المحور الثاني النظريات السوسيولوجية التي قاربت ظاهرة العنف وينتهي المحور الثالث إلى عرض السبل الكفيلة لمواجهة ظاهرة العنف لاسيما تلك الموجهة ضد الأطفال.
الكلمات المفتاحية: العنف، مجتمع اللاعنف، الحراك الاجتماعي
مقدمة:
يعيش المجتمع التونسي بأسره منذ 14 جانفي 2011 حالة من الحراك الاجتماعي العميق وغير المسبوق الذي ادخل إرباكا حقيقيا في مستوى القيم والمعايير الاجتماعية وزجّ بالمجتمع ضمن حالة من فقدان المعايير والضوابط الاجتماعية، فكأننا مثلما قال عالم الاجتماع الفرنسي “أوقيست كونت” أمام تنظيم اجتماعي يغلق ونظام اجتماعي يتشكّل،ولعل أكثر الفئات الاجتماعية والعمرية تأثرا بهذه الحالة الاجتماعية هم الأطفال والشباب لأن شخصيتهم لا تزال بصدد التكوّن والتشكل ولاسيما الأطفال، لان عامل النضج والوعي ضعيف لديهم، فنجدهم أكثر عرضة لاستبطان مظاهر الحراك الاجتماعي وبالتالي تبني مواقف وسلوكيات شاذة وغريبة عن طبيعة تنشئتهم الاجتماعية،سلوكيات مستوحاة أساسا من طبيعة المسار الثوري التونسي والمتصلة بالاحتجاجات والمسيرات والإضرابات والنزعات المطلبية الحادة وأخرى مستوحاة من المشهد الإعلامي الذي بدا استفزازيا واثاريا وحماسيا أكثر من اللزوم.إن هذه الحصيلة مجتمعة أدخلت اضطرابات سلوكية تمظهرت في تصاعد حدة العنف الذي بدا أحيانا مستساغا وجزء لا يتجزء من ثقافة المجتمع التونسي،بدليل تواجده قولا وممارسة لا في الشارع فحسب،بل في المؤسسات التربوية والمهنية، والإدارات العمومية والفضاءات الرياضية وغيرها.
فبأي معنى تطرح ظاهرة العنف من الوجهة الاجتماعية؟ وما السبل الكفيلة لمواجهتها؟
I- في مفهوم العنف وأشكاله:
1- مفهوم العنف:
إن وجود تعريف دقيق وشامل لمعنى العنف بين كل الباحثين والمشتغلين بالمفهوم مسالة غير مطروحة بالمرّة، تبعا لتعدد زوايا البحث والدراسة، ولكن ما يظل محل إجماع وشبه اتفاق بين الباحثين في مستوى المفهوم أن العنف هو تعبير صارم عن القوة التي تمارس لإجبار فرد أو جماعة على القيام بعمل محدد يريده فرد أو جماعة ويأخذ صورة الضغط الاجتماعي وتعتمد مشروعيته على اعتراف المجتمع به[1]،أو هو الاستخدام غير المشروع للقوة وغير المطابق للقوانين وهو إيذاء باليد أو اللسان أو بالفعل أو بالكلمة يقوم به الفرد ضد الآخر[2].والعنف أيضا يمكن أن يمثل لغة التخاطب الأخيرة والممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي وحين تترسّخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته[3]،والملاحظ أن طبيعة هذا المفهوم تنسحب كثيرا على واقع فعل العنف ومبررات تصاعده في السياق الثوري التونسي،فكثيرا ما كانت بواعث ممارسة العنف تلك المتصلة بالإحساس بالقهر والظلم والبحث عن الاعتراف بالذات والشعور بالكرامة والتقدير الاجتماعي.والعنف أشكال وأنواع اذ نجد العنف الفكري والاجتماعي والإداري والسياسي وكل من ينال من استقرار الوطن والمواطن ويزعزع أمنه بانتشار الرعب والتخريب قصد فرض رأي أو عمل أو فكرة أو نمط حياة أو نظام معيّن[4]،ومختصر القول أن العنف هو ذلك السلوك العدواني والسلبي وغير التربوي الذي يمارس من قبل شخص أو جماعة بهدف إلحاق الأذى بالآخرين،وطالما أن العنف ظاهرة اجتماعية مصدرها الأساسي المجتمع فإنها بالضرورة تتفاوت من مجتمع إلى أخر بحسب درجة استقرار المجتمع وإشباع حاجياته مثلما أنها تتمايز داخل المجتمع الواحد بحسب تبدّل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
2- أشكال العنف:
ينطوي المجتمع التونسي اليوم على أشكال عديدة من العنف بالنظر إلى الحراك الاجتماعي الواسع النطاق الذي شكّل أرضية خصبة لنشوب العديد من أنواع العنف التي لم يألفها المجتمع من قبل غير أننا سنقتصر في هذا الإطار على أبرز الأنواع ممارسة وتواترا،وهي:
أ-العنف السلوكي:
ويتمثل في انعدام توفر الاشباعات الدائمة للفرد وينتج عن ذلك سوء التكيّف ،وقد يتسم سلوك المنحرف بعدم الانضباط والقسوة واللامبالاة الاجتماعية ،وكلها تؤدي إلى سلبية في عملية التطبيع الاجتماعي،فالإفراط في التنشئة الاجتماعية يؤدي إلى التبعية والتراخي يؤدي إلى العدوانية وعنف السلوك[5]،ويترتب على هذا النوع ثلاثة مظاهر :
– العنف المحرم: وهو الذي يقع في صورة عدوان الفرد على غيره وهو ممنوعا قانونا ومحرم شرعا ومخالف للحياة الاجتماعية.
