
فعل الحكي وهيمنة صوت الراوي في رواية قلادة قرنفل للكاتبة زهور كرم
طالبة دكتوراه : بحوصي نبيلة / بإشراف الأستاذ:بوحسون حسين
كلية الأدب واللغات/جامعة طاهري محمد – بشار/الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 41 الصفحة 105 .
الملخص:إن الصوت الذي ينقل لنا الخطاب في الرواية هو الساردُ أو الراوي ، إذ هو الذي يقدم الحكاية إلى القارئ ، فيعبر من خلال اللّغة عما يجوب في خاطره ، و مهما حاول السارد إخفاءَ صوتهِ كي يوهم القارئ بواقعية الحكاية و آنية الأحداث ، فإنه يظهر في المتن الحكائي بأي شكل من الأشكال . وفي نص قلادة قرنفل نجد صوت البطلة هو الصوت المحوري في هذا النص، إذ يهيمن على فضاءِ الروايةِ وهو الذي يقاوم ويدافع ويتحكم في مسار السرد.وهذا ما نحاول تفصيل الحديث فيه في مقالنا هذا.
الكلمات المفتاحية : الرواية ، المنظور الروائي ، الفضاء ،المكان ، الغرف ، البيت ، الشخصيات ، البطلة القلادة ، القرنفل، المرأة .
- الفضاء المنظور الروائي([1]) :
لا يمكن لنا دراسةَ الفضاء الروائي دون الإشارة إلى الوجهة التي يجسّدها الراوي الذي أبدّعته أناملُ الروائي ؛ فالروائي ” يقبع خلف الخشبة المسرحية يشرف على العمل ككل ؛ ليظّل كل شيء تحت رقابته “([2]) ، ومنه فإن الروائي ينقل موقفهُ وما يريد التعبيرَ عنه عن طريق الراوي الذي يعد المحّرك الأساس لكل أحداث النص ، فتتعدد بذلك الأوجه والرؤى بتعدد مواقع الراوي في النص ” إنّ أداة انتقال الخبر من المؤلف إلى القارئ هي البؤرةُ الممّوقعةُ “([3]) ولا تسمح بأن يمر إلاّ الخبرَ الذي يسمح به الموقع ؛ أي الموقع الذي يتواجد فيه الراوي . ففي الخطاب السردي نجدُ أنفسنا أمام شيئّين مختلفين هما : راوٍ و ـــمروٍ أو بتعبير آخر : الذاتُ الساردةُ – موضوع السرد ، أو المبــأر ذات التبئير على حد تعبير ” ميك بال “([4])
واتفق الدارسون و النقاد على ثلاثِ جهاتٍ يرى من خلالها الراوي الشخصيات الروائية أو يحرك بها أحداث الرواية وهي :
أ- الرؤية مع أو المصاحبة أو الرؤية الصفر أو الخالية : وهي التي يعرف فيها الراوي ما تعرفه الشخصيات؛ فمعرفة الراوي و الشخصية متساويان فهو هنا كشخصية من الشخصيات
ب.الرؤية من الداخل (الخلف) : يعرف الراوي فيها أكثر من الشخصية و هذا الراوي هو المرآة العاكسة لكل شيء بوضوح.
ج.الرؤية من الخارج )الأمام) : تتضاءل معرفة الراوي ، حيث يقدّم الشخصيةَ كما يراها و يسمعها دون الوصول إلى عمقها الداخلي وهذه الرؤية ضئيلة بالنسبة للثانية ومعرفة الراوي فيها أقل من الشخصيات ([5]).
نتوصل من خلال القراءة المتأنية و الدقيقة للمنظور الروائي إلى الكشف عن موقف الروائي الذي يظهر من خلال سيطرة الراوي على فعل الحكي.
2 – صوت الراوي و فعل الحكي :
يظهر الراوي في الرواية بأشكال متعددة لكي يوهم القارئ ويخدعه بعدم وجوده، إذ أنّ السارد يمكن أن يكون متخفيا أو صريحا في النص وهذا ما يسمى:
بالسارد المتخفي و السارد الصريح والسارد المتخفي يكون ” متواجد في أي رواية “
كيفما كان نوعها حتى و إن كانت سيرةٌ ذاتية و حتى لو كان هناك راوٍ آخر مشارك إنه الكاتب الضمني المتخفي في الكواليس”([6])
وهناك كذلك السارد الذي يظهر و يصرح بوجوده و يطلق عليه السارد الصريح أو السارد الممسرح المعروض : ” هو شخصية مهما بدت متخفية فهي تتداول الحكي و تعرض نفسها بمجرد ما أن تتحدث بضمير المتكلم “. ([7]) وهذا السارد يمكن أن يحدد موقعه ويسمع صوته وغالبا ما يروى هذا النوع من الروايات بضمير “أنا”.
