
“دينامية التلقي/القراءة في سوسيولوجيا الأدب”
د/بوسكين مجاهد- جامعة معســـــــــــــكر ـ الجزائر
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية العدد 41 الصفحة 43 .
Abstract:
«reception dynamics/ reading in literary sociology» (a descriptive approach to reception/reading, receiver/reader, referential context)
The present paper, entitled «reception dynamics/ reading in literary sociology» (a descriptive approach to reception/reading, receiver/reader, referential context), handles the question of reading/receiving with regard to the whole social dimensions that have relation or impact on the process of receiving literary works. Moreover, it tackles the mutual influence between literature and effective social institutions, and their role in orienting texts, and, therefore, their reception since the latter one – from a sociological point of view – does not depend on the readers only, but it is the result of other aspect such as: customs, tradition, administrative institutions, spirituality, cultural beliefs,…before it comes to the reader’s judgment.
Key word:
- Literature and sociological relationships.
- Reception types, reading in the sociological field.
- Reception/reading systems.
- Types / systems / referential context.
-الملخص باللغة العربية:
تتدارس هذه الورقة الموسومة: “دينامية التلقي/القراءة في سوسيولوجيا الأدب”، (مقاربة توصيفية استقرائية للتلقي/القراءة، المتلقي/القارئ، سياق المرجعية)”، إشكالية التلقي/القراءة في ضوء شبكة العلائق السوسيولوجية والمخاضات التي تأخذها، وما يتجاذب ذلك أناء المراحل التي يقطعها الصنيع الأدبي، حيث تحاول هذه الورقة أن تستقصي كل الأبعاد المجتمعية التي لها علاقة أو تأثير -سواء من قريب أو بعيد، وسواء بكثير أو بقليل- على مسارات تلقي الأعمال الأدبية، وتستطلع بالمقابل التنافذ الكامن ما بين الأدب والمؤسسات الاجتماعية الفاعلة، والدور الذي يلعبه في توجيه النّصوص ومن ثم مسألة التلقي، طالما أن التلقي في المنظور السوسيولوجي لا يحتكم فقط إلى جمهور القراء، بل تتقاذفه حيثيات أخرى كالعادات والتقاليد والتنظيمات الإدارية والمعتقد، وسائر الوسائط الثقافية…قبل أن يتلقاه الجمهور إياه، ويكون لذلك تأثير على ذائقته وبالتالي أساليب تلقيه.
-الكلمات المفتاحية:
1-الأدب وشبكة العلائق السوسيولوجية.
2-أنماط التلقي/القراءة في المنظومة السوسيولوجية.
3-أنساق التلقي/القراءة.
4-الأنماط/الأنساق، وسياق المرجعية.
تمهيــــــــد:
تذهب أغلب الدراسات التاريخية والنقدية إلى أن التعاقد الفعلي –في شكله العام- بين علم الاجتماع والظاهرة الأدبية وقع في مطلع القرن التاسع عشر، على يد الناقدة الفرنسية “مدام دي ستايل” (1766-1817) في دراساتها التي أسست لسوسيولوجيا الأدب كفرع سوسيولوجي خالص، يقيم حضورا ذاتيا وخاصا به انطلاقا من البحث في البراديغم السوسيولوجي، وقد تجلى هذا بشكل صريح في صنيعها “الأدب وعلاقته بالأنظمة الاجتماعية” الذي قاربت فيه بين مفهومي الأدب والمجتمع، مسلطة الضوء على تأثيرات “الدين والعادات والقوانين في الأدب، ومدى تأثير الأدب في الدين والعادات والقوانين”،([1]) داعية إلى تدارس الآداب الأجنبية في ضوء مرجعياتها الاجتماعية والثقافية والإيكولوجية الحاضنة لها.([2])
ثم تعززت دعائم النقد الاجتماعي مع دراسات المؤرخ والناقد “تين تارين”([3]) العام (1863) بإصداره “تاريخ الأدب الإنجليزي” الذي دعا فيه إلى التعامل مع الأدب ضمن قوانين الحتمية، كما الظواهر الطبيعية بعيدا عن التفرد والخصوصية الذاتية، وموضعة قوانين عامة بهذا الخصوص من خلال تاريخ الأدب الإنجليزي، مبررا ذلك بأن “العمل الأدبي يتحدد بواسطة جملة من العوامل تمثل الحالة العقلية العامة والظروف المحيطة”، أوجزها في ثلاثة عناصر أساسية هي “الجنس، البيئة ،العصر”.
أما في شكله الخاص، فيمكن القول أن المشروع “السوسيو أدبي” عرف زخما من البحوث والدراسات تجاذبته من نواح مختلفة، بدء من أعمال “هيجل” التي ربط فيها بين الإنتاج الروائي والمتغيرات الاجتماعية، معتبرا أن التحول من الملحمة إلى الرواية حدث بفعل اكتساح البرجوازية التي كرّست جملة من المبادئ الأخلاقية والتعليمية، فمرورا بأبحاث “فردريك أنجلز”، وإلحاقها الإنتاج الروائي بالصراع بين طبقات المجتمع الفاعلة فيه،([4]) وكذا اشتغالات “جورج بليخانوف” التي حاولت التمييز بين الأدب والإيديولوجيا، إلى إسهامات “فلادمير لينين” التي تدارست “تولستوي” في كنف تاريخ روسيا بين (1861-1904)، الفترة التي شخصها الكاتب في معظم إنتاجاته الأدبية، فأبحاث “أرنولد كيتل” عن الواقعية والحكايات الخرافية، لتأتي النقلة النوعية مع “بيير ماشيري” في كتابه “من أجل نظرية للإنتاج الأدبي” وتطبيقاته على رواية “الفلاحين” لـ “بلزاك”، ثم الدراسات المميزة لـ “ميخائيل باختين” وخاصة منها “الكلمة في الرواية”، و”قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي”، ليكلل الحقل السوسيو أدبي بـ “المنهج البنيوي التكويني” مع الناقد الفرنسي “لوسيان غولدمان” وفرضية أن السلوك الإنساني يشتغل دائما على خلق توازن بين الذات الفاعلة وموضوع الفعل .. ممّا يجعل الوقائع الإنسانية تتمظهر في عمليتي “هدم وبناء” متراتبتين، على البحث العلمي أن يجليهما معا،([5]) وكذا فرضية “رؤيا العالم”، ثم مباحث “جاك لنهارت” حول الأدب والقراءة والتنافذات المجتمعية، التي يأتي في طليعتها “قراءة سياسية للرواية” (1973)، والأعمال الرائدة لـ”لوتمان” التي اشتغلت على تطوير الآراء النظرية لـ “غولد مان”، مؤسسة لجدلية النص بين الداخل والخارج في كتابه “بنية النص الأدبي” (1970)، فانتهاء إلى علم اجتماع النص مع “بير زيما” في مؤلفه “النقد الاجتماعي”، وتحليله لرواية “الغريب” لـ “ألبير كامو”، وكذا دراسات “ميشيل زرافا” “الأسطورة والرواية”…
وطبعا مع كل دراسة من هذه الدراسات كانت سوسيولوجيا الأدب تخطو خطوات نحو الأمام، الشأن الذي جعل علم الاجتماع ينتقل من مرحلة إثبات الجدوى إلى مرحلة التخصص في حقول مجتمعية بعينها، بتفريع مباحثه واشتغالاته إلى فروع متنوعة ومتعددة، كلا منها يضطلع بمجاله درسا وتحليلا، وهي الفروع التي سرعان ما تحللت إلى فروع أخرى، مثلما هو الشأن لسوسيولوجيا الأدب التي انتقلت من وظيفة الاهتمام بتداخل الظواهر الاجتماعية في الأدب واستخراج القوانين العامة التي تضبط هذه العلاقة، إلى مدارسة المراحل التي يقطعها الصنيع الأدبي “إنتاجا” و”نشرا”، وكيفية استقباله من طرف القراء باعتبارهم مستهلكين للمنتوج، بما في ذلك الدور الذي ينهض به الإبداع والمبدع في الوسط المجتمعي وأوضاعهما بداخله .. لتتفرع -سوسيولوجيا الأدب- إلى سوسيولوجيات متعددة أهمها:
-سوسيولوجيا الجماعات الأدبية.
-سوسيولوجيا المؤلفات الأدبية.
-سوسيولوجيا التلقي/القراءة، التي سنتوقف عند أبرز تداعياتها في هذه الورقة.
الأدب وشبكة العلائق السوسيولوجية: (ديباجة عامة):
لعل أهم سؤال يساور الباحث والبحث معا حيال إشكالية موقع الأدب من شبكة العلائق السوسيولوجية: هو إلى أي مدى يخضع الأدب للواقع من جهة؟ وأدوات تنظيم المجتمع من جهة ثانية؟ وما هي المعايير المهيمنة في كل ذلك؟ ثم ما محل العملية الإبداعية من الإعراب في هذا الخضم؟
وهذه الأسئلة وأخرى لطالما كانت مثار اهتمام الدراسات الأدبية والسوسيولوجية، وشكلت هاجسا بالنسبة للكثير من الباحثين، بما جعلهم يتفاعلون بمعيتها، ويخصصون حيّزا معتبرا من الأبحاث لتدارسها، سواء سعيا منهم للإجابة عنها، أو سواء بالتنظير لملابساتها وتمفصلاتها الإشكالية والمعقدة، مثلما هو الشأن للإيطالي “ّفيكو” «Vico» الذي أفرد جانبا كبيرا في إصداره “مبادئ العلم الجديد” لحيثيات الامتداد المجتمعي في الأدب وطبيعته والطرائق التي يأخذها، كاشفا بأن هناك ترابطا عضويا بين ظهور الأجناس الأدبية والمجتمع، يخضع لعامل ذائقة أفراده، وأن اكتساح أو انتشار جنس أدبي بعينه لفترة معينة في مجتمع معين، يحتكم جدليا للذوق الذي يسوده ويستأثر بهذا الجنس. وبرأي فيكو أن ما يثبت هذه الحقيقة هو جملة الأمثلة الحية المستلهمة من تاريخ الأدب، من قبيل سواد الملاحم في التجمعات العشائرية، وسواد الدراما في الحضائر المدنية، وارتباط الأعمال الروائية بظهور المطبعة والمدارس التعليمية… وهكذا دواليك، ممّا يعني أن الجنس الأدبي ينشأ تبعا للمتغيرات والتحولات التي تعترض المجتمعات، أي أنه –بطريقة أو أخرى- يرزح تحت طائل سيرورة التواصل المجتمعي وتداعياتها.
ولا تشذ “الباحثة دي ستايل” (Madame de Staël) عن هذه الفكرة، وإن كانت تقرأها بمنظور آخر، مؤداه أن طبيعة العلاقة ما بين الإبداع الأدبي والمجتمع تكريس حتمي، فبنظرها “كل عمل أدبي يتغلغل في بيئة اجتماعية، وجغرافية ما، حيث يؤدي وظائف محددة بها، ولا حاجة إلى أي حكم قيمي، فكل شيء وجد لأنه يجب أن يوجد”،([6]) بتعبيرها.
وللتدليل على هذا بعمق خصصت مؤلفا برمته، لكشف التنافذ العلائقي القائم ما بين الأدب والمؤسسات الاجتماعية، عرجت في طيّاته على العوامل التي لها دورا فاعلا في توجيه النصوص، كالعادات والتقاليد، والتنظيمات الادارية، والمعتقد والوسائط الثقافية… وسوى ذلك، مضمّنة صنيعها بأمثلة لنماذج أدبية حاكت هذه المناحي والعناصر.
وفي الفكر “الماركسي” أيضا، وإن بدى متناقضا إلى أبعد الحدود، باعتراف الكثير من النقاد والباحثين، أقر “ماركس” (Karl Heinrich Marx) بحتمية التماثل السطحي بين النتاج العام والنتاج الثقافي، بما معناه أن هناك صلة ديالكتيكية بين المادة والفعل البشري في المجتمع على مستوى سائر الأصعدة، حتى الثقافية منها ،ففي تقديره “الحياة هي التي تكون العقل النظري، والعقل فيها تابع للمادة”.([7])
وبمزاعم “ماركس” جميع الإنتاجات الإنسانة تقبع تحت تأثير المادة، المادية الملموسة منها والفكرية المعنوية، وبمعنى أدق، ما تنتجه الآلة في المؤسسة الصناعية، وما يتمحض عن الفكر البشري (العقل) بالنسبة له سيّان، أي أن الكل يقترن بالقوة المادية، وبالأحوال الاقتصادية والظروف السياسية، والعلاقات الطبقية للمجتمع.
