
لغة الإعلام المسموع بالمغرب،من الفوضى اللغوية.. إلى إعلان الإفلاس اللغوي
أ.د.عز الدين الزياتي/جامعة محمد الخامس، المغرب
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية العدد 41 الصفحة 35.
ملخص:يعتبر الإعلام وسيلة تواصل فعالة بين أفراد المجتمع الواحد من جهة، وبين المجتمعات المختلفة من جهة أخرى. ولا شك أن أهميته كبيرة في نشر اللغة والثقافة؛ وهو أيضا معبِّر عن الهوية ولسان حالها. وينبغي ألّا يخرج عما سطَّرته أخلاقيات المهنة، وما أرسته الأعراف مع احترام المقدسات والثوابت.
نحاول في هذه الورقة أن نميط اللثام عن الواقع اللغوي في إعلامنا، ونحدد وضع اللغة العربية فيه، وسط ما يتنازعها من تجاذبات سياسية وثقافية، وفي ظل شيوع العاميات في العالم العربي. فما طبيعة العامية الموظفة في إعلامنا؟ وما مصادر التلوث اللغوي فيه؟ وهل نتجه فعلا نحو إعلان الإفلاس اللغوي؟
الكلمات المفتاحية: الإعلام؛ اللغة العربية؛ العامية؛ التلوث اللغوي؛ الإفلاس اللغوي.
مقدمة:
لا تخفى أهمية الإعلام في التنشئة الاجتماعية وتربية الناشئة وتهذيب الأذواق والرقي بالفكر وتنويره، وفي نشر اللغة وتجديدها وتيسيرها، وإغنائها بتعابير ومصطلحات جديدة، وغيرها من الخدمات الجليلة التي يمكن أن يسديها الإعلاميون للغة؛ مثل العمل على تقريب الهوة بين اللغة الفصحى والعامية؛ ذلك أن رأب الصدع بين المستوى الفصيح المعيار والمستوى العامي يعدّ سمة من سمات المجتمعات المتطورة. وبالمِثل فقد يكون الإعلام سلاحا ذا حدّين فيُفسد الأذواق وينحطّ بالفكر ويدمّر القيم ويخرّب اللغة…
في هذا الإطار، تندرج هذه الورقة، والهدف مقاربة إشكالية اللغة العربية في الإعلام المغاربي والمغربي خاصة التي تنبئ كل المؤشرات بانحدارها الحاد في ظل الفوضى العارمة المستشرية، والتلوث الخانق الذي يكتنف الوضع اللغوي بهذا البلد.
- فما أسباب هذه الفوضى وما مصادرها في الإعلام المسموع بالمغرب؟ وما الآثار المترتبة عن هذا التلوث اللغوي؟ وهل يتجه الإعلام المسموع إلى إعلان الإفلاس اللغوي؟
- تعريف لغة الإعلام ومميزاتها:
مما لا شك فيه أن ثمة تمايزا بين اللغة المعيار ولغة الإعلام باعتبارها لغة جديدة لها من المواصفات ما يجعلها مستقلة بذاتها، فهي اللغة المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة والتي تشيع على نطاق واسع في صفوف الجماهير وتشكل قاسما مشتركا بين أفراده ومجموعاته، فهي تعكس الواقع الاجتماعي والحضاري للمجتمع؛ إنها لغة الحضارة ولسان الثقافات، وقد أدرك المتتبعون هذا الاختلاف منذ نشأة الصحافة والإعلام، ومنهم من سعى لتعداد مزاياها ودورها في تجديد اللغة وإثرائها، وفاعليتها في جعلها لغة الاستعمال اليومي ومحاولتها الارتقاء بمستوى الأميين وذوي المستويات الثقافية المتواضعة، ولعل أبرز هؤلاء عضو مَجمع اللغة العربية عبد الله كنون في مؤلَّفه “الصحافة وتجديد اللغة” الذي أشاد بالدور الرائد الذي اضطلع به الصحفيون في تبييء المصطلحات وتوطين المفاهيم[1]. وهذا ما دأب الإعلاميون على التباري فيه منذ نشأة الصحافة؛ والتباهي بالضبط اللغوي وامتلاك ناصية الكلمة وإبراز علو الكعب في ذلك؛ بعيدا عن التعاجم المتعمَّد واللكنة المستغرَبة.