مثلما نجد في نص “قلادة قرنفل” ، وقبل الحديث عن هذا النص و موقع الراوي سنتحدث عن استعمال ضمير المتكلم و أغراضه ، حيث تلعب الضمائر دوراً مهماً في تقديم الحكاية للقارئ إذ ” أن الرواية بصفة عامة تبدو ذات طبيعة معقدة و ما يمكن أن يفك تعقيدها هو استعمال الضمائر ومن النادر أن نجد شغلاً رصيناً على السرد الروائي عزف عن تناولها “([8]) ، فهي تمنح للعمل مزيدا من الجاذبية لذلك نجد روايات تروى بضمير الغائب والبعض منها بضمير المخاطب و البعض الآخر بضمير المتكلم ” ويأتي ضمير المتكلم في المرتبة الثانية من حيث الأهمية السردية بعد ضمير الغائب “([9])
ويمكن أن تصنف الرواية المحكية بضمير المتكلم ضمن ما يسميه النقاد ” الرؤية مع ” وذلك لمشاركة السارد في الأحداث ؛ لأن السرد يصبح لصيقا بالأنا الراوي .
ومصاحبا له ” إن الأنا أو ضمير المتكلم يذيب النص السردي في الناص فيتحول بذلك المؤلف إلى مجرد شخصية من شخصيات النص “([10])ويدل هذا على انصهار المؤلف الكلي في الرواية .
3-هيمنة صوت الراوي في نص قلادة قرنفل :
تُقدم لنا رواية “قلادة قرنفل” بضمير المتكلم وهذا ما يقودنا إلى أن الرواية تجسٌد ” الرؤية مع” ، فضمير المتكلم هو الذي تتحدث عبره الساردة التي تهيمن على كل مجريات الأحداث ، وذلك على الرغم من وجود شخصيات أخرى تكوِن العالم الروائي ” إن أحد أسباب القوة في رواية المتكلم هو أن تجعل الروائي مجردا تماما ، فهذا من شأنه أن يترك تأثيرا على القارئ أكثر مما يجعله يبّث أفكاره عبر شخص آخر وهذه مزية كبيرة أخرى لرواية المتكلم فهي تتيح لك أن تطرح أفكار الشخصية الرئيسية بصورة طبيعية جدا” ([11])
نلاحظ الهيمنة الكلّية للراوي على الرواية ، ونقصد بالهيمنة هي الدراية و التحكم في المسار السردي وعلى كل تفاصيل الحكاية ، ويظهر ذلك جليا عبر ضمير المتكلم الذي تتكلم من خلاله الراوية وتتحدث به عن الشخصيات الروائية التي تبدو غائبة في المتن الروائي ، وهي المكلفة بالحديث فتسترجع الراوية الأحداث من خلال الحكي عنها لا من خلال تمثيلها .
إذن النص ينهض من موقع الراوية التي تستأنس بفعل الحكي أكثر من غيرها ، وهذا يدفعها في الكثير من الأحيان إلى التماهي مع شخصيات الرواية مما يحولها إلى مجرد أقنعة مفضوحة بصوتها ، وهذا ما يؤدي إلى تراجع السرد الروائي أمام هيمنة الصوت الأحادي للرواية فتتحدث عن نفسها وتقول :
“….إني منكبة على كتابة تحقيق للجريدة التي أشتغل بها ..عمتي لا تناقشني ..ربما الموضوع الوحيد الذي لا تحشر انفها فيه..من هذا الأنف أخاف ..ولهذا أتكوم خجلا “([12])
ويتحول هذا المتكلم المفرد إلى جمع متكلم ربما تحاول من خلاله الساردة استبانة الجو العام الذي تعيشه ، إذ تعبر من خلال هذا الضمير عن أحوال البلد من زاوية رؤيتها :
” الخوف يقزمنا لا نساوي حتى بصلة ..إيه بصلة..تغيرت القيمة..البصلة ارتفعت قيمتها…“([13]) إن الرواية من خلال هذا الملفوظ تطرح قضية توضح من خلالها أحوال الناس في هذا البلد ، لكنها لا تعرضها للنقاش من خلال محاورة الشخصيات لتصل إلى حل بل تعرضها على نفسها ، فتبدأ بطرح الأسئلة التي تترك في ذهن القارئ عدة استفهامات ، تقول : ” وجدتني أتساءل : كيف أصبح الاستهلاك سريعا وكيف عم الكسل .. لا أحد يسأل .. لا أحد يناقش .. لا أحد يقارن ..”([14])
لا نكاد نجد صوتا آخر غير صوت الساردة في المتن الروائي، تحفر الفكرة في داخلها تحدث نفسها و تسمع صداها فهي لا تجد أحدا يسمعها و لا أحدا يشاركها : ” سمعت نفسي تحدثني على استدراك الأمر “ ([15]).