وغير بعيد عن هذه الرؤى تطالعنا الدراسات السوسيولوجية بنظرية “تين” (Hippolyte Adolphe Taine) التي كلّلها بــ: ثالوثه الشهير (البيئة، النوع، الزمان)، بعد أن استلهم نظريات كل من “فيكو” ومدام “دي ستايل”.([8])
وبشكل عام، هذه الأطاريح والنظريات -التي جاشت به قريحة هؤلاء- هي في الحقيقة التي شكلت اللّبنات الأرضية الأولى والعامة للمفاهيم السوسيولوجية، بخصوص الأعمال الأدبية داخل الشبكة العلائقية للمجتمع، بما فيها من مظاهر وأحداث وتجاذبات … وعدا ذلك.
وهو ما غذى الاعتراف بالأدب كمؤسسة اجتماعية، مؤسسة تحترف اللغة كتقنية لرصد (التفاعل التواصلي) القائم بين الإنسان ومحيطه الذي يقبع فيه، أين يتقاطع مع الكثير من التفاصيل، التي تجسد في لبها نماذج حياتية مختلفة ومتنوعة، فالكاتب إنسان كباقي البشر لا يحيا منعزلا عن الساحة الاجتماعية، ولا يعيش بمفرده في فضاء آخر أو عالم آخر، مغاير للعالم الذي نعرفه، ولذلك يظّل الظّل والمدّ المجتمعيين –شاء أم أبى- حاضرين في إبداعاته، فهو وإن كان يبث في إبداعاته إرهاصات جوانية تخصّه، وتهجس بما تجيش به قريحته، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتملص من جماعته ومجتمعه، وبالتالي لن تخلو البتة إنتاجاته الأدبية من المسحة الاجتماعية ومن التداخل بطريقة أو أخرى مع فكرة الجماعة التي ينتمي إليها، ممّا يعني أن الابداع الأدبي تنافذ وتجاذب بين الفردي والجمعي، المفضي إلى التشاكل كمؤسسة، سواء حمل القيّم المهيمنة في المجتمع وقام بنقلها حرفيا، أم لجأ إلى أسلوب المحاكاة الفنيّة، أو أشياء من هذا القبيل.
فالأبعاد الوظيفية لا حصر لها، فقد تكون “وظيفة الأدب كمؤسسة اجتماعية إشباع الحاجة بالترفيه عن الإنسان (هرتزل)، أو بدون تعويض كما يرى (بارسونز) (Talcot Parsons) أو تحويل القيمة الأخلاقية إلى قيمة جمالية وذوقية (ماكس فيبر)، [وفي جميع الحالات وأيّا كان الرداء الذي ترتديه الوظيفة، يتراءى بما لا يدع مجالا للشّك] أن المؤسسة الاجتماعية لا تقوم بوظيفة واحدة، وإنما بمجموعة من الوظائف المتعددة التي تشبع من خلالها كثيرا حاجات الإنسان الأساسية والثانوية”.([9])
وإذا ما أخذنا برأي غولدمان (Goldman) القائل: أن الإنسان مخلوق “شديد التعقيد، متعدد الوظائف في غمار الحياة الاجتماعية، ولهذا هناك ما لا حصر له من الوسائط المتنوعة بين تفكيره والواقع المادي من حوله، مما يجعل من الصعب حصره في نظام اجتماعي آلي مبسط”،([10]) فإن المهام –السوسيولوجية- تصبح أكبر من البحث عن تأثير المجتمع على الأدب، لتشمل البحث عن جملة القيم والمعايير المجتمعية المتشابكة ككل، التي تقف وراء المنتوج الأدبي، وكذا الاستراتيجية التي تستتبعها هذه المعايير، وكيف تتشابك وتشترك مع بعضها البعض مؤدية وظيفة التواصل الاجتماعي.
وعليه الرهان المطلوب تأسيا بفكرة الأدب مؤسسة اجتماعية، هو رهان من شقين (خارجي وداخلي):
- خارجي: وظيفته كشف العوامل المغذية للعمل الأدبي وسبل انخراطها في تأثيثه، ضمن سيرورة الحياة الاجتماعية في عوالمها المتنوعة والمتعددة (السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية)، والدينامية التي تأخذها معيدة إنتاج ذاتها.
- وداخلي: وظيفته الإلمام بطابع العلاقات القائمة بين الأطراف التي تتجاذب الإنتاج الأدبي، أي (المؤلف، الناشر، القارئ).
وإذا كانت الوظيفة الأولى تبدو سهلة المنال في الغالب الأعم، فإن الثانية من الصعوبة بمكان تيّسرها، لا لشيء إلاّ لكون طبيعة العلاقة الجامعة للأطراف الثلاث إياهم، علاقة تتجاذبها الحتمية الاقتصادية وأبجديات العرض والطلب من جهة، وميكانزمات نشر وتوزيع ما يستأثر به الجمهور القارئ ويستهويه من جهة ثانية.
وإدراكا منه لهذا يتغيّا البحث السوسيولوجي أن تضطلع اشتغالاته باختراق الشبكة المعتمدة في مسار التواصل الاجتماعي لتحديد ملابساتها، وملابسات المنتوج الموضوع رهن التوصيل، وكل ما يكتنفه أناء طريقه إلى المحطة الأخيرة آلا وهي محطة التلقي/القراءة.
وطبعا لا تراهن سوسيولوجيا الأدب أو بالأحرى سوسيولوجيا التلقي على اقتفاء كل هذه الخطوات عن بطولة –إن استقام التعبير- أي لأنها تريد ذلك وإنّما ملزمة، فبالاحتكام إلى طبيعة العلاقة الرابطة بين الأطراف التي تتداول العمل الأدبي، والتي هي في حقيقتها علاقة منتوج بسوق، تقبع تحت طائل الحسابات التجارية ومخاضاتها ومتطلباتها، من قبيل متطلّبات “الدعاية والترويج”، وتلبية احتياجات القراء الواقعية الخاصة… وسوى ذلك، فإن هذا الأمر يفرض على البحث السوسيولوجي أن يستقرأ كامل المسار الذي تقطعه الظاهرة الأدبية قبل مرحلة التلقي/القراءة، حتى يموضعنا في صوراها الحقيقية بما هي عليه بلا تزيف أو تضليل، طالما أن هذا المسار تتجاذبه محطّات مريرة ومعقدة في الآن ذاته، تطالعنا بأن الصنيع الأدبي في غير حل من أمره وكثيرا ما يكون أمام موقف حرج، ووجها لوجه مع إشكال في غاية الخطورة. وبمعنى من المعاني القراءة السوسيولوجية ههنا تحاول الإجابة على التساؤلات المشروعة التالية:
- كيف يتسنى تحديد القارئ وصبر أغوار الذائقة في ظل المعطيات السابقة؟ ([11])
- وماهي السبل التي تكفل إجراء الوقوف على البعد الجمالي للأدب؟ ما دامت مقتضيات الحال إياها تتعامل مع الإبداع الأدبي كأي منتوج استهلاكي، يخضع لصيغتي البيع والشراء، ويروّج له دعائيا خارج المواثيق الأدبية والجمالية، خاصة وأنه في كثير الأحايين والأوقات من ينهض بهذه المهام، من دور نشر ومؤسسات وباعة، تجدهم بعيدين كل البعد عن الأدب وعوالمه الفنية، وأقل معرفة (إن لم تكن منعدمة) بفضاءاته وحيثياته الدقيقة، ولا هم لهم إلا نفاذ المنتوج بأي طريقة أو وسيلة، كونهم يبحثون عمّا يدّر الفائدة والثروة، لا الأدبيّة والأبعاد الفنية. ولعل أسوأ الاشكاليات واعتاها خطورة في مثل هذه الحالات، هي أن متعهد النشر في معظم الأوقات تجده “يعرف بحاسته التجارية متطلبات القراء والسوق، ويشترط على الأدباء تبعا لذلك، أن ينتجوا أعمالا (بضاعة) ذات مواصفات محددة، حتى يمكن رواجها ويؤمن قسطا من الربح”.([12])
وإلى هنا لا ظير القول: بأن الأسئلة التي تطرحها سوسيولوجيا القراءة مشروعة وممنهجة وضرورية في الوقت نفسه، لسبب وجيه وهو أن تنافذ العوامل الخارجية في الأدب، على ما ذكرنا (الناشر، الدعاية)، يقوّض أدبية الأدب، وبالتالي ماذا يرتجي من إبداعية الإبداع، الذي ينماز عمّا سواه من الظواهر الأخرى بخصائصه المتفردة وميزاته الدقيقة، كميزة الخلق، وطلاقة وتحرر صاحب الخلق (المؤلف)، ويتفرد بكونه يُضمر في ثناياه أفقا من التوقعات لقارئ مخصوص ومتميّز، هو الآخر لا سلطة تقيّده ولا دعاية توجهه.
إن العوامل الخارجية التي تتقاذف العمل الأدبي بهذه الكيفية أو تلك، وفي مقدمتها حشر الناشر لأنفه في العملية الإبداعية، ناهيك عن خطورتها، تموضع البرامج القراءاتية بمختلف أشكالها والسوسيولوجية منها بصفة خاصة، أمام أسئلة ملحاحة وعميقة، يأتي في صدارتها:
- من المحرك لأبنيّة النص؟
- ومن يقف خلف انفتاح نص ما، أو انغلاقه؟ بل من يقوم بكل هذا مجملا؟ ثم هل يتأتى ذلك دائما عفويا، أم هو بفعل فاعل؟
وهي الأسئلة.. التي استدرجت النقاد من ذوي الاهتمام بعوالم النصوص الأدبية وفضاءاتها إلى اقتفاء أثر الدواليب المحركة لأبنيتها، عبر تقصّي جدلية “سلطة النص ونص السلطة”، وبعث البحث في ملابسات علاقة الكاتب بمكتوبه أو متنه، بعد ما أثثتها طيّ النسيان بفعل المناهج الانطوائية ذات الطروحات الراديكالية.
وما من شك أن بعث النقاش الأدبي بشأن المسألتين المذكورتين لم يأت فقط للإجابة على الأسئلة السابقة، بل لعدّة اعتبارات، أهمها محاولة الإحاطة بالأبعاد المرجعية والتنافذات المجتمعية في الأثار الأدبية.
فالجدلية الأولى (السلطة): مسألة ذات طابع إيديولوجي وفكري، كثيرا ما قوّضت مساعي الإبداعات أو ركبتها، وهي جدلية ليست وليدة الراهن وإنّما قديمة لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ، اتخذت في الماضي العتيق شكل اللغة الطقوسية، والتعابير الملتوية، أو الكتابة المشفرة، كأساليب تتوارى خلفها لتمرر رسائلها وتبث تصوراتها، أو وجهات نظرها الفكرية التي تتغيّا إصابة أهداف خاصة، فجعلت لذلك –مثلا- الخطاب على ألسنة الحيوان، أو غالت في التشخيص والتصوير،… وغيرها، بينما في الأدب المعاصر أمسى لها حضورا مغايرا، تؤثثه أشكال وألوان أخرى، ومن ذلك أنها اغتدت تحترف العلمية وتبرمج برامج فلسفية، وأخرى اجتماعية … ومثال الناشر ليس إلا غيض من فيض السلطات التي تثقل كاهل الكتابة الأدبية المعاصرة، ممارسة الإرهاب القصري عليها.
أما الجدلية الثانية المتعلقة ببحث طبيعة العلاقة بين الكاتب والكتاب، فلقد أعيد إثارتها وإخراجها من طيّ النسيان، لأن منطق النصوص أضحى يفرضها بصورة ملحاحة، خصوصا بعدما أثبتت البرامج القراءاتية البنيوية، بأنها بقدر ما احتفلت بالنص مستثمرة ذاته لذاته، أهملت عدة عناصر فاعلة في مضماره لها علاقة بعملية التقويم القراءاتي، فساهمت بذلك في انطوائية النص وتحجيمه بشكل رهيب، ألّب النّقاد عليها وفسح المجال لإدانتها، وعلى الأخص إدانة عزلها النص عن محيطه وكاتبه، وإهمالها علاقات القوى الخارجية الكامنة فيه، وبالذات قوى التّوتر الدينامي القائم بالفعل وبالقوة بين الأدب والمجتمع.
ولعل أبرز أوجه الإدانة ما وجّهه “جاك لنهارت” (Leenhardt) لها، عندما اتهمها بــ”الراديكالية”، معتبرا بأن هذه المناهج “اضطرت لكي تفرض منطقها على النص على أطروحات راديكالية، تهدف إلى قطع الإنتاج الأدبي عن كل الإشكاليات الاجتماعية والتاريخية، بل عن إشكالية تخص المعنى، لقد توصلت في بعض الأحيان إلى حد مخيف في التطرف”،([13]) على حدّ تعبيره.