ومن الخصائص التي ينبغي أن تتميز بها لغة الإعلام؛ الوضوح نطقا ومعنى، والمعاصرة بعيدا عن الحوشي والغريب من الألفاظ، والملاءمة مع الوسيلة الإعلامية إذاعة أو تلفزة أو غيرها، ومع الموضوع المثار والجمهور المستهدف، والجاذبية والحياة لتثير التشويق والفضول، وسلامة اللغة والاختصار والمرونة والغنى والتطور…[2].
ولا شك أن كل مجتمع له نمط من الأخلاق والمبادئ والقيم المتواضع عليها عُرفا، أو تلك التي حدّدها الدِّين وقَنّنتها المواثيق؛ منها احترام الذوق العام والآداب العامة وتنزيه المقدّسات وغيرها من الأخلاقيات المسطرة في ميثاق أخلاقيات الممارسة الإعلامية…
ذلكم تعريف لغة الإعلام وتلكم خصائص لغته وأخلاقياته في الأمم التي تحترم لغاتها وتعتز بها وتسعى إلى تطويرها. فهل نلمس لهذا التعريف ولهذه الخصائص أثرا في إذاعاتنا الخاصة اليوم، وهل تسمح أمم أخرى بهذه الفوضى في إذاعاتها؟!
2- سؤال الثقافة بين العامية والعامنسية…
بالأمس القريب كان همّ المتتبعين وشغلهم الشاغل هو رصد أخطاء الإعلاميين المعدودة على رؤوس الأصابع ومحاولة تصويبها؛ من قبيل: التنغيم والهمس والجهر والترقيق والتفخيم والأخطاء في الجمع والمطابقة وغيرها من الهفوات الصوتية والدلالية والصرفية… بل إن موضوع الأخطاء في لغة الإعلام قد أُلِّفت فيه الكتب وأُنجزت حوله الدراسات والأبحاث، أما اليوم فلم يعد ممكنا الحديث عن شيء من ذلك، حينما عمّت الفوضى مجال اللغة في الإعلام وأصبح الاستثناء أن تسمع لفظا أو تعبيرا سليما. فعمت الفوضى وانتشرت العاميات العربية وغير العربية.
الواقع أن توظيف ما يدعى بــ”العرنسية” (نحت من عربية وفرنسية) غير دقيق، أو على الأقل لا ينطبق على اللفظ بمعناه المتداول اليوم كتوصيف للغة الإعلام ببلادنا، فالصواب أن يدعى “عامنسية” (نحت من عامية وفرنسية) وإن كانت عامية اليوم قد انحدرت إلى مستويات بعيدة عن اللغة العربية الفصحى صوتا وتركيبا، وأحدثت قطيعة مع عامية الإعلام الموظفة في إذاعتنا الوطنية. إنها مزيج بين عامية فقيرة “ممسوخة” تشيع بين المراهقين والأميين وهي تكاد تكون حكرا على الشارع، ويخجل الكثيرون من استعمالها داخل منازلهم وبين ذويهم للتخاطب، وبين “فرنسية” تستقيم حينا ولا تستقيما أحيانا أخرى، بحسب المستعملين لها. “العامنسية” هي آخر دركات الانحطاط اللغوي قبل إعلان الإفلاس اللغوي؛ والتي وجدت سبيلها إلى الانتشار السريع بفعل وسائل الإعلام والاتصال الحديثة المتنوعة ومنها الإذاعات المسموعة، أو بعض برامجها الهادرة التي تقوم أساسا على التنشيط والصخب أو الاتصالات الهاتفية والحوارات المباشرة.
إن السؤال اليوم حول المآل الذي سيؤول إليه الوضع اللغوي بعد هذا التلوث الناتج عن فوضى الرطانات واللهجات واللغات في مزيج متنطع غير متجانس، يستعصي على الصهر في بوثقة واحدة، ويأبى التقعيد، وهو ما يُنذر باختفاء لغة ولهجة لتحل محلهما هجنة أو “كريول”* créole -والتي “يعرفها كومير سيلفان (Comhaire-sylvain) في الثلاثينيات بأنها لغات إفريقية بمعجم فرنسي”[3]– تختلط فيها اللغة العربية الفصحى بالعامية والفرنسية في مكون غير منضبط، لا انسجام بين عناصره ولا قرابة بين وحداته الصوتية والتركيبية والدلالية.