فالعالم الذي يحيط بالساردة يبدو ساكنا لا نرى فيه غيرها و لا نسمع إلا صوتها ، ونفهم من هذا أن الأصوات أو الشخصيات الأخرى في الرواية تعارضها وتمشي عكس تيارها ، مما يجعلنا نشمئز من هذه الشخصيات و نتعاطف مع البطلة (الساردة) فهي منذ أن دخلت لهذا البيت تشعر وكأنها تحمل سيفا بداخلها .
وعليه فإن نص “قلادة قرنفل” تحاصره ذاتية الراوية ، و لا تظهر فقط عبر ضمير المتكلم بل من كون هذا الضمير كذلك يمنح رؤية إلى الواقع من أعماق وجدان شخصية البطلة (الساردة) ، فتظهر الشخصيات و أحداث الرواية موسومة بذاتية تميل إلى الحزن و الألم و تصبو إلى الانعتاق و التمرد لكن بغير عنف أو مجرد صراخ .
” مضت دقائق جمد فيها كأس الشاي في يدي شعرت بدائرة القعر تنخر يدي ،كأني أتوطأ مع الألم .. كأني بذلك أسعى جاهدة لأعيش أقصى حالات الألم..الألم يطهرنا من الهذيان ..”.([16])
كأنها بذلك تسعى لمعالجة الألم، حيث تغلب على صور الشخصيات وتمثيلها في النص سمات الحب و الألم و تغلفها هالة رومانسية تارة و تراجيدية تارة أخرى.
وتعتمد الروائية على البعد الرمزي في تقديمها للشخصيات الروائية ، فالعّمة على سبيل المثال شر مطلق تنحصر علاقاتها بالآخرين في التسلط و القهر و الاستغلال ، لا تعرف العواطفُ أو الرحمة سبيلا إليها ولو مع أقرب الناس إليها ، فمعاملتها لابنها صالح لا تخرج عن سياسة الجزر و العصا توفر له الأموال و الامتيازات و تسهل له احتلال الكراسي و لكن ليزيد في امتدادها و انتشارها ، فكل شيء يجب أن يتم بأمرها ولا يسمح له بالمخالفة أو مجرد التفكير في العصيان ، تقول الساردة في وصف هذه الشخصية و علاقتها بالعمة :
” انّه مازال يلهو في مربعات العمة لا يجرؤ على اختراق المربعات إنْ فعل واجه الصفعة قد يتوهم أنه الأقرب إلى قلبها ، هو يقنع نفسه بذلك ألم يدرك أن تعاليم الطاعة التي يقدّمها كل صباح و مساء دليل على أنه لم يخرج بعد من الجبة ..وإن فعل واجه الصفعة “.([17])
لم تفسح الراوية المجال للأصوات الأخرى كي تعبّر عن صوتها الخاص فقد انفردت بصوتها معبّرة عمّا يؤرّقها ، وبهذا تكتسب الرواية طابعاً مونولوجياً يفتقد لتعدد المواقف و الرؤى ووجهات النظر “يرى باختين أن الصنف المونولوجي اكتسب تعبيره من الفلسفة المثالية ذات المبدأ الواحدي الذي يؤكد وحدة الوجود ..إذ ينشأ وعي واحد ووجهة نظر واحدة “([18]) ،بحيث لا يرى القارئ العالم إلا من خلالها ، فتبرز “أنا” الساردة بشدة معبرة عن نرجسيتها و تحكمها في مسار السرد ووحدانيتها في مقاومتها كل أشكال الخيانة تقول : “وجدتني داخل فضاء فسيح ..تعثر أنيسي و تلاشى ، تنبهت إلى الساعة في يدي اليسرى ..عزمت على السرعة حتى لا أتأخر في العودة ويتحرك أنف العمة “([19] )
جعلت الساردة الشخصيات بدون وجود إنساني؛ فالصمت قد خيم عليها وشلها عن أي فعل أو حركة (أم البطلة و أبوها، فاطمة ، زهرة ، زوج العمة ، صالح) ، وقد نجد استثناء حضور صوت فاطمة وهي تتحاور مع البطلة ، فالساردة تريد من خلال هذا الصوت تضخيم مشهد الرعب في البيت حيث قالت فاطمة واضعة علامات استفهام في عقل الساردة :
” دعيني أطهره ..دعيني أغسله بدموعي على زهرة..كانت وجهي الآخر الذي أنتظره..أريد لأعمدة البيت أن تتصدع “.([20])
حتى فاطمة هذه لم تعبر بفعل عن موقفها فاكتفت بالبكاء؛ وهذه ردود فعل أي امرأة عندما تصادفها مشكلة لا تقدر على حلها تكون الدموع هي سلاحها ” أغسل بدموعي البيت” وتقول : ” دعيني أشق جدار البيت بالبكاء “.([21])
إذن المجال ليس مفتوحا أبدا لحديث الشخصيات الموجودة في الرواية، و إذا التفتت الراوية لواحدة من هذه الشخصيات يكون لملء مساحة وسد ثغرات في السرد أحيانا، فمثلا تحاور البطة عائشة لأنها تريد أن تنطقها بإرادتها هي لاكتشاف و اكتساب معرفة من خلالها.