– العنف الإلزامي:وهو العنف الذي يقوم به الفرد تجاه الآخرين مقابل اعتدائهم عليه.
– العنف المباح:وهو سلوك مباح قانونا عندما يؤمر الإنسان بمعاملة الآخرين بذلك الفعل.
ب- العنف الجسدي:
ويشمل هذا النوع الضرب باليد والضرب بأداة حادة،والخنق والدفع والعض والمسك بعنف وشد الشعر…وهذه الأشكال جميعها تنجم عنها آثارا صحية ضارة قد تصل لمرحلة الخطر أو الموت إذا تفاقمت لذا فالعنف الجسدي من الممكن ملاحقته وإثباته قانونيا.
ج- العنف اللفظي:
ويعتبر من أكثر الأنواع انتشارا في المجتمع التونسي ويتمثل في السباب والشتم،واستعمال الألفاظ النابية،وعبارات التهديد،وعبارات تحط من الكرامة الإنسانية وهو من الأشكال التي تؤثر على الصحة النفسيّة[6] وبخاصة تلك الألفاظ التي تسيء إلى شخصية الإنسان ومفهومه عن ذاته،ومثلما أسلفنا فقد تنامى هذا الشكل من العنف في الخمس سنوات الأخيرة حتى طال كل مظاهر الحياة الاجتماعية ومؤسساتها ولا سيما المؤسسات الإعلامية التي ظلت تسوّق خطابا انفعاليا وعنيفا،أثّر تدريجيا على الممارسات الفردية والجماعية وولّد شخصية قاعدية غالبا ما تكون مشحونة غضبا وتشنجا وسريعة الانفعال.
د- العنف النفسي:
وهو المسلط خاصة على الأطفال بهدف إيذائهم معنويا،أو ذلك الذي يتمثل في إهمال رعاية الطفل صحيا وتعليميا وعاطفيا،والقسوة في المعاملة أو التدليل الزائد والحماية المسرفة .وقد ينتج كل ذلك لدى الطفل ممارسات انحرافية وشاذة على غرار الانطواء والاكتئاب أو الرنو إلى التشاجر والفوضى وهي ممارسات ربما تكون تعويضية عن حالات الإحباط والحرمان التي تعرّض لها،مما يؤدي إلى قصور في نمو الشخصية واضطرابات في علاقته بالآخرين.
ه- العنف الرمزي:
هو العنف اللامرئي والمخفي والمقنّع، وهو عنف غير مباشر في اغلب الأحيان،وهو الأخطر على الإطلاق لان الأنواع الأخرى مشاهدة ويتمكن الفرد من مقاومتها والتصدي لها بينما هاذ النوع هو يزداد يوما بعد يوم دونما يشعر به غالبية أفراد المجتمع. وإذا كان العنف الرمزي هو آلية من آليات الدفاع عن الذات العاجزة التي لا تستطيع تحقيق أهدافها بصورة شرعية فانه غالبا ما يعبّر عنه بأساليب عدوانية كالكراهية والسيطرة على الضعفاء والاتهام بالباطل وتخريب الممتلكات العامة والخاصة[7].ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو” من أكثر الذين اشتغلوا بهذا المفهوم،فقد اعتبر أن المجتمعات الراهنة تعمل على إعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية عبر ما يعرف بالعنف الرمزي الذي يوفر مشروعية للهيمنة واللاعدالة اجتماعية،على أن المبدأ الأساسي لمقولة العنف الرمزي يرتكز على مسألة الاعتراف الاجتماعي،أي أن الفاعلين في حقل العنف الرمزي يعملون على تحقيق الاعتراف به حتى يتسنى لهم تمرير استراتيجياتهم المتمثلة أساسا في إعادة إنتاج نفس التنظيم الاجتماعي،بما يفيد وفق “بورديو” أن العنف الرمزي الذي يستهدف إعادة إنتاج اللامساواة غير مستمد من مجرّد جماعة حاكمة وإنما هو مستمد أساسا من طبيعة تركيبة المجتمع.