هذه الفوضى وهذا التلوث لا يمكنه بأي حال أن يُنتج فكرا أو يثمر ثقافة لأنه يفتقد إلى أي مقوِّم من مقومات الحياة الطبيعية؛ أمية وتلفيق وانفلات في مفارقة خرافية قوامها أن يُشكِّل الأمّي عامل جذب للمثقف ونوتة تعزف على إيقاعاتها المحطات الإذاعية والتلفزية لتكريس الرداءة اللغوية والانحطاط المعرفي، بدل أن يحدث العكس؛ أي أن تسعى هذه المحطات إلى الارتقاء بمستوى الأميين وأشباه الأميين ومخاطبتهم بلغة ميسرة، أُطلِق عليها في السابق لغة إعلامية، ليكون الإعلام قاطرة على طريق التنوير والتثقيف، وبديلا معرفيا لمجتمع زَهَد في القراءة ونبذ الكتاب وجعله مهجورا.
إن اللغة، كما هو معلوم، باختلاف وظائفها لا تقتصر عند الإنسان على التعبير عن حاجاته الأساسية فقط، بل إنها لسان للفكر والقيم، يجب أن تكون غنية بالمفاهيم العلمية والأدبية والفنية، حاملة للمبادئ القيَمية، وهو يقينًا ما تفتقده العامنسية؛ لأنها جوفاء ورصيدها صِفر في الآداب والفنون والعلوم، بل تعوزها الألفاظ والمصطلحات الأساسية والطاقة التعبيرية الكافية.
وإذا سعينا إلى استكناه مضمون الرسالة الإعلامية وحيثياتها، وحاولنا التساؤل مع هارولد لاسويل (Harold Laswell) ونموذجه الاتصالي، فأي أجوبة تلك التي سنظفر بها؟ وأي إعلاميّ في إذاعاتنا الخاصة؟ وأي متلق يَقصد؟ وأي فكر هذا الذي تحمله العامنسية الإعلامية، وأي رسالة؟ وأي قيم تلك التي تحويها؟ وأي واقع تعبّر عنه؟ وأي وقْع تحدثه؟
علما أن “اللغة تشكل عقول الجمهور، وتصوغ رؤيته التي يفسر بها واقعه ويستوعبه ويتكيف معه ويوجه سلوكه في التعامل مع هذا الواقع”[4]، إنها حسب الفيلسوف الألماني فيخته (Fichte): “…ترافق المرء وتحركه حتى أعمق أدوار تفكيره وإرادته، هي التي تجعل منا نحن الألمان، مجتمعا متماسكا يديره عقل واحد…”[5].
إن ارتباط وسائل الإعلام بالمجتمع ولغته وثقافته أمر على درجة عالية من الحساسية، فهو يستخدمها أو يضطر إلى استخدامها على حد تعبير ماكلوهان (Maklohane) “وستحدد طبيعة المجتمع وكيف يعالج مشاكله، وأي وسيلة جديدة امتداد للإنسان تشكل ظروفا جديدة محيطة تسيطر على ما يفعله الأفراد الذين يعيشون في ظل هذه الظروف وتؤثر على الطريقة التي يفكرون ويعملون وفقا لها”[6]. بل إن من الباحثين من جعل الإعلام على رأس قائمة المؤثرين في التربية عموما، فاعتبروه هو المنهج التربوي الأول، تليه المدرسة من حيث الأهمية.
وفي اعتقادنا، فمهما تكن الذرائع التي يتحجّج بها المنافحون عن استعمال العامية في الإعلام، كانتشار الأمية مثلا، فإن سبل التواصل بالعربية الفصحى تظل الأكثر تيسيرا وفعالية بالنظر إلى المستوى “الوضيع” للعامية (مقابل المستوى الرفيع للفصحى)، وإلى الاختلاف الشديد بين اللهجات الوطنية، ناهيك عن اللهجات في العالم العربي، في وقت تتنافس فيه الأمم على التقريب بين المجتمعات والعشائر في زمن العولمة وتقنيات الاتصال الحديثة. زد على ذلك أن الأوْلى أن تُستعمل لغة عربية مبسطة لتوعية الأميين وتنويرهم، عوض محاربة المثقف ولغته، وهذه من جملة المهام التي اضطلعت بها الإذاعات الوطنية منذ إنشائها.