إن صوت بطلة قلادة قرنفل هو صوت المرأة المثقفة وهو الصوت المحوري في هذا النص ، يهيمن على فضاء الرواية ويقاوم المرأة التقليدية و الأمية مثل صوت فاطمة وزهرة وعائشة وذلك نتيجة لإحساس الساردة العميق بالقضية التي تعالجها ، فهي تكتب عن أزمة المثقف الذي يعيش في وسط اجتماعي مغاير لأفكاره ومبادئه .
فمنذ الظهور الأول لفاطمة في الرواية وهي تحتل موقع الانزواء بالهامش تختبئ تحت سلطة العمة (الحاجة فضيلة) تقول : “وفاطمة على يمينها تصب عليها الماء في الطست”.([22])
فهي تدبر شؤون المنزل بلا كلل و لا ملل تقول ” لا بأس سوف تعيد تنظيم الأشياء”.([23])
ونجدها كذلك عند نهاية الرواية مختبئة وراء نفسها ، مهملة لتحركات العالم اليومي الذي يتحرك دائما دونها إنها تعطي لجسدها حرية الغياب . والرواية انطلاقا من رؤيتها تحاول أن توقظ صوت الوعي داخل ظروف اجتماعية و إنسانية شديدة التدني .
وصوت الأنا بلغته الممثلة بالمفارقة و بالقدرة على تبطين صوت الأنثى الذي يشهد العزلة عبر حلقات التاريخ ، إنه وعي المثقفة فصوت الراوية هو فهم عميق و معايشة لواقع المجتمع ، فهي تقف ضد التخلف و القهر الاجتماعي تعبر عن شتات الفكر الذي تعيشه شخصيات الرواية ، تراقب البطلة هذه الشخصيات وهي تعاني من قهر الحاجة فضيلة :
“الابن يسير وراءها و الحفيد أيضا، الزوج يراقب سيره وخافت أن ينزاح عن خط القافلة، الآن القافلة بامتداد شارع المدينة الكبيرة..التحقت بالسير من الوراء زوجات ابنيها ثم الأحفاد..الحاجة فضيلة أو عمتي ترسم وثائق العائلة منتشية بجر العربة”.([24] )
يمتلك هذا الملفوظ السردي صورةً لواقع معاش، يجتمع فيه الرمز بالدلالة كبؤرة استقطاب لحركة الشخصيات ، لقد صورت الواقع المرير الذي تعيشه كثير من الأسر في عالمنا العربي ، وهذه الصورة -صورة القافلة- لها بعد آخر يتجاوز حدود العائلة إلى المجتمع ومن ثم صورة الوطن ككل فهي تطرح أزمة الحرية وهي قضية شائكة في كل المجتمعات وخاصة العربية ، فمفهوم الحرية متعلق بمعنى الانطلاق والتطور من أجل التغيير والتقدم والابتكار ، ويكون ذلك بإلغاء قوانين و محو عادات وتقاليد أو تغيير سلوك أو ممارسات ، فصورة الشخصيات تكشف عن أزمة الإنسان حين تصادر حريته فتصبح حياته يحكمها قانون التبعية الذي ستتوارثه الأجيال ؛ وهذا ما رمزت له الروائية بالقافلة : الابن يسير و الحفيد وتلحق بالسير زوجات (26[25]).
الابن ثم الأحفاد والزوج يخاف من الانزياح على خط القافلة . وتكاد تكون بذلك أزمة الحرية أم الأزمات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و الفكرية، وإنه زمن تعطل فيه السؤال وتعلم فيه الإنسان لغة الانحناء، تقول الراوية : كيف أصبح الاستهلاك سريعا وكيف عمّ الكسل.
تحاور الساردة في هذه الرواية التاريخ، تحاول استرجاعه من خلال الحفر في الذاكرة، فهي تريد أن تسترجع الزمن الماضي لهذا توجه الشخصيات و تهندس الأحداث وذلك سعيا منها لإقناع المتلقي و توجيهه وفرض رؤيتها عليه.