3- أشكال العنف الموجه ضد الطفل:
نعتبر أن أكثر الفئات العمرية تضررا واستبطانا لفعل العنف هم الأطفال لذلك ارتأينا ضمن هذا العنصر أن نتعرّض لبعض أشكال العنف الموجه ضد الأطفال والتي يمكن أن يعتبرها الكثير من الأولياء أو المتدخلين في شان الطفولة أفعالا وممارسات عادية،على غرار حرمان الطفل من اللعب أو حرمانه من الخروج أو من التعليم أو إلزام الطفلة بالمساعدة في الأعمال المنزلية أو التمييز الواضح في معاملة الصغير عن الصغير أو الصغيرة الأخرى دون مراعاة الآثار النفسية السلبية لهذه المعاملة[8]،أو الزواج المبكّر.إضافة إلى الاعتداءات الجسدية والجنسية ضد الطفل.ومن مظاهر الاعتداء العاطفي حرمان الطفل من الحب والحنان والرعاية والحماية والشعور بالأمن والأمان،وهذه كلها ضروب مختلفة من العنف قد تؤسس لشخصية مضطربة ومنحرفة مستقبلا.دون التغاضي عن مظاهر سوء التربية التي أضحت منتشرة بكثرة صلب الأسر التونسية المعاصرة ومنها التشدد المفرط أو التسيّب المفرط وخاصة تشاجر الزوجين أمام الأبناء وهي كلها أفعال عنف من السهولة بمكان أن يستبطنها الطفل ثم تترجم في سلوكياته مستقبلا.ومن أشكال العنف ومظاهره لدى الأطفال في المجتمع التونسي تلك المتصلة بالإهمال المتزايد للأبناء والمتمثّل في عدم توفير الاحتياجات المادية اللازمة للأبناء من أكل وشرب وصحة وتعليم وترفيه أو كذلك عدم توفير الرعاية الوجدانية والعاطفية والأخلاقية اللازمة وقد نتج عن هذه الوضعية وجود ما يعرف بأطفال الشوارع،المهددين بكل أنواع الانحراف والإجرام.
وجدير بالذكر أن التقارير الدولية والخاصة بمنظمة الأمم المتحدة تشير إلى التزايد الملحوظ لظاهرة العنف ضد الأطفال في السنوات الأخيرة إلى الحد الذي أخذ معه طابعا وبائيا ينتشر بشكل خطر في المجتمعات المعاصرة[9].وفي هذا الصدد تشير تقارير”الأمم المتحدة” عن أن طفل كل عشرة أطفال يموتون بسبب العنف الوالدي وان 2000 طفل يتخلصون من حياتهم بالانتحار،وتتضح هذه الصورة الوبائية للعنف ضد الأطفال بالحجم الكبير للدراسات والبحوث بشأنه.أما في المجتمع التونسي فان إحصائيات نشاط مندوبي حماية الطفولة تشير إلى ارتفاع حالات الإشعار بخصوص الأطفال المهددين إلى حدود 19 إشعار يوميا واحتلت الحالات الخاصة بالعنف نسبة 60.7% وتتفرّع الحالات المعنّفة إلى 41.5%تتعلّق بالإهمال والتجاهل و27.9% تتعلّق بحالات العنف المعنوي والنفسي[10]،وقد وقع تسجيل 289 حالة عنف جنسي و589 عنف مادي وجسدي ويتصدّر العنف الأسري أولى مصادر العنف المسلطة على الطفل والتي تقدّر ب 65.6%.