ويدلل “لنهارت” على ذلك بمثال مراجعة “تدورف” لنهجه في الكثير من المسائل التي كان أقرها، خاصا بالذكر اعترافه بمغالاته: “لقد قام بارتداد معاكس تماما، وكأنه يريد أن يقدم توبته، وفي رأي أنه لم يكن بحاجة إلى الوقوع في التطرف المعاكس، فالمسألة ليست في الارتداد وليس في القول: لقد أخطأت كليا في اتّباع المنهج الشكلاني البحت أثناء دراسة العمل الأدبي، والآن أريد أن أهجره كليا لكي أهتم بالمسائل البراغماتية والتاريخية للنص، المسألة تطرح على الشكل التالي … إن السيرورة الأدبية لها عدة جوانب، وينبغي دراسة هذه الجوانب في آن معا”،([14]) وقد تكون إحدى هذه الجوانب معالجة النّص في كنف الأسيقة الظرفية التي يترعرع فيها وتترك بصماتها عليه، أو تتدخل فيه بطريقة أو أخرى كسلطات ضاغطة أو ما شابه ذلك.
فالفعل السلطوي يتقمص هويات متعددة، منها التاريخي والإيديولوجي، ومنها الاجتماعي والتجاري.. وما إلى ذلك، ولهذا السبب تقتضي الحتمية النقدية موضعته تحت المجهر بغية رصده، ومن ثم قراءة النص في نطاق مرجعياته ومحيطه والعوامل الفاعلة فيه، وهي الخطوات والمهام الممنهجة التي تعتمدها “سوسيولوجيا التلقي/القراءة” لرصد الحيل التي تتوارى خلفها السّلط الضاغطة في عالم الإبداع الأدبي.
- القارئ في عملية التواصل الأدبي: “واحدية البث وتعددية التلقي”
من المسائل الإشكالية التي تطرح في عملية التواصل الأدبي، بين فعلي الكتابة والقراءة، مسألة المفارقة الكامنة ما بين العنصرين على مستوى قناتي (الإرسال والتلقي)، إذ فعل الكتابة يصدر من قناة واحدة، هي قناة مرسل الخطاب (المؤلف)، بينما فعل التلقي/القراءة تتجاذبه عدّة قنوات، ويأتي هذا التعدد لا لأن قرّاء النّص الواحد هم من حيث المبدأ متعددين أو كثر فحسب، وإنما لكونهم تشكيل متنوع أيضا، باعتبارهم ليسوا جميعا على نفس الدرجة من الثقافة النظرية والفكرية، ويتفاوتون في المستوى العمري والمعرفي والخبراتي، فضلا عن أنه لا تشغلهم بالمرة ذات الانشغالات وذات القضايا، ويتشعبون في الميولات والرغبات. ولأنهم كذلك هناك دائما “واحدية في البث وتعددية في التلقي”، الحقيقة التي تفرض منطقها الخاص في مضمار التلقي، جاعلة فعل ضبط إشكالية القراءة يتعالى على الإمساك به، خصوصا مع تلك الحالات التي تتجاوز حدود الخصائص المذكورة، أين نلفى أحيانا متلقيين (قارئين) اثنين من ذات السّن والدرجة الثقافية، ومن نفس الطبقة الاجتماعية، يتباعدان في الذائقة وردود الأفعال، وحجم التركيز…
وعلى هذه الشاكلة تتفاقم إشكالية الجمهور القارئ، ولنا أن نتخيل الدور الذي يضطّلع به النص مع هذا التعداد الذي تتمايز صفاته الاجتماعية والنفسية والثقافية، فندرك للوهلة الأولى أن استطاعته ليست قاصرة على استيعاب الكل فقط، بل كذلك على تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال المتعة الجمالية والذائقة، وإثارة العاطفة …وما هو على علاقة بهذا النطاق، كما أن كفايات الفضاء الذي يؤثثه ساعة الخلق الإبداعي، مهما كانت قوتها وفعاليتها لا تعدوا أن تلبي “بعضا هنا وأن (تستفز) بعضا هناك، وأن (تغضب) بعضا آخر، في مقابل التخلي والإهمال، فالنص في صراعه مع عناصر الكتلة لا يرضى أن يكون مقروءا فقط، بل يحلم بإثارة جملة من التفاعلات تعود على صاحبه نهاية الأمر، بما يقوّم به نزعته وتوجهه العام أو يفتح أمامه أفاقا أرحب وأوسع”.([15])
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ههنا، ما إمكانية مقاربة فعل القراءة في ظل هذه الحقائق؟ وإذا تسنى ذلك، إلى أين يمكن أن يصل مداها، وبحوزتنا علما مسبقا بأن عدد قراء نص ما قد يكون لا متناهيا؟ ثم كيف -والحال هذه- نستطيع أن نجعل من دراسة موضوعها جمهور القراء، دراسة ناجعة تستوفي الشروط وتحقق النتائج؟. ولأن الأمر شائك وعلى درجة كبيرة من التعقيد، تستدعي الإجابة على هذه الأسئلة أول الأمر، تبيان مكانة المتلقي والدور الذي ينهض به في عملية التواصل الأدبي، أو بتعبير جاك لنهارت: “إذا أردنا أن نفهم الأدب كسيرورة إنتاجية وقرائية في مجتمع ما، فإنه ينبغي علينا أن نطور منظورا سوسيولوجيا، يشمل مجمل مراحل هذه السيرورة من وجهة نظر مستهلكيه أي القراء”.([16])
وهو المنظور أو بالأحرى المطلب الذي دفع “لنهارت” إلى القيام بتحقيقين ميدانين متتابعين، تبنى فيهما منهج “التحرّي المقارن”، الأول: تدارس “فرنسا”، و”هنغاريا”، والثاني: شمل مناطق “ألمانيا”، “إسبانيا”، “فرنسا”، بغية الوقوف على علاقة الثقافة بمسألة التلقي، أي “كيف تعالج ثقافتان مختلفتان نفس النص بشكل مختلف”،([17]) وكذا الاطّلاع على الكيفية التي يقرأ بها القراء الكتاب الواحد، متوخيا الإحاطة بإشكالية تفرد جمهور كل بلد عن الآخر في مستويات الفهم والتقويم .. وسوى ذلك، من خلال أنموذج روائي معاصر للكاتبة السويسرية (لاغوتا كريستوف).
ويتضح جليا من تحرّيات “لنهارات” أنه كان يتغيّا طرق باب الجمهور الواسع، من خلال استقراء استجاباتهم القرائية، عبر تفعيل عملي يستفتي ردود أفعالهم ويصبر آراءهم، الذي يعدّ -بشكل أو آخر- امتدادا لبرنامج “لوسيان غولدمان” القراءاتي، ولكن بأسلوب مغاير سواء من حيث الشمولية، أو من حيث البرمجة الاشتغالية، التي أصبحت تعرف باسم “سوسيولوجيا التلقي/القراءة” ،كونها اغتدت تنهض بالتحرّي الميداني عن الجمهور المتلقي/القارئ في خطوطه المتباينة والمتنوعة، متحدية التعقيدات والمشاكل التي تطرح في نطاق الماهية الإشكالية لفعل التلقي/القراءة، على ما ذكرنا سابقا.
وبهذا الشكل فإن “سوسيولوجيا التلقي” وإن كانت لا تستهدف التلقي مباشرة وإنما تلقي التلقي، فإنها تقترح مشروعا قراءاتيا بديلا للمناهج الشكلية والأسلوبية، فما دامت الاحتمالات الاستقرائية قائمة ومتاحة إزاء الظاهرة الأدبية بفضل ما تيّسره العملية الإحصائية والاستفتاءات الميدانية، فإن إمكانية تجسيد حقل نقدي يرصد مظاهر التلقي، ويحصي الأشكال التي يتخذها والأقنعة التي يرتديها، تبقى قائمة هي الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن دينامية اشتغالها تخلوا من تحفظات، بل العكس هو الصحيح، فبالعودة الى طبيعة اشتغالها ونخص بالتحديد هنا عمليّات صبر الآراء، نلفاها فضلا عمّا تقدم ذكره من مطبّات تعقّد مسارها الإجرائي، تصطدم بمشاكل أخرى لا تقل تعقيدا عن السابقة تتعلق بالجمهور نفسه المعني بالتحري، فهل هم جمهور الكاتب، أم جمهور الناشر ؟؟ أم جمهور الدعاية؟ ” ممّا يعني أن “سوسيولوجيا التلقي/القراءة” ملزمة بضرورة التمييز بين هذا وذاك، بل بين ثنائية (القارئ، الجمهور) في حدّ ذاتها حتى تستقيم العملية الإجرائية، طالما أن الهوة طويلة وعريضة بينهما، فلكل منهما ميزاته ونطاقه، بدليل أن بعض الكتاب يرفضون كلمة الجمهور جملة وتفصيلا، مثلما هو الشأن للشاعر المثير للجدل “أدوينس” الذي عبر عن ذلك في أكثر من مناسبة وبصريح العبارة:
” ليس لي جمهور، ولا أريد جمهورا …. الخلّاقون لهم قراء”.([18])
ويعني هذا في جملة ما يعنيه أن المساحة شاسعة بين القراء والجمهور، فهذا الأخير يشير إلى القراء بصفتهم مستهلكين، وإلى عموميات القراءة لا خصوصياتها، وبعبارة أوفى يدل على نتائج عامة من الذوق والتكوين النفسي والفضاء المعرفي، التي يعكسها المجتمع ككل أو فئة منه، أي نتائج تعبر عن رؤية شاملة، تبلور منظورا فكريا وذوقيا لجماعة ما لها دوافع مشتركة، أو تتقاطع في نقاط محددة وتتوحد في الأفق عينه، في حين القراء “ليسوا كتلة أو شريحة أو مناخا، إنهم عينات منعزلة عن بعضها البعض، أو هم عموما تجسيدا لفردية التلقي وخصوصيته …. ولكل منهم آلياته الخاصة في القراءة أو التلقي وله ذخيرته من الخبرة والمعرفة، التي يستنهضها بطريقة شخصية، وفي الوقت الذي يقف الجمهور في نهاية طريق لا يقبل العودة، فإن القارئ ليس علامة على طريق مغلق، بل هو مفصل حيوي”،([19]) يترك طريق النص يعبر إليه، ويصطنع منه طريق عودة إليه.
إن القارئ حالة أو هيئة، وفي معظم الأوقات يعبّر عن نموذج تؤثثه خلايا النص له دورا يضطلع به، ينأى عن ماهية الاستهلاكية ويترفع عن الاستجابة العفوية، وأكثر من ذلك يتطلع إلى المشاركة الفعالة بمعية النص التي تفتح المنافذ إليه، وتقبض على المقصدية المبثوثة في ثناياه. وأنموذج القارئ الموجود في النص لا تؤشر عليه مؤشرات جنس النص فحسب، بل شكل تعبير الجنس الأدبي والطريقة التي يبنينه بها الخطاب، ومن ثم فإنه بالارتداد إلى التقسيم السابق تطالعنا الملابسات إياها بنمطين من الجمهور، جمهور يتقصده المؤلف وآخر يتقصده الناشر.
فأما الجمهور المخصوص من قبل المؤلف، فهم هؤلاء “القراء” اللذين ينوجدون قصرا بمعية الإبداع منذ فترة مخاضه العسير ويظلّون في ثناياه إلى أن يتلقونه فترة الولادة، إنهم عنصر من العناصر التي تشكل لبنات البناء النّصي، يشغرون حتميا موضعا منه، كون المؤلف يتوجه إليهم بالخطاب ويتجاذب وإياهم أطراف الحوار ويتفاعل كذلك، وعلى هذا الشاكلة هم يعبرون على جمهور يتراءى على “درجة عالية من الذكاء، والذوق والمعرفة، إنه خبير بسر العملية الإبداعية وقواعدها وأفاقها، وهو ينتظر من الكاتب تجسيد ذلك الأفق وتحقيقه في صورة تضمن اللذة والمتعة على السواء، أو تفسح صدر النص لجملة من الصراعات المثمرة بين القارئ والنص من جهة وبينه وبين الكاتب من جهة أخرى”.([20])
أما جمهور الناشر فلا يعكس أيا من هذه الصفات، لأنه فئة مكيفة وموجهة تبرمجها أساليب وتقنيات الدعاية والترويج الإشهاري ذات المقاصد الواضحة، آلا وهي استهلاك المنتوج الأدبي كأي سلعة، وبعبارة أعم وأوجز هذا النوع من الجمهور، هو جمهور الاستجابة الظرفية والإثارة الآنية، تقتصر طموحاته على تلبية غريزة اللذة كيف ما كانت، ولأن القائم على شؤون النشر يدرك طباعه أيّما إدراك، تجده يعمل دائما وأبدا على وضع ما يستقطبه هنا ويثيره هناك ويتخطى ما يغضبه أو ينفره .. وهكذا دواليك.