والذاتية المفرطة التي تحكم أجواء الرواية ورطت النص الروائي في ضرب من السيولة المتدفقة من الطاقة الشعرية، فهي تقترب من خصائص الشعر و طرائقه في التصوير وربما كان هذا التدفق سببا في تكرار بعض المقاطع / اللوازم من قبيل :
” يحدث أن يمر أطفالنا من هنا لعلنا بهم نتطهر من زيفنا ” ([26]) وتتكرر ص 133 وكذلك « : لعل أطفالنا يمرون من هنا و يفضحون الأيادي المغتصبة في الغياب ” ([27])
وكذلك تكرار ” أنا والقلادة في الملفوظ التالي :
” أنا و القلادة ترتطم قدماي بأحجار ..”
” أنا والقلادة ..متفوقان عن اللحظة “([28] )
” ليلنا مضاء بالنجوم
أنا والقلادة
وانطلقنا
أنا والقلادة “[29]
” أنا والقلادة
سائران
” أنا والقلادة
طريقا كله أضواء استغليت نورها فبدأت كل مرة أرفع القلادة حتى تكاد تقارب عيني لأمعن فيما صنعت يدي “([30])
وهذا ما تتميز به الرواية المونولوجية ([31]) الأحادية الصوت وهذا النوع من الكتابة كما سبق الذكر لا تتعدد فيه الأصوات و بالتالي لا تتعدد المواقف و الآراء و المعارف
فتخضع بذلك إلى هيمنة أسلوب واحد على بنية النص الكلية يوجه الشخصيات ويهندس الأحداث ” ويتوسل هذا النمط المونولوجي إلى تعميق شعرية السرد بعناصر شعرية وغنائية “[32] ؛فتسعى الساردة بالتمويه الشعري والطاقة الشعرية و اعتماد تقنية التشخيص والوصف الدقيق للشخصيات و الفضاء ، وهذا بالطبع ما يجعل الكاتبة تفرض رؤيتها الاديولوجية ، وبالتالي تصبح دور القارئ أمام هذا النص الروائي المونولوجي سلبيا موجها.
إن أهم ما في الرواية التي تكتبها المرأة هو أنها تحمل رؤيتها للعالم من حولها وترصد جماليات بنائه بعيون أنثوية ، ” إن المرأة حين تكتب فإنها تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزمن لتعلنه أو تلعنه في حوارها أو صراعها “[33] ومن ها هنا نلتمس خصوصية كتابة المرأة فهي نابعة من حساسية المكانة التي تحتلها و نظرتها المغايرة للمجتمع .
ونعتقد أن مشكلة الكينونة الاجتماعية هي الهاجس الأساسي الذي يمكن أن تعاينه المرأة في ظل مجتمع يفرض عليها وضعا خاصا في الحياة ، وهي لهذا تحاول بطرق شتى أن تعبر عما يعتريها من مشكلات و خاصة الاجتماعية منها في صورة طرح قضية عبر الكتابة ، ومن خلال طرحها لهذه القضية تجعل القارئ يشعر بها ومنه يتحقق الأمل في التغيير إلى وضع أفضل.
وتكشف القراءة الأولى لقلادة قرنفل عن وعي الذات كمحفز للبحث عن الهوية الاجتماعية ومناقشة العراقيل والمعوقات التي تحد من هذا الوعي ومن بينها الحاجة فضيلة التي تمثل جيلا سابقا لجيل البطلة ، وكذلك صالح الذي يمثل الجنس الآخر ، حيث تعالج قضية المرأة بوصفها قضية اجتماعية و ثقافية إنسانية تبحث فيها عن وجودها و قيمتها الإيجابية ، وبالتالي فهو سؤال عن الهوّية تسعى من خلاله الروائية إلى إبراز الصوت الأنثوي للبطلة ككيان مستقل.
يعد فضاء هذا النص فضاء مؤثثا بأنامل أنثوية ومن هنا نتساءل كيف شكلت الراوية البطلة فضاءها من خلال رؤيتها لعالم الأنثى ؟
4- صوت الراوي وفاعليته في تشكيل الفضاء :
لقد لفت نظرنا أنّ الأنثى هي التي تشغل هذا الفضاء ، فهي التي هندسته من خلال فعل الحكي و انطلاقا من مخيالها كامرأة ، حيث تنكشف لنا بصمات هذه الذات الأنثوية في كل أرجائه.