II- في المقاربة السوسيولوجية للعنف:
إن العنف وفق كثير من العلماء كهوبز وفرويد ودوركايم هو سلوك “عادي” على اعتبار انه ضروري للحياة الاجتماعية وإجابة طبيعية وعادية للاعتداء الذي يتعرض له الفرد، من هنا فان المجتمعات لا تقوم بمنعه ولكن بتعديله فهناك عنف مقبول وعادي، وهناك عنف ممنوع ومنحرف.
فمن الناحية السوسيولوجية العنف ظاهرة اجتماعية عامة وشاملة وتوجد كلما كان هناك ظلم وقمع واستبداد وتسلط، يقابله عجز وخضوع عن مجابهته[11]،ويعتبر علماء الاجتماع أن العنف هو آلية من آليات الدفاع عن الذات ضد المخاطر التي تواجه الإنسان من أجل البقاء والاستمرار في الحياة،فبالرغم من المرحلة الحضارية المتقدمة التي قطعتها البشرية وما بلغه الفكر البشري من نضج وذكاء، فان فعل العنف لا يزال متأصلا في المجتمعات بسبب ارتدادها إلى جذورها البدائية وفق ابن خلدون،بدليل أن الإنسان البدائي كان غالبا ما يلجأ إلى العنف لدرء المخاطر،والملاحظ أن أساليب العنف وأدواته تطوّرت بفعل تزايد التنافس والصراع على المصالح والثروات.ويعتقد ابن خلدون أن العنف نزعة طبيعية وان سبب العنف العصبيّة وهي “الالتحام الذي يوجب صلة الرحم حتى تقع المناصرة”،وان أساس العصبية عند ابن خلدون هو الاستعداد الفطري الذي يدفع الفرد إلى نصرة قريبه بالدم والدفاع عنه[12]،في ظل هذا التأطير النظري الخلدوني لظاهرة العنف يبدو في تقديرنا مفيدا جدا أن نستغله في قراءة المسار الثوري التونسي عشية 14 جانفي وما أنتجه من ممارسات وأشكال عنف تتطابق والتمشي الخلدوني ويظهر ذلك في النزعات الجهوية الحادة التي برزت في المناطق التي لا تزال تقع تحت تأثير الذهنية القبلية على غرار منطقة الجنوب و الشمال الغربي والوسط الغربي،وقد تجلى ذلك في التطاول على حرمة الدولة والقانون ورموز الدولة،فقد أدى بهم الأمر إلى حرق المراكز الأمنية والاعتداء على أعوان الأمن وغلق الطرقات والسكك الحديدية بسبب القبض مثلا على معتد ينتمي إلى منطقتهم أو عشيرتهم لإفلاته من العقاب،او مطالبتهم بالانتفاع لوحدهم بثروات منطقتهم،أو دعوتهم إلى تشغيل أبناء المنطقة في المؤسسات الكائنة بالجهة أولى من الأفراد الخارجين عنها،وهي نزعات كلها ذات جذور قبلية وعشائرية.
أما كارل ماركس فيعتبر أن تاريخ أي مجتمع من المجتمعات هو تاريخ الصراع،أي صراع بين الطبقات،بين من يملكون وسائل الإنتاج والخيرات وبين من لا يملكونها،وهذا الصراع يخترق التاريخ من المجتمع البدائي إلى المجتمع الرأسمالي،على أن هذه اللامساواة بين الطبقتين هي المحرك للتاريخ[13]،حيث يقول في هذا الصدد “إن آية ولادة لمجتمع جديد لابد وان يسبقها العنف”فالعنف بمثابة الآلام التي تسبق المخاض،وقد اعتبر ماركس أن العنف هو إفراز تاريخي نتج عن تضارب المصالح مثلما انه ضرورة تاريخية ولكن يجب القضاء عليه بعد تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا.
وغير بعيد عن التمشي الماركسي اعتبر عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل أن العنف يؤدي وظائف ايجابية للنظام الاجتماعي،فهو يعمل على استمرار العلاقات الاجتماعية تحت ظروف الضغط والتوتر ويحول دون انحلال المجموعة وتفككها[14].أما مواطنه ماكس فيبير فيذهب إلى انه لا يمكن تعريف الدولة إلا عبر “العنف المادي” بوصفه الوسيلة الطبيعية للسلطة التي تحتاج إلى شرعنة،بمعنى أن الدولة هي الوحيدة التي تملك وسائل الإكراه المشروع،فهي التي تحتكر العنف المادي المشروع وتمارسه لوضع حد للفوضى ورعاية مصالح المواطنين،مثلما أن جوهر السلطة وفق فيبير يكمن في ممارسة العنف.