“إن اللغة بالنسبة لثقافة معينة ما هي إلا أجمل وردة فيها، إننا لا نفصلها عن ساقها أو جذورها. وعلى المجتمع باعتباره وارثها، أن يَتعهَّدها بالحماية”[7].
إن اللغة من منظور سوسيولساني هي ظاهرة اجتماعية كما أشار إلى ذلك عالم اللغة الفرنسي أنطوان ماييAntoine) Meillet) في كثير من النصوص، إذ يؤكد على الطابع الاجتماعي للغة[8]. في نظره إنه لا يمكن أن نفهم شيئا عن ظواهر اللغة دون الإحالة على ما هو اجتماعي وإلى تطور اللغة عبر الزمن، وإلى التاريخ[9]. إن اللغة أي لغة بهذا المعنى هي حاصل ثقافة معينة وكل كلمة فيها ذات حمولة ثقافية وحضارية، والعامنسية أو الكريول هي فرنسية في جزء كبير منها، فما الذي سيعبِّر عنه هذا الخليط الهجين كخطاب موجه إلى المغاربة؟ وأي تاريخ يحيل عليه غير تاريخ الاستعمار والنكبات؟ وأي فكر يحمله؟ إذا كان الكريول هو لسان الشعوب المتخلفة. وقد نشأ عن الحملات الامبريالية وتهجير العبيد[10].
إن اللغة هي دليل الهوية، فهل نتخلى عن هويتنا الحضارية والتاريخية ونختار طوعا هوية التخلف والعبودية؟ “إن اللغة الأصلية تكتسي قيمة رمزية لا يمكن إنكارها. إنها أثر الجذور، نحتفظ بها في ذواتنا مثل الدم ونحب نقلها إلى الأجيال القادمة”. هكذا تقول بيليز جاكلين (Billiez Jacqueline) في مقالتها التي صدَّرتها بعبارة أحد المهاجرين: “لغتي هي العربية، لكني لا أتحدثها”[11]. فأي جذور للعامنسية؟ وأي رسالة هذه التي ننقلها لأحفادنا؟
3-الفوضى اللغوية؛ مصادرها ومظاهرها والآثار المترتبة عليها:
3-1-تعريف الفوضى اللغوية: حينما نقول فوضى لغوية فإننا نقصد بها استعمال خليط غير متجانس من لغتين أو لهجتين أو أكثر للتواصل، كما هو الحال في اللغة المتداولة اليوم التي تمتح من العربية الفصحى والعامية العربية التي ضاعت معالم أصواتها ومخارجها وحُرِّفت، ومن الفرنسية ومن لغات ولهجات متنوعة… وتعتبر الفوضى والتسيّب إحدى سماتها، فهي متنطِّعة متمردة عن أي قاعدة، هجينة تقتبس من هنا وهناك دونما ضابط ولا قيد، بل إن الأمر يمتد إلى البنية الصرفية والصوتية للغات. وينبغي ألا يلتبس الأمر على القارئ المبتدئ فيخلط بين الفوضى اللغوية من جهة والاقتراض أو الازدواجية أو الثنائية أو التعدد اللغوي من جهة أخرى، فشتان ما بين هذا وذاك. فالفوضى اللغوية جنس آخر تعتبر “العامنسية” أبرز تجلياته وأقبحها، فهي تقوم على إقحام مكونات لغوية للغة ما بشكل تعسفي في لغة أخرى وهو ما يؤثر على نظام هذه اللغة.
3-2-مصادر الفوضى اللغوية: إن “العامنسية” فوضى لغوية كما أسلفنا؛ عنف وفساد وتلوث، ولها بيئة مناسبة توفر لها الظروف المواتية للنمو والترعرع. ولا شك أن لها أسبابا ومصادر موجِدة لها. نستعرضها في النقاط الآتية:
- إن أول سبب كما هو معروف لنشأة الهجنة أو الكريول هو “الاستعمار”، وهذا الشرط حاضر بالنسبة للمغرب -والأمر نفسه تقريبا في الجزائر وتونس- فقد عانى من وطأة الاستعمار وهيمنة اللغة الفرنسية المفروضة قسرا، وظلت إلى يومنا هذا في المدارس والجامعات والإدارات، مما شجع استعمالها اليومي إلى جانب العربية والعامية، فنشأ عن هذا الأمر مزيج تواصلي رمزي هجين.