ويظهر هذا جليا من خلال غرف البيت انطلاقا من علاقتها بأصحابها فهي ” غطاء للإنسان يدخلها فيخلع جزءا من ملابسه ، ويدخلها ليرتدي جزءا وعندما يألفها يتحرك بحرية أكثر ، وإذا ما اطمأن (…) بدأ التعري فيها ، التعري الجسدي والفكري ، لكنه عندما يخرج منها يعيد تماسكه ويبدو كما لو أنه خرج من تحت غطاء خاص.”([34])
وأنثى “قلادة قرنفل” لا تملك كامل حريتها وسط هذا الفضاء المغلق الذي تخنقه العمة بجبروتها ، فهي تلجأ للغرفة لتحتمي فيها من الخوف الذي يطاردها ،إن فضاء الغرفة هنا هو فضاء مفتوح نحو الداخل بالنسبة للمرأة (البطلة) يحررها من الرقابة ويطلق العنان لمكبوتاتها بعيدا عن المخاوف ، انه فضاء للتداعي و البوح و التذكر فهو حجرة سرية تعزل فيها الأنثى نفسها ، إذ يمنح للبطلة فاعلية فيجعلها قادرة على الاختراق و التجاوز ومن خلاله يمكن أن نطل على الحالة النفسية لكل أنثى داخل المتن الحكائي.
إنّ بطلة الرواية شخصية متعلّمة تمارس مهنة الصحافة ، تجد صعوبة في التعايش والعيش مع سكان البيت ، فتهرب إلى العمل وعند العودة منه تهرع إلى غرفتها فهي الملاذ الأخير و المأوى و السكن الذي يعزلها ويحميها.
لذلك احتلت الغرفة المرتبة الأولى من حيث اهتمام الساردة ، وذلك قصد تقريب المتلقي من العمل الأدبي و إعطائه صورة كاملةً و ملمةً بكل الجزئيات والتفاصيل التي تكشف عن خصوصية الشخصيات الأنثوية .
وغرفة نوم البطلة في هذا النص هي فضاءٌ للمغامرة ، حيث مُزِجَ فيها الخيال مع الواقع ليكشف عن الجانب المسكوت عنه من حياة البطلة ،إذ يستنطق المكبوت من خلال الجسد الأنثوي الذي يتصدى للعّمة عن طريق العشق والجمال الذي رمزت له بالقرنفل وعطره الذي يمنحها القدرة على التحدي .
فجاء فضاء مملوءا بالأحلام يحمل عدة أبعاد دلالية حيث يكشف عن وجع وولع الأنثى ، وخوفها من العمة التي استبدت بشخصيات الرواية ، وبالتالي فقد احتضن الممنوع والمرغوب ، إذ جمع بين المتناقضات من خلال الكشف عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها البطلة .
وقد منح هذا الفضاء الذي يتّسم بالانغلاق لكاتبة الرواية القدرة على الولوج إلى عالم المرأة ورؤيته عن كثب ، متخذةً كل من زهرة و فاطمة نموذجا لشخصيات نسويه موجودة في أي مجتمع من المجتمعات.
ويظهر منذ بداية الرواية انحياز الراوية إلى هذه الشخصيات الموجودة في المتن الروائي بنبرة من الشفقة تقول :
” البيت صحراء قاحلة و جسد زهرة يكاد يذوب من الذبول وفاطمة تحيا من أجل اليوم المنتظر “([35]) .
والفضاءُ يظهر بكونه يحمل خصوصية من خلال الأثاث الذي يملؤه بفعل من البطلة ، فالأثاث يمكن أن يساهم في إبراز الجوانب المعنوية للشخصيات المرتبطة به ؛لأن وصف الأثاث ” هو نوع من وصف الأشخاص الذي لا غنى عنه فهناك أشياء لا يمكن أن يفهمها القارئ إلا إذا وضعها أمام ناظريه ، الديكور و توابع العمل و لواحقه “([36]) ؛فالأثاث هو جزء من الفضاء يكشف عن الحالة النفسية و المستويات الاجتماعية للأشخاص الساكنين فيه
والملاحظ أن الكاتبة لم تصف الفضاء كأثاث و جدران بل أخرجته من كونه ديكورا ذا أبعاد جمالية إلى عناصر غنية بالدلالات و صفت من خلالها الحياة الداخلية لشخصيات الرواية ، ونذكر من الأثاث الذي استعملته الساردة السرير و المرآة اللذين يملآن الغرفة ويشغلان المساحة السردية فمنذ بداية الحكاية كان لهما دورا بارزا في تقديم فضاء الغرف وفي الكشف عن أغوار و أصداء الأنثى الذي ينبض بوجعها هذا الفضاء .