وموجز ما يستفاد من هذه المعطيات حقيقتين أساسيتين، الأولى: أنه “لا يمكن اعتبار الجمهور -والحال السابقة- مقياسا لنجاح الكاتب ما دام الجمهور الأول “متخيلا” يعيشه المؤلف في وهمه والثاني يقبض عليه الناشر بفعل الدعاية والتسويق، أما ما يحقق نجاح الكاتب فعدد مبيعاته بغض النظر عن طبيعة المشتري”.([21])
والثانية: أن المغامرة السوسيولوجية قد لا تأتي أكلها، باعتبار أن الالتباس بين النمطين الذي ينّم عن خطورة ما بعدها خطورة واقع لامحالة، ونعني بذلك إشكال الفصل بين جمهورين من ذات الواقع المجتمعي، جمهور يوجده التواصل النصوصي الخلّاق، وجمهور توجّهه البرمجة الاستهلاكية، وبالتالي فإن النتائج التي يفضي إليها الاستفتاء وعمليات صبر الآراء قد لا تفي بالغرض، أو بالأحرى تظّل ناقصة لا تحسم الموقف القراءاتي.
وبتفسير أكثر دقة، إن رواج الإبداع الأدبي باللمسات الدعائية وممارسات الناشر-وإن ساهم في ذياع صيت الكتاب والكاتب- يعدّ “نجاحا للناشر لا للمؤلف … لأن فعل النجاح لا يتحقق إلا مع الاداء القرائي وردوده، وهي مسألة لا يأبه بها الناشر إذا حقق شطر العملية التجارية، فالكتاب-عنده- سواء بيع لتزيين مكتبة شخصية أو ليكون مدعاة لجلب النوم على السرير تزجية لبعض الوقت مجرد سلعة”.([22])
وتجلي هذه المفارقة الغربية التي تسيّج عالم التلقي بكل وضوح وبما لا يدع أي مجال للشك، أن إصدار الأحكام القيمة حول الأعمال الأدبية، أو تقديرها من حيث الجودة والرداءة، لا يتأتى في واقع الأمر بانتشار الكتاب واستفتاء الجمهور (وإن كنّا لا نبخس هذا الاجراء حقه)، وإنما بمجهود القراءة ذات الحس الواعي بجمالية الإبداع، التي لا تكتفي بالاستهلاك والتمتّع بل تتجاوزهما إلى المشاركة الفعالة التي تحدث الصدمة والانفعال، وتدغدغ المشاعر والأفكار والغرائز معا ودفعة واحدة، وفي مضمارها ينتاب القارئ ما انتابت المؤلف ساعة التأليف من متعة وشجون وانقباض .. وما إلى ذلك. ومن ثم فإن كان هناك من طرف ينبغي أن يستفتى فهم القراء،([23]) ذلك أن اشتراك الاثنين -المؤلف والقارئ- في المكونات والرغبات الدفينة يجعل هواجس الأول توخز وتوقض هواجس الثاني، منتجة رجع الصدى الذي يتأتى في شكل ردود أفعال واستجابات خلّاقة، أي أن العملية الإجرائية لا تستقيم إلا عندما يكون رابط الوصل القراءاتي بين النص وقارئه لا بين الكاتب وجمهوره، فتلقي هذا الأخير للظاهرة الأدبية قد لا يتجاوز عتبة الشعور الجماعي، المتضامن بأسلوب تكتلي للاحتفاء بالإبداع، احتفاء من الممكن جدا أن يكون دافعه الإعجاب الاستعجالي أو عدوى الافتتان لا غير.
- أشكال وتمظهرات الجمهور القارئ:
إنّ تحديد وضعية المتلقي في عملية التواصل الأدبي –مثلما أشرنا سابفا- على درجة كبيرة من التعقيد، بل يمكن القول أنها تتعالى على الإجراء لإشكال وجيه، وهو أنّ قرّاء النص الواحد منفتحون على مجال مفتوح –بالتعبير الرياضي إن استقام التعبير– فطالما أن النص موجود يظلّ التلقي مستمرا، لننتقل بذلك من صورة القارئ الفردي إلى الجماعي، فالقارئ اللامحدود (العالمي)، وناهيك عن هذه الإشكالية تطالعنا ديناميّة التلقي/القراءة، بأن هناك بونا شاسعا ما بين جمهور الكاتب وجمهور الناشر، وهوّة ما بين ماهيتي الجمهور والقراء، باعتبار أن كلا منهما له سلوكه الاتصالي الذي يأتيه كطرف قرائي، وتبعا له وفي ظلّ ما تبادرنا به زوايا التلقي في خضم التعددية الكامنة على مستوى تفسير النّص الواحد، وكيف أنها تخضع (التفسيرات) للبنى الاجتماعية وحيّز البلد المنتمى إليه، ننتهي إلى فكرة جوهرية وقاعدية تسيّج عالم التلقي تتمفصل إلى شقين على علاقة ببعضهما البعض، الأول: أن متلقي الأدب يتنوع بتنوع احتياجاته ومصالحه واهتماماته، والثاني: أن تلقيه يخضع لفعاليات المجتمع وأنساقه الفرعية المتعددة.
ونظرا لهذه الاعتبارات يتمظهر الجمهور بأشكال وتمظهرات متنوعة، تارة يعكس محيط الانتماء، وتارة ثقافة المجتمع، وتارة أخرى الامتداد الأيديولوجي أو نسق آخر من الأنساق المجتمعية، ولكن تبقى هذه التقسيمات والتمظهرات ظرفية وزئبقية، تتمدد وتتقلص حسب الاهتمامات الشخصية والإملاءات المجتمعية للقراء، وبالمعنى الشامل هي ليست قارة أو ثابتة قد تتغير بتغير الأهواء والأنساق، ممّا يعني أن سؤال التصنيف سيظل يلقي بحضوره في هذا النطاق وتظل الإجابة عنه هي الأخرى مؤجلة إلى أجل غير مسمى ؟؟ ونخص بالتحديد هنا سؤال:
ماهي أهم الخيارات التي من الممكن أن يسعها مجال التصنيف؟ أو بتحوير أعم للسؤال: ما هي أهم الخيارات المطروحة في هذا المضمار في جميع الحالات وسائر الأوقات؟
ولحسم المسألة ولو بشكل مؤقت، ذهب رواد التلقي والمهتمين بقضايا التواصل الأدبي، إلى تصنيف جمهور القراء بناء على الجوانب الموضوعية والواقعية، مخضعين تصنيفاتهم إلى إيواليات المقروئية بما يجاورها من مفاهيم لا حصر لها، كــ (المطالعة، الاغتراف، النهل، التلقي، التقبل)، وانتهوا في غمار ذلك إلى تحديدهم في ثلاثة أنماط أساسية وفق ما يفرضه منطق الواقع:
1-الجمهور الداخلي/جمهور النّص: إنّ النص الأدبي تتجاذبه سلطتان، سلطة النّاص/الكاتب متعهد الإبداع، وسلطة النص أو الملفوظ التعبيري الذي يتكفل به السارد، حيث يختلف الأوّل عن الثاني شكلا ونمطا، مثلما تشير إلى ذلك أغلب نظريات القراءة، فــ “عبد الرحمن منيف” ليس هو “رجب/السارد”، أو “أنيسة/الساردة” في “شرق المتوسط”، و”الطيب صالح” ليس هو “الراوي” أو “مصطفى سعيد/السارد” في “موسم الهجرة إلى الشمال” وإن تقاطعا في بعض التفاصيل الحياتية، ومربض الاختلاف الجوهري هنا يكمن في أنّنا إذا أردنا أن نتعرف إلى الكاتب علينا بالعودة إلى سيرته وحياته وتنشئته، بينما لمعرفة الراوي/السارد علينا أن نلمّ بثنايا الملفوظ السردي، ذلك أنّه بالرغم من أنّ السارد ليس إلاّ نتاج المؤلف وصنيعه يأخذ تمظهرات وصور تتفرّد عنه من حيث الجنس، والذائقة والمبادئ والتصرفات والمعتقدات… وما إلى ذلك. وخذ على سبيل المثال -لا الحصر-السارد في قصص “كليلة ودمنة” المجهولة المؤلف التي نتلقاها بلسان الحيوان، وهي ليست وضعية المؤلف بالتأكيد، أو قصص “ألف ليلة وليلة” التي لا نعرف مؤلفها، بينما السارد هو شهزاد/الساردة، القصص الأولى توظّف الصيغة “يحكى أنّ” والثانية تستخدم “بلغني أيّها الملك السعيد”.. أو تعدد الراواة في “سباق المسافات الطويلة” لعبد الرحمن منيف (السرد البوليفوني المتعدد الأصوات)، وقس على ذلك الكثير من النماذج والأمثلة النّصية.
ممّا يعني بطريقة عكسية موازية، أن المتلقي/القارئ بدوره يأخذ الأشكال والتمظهرات نفسها، يتقمص صورة المتلقي الحقيقي-المقابل للمؤلف الحقيقي- الذي يتلوّن بتلوّن الجوانب المرجعية والمجتمعية والنفسية والثقافية الممتدة إلى المالانهاية، وبالمقابل هو كذلك نمط متخيّل يقابل السارد، باعتبار أنّ هذا الأخير في معظم الأحيان يتقصّد متلقيا بعينه، فالنص كما تذهب نظريات القراءة يخص بما يحمل في جعبته من ملفوظ، وصيغ تلفظ نمطا من المتلقين/المروي لهم، يمكن تصنيفهم وفق المسرود وطريقة السرد، أو المقول وطريقة القول، وبعبارة أدقّ المضامين التي يؤثّثها النص، واللّغة التي يوظّفها، هما اللتان تحددان نمط المتلقي ونوعه، فيأخذ المتلقي هنا شكله من مجموع الكلمات التي تؤشر عليه.
ووفق هذا الاعتبار يمكن القول أن “الجمهور الداخلي” أو بالأحرى القارئ الداخلي المبنين نصيّا وهو العينة التي تندمج في خيال المؤلف فترة المخاض العسير لعملية الخلق الأدبي، وتتحول إلى جدل يعيشه فعل الكتابة حتى الإنوجاد النهائي، وهذه العينة يتقاطع معها المبدع في العديد من التفاصيل، يأتي في صدارتها الإرسال الخطابي، والحوار، والتفاعل .. كونها مقصودة من قبله لتلقي صنيعه، والاضطلاع بالأداء القرائي الذي يصبر أغوار رسالته ويحدد مراميها. إنها تجسيدات وتحديدات قائمة بداخل خلايا النص، قبل أن تأخذ التجسيد الحقيقي في صورة قراء ملموسين.
وتنطلق الفرضية الإشكالية لهذا الجمهور من مبدأ مؤداه، أن عملية التواصل الأدبي تنهض في حيز قوامه الذات القارئة، وأن كل نص يتوجه بالضرورة لقارئ أو متلق، حيث أدخلت “الآثار المعاصرة … تحويرا كبيرا على وظيفة القارئ جاعلة منه طرفا في النص توكل إليه مهمة المشاركة في تأليفه”،([24]) عبر مساءلته وبث الحياة في معانيه، والتفاعل بمعية العوالم التي يسيّجها، .. وسوى ذلك.
وهذا النمط من الجمهور لا يدخل في حسابات سوسيولوجيا التلقي/القراءة، لأنه على درجة كبيرة من المثالية، باعتباره كما قد يتحقق في الواقع كقارئ حقيقي قد لا يتحقق، ويظّل مجرد افتراض لمتلقي وهمي يؤثثه سراب الكاتب، بينما على النقيض من هذا يأتي في صميم البرنامج القراءاتي لنظرية التلقي، حيث تموضعه في أولى أولويات الاستراتيجية القرائية التي تقترحها، وهو يمثل بالنسبة لها مفتاح الولوج إلى فضاءات المعنى والدلالة النصية.
2-جمهور الكاتب: إنّ زئبقيّة النماذج التي اتّخذت من القارئ الدّاخلي في النصّ، أو بالأحرى المسرود له المجرّد أداة لاستقراء مسارات التلقي التي تستتبعها الأعمال الأدبية، وكذا قصورها عن الإمساك بمسألة القراءة جعل المهتمين بهذا الشأن –سواء من داخل النظرية السوسيولوجية أو خارجها– كميشال بيكار M.picard)) مثلا، يتوجّهون صوب مساءلة القارئ الواقعي الموجود في المجتمع بجسده وروحه، واضعين في اعتباراتهم أنّه وحده المخوّل والجدير بإجلاء الغموض عن عملية التلقي/القراءة، وليس مدارسة القارئ المجرّد الذي هو في نظرهم تجاوز للحقيقة النّصيّة، وتجني على عالم القراءة، وأكثر من ذلك تعالي أو هروب من مواجهة واقع القراءة الماثل أمام أعينهم، ومواجهة القارئ الإنسان الحاضر بالفعل وبالقوة في المجتمع كفرد يتأثّر ويتفاعل مع ما يسيّجه النصّ من عواطف وأخيلة وأهواء وأراء، ومسائل عقائدية ورؤيوية.