إن قراءتنا لمختلف هذه الآراء بخصوص ظاهرة العنف كفيلة بمدنا بقاسم مشترك بينها مفاده التأصل الواضح لفعل العنف صلب كل المجتمعات،وقناعة معظم المفكرين بمشروعيته ضمن سياقات معينة.ولكن المقاربة السوسيولوجية للعنف شهدت مراجعات كبيرة، خاصة عقب الحرب العالمية الثانية وما خلفته من قتل ودمار.وفي هذا السياق قدّم هابرماس قراءة مستحدثة لظاهرة العنف،معتبرا أن فعل العنف هو آلية دمار وخراب وجب التصدي له، وكذا للحرب والضرورة تقتضي التوجه نحو التسامح والتواصل والحوار العقلاني الذي يقود إلى المواطنة العالمية التي تتفتح على الأخر المختلف،وقد كان له تعليق مميّز على اثر حرب الخليج سنة 1990 عندما قال”إن على البشرية أن توجّه كل اهتمامها لتجنّب نكسة بربرية أخرى”[15]،ويعتبر هابرماس أن العولمة وما أنتجته من “حداثة مغلوبة” وفق تسميته كانت هي العامل المباشر في تنامي ظاهرة العنف والإرهاب.لان هذه الحداثة السريعة بيّنت بوضوح مدى التمايز والتفاوت بين المجتمعات الغربية والمجتمعات الأخرى،وبالتالي كانت كل الممارسات الإرهابية وأشكال العنف بدافع اللامساواة واللاعدالة بين المجتعات،لذلك يدعو هابرماس العقلانية الغربية إلى مراجعة قصر نظرها عبر التعلّم من الثقافات الأخرى وعبر تواصل عقلاني وحوار مفتوح.
– نحو مجتمع اللاعنف:III
1- أسباب العنف:
إن مقاومة العنف بكل أشكاله يبدأ قطعا بمعرفة الأسباب الحقيقية المؤدية إليه، ولعل أولى الأسباب الاجتماعية التي صعّدت من وتيرة العنف في المجتمع التونسي الراهن تلك المتعلقة بحالات الإحباط والتهميش والحرمان،والتلوث السمعي والبصري والأخلاقي الذي اتخذ أشكالا متعددة،إضافة إلى الأخلاقيات المتدنية في الشوارع.وقد كان الإرهاب المتولّد أساسا عن الفكر الديني المتطرّف من أهم أسباب تنامي أعمال العنف الدموية،فضلا عن تراجع الدور السياسي للعديد من الأحزاب وتشظي معظمها مما يعطي إحساسا للمواطنين بعدم وجود قنوات للحوار،وقد كان لانتشار ظواهر الفقر والبطالة وتدني المقدرة الشرائية الدور الأبرز في انتشار أعمال السلب والنهب والاعتداءات المتكررة على الممتلكات.هذا على مستوى الدولة والمجتمع لكن الأسرة التونسية كذلك لها قسط وافر في تنامي ظاهرة العنف بدليل تراجع وظائفها الأساسية لاسيما التربوية والوجدانية منها فقد تقلصت مظاهر التاطير والتوجيه داخلها وظل الحوار شبه مفقود بين أفرادها.وأطلق العنان لأبنائها لاستبطان ثقافة الشارع،التي تفتقر إلى التأصيل والمتانة اللازمة.
2- الثقافة والعنف:
إن الخطوة الأولى للوقوف أمام العنف بشتى أشكاله وأنواعه تبدأ بوعينا بخطورة ثقافة العنف والتربية التي ينبت فيها ومحاربته بكل الطرق والوسائل،لان العنف هو نمط من التنشئة الاجتماعية التي ترتكز على انعدام الحوار والتسلّط والحدة في التعامل وعدم تفهّم احتياجات الفرد ورغباته،سواء من جانب مؤسسة العائلة التي شهدت تغيرات جذرية في مستوى الأدوار والوظائف،أو في مستوى النظام السياسي عندما يكون نظاما متسلطا وديكتاتوريا فسوف ينتج في اللاوعي الاجتماعي وعيا مستلبا وعنفا مضادا يتحوّل إلى ظاهرة عامة.فالثقافة تنشئ وحدة مشتركة تقوم عليها الأخلاق والمعرفة وأساليب العمل والتفكير وطرائق السلوك[16].والثقافة تختلف عن المجتمع من حيث كونها ذلك الكل الذي يشمل العادات والتقاليد والفنون والأخلاق وطريقة عيش الفرد،بينما يمثل المجتمع مجموع الأفراد الذين يعيشون في رقعة جغرافية معينة وتربطهم شبكة من العلاقات التي يتفاعلون من خلالها.وبذلك تكون الثقافة ذاكرة المجتمع الشعورية واللاشعورية.