أ/السرير :
إنّ السرير أثاثٌ أساسيٌ وضروري في الغرفة ، فهو موجود في غرفة نوم البطلة كما هو موجود في غرفة نوم زهرة و فاطمة وحتى العمة ( الحاجة فضيلة ) ،فقد شكل فضاء التقاء بين البطلة وزهرة و فاطمة والحاجة فضيلة ،فالراوية تقحّمه في المتن كشخصية مستقلة منتجة للفعل ، فالسرير الذي أثّث غرفة الساردة كان مبعث أحلامها التي تتسم بالرومانسية ، وقد جعلت منه الراوية وسيلة بواسطتها تغوص في أعماق الحياة الداخلية لكل من فاطمة وزهرة ، وتنير به المناطق المعتمة والخفية ،وقد عكست الكاتبة من خلال السرير فضاءات ذات أبعاد ، نفسية و اجتماعية متعلقة بكل أنثى في الراوية ، فسرير الساردة جاء مفعما باللطف من خلال علاقته الحميمية معها :
” أخذتني هدنة ..احتواني السرير بلطف يشكر عليه ..كيف يعقل ..هل يدخل الجمال هذا البيت ..آه قد ضيع أنف العمة هذا الحدث..كانت ستسمعني درسا لن أنساه كدت أخترق السرير و أنا انتشي في نفسي ..وجدتي أضحك وحدي أقفز بسرعة نحو المرآة ..أسعى جاهدة لكي اضبط ملامح الفرحة فأنا أشعر بشيء يهيج بداخلي .. أحاول أن أتبين هذا الذي يحدث خفت من المرآة ..من نفسي .. شعرت بالخوف كأني أخبئ رجلا في غرفتي ..يقبلني في الخفاء ..”.([37] )
ويكشفُ لنا السرير عن عالم فاطمة وزهرة ،فقد كان مصدر قلق بالنسبة لزهرة التي حولتها العمة من طفلة إلى امرأة تلبس أنوثتها ليلا وما لبثت أن اكتشفتها حتى وجدت نفسها خادمة في منزل الحاجة بحجة أنها لا تستطيع الإنجاب ، تقول الساردة :
” ربما فهمت جفافها .. امتص العقم أنوثتها و سحبت فاطمة ما تبقى فوق سريرها..حتى رائحة صالح غادرت غرفتها حولوها إلى خادمة بعد أن أيقظوا المرأة بداخلها “([38])
كان السرير يجمع زهرة بزوجها صالح ، أصبح فارغا يشكو غيابه تتألم هذه الشخصية وهي الزوجة الأولى جراء غياب زوجها فتقول عنها الساردة : ” حضنت عريها وأغلقت أذنيها حتى لا تصلها أصوات السرير المؤثث بجسدي صالح وفاطمة“([39])
فالسرير يحمل آلام زهرة فطالما أخافها : ” السرير الذي أخاف زهرة مرارا و جعلها تهرب ليلا إلى المطبخ ..زهرة المصفوعة ..زهرة التي تحمل كل يوم رخصة موتها “.([40] )
أما فاطمة فهي تعيش من أجل اليوم المنتظر تقول الساردة : ” ملأته فاطمة و غادرته زهرة“([41]) ؛ فكان السرير بالنسبة لفاطمة فضاء لأمل منشود ففاطمة تأمل في أن لا يصيبها ما أصاب زهرة وتنتهي نهايتها تقول الساردة :
” إنّها ليلة فاطمة وجدتها تنتظر هي أيضا لم تطفئ النور تركته يضيء الغرفة ..جعلته يضيء جسدها..الذي غطته حريرا أبيض كانت قد جلبته معها وهي عروس “ ([42]) .
مثل السرير للبطلة الأمان و الاطمئنان والسكينة فهو فضاء أحلامها و آمالها وسفينة تحملها في أفق رحب ، أما زهرة فهو مصدر تعبها و عياءها و قهرها و فاطمة يمثل لها الأمل المنتظر .
عكس السرير نفسية كل أنثى في الرواية ، و بالتالي هو فضاء كشف عن حياة المرأة الداخلية التي تلجها حين مغادرتها المجتمع الخارجي الذي يمارس ضغوطا مختلفة عليها .
ب/المرآة :
هناك تطابق لغوي تام بين كلمة المرأة و المرآة وربما ذلك راجع إلى أن المرآة تعكس شخصية المرأة و تعكس حالة تقلب مزاجها ، فالمرآة رفيقة المرأة في البيت و في السيارة وفي حقيبة اليد بل وفي كل مكان ترى فيه المرأة وجهها و جسدها.
فتطيل المرأة وقفتها قبالة المرآة تنظر إلى جمالها و محاسنها…تسرح شعرها تتأمل هندامها وزينتها، وقد قيل في بعض الأمثال : المرآة روح المرأة كما السيف روح المحارب.