ومع أنّه من الصعوبة بمكان نظريا تحديد القارئ كشخصية واقعية، فإنه لا يمكن نكران أنّ هذا القارئ يتفاعل ويتأثر بجملة القيم الاجتماعية والنفسية والثقافية المتنوعة التي بإمكان التحليل الاجتماعي والنفسي أن يحدّدها، كما أنّه “على مستوى التاريخ الجمعي يمكن ضبط القارئ من خلال الجمهور الذي ينتمي إليه، فالقارئ الفعلي لا يحيل فقط إلى الجمهور المعاصر لظهور الطبعة الأولى من عمل أدبي ما، بل يحيل كذلك إلى كلّ الجمهور الذي يقرأ الكتاب فيما بعد، إذا كان من الواجب أخذ هذا الجمهور المشهود بعين الاعتبار، فذلك لأنّ كلّ قراءة لنص ما تخترقها بلطف قراءات سابقة له، لن نقرأ (Montaigne) بالطريقة نفسها، لو لم يقرأ في السابق من لدن باسكال، وكذلك فقراءتنا لمسرحية أوديب ملكا، هي موسومة بتحليل فرويد لها”([25]).
إنّ القارئ فرد ينتمي إلى المجتمع بالدرجة الأولى، ولهذا يتغيّا النّاص في معظم الأوقات أن ينقل إليه طوعا القيّم المهيمنة في مجتمعه، سواء أكان الأدب الناقل رسميا أو نمطيا، أو تعليميا، إذ يكفي ” أن يكون النص حاملا عن وعي أو بدون وعي لقيم مهيمنة في عصر ما كي يلعب دورا اجتماعيا في نقل –وتمتين- المعيار”.([26])
ومن هنا يسعنا القول أن “جمهور المؤلف”، هو جمهور المحيط الذي ينتمي إليه الكاتب، أو البيئة التي ينحدر منها ويقوم بتمثيلها أدبيا معبرا عن ألامها وآمالها وأفراحها وأتراحها، التي تعكس معالمها وطبقتها الاجتماعية، وتجسّد بالنسبة له المرجعي الحي للواقع المعيش الذي ينهل منه مجموع التطلعات والعواطف والأفكار، المؤثثة لحيواة وفضاء المجموعة الاجتماعية التي هو بصدد الإنابة عنها إبداعيا والمرافعة لصالح انشغالاتها جماليا.
فالمؤلف في المقام الأول يعد فردا من أفراد المجتمع، وهو بفعل ولادته أو وضعه الاجتماعي يؤلف جزءا من الجماعة،([27]) وهذه الأخيرة تبنين نظاما خاصا، ينقل إلى وعي الأفراد ما تضمر من مكنونات وهواجس وما تتطلع إليه من رغبات وآمال، تنخرط مع بعضها البعض في بوتقة واحدة يؤثثها التناسق والتناغم، منتجة منظورا رؤيويا يستقي منه المؤلف عناصر إنتاجه الفني، وعلى ضوئه يرسم عوالمه المتخيلة، بدينامية يسيّجها الانسجام والتجانس، تناظر فيها البنيات التخيلية البنيات التي تحيا في كنفها –بشكل من الاشكال– الجماعة، فيعي أفرادها ما كان يخالجهم من ضروب الفكر والفعل المجتمعي، وكذا الغرائز البيولوجية والعواطف السيكولوجية التي لم يدركو معناها لحظة حدوثها، أو استحال عليهم في فترتها أن يمسكوا بالفيض الدلالي لها كمعرفة موضوعية.([28])
وبنظر السوسيولوجين ما يثري هذه التجربة لذاتها في ذاتها، هو أن أواصر العلاقة المبنينة لشبكة الوصل ما بين الكاتب والجماعة، لا يوثقها محل الانتماء فقط، بل روابط أشد صلابة وتجذرا، تمثل في جوهرها شبكة مصونة بإحكام لا يستطيع الفرد التملص من خيوطها، كما أن الفضل كل الفضل في تنظيم الوعي الكلي وترتيب النسق الفكري يعود إليها.
يتصدر طليعة هذه الأنساق:
أ) رابط اللغة: تعتبر اللغة قبل كل شيء ظاهرة اجتماعية وأداة تواصل، بواسطتها ومن خلالها يتسنى التخاطب والتفاهم بين بني البشر، ولهذا السبب يعدّها مفكرو علم الاجتماع مؤسسة اجتماعية، وبمفهوم أوضح لكونها تبلور صورة من السلوك السوي بين الأفراد، وتبرمج برامج تعبيرية مشتركة بينهم تشفيريا ودلاليا، هي تنهض بدور المؤسسة الاجتماعية.
وبهذا الشكل تعد وسيلة طيعة في يد المؤلف، يستخدمها كيف ما يشاء وبالكيفية التي يشاء في تأثيث خطاباته، ووضع الصياغة التي يشاء لأفكاره وهواجسه دون تكلف أو عناء، ودون أن يساوره أدنى شك من أن ما ينتجه من رموز تعبيرية وكتابية سيكون له صدى لدى القراء، لأنه يعي تمام الوعي أن الملابسات التعبيرية واحدة والاشارات متعارف عليها، والوقائع المنقولة كتابيا هي الأخرى واحدة انطلاقا من فكرة “وحدة اللغة”.
ولعل أبرز الأمثلة التي تدلّل على هذه الحقيقة عالمي القراءة بشكل خاص والمقروئية بشكل أعم، إذ يطالعانا بأن كل فئة مجتمعية تنزع إلى نمط بعينه من القراءة، وتفضل جنس أدبي على آخر، ممّا يعني أن رابط اللغة لا تشوبه شائبة، أي أن الطبقة الاجتماعية تنعطف إلى حيث تجد صوراها المطابقة أو معادلها الموضوعي، الذي يكرّس تخيليا منطقها الفكري وسياقها السوسيوتاريخي، فينقل ما يخالجها من شعور وعواطف، ويرصد عميق مآسيها ومعاناتها، ويكتب يومياتها وتطلعاتها وأحلامها، وفي خضم كل ذلك يقدم ما ينتشلها من موضع إلى موضع، بما يجعلها تستبدل الكآبة بالانتشاء… الخ، ففي جميع الحالات وأيا كان شأن المواقف المعبر عنها أدبيا، بوسع اللغة بما تنطوي عليه من احتياطي معجمي يتقاطع ويشترك فيه السواد الأعظم من الأفراد تشفيرا وحمولة دلالية، أن تلبي المقاصد وتفي بالأغراض على مستوى المادة اللفظية والزخارف التعبيرية. ويعد النص الأدبي أكبر مستثمر في هذا المجال، لأنه نفسه -بتعبير ريكاردوا-Ricardo) ) ليس إلا “المادة ذاتها التي يخرجها المؤلف”.([29])
ب) رابط الثقافة: الحقل الثقافي هو الآخر يشكل المخزون الترابي والرصيد الفكري للمجتمع، الذي تتداخل فيه أبعادا شتى، منها -على سبيل المثال لا الحصر- الجوانب المعرفية والأسطورية والتاريخية … وغيرها، وبالمعنى العام هو مكون جماعي ينهض برسم تمظهراته عن طريق اللغة، أو من خلال مواقف معينة أو سلوكات أو تقاليد أو مناهج مميزة… وعلى هذا الأساس تعتبر جميع الملامح العامة التي تسم الفرد من طبائع وأعراف وضوابط وقيم بوسطه المجتمعي، لا تعنيه بمفرده وإنّما تتعداه إلى كل الأفراد؛ أي أنها تنسحب على الجماعة والمجتمع، فالفرد في الفضاء الثقافي لا يمثل إلا جزءا من كل أو عينة من متعدد، تعبر من حيث الجوهر عن منظومة اجتماعية برّمتها، في أشكالها الحياتية ومستوياتها المعرفية ونهجها المعاشي … مسوقة بذلك لصورة البنية الثقافية الكامنة بالمجتمع، أو المرجوة من نتاج التفاعل القائم في هذا المجال بنفس المجتمع (مجتمع الفرد إياه).
والأمر في هذا سيّان بين مختلف التعبيرات والتعبير الأدبي، لأن النص الأدبي بدوره ظاهرة ثقافية في المقام الأول، أو خطاب من جملة خطابات تسود ذات المعمورة التي أنتج فيها، وبمعنى آخر هو أيضا لا يخلو من سياق ثقافي له امتدادات فيه، وتأثير على تركيبه البنيوي واللّغوي، إنه بطريقة أو أخرى يخضع للأساليب المتعددة داخل التشكيلات الاجتماعية، ويؤثث عوالمه الفنية بمختلف العناصر التي يبرزها الحقل الثقافي.
ج)-رابط البدائة/(رابط العرف): والمقصود به حمولة الأعراف التي ينتجها المجتمع ويتواضع عليها، فتصبح مع مرور الزمن في عداد المسلمات والحقائق الثابتة، لا يطالها نقاش أو برهنة.([30]) ويدخل في مضمارها جملة الأفكار والقيّم والمعتقدات والأحكام،([31]) ومجمل التوجهات التي تتسيّج كلبنات أو بنى بداخل المجتمع وترمي بحبالها وثقلها عليه، فلا تتحقق الوحدة الثقافية إلا بها وفي كنفها، أي أنها تصبح مشروطة بوحدة البدائة، أو على علاقة ديالكتيكية بمعيتها، والشأن نفسه ينسحب على فعل الكتابة باعتبارها تخضع لذات التفاعل العلائقي، وترزح تحت سطوة الشروط إياها، تارة تنهل من هذه العوالم، وتارة تحاكيها، وتارة تقاربها، وفي معظم الأوقات هي مشدودة إليها أو لا تستطيع التنصل منها، لأنها بالنسبة لها بديهيات وأعراف مجتمعية متفق عليها.
3-الجمهور اللّامحدود: أو العالمي وهو الجمهور الذي لا حدود له، كونه يمتد خارج وسط الكاتب وتتجاذبه أمكنة وأزمنة مختلفة، ويمكن أن نكنّيه بــ”جمهور الجنسيات المتعددة” -إن استقام التعبير- لأنه نتاج “الترجمة والانتشار”،([32]) يتشاكل عندما يصبح الأدب عابرا للقارات واللّغات، يتنقل بين لغة وأخرى دون كلفة، “ويتابع وجوده ضمن أجيال من القراء محافظا على عطائيته، بتفتحه على الدوام على متطلبات الأجيال والمجتمعات، فالترجمة وإن كانت خيانة إلا أنها تنقل المؤلف إلى وسط مغاير”،([33]) يتلقى الأثر الأدبي بطريقته الخاصة وأسلوبه الخاص، في نطاق رصيده الخبراتي وأدواته القراءاتية الخاصين أيضا، الأمر الذي يتيح للنص مخاضا جديدا يمنحه ولادة أخرى وحياة وتنشئة أخريين في فضاءات جديدة، بمعية منابت روحية مختلفة وعوالم مغايرة، فتتسع رقعة جمهوره ويكتسب النّص شهرة عالمية، قد ترتقي به إلى مصاف النّصوص العالمية، شأن الأعمال التي قطعت هذا الشوط واستطاعت أن تحافظ على خلودها، متجاوزة الأبعاد الزمانية والجغرافية ومتحدية أسيقة اللّغات المتباينة، من قبيل “الحمار الذهبي” لـ”أبوليوس” و”الدونكيشوت لــ”سيرفانتاس” و”ألف ليلة ولية” .. وسوى ذلك.
- أشكال وتمظهرات التلقي/القراءة في المنظومة السوسيولوجية:
إنّ نشاط التلقي/القراءة متعدّد الأضرب، ويرفل على حبال شتّى، والسبب الرئيس في ذلك أنّ القراءة فعل دينامي أو بتعبير أدقّ نشاط تتجاذبه عناصر واتّجاهات مختلفة ومتنوّعة باختلاف وتنوع الممارسة أو الاشتغال الذي يطالها، فهي سيرورة ذهنية وفيزيولوجية، وهي نشاط معرفي، وأحيانا عاطفي، وتارة حجاجي وأخرى رمزي..
1) بمنظور “روبيرت إسكاربيت”:
تستعرض مباحث “إسكاربيت” (Robert Escarpit) مفهومين اثنين لشكل القراءة، تقدم إحداهما تحت ماهية “القراءة المتجاوزة”، وأخراهما بــمفهوم “القراءة الموجّهة”.