- إن الدارس في هذا المجال يكاد لا يظفر بشيء ذي بال حول مستوى تكوين المذيعين بالإذاعات الخاصة، وطبيعة هذا التكوين إن وُجِد. وربما منهم من أتى من مجالات لا علاقة لها بالإعلام ومدارسه.
- عدم إتقان غالبية المذيعين والعاملين بهذه المحطات اللغة العربية[12].
- تكوين الإعلاميين ربما تم بلغة أخرى غير العربية فرنسية كانت أو لغة أخرى. (في غياب دراسات ومعطيات حول الموضوع).
- أن اللغة العربية ليست من أولويات وسائل الإعلام…[13]
- إن ما يساهم أكثر في استفحال الفوضى اللغوية غياب التنصيص الواضح في دفاتر التحملات على طبيعة لغة الإذاعات الخاصة، والاكتفاء فقط بالإشارة إلى عدم السقوط في أحضان الفوضى اللغوية مع عدم توضيح المقصود بالمفهوم وتحديده، فترِك الأمر معتما وهو ما فسح المجال للفوضى العارمة، وأدى فعلا إلى تلوث لغوي خانق، يثقل اللسان ويُنَفِّر الآذان… ومن غريب المفارقات أن تجد بلدا مثل المغرب يشجع الفوضى اللغوية بترك المجال التشريعي صفرا مفتوحا على كافة التأويلات، وواقع اللغات الموظفة في إعلامنا اليوم خير دليل. والواضح أن هناك بونا شاسعا في ذلك بين القطب العمومي والقطب الخصوصي. والأمر يحمل أكثر من علامة استفهام ويحتاج إلى مساءلة المعنيين والوزارة الوصية على القطاع.
- تزامن هذه الإذاعات الخاصة ربما مع ما “عُرف بالربيع العربي” الذي تمرد على بعض الثوابت والمقدسات، ولم تسلم اللغة من هذا التمرد والتسيب، ما دامت تعبر عن المجتمع وواقعه الذي يجنح إلى الحرية المفرطة والعنف.
- استعمال العامية والعامنسية في سياق ارتفاع الأصوات الداعية إلى استعمال الدارجة في التربية والتكوين أيضا بالإضافة للإعلام والإعلان والسينما، بل إن ذلك طال الرسوم المتحركة في الإعلام المرئي كذلك.
- اعتبار أن نسبة المشاهدة هي المقياس في نجاح إذاعة أو برنامج، وهذا المعيار الكمي الحقيقي أو المزعوم معيار مضلل وغير مقبول، بالنظر إلى الأمية المستشرية في أوساط عريضة من المغاربة. (فالمطلوب الاحتكام إلى معيار نوعي يأخذ بعين الاعتبار الجودة –على مستوى اللغة والمضمون والأهداف- والمردودية).
- تحكم لوبي اقتصادي وثقافي في الإعلام عموما، وفي إذاعاتنا الخاصة يستهدف الترويج للدارجة وبالدارجة –في غياب نصوص قانونية كابحة- قصد استمالة المستهلك/المستمع والتأثير عليه والوصول إلى فئات عريضة من المتتبعين. ففي فرنسا مثلا بالنسبة للإشهار هناك (قانون إيفان loi EVIN) يلزم باستعمال اللغة الفرنسية دون سواها من اللغات في الإشهار[14].
- ضعف هوية الانتماء، أو الإحساس بالدونية عند التكلم بالعربية الفصحى كعامل نفسي.
- اختيار ضيوف في مستوى فكري لائق يكون غالبا غير موفق، وفي حالة حضور الضيف المناسب لمناقشة مسألة معينة فإن المنشط قد لا يجاريه في مستواه العلمي والتواصلي.
- أن السواد الأعظم من المواد المقدمة قوامها الاتصالات الهاتفية العمومية، مما يجعل البرنامج تلقائيا يفسح المجال لكل من هبّ ودبّ للتكلم، وبأي مستوى لغوي وثقافي كان.