والثقافة بوصفها الوعاء الذي يحوى جملة القيم والمعايير يمكن أن تتحوّل إلى ثقافة عنف عندما توجّه السلوك نحو أهداف محددة،ويعتبر البعض أن اكتساب ثقافة العنف إنما يكون من مصادر ثلاثة أساسية وهي: الأسرة بما تحتويه من تنشئة اجتماعية والمدرسة بما تحتويه من نظام تربوي وتعليمي والسلطة بما تحتويه من نظام سياسي،وهذا ما يؤكّد قطعيا بان العنف هو منتج اجتماعي بامتياز ولا دخل للوراثة أو الفطرة فيه.
3- سبل مواجهة العنف عامة:
طالما أن العنف فعل مكتسب وليس فطري يفرزه التاريخ والثقافة فان مقاومته تبقى غير مستحيلة ولعل الخطوة الأولى تبدأ بمحاصرة الأسباب الكبرى والمسؤولة عن بقية الأسباب الأخرى وتأتي في مقدمتها،وعلى مستوى المجتمع ككل حالات الغضب والاحتقان والتوتر والاحتجاجات،من خلال إحلال قنوات الحوار العقلاني والإنصات إلى كل الفئات والجهات دون إقصاء أو تهميش،والتوزيع العادل للثروات والخيرات وتوسيع دائرة المشاركة السياسية والتصدي لكل أشكال الفساد الإداري والمالي،والحث على ممارسة السلوك التطوّعي ضمن المشاركة الاجتماعية،وتنمية الوعي الديني والالتزام بالقيم الأخلاقية وتغيير المعتقدات حول العنف،بتغيير الاتجاه نحو العنف كوسيلة فعالة لحل الخلافات،مع تغيير الاعتقاد بمشروعية ومقبولية العنف اجتماعيا،والتأكيد على قدرة الشخص على التحكم في سلوكه العنيف.بالإضافة إلى الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في التغلب على العنف،والعمل على إنشاء المزيد من جمعيات مساندة ضحايا العنف والتعريف بدورها وتقديم برامج الإرشاد النفسي لضحايا العنف ومرتكبيه حتى نتمكن من إزالة الآثار السلبية التي تحيق بضحية العنف والحيلولة دون عودة المعتدي إلى ممارسة العنف.
إن كل هذا السبل طبعا ليست من مشمولات الدولة فحسب وإنما المطلوب أن تكون ثمرة العمل الجماعي بتدخل كل مؤسسات المجتمع المدني والدولة حتى نؤسس لثقافة التسامح بدل ثقافة العنف،الثقافة التي تتميّز باللين والتساهل والعفو عن الإساءة والتعدد والتنوع وقبول الأخر،وتكمن قوة التسامح في أن تعيش وتترك الآخر يعيش حياته بسلام،وإذا كانت ثقافة التسامح تجعل منه فضيلة الإنسان القوي فان العنف يقدم بوصفه ضعف الإنسان الذي تعوزه الشجاعة لان يكون متسامحا[17].وبما أن المجتمع التونسي يعيش حالة الانتقال الديمقراطي فان التسامح هو المقدمة الحقيقية للديمقراطية،أو كما يقول الفيلسوف ادغار موران “إن التسامح ضرورة ديمقراطية ،لان الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار وتندثر بصراع الأجساد”،والديمقراطية هي ذلك النظام الذي يحترم ثلاثة مبادئ أساسية،الأول هو التسامح،والمبدأ الثاني هو ضرورة الفصل بين السلطات:التنفيذية والتشريعية والقضائية،والمبدأ الثالث هو المساواة والعدالة وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني[18].والحقيقة أن كل هذا المبادئ والضمانات القانونية والمؤسسات الدستورية والديمقراطية متوفرة ضمن الحالة التونسية، المطلوب إرادة سياسية قوية وجريئة ومدركة لعواقب عدم التسامح ومجتمع مدني في مستوى هذه الأفكار والتطلعات.