فأمّا “القراءة المتجاوزة”: أو “القراءة العميقة” فهي القراءة المخالفة جملة وتفصيلا للقراءة الساذجة، وبمعنى آخر إذا كانت هذه الأخيرة هي القراءة الأولى التي لا تبرح المسار الخطي الذي يتمظهر عليه النّصّ الأدبيّ في تتابعه الزمني وتسلسله المنطقي، فإنّ “القراءة المتجاوزة” أو “المحترسة” أو “ذات الخبرة”، هي التي تضطلع باستقراء البنى العميقة في النّصوص، وفي كنفها يحاول القارئ الولوج إلى الجوهر الأدبيّ موظّفا كامل كفاياته وخبراته القراءاتية، أو بالأحرى موسوعته المعرفية التي عبّأها بقراءات سابقة، وتجارب منهجية وأشياء من قبيل المعرفة التي يكتسبها الجمهور القارئ عن الجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه الصنيع الأدبيّ، والتجارب المتواترة عن القراءات القديمة، ونخصّ بالذكر هنا الأشكال والتيمات التي تنطبع بذاكرة القراء، والمضامين التي يؤلفونها بطريقة أو أخرى، وتجعلهم يميّزون بين اللّغة الشعريّة واللّغة التقريريّة، وعلى هذا الأساس يظلّ تلقي الجمهور الأول وعلاقته بالأجناس الأدبيّة أكثر من ملهم في فهم الأدب وسيرورة تطوّره بالنسبة لهذا النوع من القراءة.
إن “القراءة المتجاوزة” تبرمج أسلوب تلقيها بأنها فور أن تضع عدستها على النص، تتغيّا رصد العالم الذي يبنينه في تعالقاته مع العالم الخارجي، أي لا تكتفي بما تثيره واجهة المخطوط وإنما تتجاوزه إلى مطاردة النقاط القابعة على ضفافه وبين تخومه، محاولة اقتفاء نسيج البنى التي تتنافذ فيه، واستنطاق التفاصيل المندسة في ثناياه، في شبكتها العلائقية التي تمتح منها مادتها الأدبية، بما فيها الأسيقة التي لها تأثير على التركيب البنيوي واللغوي للنص، والمرجعيات المسيّجة لفضائه الدلالي ونتاجه الجمالي، وهكذا يغتدي الدور الذي تنهض به “القراءة المتجاوزة” -وفق هذه الدينامية- يتخطى حدود التحيين أو الاستقراء إلى إجراء التوليد، بما معناه بعث الابداع من جديد في نسخة أخرى جديدة.
بينما القراءة الموجّهة: أو “القراءة الجماهيرية” لا تتأتى بشكل عفوي وإنّما تستمد وجودها من البرمجة المسبقة التي تعتمدها الجهات الفاعلة في الساحة الأدبية، وبتفسير أدق إنّ القراءة لكونها تعزف على وتر دياليكتيكي يؤثر ويتأثر معا، تظل سواء تجاوزت الاتجاهات الرؤيوية الموجودة في المتصور الذهني الجمعي، أو سواء ساعدت على انتشارها وأضفت عليها قابلية الاستمرارية، تفرض طابعها الرمزي والذوق السائد معا في المخيال الجمعي، كونها تعتمد في الأساس على النماذج المؤثثة لعوالمه (أي عوالم المتخيّل الجمعي)، أو بتعبير “جيل. تيريان” Gilles Thérien)): “يأخذ المعنى السياقي لكل قراءة قيمته إزاء باقي أشياء العالم التي للقارئ علاقة بها، ويثبت المعنى على مستوى متخيّل كلّ واحد، ولكنّه يتصل نظرا للطابع الجمعي لتكوينه بمتخيلات موجودة، هذا المتخيل الذي يقتسمه مع أعضاء آخرين في عشيرته أو في مجتمعه”([34])، ممّا يعني أنّ التلقي/القراءة لا يرفد المتخيّل الجمعي فقط، بل يمكن اعتباره تحصيل حاصل للبنى السوسيوثقافية السائدة في مجتمع بعينه أو بيئة ما، من قبيل ما تطالعنا به مسارات التلقي للشعر العربي القديم، والشعر المعاصر، والرجّة التي أحدثتها روايات “نجيب محفوظ” الأولى في المجتمع المصري، وما تفعله كتابات “أحلام مستغانمي” في الوطن العربي حاليا…إلخ.
وبمعنى من المعاني طالما أنّ القراءة تشتغل على تحفيز البعدين الفكري والعاطفي معا بالنسبة للقارئ من خلال تدعيم كفاياته وملكاته في الجانب الأوّل، وتحريك غرائزه واستثارة نزعاته النفسية في الجانب الثاني، يتغيّا هذا النّمط من القراءة مغازلة جميع أنواع المشاعر والأحاسيس التي تستثير المتلقي، وتهيّج غرائزه، وتوخز عواطفه، بما يجعله يتبنى هذه الفكرة، أو يتقمّص هذا الدور وما إلى ذلك من الأدوار التي تتبنّاها النصوص الأدبية في مضمار الدفع بالمتلقي إلى استنكار أفعال بعينها واستساغة أفعال أخرى، أو تفعيل الغيرة هنا، والضغينة هناك، والتعاطف مع هذه الشخصية واستهجان تلك…إلخ، وهي الحيثية التي ربطها “توماشوفسكي” (Tomachevsky) بكفايات النّاص، “حينما تكون موهبة المؤلف عالية يصعب مقاومة توجيهاته الانفعالية، فيصير العمل مقنعا، وقوّة الإقناع هذه باعتبارها أداة تعليمية، هي مصدر انجذابنا نحو العمل”([35])، والأمر نفسه أشار إليه فرويد وإن ربطه بكفايات القارئ/ المتلقي، “فأمام ما يواجهنا في الحياة فإنّنا نتصرّف على العموم بشكل سلبي، ونبقى خاضعين لتأثير الأحداث، لكنّنا نستجيب لنداء الشاعر، فبواسطة الوضع الذي يجعلنا فيه، والمشاعر التي يوقظ في داخلنا يستطيع أن يبعد أحاسيسنا عن تأثير ما، ليوجّهها نحو تأثير آخر”([36]). إنّ النصوص توخز عبر القراءة أماكن لدى القراء، ولذلك تراهم يتعاطفون مع هذه الشخصية على حساب تلك، ويؤثرون هذه القضية على الأخرى، وبهذا الشكل تخرج القراءة الشخصية الورقية من حال الكمون والتجرّد الروائيين إلى المرجعي الحي/الواقع، وتجعل القارئ يتخرط في الحدث الروائي.
وتقودنا هذه الرؤى إلى أنّ ماهية “القراءة الجماهيرية” مرتبطة أشد الارتباط بعامل الافتتان والانبهار والذوق السائد في المجتمع، ولذلك هي لا تتحقق كحدث إلا متى كان هناك إثارة وإمتاع يفتعلهما النص، أو أشياء من قبيل الترويح عن النفس وإدخال السرور على القلب .. وأخرى يعمل النّاص جاهدا على إثارتها في صنيعه لاستقطاب القراء إليه. وفي الغالب الأعم يقف وراء تأطير هذه القراءة وتوجيه مساراتها جهات بعينها، يأتي في طليعتها الناشر، وغرضه من ذلك تحقيق أكبر قدر ممكن من المبيعات واكتساح سوق الكتاب، وطبعا لا بنيّة أن يدّر الإنتاج الأدبي مطالعة، وإنّما لكي يدّر على شخصه ثروة، ولهذا السبب يتم التركيز في تأثيثها كهدف منشود -مبرمج سلفا- على مضاعفة حجم الذوق في الإبداع الأدبي.([37]) غير أن هذا بقدر ما يخدمها وييسر انتشارها، يجعل منها أيضا محدودة وظرفية، ذلك أن تفعيل عنصر الذوق لا يؤتي أكله دائما، إذ يبقى رهين زمن الصلاحية ومكانها لا أكثر ولا أقل، باعتباره يرتبط بعاملين رئيسيين. الأول: أن الميكانيزمات التي تضبطه وتوجهه آلا وهي الاشهار، والإعجاب الجماعي والأصداء التي يتداولها المجتمع تظل ظرفية هي الأخرى، كلما استجد الجديد وظهر الأحسن أو الأفضل تم إحالة العمل المقروء على الأرشيف ليوضع في طي النسيان.
والثاني: أنه نظرا لاختلاف ذائقة الأفراد من منطقة إلى أخرى، يصبح من غير المجدي الاعتماد على المعطيات إياها، لأنها قد لا تسعف فعل القراءة إلى التجاوب مع باقي الأمكنة، أو بالأحرى تحصر حدوده، فلا يتجاوز الوسط الذي ينتمي إليه الناشر.
وإلى هنا فإن “القراءة الموجهة” وإن كانت مخطوبة الود من قبل المستثمرين في حقل الآداب، فإنها بالمقابل تخلق مشاكل عويصة وتنتج حقائق غاية في الخطورة، منها على سبيل المثال لا الحصر، تحوير الوجهة الحقيقية للأدب عن مسارها الصحيح، والانحراف به من حيزه السويوثقافي المنوط به إلى الحيز الماركوتيني الاقتصادي، فضلا عن إخضاع عوالمه لمنطق الرغبات والغرائز .. ومشاكل أخرى نلفاها جميعها تضرب التلقي الملموس عرض الحائط، ونعني بذلك التلقي/القراءة الذي لا يتأتى “إلا إذا بنيت عملية التلقي نفسها على أساس سيكولوجي بأن توضع الذات المتلقية في مركز اهتمام المبدع أثناء تشكيل نصه”.([38])
2)-بمنظور “جاك لنهارت”: إن البحث الميداني الذي أجراه “لنهارت” بمعية فريقي بحث مختلفين على الجمهورين “الفرنسي” و”الهنغاري” –المشار إليه سالفا- بهدف مقاربة كيف يتلقى المشهد المجتمعي أنموذجا روائيا واحدا، من خلال عرضه على عينات مجتمعية مختلفة، تتفاوت في الأعمار والدرجة الثقافية وسوى ذلك… انتهى به إلى نتائج تباينت فيها آراء القراء موضع التحقيق كما تعددت تفسيراتهم، ولدى تدارسه لوضعياتهم أرجأ “لنهارت” السبب إلى مجموعة من النقاط تتصل بظاهرة القراءة، أوجزها في ثلاثة محاور أساسية هي:
أ)- أن هناك تعالقا عضويا ما بين التفسيرات النصية والبنية الثقافية وكذا البنية الإيديولوجية.
ب)- أن جمهور كل بلد يطور نظاما خاصا به في الإدراك والتقويم.
ج)- تأثيرات الماضي الحضاري والتاريخ القومي.
وبموجب هذه النتائج التي استخلصها من العينات التي طالتها الدراسة، قام “لنهارت” بتقسيم الأشكال القرائية إلى ثلاث أنواع رئيسية:
أ)-القراءة الوقائعية: (Factuelle): أو الظاهراتية وهي بمنظوره التي تبقي على سطح الأحداث المروية كما يبثها المتن، لا تحاورها ولا تتجاوزها، تكتفي فقط بتلقي جملة الوقائع والحوادث، وتتبع شتات العناصر والحلقات النّصية بما ما هي عليه، بالطريقة والترتيب المتواجدين في النص، غير مكترثة بالعمق وما تنطوي عليه ثنايا العمل الأدبي، فغايتها من التلقي هي التوقف عند حدود ما يتيحه النص علنا ويتكشف عنه ظاهريا، وليس النهوض بالمقاربة وتأويل الأشياء، أو تعليل المضامين وتقديم الانطباعات التي تنتهي غالبا بإصدار الأحكام القيمية حول العمل الأدبي من حيث الجودة والرداءة .. وما إلى ذلك.([39])
ب)-القراءة التمثيلية المتفاعلة: ترتبط مع النص ارتباطا تمثيليا عاطفيا، يجعلها تعيش أحداثه بكثافة وعمق وتتفاعل مع شخصياته، بأن تتقاسم معهم الأدوار والحوار والصراع، مفرغة ذاتها على الأثر الأدبي كطرف من الأطراف المؤثثة له، ومحركها الأساسي في كل ذلك هو الذوق والنزعة العاطفية. وبنقيض النمط الوقائعي الظاهري تستصدر الأحكام، كما تتعاطف مع الشخصيات والمواقف التي تثير استحسانها، وتدين تلك التي تثير استنكارها واشمئزازها، وتقتفي خطوات الأخرى التي توقظ غيرتها، وهكذا دواليك تتمظهر من بداية العمل الأدبي إلى نهايته مع هذا أحيانا و ضد ذاك أحيانا أخرى، بناء على ما يخالجها من عواطف ومشاعر ذاتية وإرهاصات ذوقية وتفاعلية، هي في حقيقتها تمتح من الواقع المرجعي المنخرطة فيه، بما يشتمل عليه من بني سائدة وثقافة مجتمعية وقيم متكلسة في الأذهان من جهة، ومن معاييرها الجمالية التي تتصل بملكتها الشخصية كذات قارئة من جهة ثانية.([40])
ج)- القراءة التحليلية التركيبية: تبحث عن أسباب الحالة ونتائجها، ولأجل هذا تبرمج وظيفيتين أساسيتين في مسارها القراءاتي، التحليل من ناحية والتركيب من ناحية أخرى، إذ يضطلع التحليل بدور تفكيك التشكيل البنائي للنص في تمفصلاته عبر اختراق مجموع البنى المساهمة فيه والوحدات المسيجة لنظامه العام، لكي يتسنى القبض عليها كلا على حدى، ومن ثم معرفة الكيفية التي ينتظم بها الإبداع وطبيعة العلائق المبنينة لمعماره، واستكناه الحيثيات الفاعلة على مستوى الزخارف التعبيرية وعلى مستوى الحدث النصي وباقي المستويات. وهو الإجراء الذي يتم غالبا بآليات ممنهجة، تتخذ من المعايير الموضوعية والقيم العلمية أدوات لبلوغ ذلك.