- تجنب توظيف المشاهير من الإعلاميين المشهود لهم بالكفاءة اللغوية والعلمية لارتفاع تكلفة أجورهم ومتطلباتهم.
- الإثارة والصخب الإعلامي بغية استقطاب نسب متابعة عالية.
3-3-مظاهر الفوضى اللغوية: تتعدد تجليات الفوضى اللغوية وتمظهراتها من إذاعة لأخرى ومن إعلامي لآخر، إلا أن القاسم المشترك بينها هو التسيّب وعدم الخضوع لأي ضابط، والمزج بين العامية والفرنسية صرفا ومعجما وتركيبا بشكل تعسفي لا مبرر له ولا مسوغ. ومن أبرز مظاهر هذه الفوضى وأشكالها:
- إهمال اللغة الرسمية للبلاد، بل والاستهزاء بها وبمن يتكلمها. فبعد أن كان التمكن من اللغة وامتلاك ناصية البيان وفصاحة اللسان محط فخر واعتزاز وتفاضل، أصبحت العربية الفصحى اليوم في وسائل الإعلام مدعاة للسخرية، فكلما تعاجم المذيع وأظهر جهله بالعربية الفصحى أو تظاهر به، كان ذلك في نظره مفخرة واستعلاء، حقَّ له أن يتباهى به.
- من مظاهر الجهل أو التجاهل أيضا؛ أن يطلب المتكلم الدعم بين الفينة والأخرى لتسمية شيء معين بالعربية، أو التعبير عن أمر ما، فإذا به يجد الملاذ فقط في اللغة الفرنسية، حتى وإن كان لا يتقنها، متظاهرا بعكس ذلك.
- استعمالها أحيانا على سبيل الدعابة أو السخرية، فيفخّم أصواتها أو يوظف مفردات قديمة. كأن يقول: “ماذا في جعبتك يا هذا؟ كيف حال القوم؟”ما وراءك؟؟؟…
- أن يبادر المذيعُ المتحدثَ بالقول: خاطبني بلغة الشارع التي يفهمها العامة: “هْضر معايا بلغة الشاريع”.
- إخضاع المفردات الفرنسية لصرف الدارجة: “دومونديها”، “فيروييها”، “تريكَل” عليه، “فيكسيه” شارجيه، بارتاجيها، بلوكيه…
- تراكيب عربية وعامية وفرنسية: “عْطيه la parole”، “يلَّه vite”، “رفع ليه لمورال” morale”، “سير ديريكت”…
- العامية عاميات، فهناك الشمال والجنوب والوسط والغرب والشرق، بل وفي الجهة الواحدة قد تتعدد اللهجات وتتباين، “إنها تُشعر المستمع بالاغتراب، وتمارس عليه العنف”[15].
- توظيف “العامنسية” في التخاطب.
- انحراف طال الصوت العربي، وشيوع اللكنة الأجنبية.
- إقصاء نخبة المثقفين التي من المفترض أنها تشكل رافعة أساسية للتنمية اللغوية والفكرية والثقافية لبقية الفئات، والانفتاح الكلي على عامة الناس، وما لذلك من آثار سلبية على المجتمع، وتبخيس للثقافة والمثقفين.
- استعمال مستوى تخاطبي يكسر كل الثوابت والطابوهات والمقدسات: (حتى غدا الدين خزعبلات، واللغة تحجر، والمرأة “ساطة”…) (وقد أصدرت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب (الهاكا) عدة إنذارات وعقوبات في هذا الشأن).
- تلهيج الخطاب الإذاعي والإشهاري والأعمال الدرامية والموسيقية.
“إن مظاهر الفوضى هاته، تدخل لدى بورديو ضمن العنف الرمزي الممارَس على المتابع”[16]، وهذا العنف يبرز في النشاز الصوتي والتركيبي والمعجمي والدلالي والمضموني الذي يستفزك فتشعر بالاشمئزاز، ثم لا تلبث أن تغير المحطة إلى أخرى تلتمس الأفضل.