وإذا كانت المرآة هنا تعكس مظهر المرأة الخارجي فهل هي تعكس أيضا شخصيتها الداخلية ؟
كانت المرآة من بين الأثاث الضروري المكون للغرفة في هذا النص إلى جانب السرير، تعبر عن خصوصية المرأة وعن أنوثتها و بالتالي المرآة عنصر غني بالدلالات وقد جاءت حاضرةً بقوةٍ في هذا النص تقول الساردة : ” خجلت من المرآة..من نفسي ..شعرت بالخوف ..”.([43])
تعطي الراوية للمرآة دلالة الكشف، فالبطلة عندما تنظر إلى المرآة تحاكي شعورها : ” المرآة لا تكذب..تصنعي أمام حقيقته “([44]) يؤكد هذا الملفوظ السردي على أن المرآة تراقب حركات البطلة تفضحها وتعكس أفعالها ، وفي الوقت نفسه هي بمثابة الصديق الذي يؤنس و حدتها ، فالمرآة تملأ الفراغ الذي تعيشه البطلة في البيت :
أضأت الغرفة .. وقبل أن أتجه صوب الباب لفتحه نظرت إلى المرآة نظمت فوضى نفسي “.([45] )
تساعد المرآة البطلة في احتفاظها على خصوصياتها داخل الغرفة فيفضل المرآة عادت البطلة لوضعها الطبيعي قبل فتح الباب، وذلك خوفا من أن يفضح سرها.
إن بناء الغرفة جاء منسجماً مع التركيبة الذهنية للأنثى التي تشغلها فقد منحت بعداً جماليا لها ، حيث عكست اهتمامات المرأة و انشغالاتها ؛ لأن الفضاء الذي لا يعبر عن أهله بغير شك يفقد بعده الجمالي و قيمته الإنسانية .
خاتمه
تعد رواية ” زهور كرم” نموذجا لافتا لصوت المرأة وصرختها و معاناتها داخل مجتمع تكبله العادات والتقاليد أرادت الكاتبة أن تعبر عنه بشكل واضح في النص فاختارت أن تتحدث بصوت امرأة و كانت هي بطلة الرواية مستعينة بضمير المتكلم الذي يعبر عن الأنا الأنثوية ، مشكلة بذلك فضاء تملؤه الإثارة و العشق و الجمال والمغامرة والتجاوز و الاختراق تتخذه الراوية سبيلا للبوح ببعض أوجاع المرأة.
ورد المنظور الروائي في عدة مصطلحات الرؤية السردية زاوية النظر وجهة النظر البؤرة المموقعة [1]
حميد حميداني بنية النص السردي (من منظور النقد الأدبي ) المركز الثقافي العربي الدار البيضاء (ط-2) ص15[2]
ينظر جيرار جينت ، عودة إلى خطاب الحكاية ، ت محمد معتصم ، المركز الثقافي العربي ، (ط-1) 2000ص97[3]
ينظر السيد إبراهيم، نظرية الرواية دراسة لمناهج النقد في معالجة فن القصة دار قباء للطباعة القاهرة (ب-ط) 1998ص145، 144[5]
سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي ( الزمن السرد التبئير ) المركز الثقافي العربي بيروت (ط-1) 1989ص291[6]
صلاح صالح، سرد الآخر، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء(ط-1)2003 ص62[8]
عبد المالك مرتاض ، نظرية الرواية ، بحث في تقنيات السرد المجلس الوطني للثقافة والفنون (ب-ط)1998 ص 158 [9]
جون برين ، كتابة الرواية ، ترجمة محمد ياسين ، دار الشؤون الثقافية العامة (ط-1) 2000ص97[11]
زهور كرم، قلادة قرنفل، دار الثقافة الدار البيضاء (ط-1)2004ص07 [12]
ينظر ميخائيل باختين ، قضايا الفن الإبداعي دستويفسكي ، ترجمة جميل نصيف التكريتي ، بغداد دار الشؤون الثقافية (ب-ط) 1986ص19[18]
زهور كرم ، قلادة قرنفل ص 185[20]
بحوصي نبيلة،فضاء الوطن في الرواية النسوية المغاربية ، مجلة الاداب واللغات،جامعة الاغواط-الجزائر، العدد20 ماي 2017(ص 166)[25]
زهور كرم ، الرواية مصدر سابق ص14[26]
الرواية المونولوجية توجهها أيديولوجية سابقة محكوم عليها بالتسلط [31]
ميخاصيل باختين ، الملحمة والرواية ترجمة جمال شحيد ، بيروت (ط-1) 1982ص30[32]
محمد نور الدين أفاية ، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش إفريقيا الشرق الدار البيضاء (ب-ط)1988ص9[33]
ياسين النصير ، الرواية والمكان دار الشؤون الثقافية العامة بغداد(ب-ط)1986ص78[34]
ميشال بوتور ، بحوث في الرواية الجديدة ت:فريد أنطونيوس ، منشورات عويدات بيروت (ب-ط)(ب-ت)ص53[36]