أما التركيب فيأتي دوره مكملا للتحليل، حيث يقوم بتجميع الجزئيات والعناصر التي تيسرت أناء فعل التفكيك، ثم ينهض بصياغتها وبنائها في شكل جديد، اتكاء على خطة ممنهجة يستتبعها القارئ في هذا الشأن، تعتمد على ما بجعبته من معطياته جمالية ومعايير وأدوات قراءاتية، وبهذا الشكل يصبح البناء الجديد للنص نتاجا للقارئ لا المؤلف([41]).
وإذا كانت هذه هي مفاهيم الأنماط القرائية -وقائعية، ظاهرية، تحليلية/تركيبية- كما أسفرت عنها مباحث “جاك لنهارت”، فإنها تبقى تتعلق بظاهر القراءة المستوحى من الجمهور المستفتى من قبل فريقي البحث، أما الباطن فينطوي على أنظمة توجه الصيرورة القرائية، وإلا ما الذي يجعل من قراءة ما ظاهرية وأخرى وقائعية وهكذا… ففي واقع الأمر الحمولة الذاتية التي يرزح تحت سطوتها الفعل القراءاتي أو يعمل في كنفها متعددة الأوجه، وتختلف من هذا القارئ إلى ذاك، إذ فيها ما يعود لقيم الفرد ومعارفه، وفيها ما يعود إلى الانتماءات الإيديولوجية، وفيها ما يعود لجانب الوعي والثقافة القومية، أو بالأحرى الثقافة الشاملة لحضارة معينة .. وغيرها من الثوابت التي تعد المحرك الأساسي أو المرجع الذي تستند عليه الذات القارئة أثناء تلقيها لإبداع من الإبداعات الأدبية. ولهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال عزل النمط القرائي عن نسقه، لأسباب وجيهة منها:
-أولا: أن فعل القراءة ليس فعل ميكانيكي آلي، يتولى التفكيك والتركيب خارج إطار البنى السوسيوثقافية.
-ثانيا: أنه ما دام كل عمل أدبي –يفترض فيه بأنه- يقترح منظومة من القيم، فالسؤال الجوهري الذي يستميت بحضوره في هذه الحال هو: هل تنهض القراءة بمجرد بسط المنظومة القيمية للعمل، أم أنها تقدم عوضا عن ذلك بديلا لها؛ أي منظومتها (منظومة القراء ومنطقهم).؟
ونظير هذا الإشكال الجدلي تقتضي سيرورة المنطق القرائي في جميع الحالات والمواقف، إلحاق شكل القراءة بنظامها الموصول بها، أو الذي يعتريها ويمسك بتلابيبها، احتكاما إلى ما تم ذكره والذي يتلخص في فكرة أن “ما يراد إيصاله للأخريين” تتغير دلالته خلال عملية الاتصال، وتبعا لثوابت تحدد كلا من المرسل والمتلقي والقناة”، أوبتعبير آخر لنهارت” قيم الفرد تتعلق أولا بانتمائه إلى هذه الجماعة أو تلك”، ممّا يعني أن أنماط القراءة الثلاث هي متصلة جدليا بثلاثة أنظمة أيضا،([42]) هي على التوالي: نسق نظام البنية الاجتماعية، نسق البنية الثقافية، نسق البنية الاجتماعية.
1- نسق نظام البنية الاجتماعية: ويعرف “بالنسق الذرائعي” (pragmatique) وهو الحيز الذي يبنين أبعاد الذاوت الفاعلة بفضاء النص ويحدد طبيعة وجودهم الواقعي في مضمار الكون العملي والحقل المادي، والمستوى الطبقي في المجتمع وحتى الثقافي، يشكل لدى القارئ كم المعطى الذي منه يستلهم الرصيد الانطباعي عن المواقف والممارسات، وأمشاج العلائق المكونة لنتاج النص، فيرسم في متصوره الذهني صورة لحقيقة الانتماء الإيديولوجي والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، متخيلا أن هذا النظام هو مرجيعة النص، أو البنية التحتية التي تدير حوادثه، ويكتفي بهذا دون أن يتباحث ملابسات المسألة، ذلك أن غاية ما يعنيه هو متابعة أطوار ما يجري مع شخصيات النص وأفعاله.
2- نسق البنية الثقافية: وقوامه مجموعة الخواص والمبادئ الثقافية والثوابت الأخلاقية، التي تشكل بتظافرها الرصيد الثقافي القومي والتاريخي للجماعة، ونلفاه في شقين أساسين، يهتم الشق الأول منه بكل ما يحيط بالإرهاصات “التي تتضمن إدانة أو لوما أو نقدا قائما على عدد من القيم المثالية مثل الثقافة والضمير والحرية والاتحاد”،([43]) ويهتم الشق الثاني “بإدانة سلوك متصف بالضعف أو الجزع أو التردد، أو تنديدا بخمول وحيرة شخصيات محكوم عليها باسم تماسك النظام الأخلاقي”.([44])
وهكذا يشكل هذا النسق بناء خلفيا للمعايير الثقافية والقيم الأخلاقية التي على كاهلها يقيم المتلقي تصوراته حيال ما يبثه النص بين موضع وموضع، وحال وأخرى.
3-نسق البنية الاجتماعية: يقوم على مفهوم المشورطية الاجتماعية، ويأتي بمعيه المسار الذي تصطنعه القراءة التي تعمل على إسقاط الموجود بالمجتمع، وما يسيّج حيواة طبقاته على العوالم التي يؤثثها النص، مفسرة بذلك الأفعال والحوادث النصية بظروف وبنى الأحوال المجتمعية.([45])
- الأنماط/الأنساق، وسياق المرجعية:
يطرح إشكال القراءة في نطاق بنية قوامها الذات القارئة والنص المقروء، وهو ما يعني أن غمار المواجهة ههنا معقود بين خصمين لدودين لكل منهما عالمه الخاص، فالنص عندما يفتح نافذته على القارئ قد يصطدم بفضاء مغاير جملة وتفضيلا لفضائه، كون صاحب المبادرة أو من يقوم بالقراءة هو من يشرع بالحوار أول الأمر، معتمدا على خبراته ومعارفه ورصيده من الكفايات التي اكتسبها بطريقة أو أخرى، مباشرة أو غير مباشرة، من خلال تفاعلاته وتقاطعاته مع مجالات شتى فيها الفكري والإيديولوجي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي والقومي والإرث الحضاري وما إلى ذلك …
وعليه من نافل القول أن القراءة محفوفة بتداخلات جمة، ويكمن السبب في أنها ليست في حل من أمرها، بل في موضع تأثير وتأثر “معا بالثقافة وبالبنية السائدة في عصر ما وفي بيئة ما، وسيّان أنكرت القراءة النماذج الفكرية المهيمنة في الخيال الجماعي، أو عززت من مواقعها فإنها تؤثر بها، فتؤكد بذلك بعدها الرمزي، ويكتسب المعنى الذي ترتديه قراءة ما في وسطها أهمية بالنسبة لبقية أشياء العالم التي يألفها القارئ في ذلك الوسط، ويثبت هذا المعنى في خيال ذلك القارئ”،([46]) وهذا الأخير ومن منطلق أنه لا يحيا معزولا في كوكب آخر بل في مكان بشري يتقاسم وأفراده الواقع والحلم والتاريخ، بما في ذلك المخيال الجماعي، “فإن المعنى الذي يثبت في خياله يرفد كذلك الخيال الجماعي”،([47]) ومن ثم فالقراءة لئن كانت تتمظهر ذات خصوصية ذاتية، فإن هذا ليس إلا الظاهر من جانب الجليد، أما المتوارى فيعكس حقيقة أخرى تماما هي أنها ظاهرة جماعية أو “جزء لا يتجزأ من ثقافة جماعية”،([48]) ويعزى هذا لها لأن القارئ لا يقبل على النص إلا بما هو متوافر لديه، أو سبق أن تكلس وانطبع بذاكرته، مشكلا إرثه المرجعي الذي يمتح منه أناء مزاولته فعل التلقي.
وبتفسير أوضح إنه لدى محاورته الإبداع الأدبي، إن هو إلا يقوم بعمليتي اسقاط ومقايسة، إسقاط ما بجعبته ومقايسته بما هو موجود على الورق، فتجده يهضم بيسر ودون تكلف ما يضاهي ويوازي خزينه المعرفي، ويجتر بعسر ما يخالف ذلك أو ينصرف عنه كلية.
وبناء عليه فإن الأحكام القرائية -المقرة بجودة أو رداءة منتوج أدبي ما- الصادرة عن أصحابها، تمثل في تفاصيلها الدقيقة حتى وهي ترتدي وتتقمص الطابع الذاتي المرجعية الكامنة ككل، لا الذات القارئة وحسب، ذلك أن بناء الوعي القرءاتي هو من حيث الجوهر تمثيل لمجموع الخصوصيات الجمالية والمعيارية والتفسيرية التي يثيرها المرجع لدى القارئ، لا بمحض العفوية وإنما اتكاء على أطر دلالية مشتركة تحكمها مجموعة قواعد، تأخذ طابع المقاييس التي يرجع إليها في استصدار الأحكام على الصنيع الأدبي من حيث قيّمه وأهدافه ومعاييره.
ولا يتورع المرجع عن الحضور والالتصاق بمعية فعل التلقي، سواء شاء القارئ أم أبى، ومرد ذلك أن كل طرائق القراءة لا تخلو من مضمار للمرجع امتدادات فيه وتأثير على نهجه أو سياقه، كون ما يؤثث خزين الناقد هو التقنيات التي يبرزها الحقل الثقافي، وفسيفساء تنتهل من مختلف الأشكال التعبيرية اليومي والمعاش والواقعي والطبيعي، وتتناص مع التاريخي والأسطوري، وتغترف من خطابات عدة قد تدعو إليها مواقف معينة .. وسوى ذلك من شبكة التقاليد الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية …الخ.
وفحوى هذا أن القراءة وأيّا كان النمط الذي تتقمصه من الثلاثة المذكورة آنفا، فإن أشكالها قد تتعدد، تبعا لمرهونية العمل الأدبي بالحمولة المسقطة عليه،([49]) أي بما يجود به عليه القارئ حال تجريده لرزم كلماته وحوادثه إلى عناصر ذات معنى، أو حال استبداله للوثيقة الأصل بوثيقته التفسيرية، ويحدث هذا بشكل طبيعي لأن تلقي النص غالبا ما يتم “خارج إطاره الأصلي (ولهذا) ينفتح على أكثر من تأويل، ويقبل أكثر من تفسير، ذلك أن كل قارئ جديد يحمل معه تجربته الخاصة وثقافته الفردية وقيم عصره وهمومه وينظر إلى النص من خلالها”.([50])
وهذا عينه ما انتهت إليه نتائج فريقي بحث “لنهارت”، حيث أثبتت أن القراءة تخضع للقيم المترسبة داخل التشكيلات الاجتماعية، وتتأقلم مع ما يسودها من مرتكزات إيديولوجية وأنظمة سياسية، وتعبر عنها في أفكارها ومعتقداتها وأحكامها، وكذا انطباعاتها المعيارية وأحكامها القيمية، ولذلك جاءت قراءة الجمهور المستفتى من الفرنسين ذات نمط رأس مالي بحت، تنصرف إلى التفكيك والبناء، بحثا عن الأسباب والنتائج وكلها تحرر في ذلك، وبالمقابل جاءت قراءة الجمهور الهنغاري إيديولوجية اشتراكية، وبمعنى آخر تمثيلية انفعالية انساقت وراء شخصيات بعينها وتعاطفت مع مواقفها وشجبت ممارسات شخصيات أخرى واعترضت عليها، ولا يمكن أن يكون هكذا موقف بريئا من خلفيات الحس الجمعي ومرجعيات النّظام الاشتراكي، ما جعل القراءة تتسيس وتتبع التوجهات السائدة.