4-ما السبل الممكنة؟
كلما أوشكت الكارثة على الوقوع ولاحت نُذُرها إلا ووضع الإنسان استراتيجيات للمواجهة لتبزغ في الأفق تباشير الانفراج أو على الأقل توضع تدابير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما هو الشأن بالنسبة لكل الأمم التي تحترم لغاتها وتعتز بتراثها؛ ففرنسا مثلا تسنّ القوانين الكفيلة بحماية لغتها من الغزو اللغوي والثقافي الأجنبي، وتعقد الندوات والمؤتمرات من أجل هذا الغرض وتبذل الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وتنخرط مؤسساتها جميعها في الأمر بالدعم والمساندة، فهذا اليوم الوطني للغة الفرنسية في وسائل الإعلام السمعية البصرية سنة 2015** تساهم فيه المؤسسات والفاعلون العموميون والخواص الوطنيون والعالميون، من قبيل: المنظمة العالمية للفرنكوفونية (OIF)، ووزارة الثقافة والاتصال، والأكاديمية الفرنسية والفاعلون في مجال السمعي البصري… وأيام دراسية أخرى مثل تلك الممتدة من 12 مارس 2016 إلى 20 منه هدفها توعية الناس بغنى اللغة الفرنسية باعتبارها عماد المجتمع الفرنسي، وصلة وصل تتيح لكل مواطن تقاسم التبادل حول القيم والأفكار المشتركة القائمة على المبادئ الأساسية مثل الحرية والديمقراطية واحترام حقوق كل فرد وكرامته…[17]، وتم تعيين سفراء للغة الفرنسية، كالممثل الفكاهي والمخرج غيوم غاليين (Guillaume Galienne)، والكاتب داني لافيريير (Dany Laferrière) عضو الأكاديمية الفرنسية، والكاتب المؤلف فياني (Vianney)… والغرض هو تقوية اللغة الفرنسية وتعزيز استعمالها وفرض احترامها في وسائل الإعلام السمعية البصرية تطبيقا للبند 3-1 من قانون 30 شتنبر 1986…
فهل نفعل نحن شيئا من ذلك؟ أليست نخبنا هي التي تحارب هذه اللغة وتتبجح بالفرنسية لغة وثقافة؟ بل إن هناك من ينصِّب نفسه للدفاع عنها وكان أكثر فرنسية من الفرنسيين أنفسهم، وهل وضعت الجهات المسؤولة خطة استعجالية لمجابهة التحديات اللغوية الوجودية المترصدة؟ وما هي الترسانة القانونية التي يمكن أن تحمي اللغة العربية وتفرض احترامها؟ وما هي الدراسات التي قِيمَ بها في هذا الباب؟ وهل من خارطة طريق يمكن أن يُستنار بها للخروج من هذا الوضع الملتبس؟
على هذا المستوى يمكن أن نشير إلى بعض “الاقتراحات” التي يمكن أن يُستأنس بها لتقديم بعض الحلول، استقيناها من تجارب مشابهة، ومنها:
- إعادة النظر في دفاتر التحملات: ولا سيما ما يتعلق بلغة البث، كي يكون فرض احترام اللغة العربية وضمان استخدامها بين الإلزام والالتزام. وينبغي أن يتم توضيح أو تصحيح عبارة “البث باللغة العربية” التي تشمل العامية والعامنسية ولا تمثل فيها اللغة العربية الفصحى سوى حيزا ضئيلا جدا. سواء في القطب العمومي أو الخصوصي.
- العناية باللغة العربية في منظومة التربية والتكوين؛ فالتعليم هو النواة الأولى للطاقات في كل المجالات، بما فيها الإعلام.
- متابعة الإعلاميين ومصاحبتهم لغويا من قِبَل متخصصين لغويين، وتكثيف دوراتِ التكوين المستمر.