4- سبل مواجهة العنف الموجه ضد الطفل:
يبقى الطفل الحلقة الأضعف والارهف في مواجهة العنف والضرورة تقتضي ايلاء فئة الأطفال الأهمية القصوى فيما يتعلق بظاهرة العنف لأنهم أكثر ضحايا حالات العنف.وقبل أن نسوق مجموعة من التوصيات بخصوص مقاومة العنف ضد الطفل يبدو من المفيد استعراض بعض آثار أفعال العنف ضد الطفل،حيث يعتبر بعض الباحثين أن تعرض الطفل لأفعال العنف المتكرر يعتبر توقفا لمسيرة نموه وانغلاقا لعملية تفتح إمكانياته،واستنزافا لطاقاته[19]،وقد ينتج عن أفعال العنف الموجه للطفل صدمة نفسية غائرة تتسبب في تغيرات عميقة في إحساس الطفل بالسلامة الشخصية وبالأمان إزاء العلاقات الإنسانية في المستقبل وفي نظرة الطفل للمستقبل عامة وما يرتبط بها من أحلام الطفولة وخيالاتها وأمانيها[20]، وهذا ما يشكل لدى الطفل ابرز “العلامات الواسمة” لصدمة الطفولة.والتي ينتج عنها جروح في انفعالاته ومشاعره وفي إرادته للحياة والوجود فتظطرب ثقته في ذاته وفي الآخرين وتتطوّر لديه في المقابل مشاعر العدائية والنزعة إلى العنف والعدوان.وفي ظل هذه الآثار الخطيرة للعنف على شخصية الطفل تطرح اليوم مسالة مواجهة العنف ضد الطفل بشدة لاسيما في مجتمعنا التونسي الراهن الذي يمر بمرحلة عميقة من التذبذب القيمي والأخلاقي وانعدام الضوابط الاجتماعية وهي علامات ربما تكون مهيأة أكثر لإنتاج ثقافة العنف بدل ثقافة التسامح،إذا لم تع بعد كل مكونات المجتمع المدني بخطورة العنف على المجتمع عامة والموجه ضد الطفل خاصة.وفيما يلي نسوق مجموعة من التوصيات الكفيلة بترسيخ ثقافة اللاعنف في الناشئة متى توفرت القناعة بهذه التوصيات من جانب كل المعنيين بشأن الطفولة.
1- زيادة توعية الأسر بأساليب التنشئة السليمة وبثقافة حقوق الطفل ومخاطر العنف طالما أن العنف الأسري يبقى اعلي درجات العنف الموجه ضد الطفل.
2- زيادة حملات التوعية لتلاميذ المدارس والمعاهد الثانوية بحقوق الطفل وكيفية التعامل مع مشكلة العنف.
3- زيادة التوعية والتحسيس بمجلة حماية الطفل وبواجب الإشعار عندما يكون الطفل يعيش حالة صعبة تهدد صحته البدنية والمعنوية.
4- نشر ثقافة التسامح والتنبيه إلى مخاطر العنف عبر وسائل الإعلام المختلفة وعبر الجمعيات وأماكن العبادة.
5- في حالة ممارسة العنف ضد الأطفال من الضروري اتخاذ الإجراءات اللازمة عبر التدخل المبكر بواسطة المهنيين والمختصين.
6- تعويد الطفل منذ الصغر على ممارسة هوياته والعمل على توجيهه نحو هوايته المفضلة للحيلولة دون وقوعه ضحية الشارع والمسالك المشبوهة.
7- الحرص على عدم تعريض الطفل لبرامج أو مشاهد تبث نماذج من العنف والرعب والهلع التي تؤثر في شخصيته.
خاتمة:
يتبيّن من خلال هذه القراءة المختزلة لظاهرة العنف أن كل المجتمعات تتقاسم فعل العنف مثلما أن هذا الفعل لا يقاس حجمه بالمستوى التعليمي أو الفكري للأفراد والمجتمعات بدليل أن أرقى الدول في العالم هي التي تتصدر أفعال العنف بكل أشكاله وأساليبه ونقصد بذلك الولايات المتحدة الأمريكية،لكن العنف يبقى منتج اجتماعي يتأثر بحجم وعي الأفراد وبمدى إشباعهم لحاجياتهم ومدى قابليتهم لبعضهم البعض والسعي كل السعي إلى نكران الذات وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة،والتعايش السلمي بين كل الديانات والأجناس،وتغليب ثقافة الحوار وقبول الاختلاف بدل العدوان و العنف.