الخاتمة:
تحت مظلّة ما أتينا على ذكره يمكن القول أن النقاط الأساسية التي نستخلصها من على هامش المعطيات والحقائق التي يطالعنا بها فعل التلقي هي:
* أن القراءة ترزح تحت السطوة السلطوية للقارئ.
* عدم تناسق القراء في المشهد المجتمعي من منطقة إلى أخرى وبين مجموعة بشرية وسواها.
* تنافذ البنى الطبقية والعلاقات الوظيفية في الوعي القراءاتي، الذي يتم بشكل عام ضمن “سمات خاصة للنظم الايديولوجية (تسيطر) على وعي القراءة، ووظيفة هذه النظم تبدو في داخل الجماعات والطبقات المكونة للمجتمع بصفة مجملة”.([51]) أو بتقدير آخر “لنهارت” “القراء أنفسهم يعيدون كتابة الرواية المقروءة، بحيث أن ما يستخلصونه (منها) أو ما يفعلونه لا يتوقف على نص الرواية بقدر ما يتوقف على بنياتهم النفسية والإيديولوجية الخاصة”([52]).
والسؤال هنا بالاحتكام إلى الحقائق التي تشي بها القراءة في طيّاتها، ما محل التلقي الأدبي من الإعراب إذا؟؟؟
ثم وبما أنه يستحيل تلقي نص ما خارج إطاره الأصلي بالطريقة التي توخاها كاتبه أناء فترة المخاض العسير للخلق الإبداعي، إلى أي مدى يتأتى القبض على مقصدية المؤلف التي ضمّنها مؤلفه، وبالأبلغ الأوضح، ما إمكانية تحققها بين طرفي المعادلة (النص، القارئ)؟؟؟ في ظل فرضية هذا القارئ الذي لا يلاحظ في النص الا ما يستجديه وتبصره رغبته لا أكثر ولا أقل؟
والأقرب إلى المنطق في ضوء هذه المعطيات الإشكالية، هو أن النتاج الأدبي إن كان يفسح الأبواب أمام تعدد قرائي، لا يعني هذا أن يقرأه الكل كما يشاء بالكيفية التي يشاء حسب أهوائهم ورغباتهم، إذ لو ساور هذا الفعل القرائي لتشابهت النصوص برمتها وصنّفت في خانة واحدة، وهو الأمر المستبعد أو في الحقيقة ما لا يمكن تحققه بالمرة.
فمهما تنامت السلطة التي تقيمها القراءة، هي لا تسطيع أن تلتبس بسلطة الأمر الواقع، لأن حركية الابداع ترفض ذلك ولا تجيزه، بيد أنه مع هذا المشاكل التي تطرح على مستواها لا يستهان بها، فما دام فعل القراءة بالمفهوم إياه يرتبط لوجيستيا بما هو متكلس من معايير قيمية، ويستمد مبادئه التأويلية من خانة الحمولة القابعة خلفه، أو التي تسيّج وسطه سياسيا وإيديولوجيا وسوسيو ثقافيا وسوسيو اقتصاديا وسوسيو تاريخيا، فإن الفئة المزمع انوجادها، أي فئة القراء الذين وضع الصنيع الأدبي لأجلهم من قبل المؤلف أول الأمر، ليس بوسعها حسم الأمر القرائي في فضاء متشرذي الخطوط والأبعاد، ومشهد مجتمعي ما يكتنفه من التباعد والتناقض في رحاب التلقي أكثر بكثير مما يحوطه من التجانس والانسجام.
ويعتبر أكبر الأطراف تضررا في هذا المضمار النص، كون الهم الأعتى يقع على عاتقه، فهو من يواجه الصراعات القرائية (أنماطا وأنساقا) بمختلف أشكالها وألوانها، وهو من تتقاذفه وتتجاذبه أمواج وعواطف الشرائح المختلفة للقراء.
وعليه التعامل مع القراءة من زاوية علاقتها بالجمهور القارئ، أي في نطاق علاقة نتاجها العام بالكيان المجتمعي ككل، بقدر ما يعطي الصنيع الأدبي بعده الثقافي، بقدر ما يفتح المجال على نوافذ شتى يعسر بمعيتها طي الملف وغلقه، والمعني هنا الحالات التي يضع فيها القراء ذواتهم على النص متجاوزين الحدود التي يفترض الحفاظ عليها في سبيل استثمار قراءاتي ناجع. فـ “النص الأدبي (في معظم الأوقات) يخاطب فينا قدرتنا على الانفعال وحسب، وبالتالي فإن حسنا النقدي يسهو وقد تختفي قدرتنا على اتخاذ المسافة النقدية اللازمة بيننا وبين النص”،([53]) المسافة التي تغني التجربة وتثريها وتنتشلها من عرين الخطر، ويكفي لتحققها أن يتحكم القارئ في نهمه الذاتي، ويكبح جماح عواطفه شيئا ما بتوظيفها توظيفا وسطا يحترم التوازن والاعتدال القرائي.
قائمة المصادر والمراجع:
1-جاك لنهارت، مقابلة حوارية، مج الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، مركز خليل السكاكيني، (رام الله) فلسطين، ع 36، 1990.
2-جوف فانسون، القراءة، تر: د.محمد آيت لعميم، شكير نصر الدين، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2016.
3-هاشم صالح، قراءة في الفكر الأوروبي الحديث، كتاب الرياض، الرياض، 1994.
4-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، منشورات دار الأديب. وهران، ط01، 2007.
5-حسن مصطفى سحلول، نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.
6-حسين قبيسي، حوار مع أدونيس، مج الشروق،ع11. 1992.
7-حافظ صبري، الأدب والمجتمع، مج: فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ع02، 1981.
8-محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد المغربي المعاصر (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق)، مطبعة أنفو برانت، فاس/المغرب، ط1، 2001.
9-محمد حافظ دياب: النقد الأدبي وعلم الاجتماع (مقدمة نظرية)، مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ع 1، المجلد 4، 1983.
10-سمير حجازي، المتقن: معجم المصطلحات اللغوية والأدبية الحديثة، (فرنسي عربي،عربي فرنسي)، دار الراتب الجامعية، بيروت، ط1، 1993.
11-عبد العزيز جسوس: إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش/ المغرب، ط1، 2007.
12-عبد الرحمن عميرة، المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت لبنان، 1985.
13-علي جعفر العلاق، الشعر والتلقي، دراسات نقدية، دار الشروق. عمان، 1997.
14-عبد الله أبو هيف، النقد الأدبي العربي الجديد (في القصة والرواية والسرد)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 2000.
15-عبد القادر هني، البعد السيكولوجي للتلقي الأدبي، مجلة الأدب، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، ع11، 2006.
16-فردريك أنجلز: نصوص مختارة، تحرير جان كنابا: تر: وصفي البني: وزارة الثقافة، (د،ت) دمشق، 1972.
17-شكري عزيز ماضي، محاضرات في نظرية الأدب، دار البعث، قسنطينة، ط1، 1984.
18-رشيد بن حدوا، قراءة القراءة، مج الفكر العربي المعاصر،ع (48-49)، جانفي 1988.
19-Gilles Thérien, «Pour une sémiotique de la lecture», dans Protée, 2-3, 1990,vol. p: 10.
20-Hans-Robert Jauss, pour une esthétique la réception, Gallimard, paris, 1978, p, 198.
21-Jacques Leenhardt, Lire la lecture, essai de sociologie de la lecture, Edition, L’Harmattan, paris, 1999, p, 35.
-22Jean Ricardou, le nouveau existe –t-il- ? in nouveau roman, Hier, aujourd’hui Ed, U.G.E Paris, 1968, p, 10-18.
23-Lucien, Goldmann, Recherche dialectiques, Éditions Gallimard, Paris, 1959, p, 45.
1-عبد العزيز جسوس: إشكالية الخطاب العلمي في النقد الأدبي العربي المعاصر، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش/ المغرب، ط1، 2007، ص، 66.
2-محمد حافظ دياب: النقد الأدبي وعلم الاجتماع (مقدمة نظرية)، مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ع 1، المجلد 4، 1983، ص، 61.
4-فردريك أنجلز: نصوص مختارة، تحرير جان كنابا: تر: وصفي البني: وزارة الثقافة، (د،ت) دمشق، 1972، ص، 457-458.
محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد المغربي المعاصر (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق)، مطبعة أنفو برانت، فاس/المغرب، ط1، ص، 18. -[5]
-حافظ صبري، الأدب والمجتمع، مج: فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ع02، 1981، ص، 67.-[6]
7-عبد الرحمن عميرة، المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها، دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع، بيروت لبنان، 1985، ص، 133.
8-حيث ألحق تين، عامل الزمان بافتراضات فيكو، وألحق عامل البيئة بافتراضات (ما دام دي ستايل) ومن ثم شكل ثالوث (البيئة، الجنس، الزمان).
9-شكري عزيز ماضي، محاضرات في نظرية الأدب، دار البعث، قسنطينة، ط1، 1984، ص، 128-129.
10-Lucien, Goldmann, Recherche dialectiques, Éditions Gallimard, Paris, 1959, p, 45.
11-ما دام العمل يخضع إلى (التسويق، الدعاية، الاستثمار).
12-شكري عزيز ماضي، محاضرات في نظرية الأدب، ص، 130.
13-جاك لنهارت، مقابلة حوارية، مج الكرمل، مؤسسة الكرمل الثقافية، مركز خليل السكاكيني، (رام الله) فلسطين، ع 36، 1990، ص، 66.
14-جاك لنهارت، مقابلة حوارية، مج الكرمل، ص، 66.
15-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، منشورات دار الأديب. وهران، ط01، 2007، ص، 36.
16-هاشم صالح، قراءة في الفكر الأوروبي الحديث، كتاب الرياض، الرياض، 1994، ص، 149.
17-هاشم صالح، قراءة في الفكر الأوروبي الحديث، ص، 148.
18-حسين قبيسي، حوار مع أدونيس، مج الشروق،ع11. 1992، ص، 30.
19-علي جعفر العلاق، الشعر والتلقي، دراسات نقدية، دار الشروق. عمان، 1997، ص، 64.
20-حبيب مونسي، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 37.
21-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 37.
22-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 37.
23-وإن كان من الصعوبة بمكان القبض عليهم.
24-Hans-Robert Jauss, pour une esthétique la réception, Gallimard, paris, 1978, p, 198.
فانسون جوف، القراءة، تر: د.محمد آيت لعميم، شكير نصر الدين، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2016، ص 45.-[25]
فانسون جوف، القراءة، ص 139.-[26]
27-عبد الله أبو هيف، النقد الأدبي العربي الجديد (في القصة والرواية والسرد)، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ط1، 2000، ص، 175.
28-محمد خرماش، إشكالية المناهج في النقد المغربي المعاصر (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق)، مطبعة أنفو برانت. فاس، ط1، 2001، ص، 22.
-29Jean Ricardou, le nouveau existe –t-il- ? in nouveau roman, Hier, aujourd’hui Ed, U.G.E Paris, 1968, p, 10-18.
حبيب مونسي، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 39. -30
31-جاك لنهارت، مقابلة حوارية، مج الكرمل، ص، 66.
32-حبيب مونسي، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 40.
33-حبيب مونسي، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 40.
[34]– Gilles Thérien, «Pour une sémiotique de la lecture», dans Protée, 2-3, 1990,vol. p: 10.
فانسون جوف، القراءة، ص 26. -[35]
فانسون جوف، القراءة، ص 26. -[36]
37-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 41.
38-عبد القادر هني، البعد السيكولوجي للتلقي الأدبي، مجلة الأدب، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، ع11، 2006، ص، 42.
39-رشيد بن جدوا، قراءة القراءة، مج الفكر العربي المعاصر، جانفي، 1988، ع (48-49)، ص، 17.
40-رشيد بن جدوا، قراءة القراءة، ص، 17.
41-لأنه صنيع جهد الذات القارئة.
42-حبيب مونسيّ، نظريات القراءة في النقد المعاصر، ص، 43.
43-رشيد بن جدوا، قراءة القراءة، ص، 17.
44-رشيد بن جدوا، قراءة القراءة، ص، 17.
45-(..لأكثر تفاصيل أنظر مونسيّ حبيب، ص،43)
46-حسن مصطفى سحلول، نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص، 26.
49-وهي الحمولة التي تمتح من المرجعية المتشابكة التفاصيل.
50-حسن مصطفى سحلول، نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، ص، 28.
51-سمير حجازي، المتقن: معجم المصطلحات اللغوية والأدبية الحديثة، (فرنسي عربي،عربي فرنسي)، دار الراتب الجامعية، بيروت، ط1، 1993، ص، 198.
52-Jacques Leenhardt, Lire la lecture, essai de sociologie de la lecture, Edition, L’Harmattan, paris, 1999, p, 35.
53-حسن مصطفى سحلول، نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، ص، 126.