وقد ركزنا في هذا الورقة على سبل مواجهة العنف الموجه ضد الطفل لأننا نعتبر أن هذه الفئة هي الأكثر تضررا من هذا الفعل والأولى بالعناية لأنها تمثل أفق المجتمع ومستقبله.والحقيقة أن الطفل التونسي لا يزال فريسة سهلة لجملة من أعمال العنف من مختلف الأطراف (عائلة ،مجتمع،مؤسسات تربوية،مؤسسات إعلامية…) دونما وعي كبير من كافة القوى الاجتماعية بفضاعة وجسامة هذه الأفعال،فالخوف كل الخوف أن نستثني أو أن نتناسى من أهداف الثورة مصلحة الطفل الفضلى.
قائمة المراجع العربية :
- ابن خلدون عبد الرحمان، المقدمة، دار الجيل بيروت، 1998.
- أبو النصر مدحت محمد، ظاهرة العنف في المجتمع، الدار العالمية للنشر والتوزيع القاهرة،2009.
- ارفنج زايتلن،النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، ترجمة محمد عودة وآخرون، ذات السلاسل ،الكويت 1989.
- الحيدري إبراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015.
- بن دريدي احمد،العنف بين التلاميذ في المدارس الثانوية الجزائرية،جامعة نايف للعلوم العربية الأمنية، المملكة العربية السعودية،الرياض2007.
- حجازي مصطفى، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور،بيروت،مركز الإنماء العربي،1976،ص253.
- ملّر جان ماري،معنى اللاعنف،ترجمة انطوان الخوري طوق،مركز اللاعنف وحقوق الإنسان،(الكتاب من منشورات جمعية العمل الاجتماعي والثقافي،بيروت،1995.
- النشرية الإحصائية لنشاط مندوبي حماية الطفولة بتونس،العدد الثاني، فيفري 2015.
- المجلس العربي للطفولة والتنمية ،الدليل التدريبي للإعلاميين العرب،حماية الأطفال من العنف،(القاهرة:المجلس العربي للطفولة والتنمية،2008).
http ://www .detlemcen.edudz/paix.-
www.amanjordan.org conferences/vaciaw/vaciaw21.htm.-
[1] بن دريدي احمد،العنف بين التلاميذ في المدارس الثانوية الجزائرية،جامعة نايف للعلوم العربية الأمنية، المملكة العربية السعودية،الرياض،2007، ص 34.
[2] الحيدري ابراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015،ص20.
[3] حجازي مصطفى،التخلف الاجتماعي:مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور،بيروت،مركز الإنماء العربي،1976،ص253.
[4] http ://www .detlemcen.edudz/paix.
السنونسي نجاة،ورد في موقع :[5]
www.amanjordan.org conferences/vaciaw/vaciaw21.htm.
بن دريدي أحمد،العنف بين التلاميذ في المدارس الثانوية الجزائرية،جامعة نايف للعلوم العربية الأمنية، المملكة العربية السعودية،الرياض،2007، ص 37.[6]
الحيدري ابراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015،ص117.[7]
أبو النصر مدحت محمد، ظاهرة العنف في المجتمع،الدار العاليمة للنشر والتوزيع القاهرة،2009،ص100.[8]
[9] المجلس العربي للطفولة والتنمية ،الدليل التدريبي للإعلاميين العرب،حماية الأطفال من العنف،(القاهرة:المجلس العربي للطفولة والتنمية،2008)ص13- 16.
النشرية الإحصائية لنشاط مندوبي حماية الطفولة،العدد الثاني،فيفري 2015.[10]
الحيدري ابراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015،ص12. [11]
ابن خلدون عبد الرحمان،المقدمة،القاهرة،1946،ص54.[12]
الحيدري ابراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015،ص65. [13]
ارفنج زايتلن،النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، ترجمة محمد عودة وأخرون،ذات السلاسل ،الكويت 1989،ص180.[14]
الحيدري ابراهيم،نفس المرجع،ص82. [15]
الحيدري ابراهيم، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي،بيروت لبنان،2015،ص93. [16]
[17] ملّر جان ماري،معنى اللاعنف،ترجمة انطوان الخوري طوق،مركز اللاعنف وحقوق الإنسان،(الكتاب من منشورات جمعية العمل الاجتماعي والثقافي،بيروت،1995،ص14.
عبد الله عصام، “التعميد بالدم”،الحوار المتمدن،13/2/2009.[18]
أبو النصر مدحت محمد، ظاهرة العنف في المجتمع،الدار العالمية للنشر والتوزيع القاهرة،2009،ص125.[19]
أبو النصر مدحت محمد،نفس المصدر،ص 126.[20]