- التنبيه واعتبار الكفاءة اللغوية أحد شروط اختيار المذيعين ومقدمي البرامج، ومن معايير الكفاءة المهنية التي لا محيد عنها؛ إذ كيف يشترط في الإذاعي إتقان الفرنسية ويتم إخضاعه للاختبارات الدقيقة في مدى ضبطها والتمكن منها، ويوبَّخ عن هفوة بسيطة، ولا أحد يلتفت له وهو يعيث فسادا في لغته الرسمية لا ينصب حيث يجب النصب، ولا يرفع حيث يجب الرفع، ولا يكسر ما حقه الكسر. بل تعودنا أن نسمع أخطاء لا تعدّ ولا تحصى يرتكبها عادة المبتدئون في تعلم اللغة مثل عبارة: “الْتِماس كهربائي عوض “تماس كهربائي” و عبارة “يحمل عاتقا كبيرا” والمقصود “يحمل على عاتقه مسؤولية كبيرة”…
- الاستعانة بالمدققين اللغويين، ويبدو من فداحة الأخطاء المرتكبة أن لا مكان لهم في الإعلام المسموع الخاص.
- رفع مستوى التكوين بالعربية في مدارس الإعلام وتعزيزه.
- ربط المواطنة بالاعتزاز باللغة الرسمية ومدى إتقانها.
- اعتماد العربية الميسرة في الإعلام، والتي لا تعني “الابتذال والإغراق في العامية، بل وضوح التعبير وبساطة الأسلوب، واستخدام الكلمات المفهومة (…) وحُسن اختيار الألفاظ الواضحة مما كثُر استخدامه وسلمت صياغته وخفّ نطقه، واستخدام الأساليب الصحيحة البعيدة عن الغموض والعجمة والإسفاف…”[18]
- تنشيط الأبحاث والدراسات حول لغات الإعلام.
- تأليف معجم للإعلام والاتصال مع تحيينه دوريا.
- تنشيط البحث في اللهجات وتوظيف ما يأتلف منها مع الفصحى في لغة الإعلام. (هذا ما خلصت إليه مجموعة من الدراسات الميدانية[19]).
- رفض استعمال العامية أو العامنسية، لفقرها واضطرابها، فهي لا تعبّر عن الفكر الراقي الأدبي ولا العلمي، لكونها ناتجة عن عصور التخلف والانحطاط والجهل والأمية. كما أنها رمز للتفرقة، تختلف من قُطر لآخر وتتباين داخل البلد الواحد، في حين أن اللغة العربية تشكل عامل وحدة وطنيا ومغاربيا وعربيا.
لقد آن الأوان للتصدي لهذه الفوضى والتقليص من التلوث اللغوي بسنّ ترسانة قانونية صارمة تنظم المجال اللغوي في إعلامنا والقيام بأبحاث لسانية وسوسيولوجية… لتنقية لغة الإعلام من الشوائب والنفايات وإعادة الاعتبار للغة الرسمية بقوة القانون لغة الحضارة والهوية، وسدّ القنوات التي تتسرب منها الفرنسية كالسمّ إلى مفاصل لغتنا. لكي نكون، ولكي تظل هويتنا قائمة، فالفرنسي بقوة القانون يستأصل ما علق بلغته من ألفاظ انجليزية خصوصا أو أجنبية عموما، ليحافظ على لغته إدراكا منه لخطورة الموقف وما ينطوي عليه من تهديد وجودي.
5-هل العربية لغة إعلام؟
إن الإذاعة لا تتنافى مع اللغة العربية وثقافتها التي نشأت وازدهرت شفوية، بل تتماهى معها؛ لأنها لغة رواية بامتياز، فقد انتشر شعرها وهو ديوان العرب مشافهة فنقل أخبارهم وآثارهم، وهو ما بوّأها لتكون لغة إعلام إلى حد كبير، ولعل هذا ما جعل العرب يعْقدون آمالا عريضة على الإذاعات العربية حينما شرعت في البث أول مرة؛ اعتقادا منهم أنها سوف تعيد للغة العربية ميزتها التداولية وقد أفلحت في ذلك إلى حد كبير ردحا من الزمن، إلا أن خيبتهم كانت كبيرة لمّا تحولت معظم المحطات إلى بوق للغة الفرنسية والعاميات.
وإذا كان الإعلام ينشد الإيجاز والوضوح والدقة، فتلكم صفات مميِّزة للغة العربية؛ لغة البلاغة والبيان والإيجاز والإشارة، وهو ما تفتقده العامية الفقيرة المضطربة. ومن مسوغات اعتماد العربية في الإعلام ما يلي:
- العربية لغة منتشرة في الآفاق الواسعة، موحَّدة بين عدد كبير من الدول وموحِّدة لهم، والانتشار والذيوع من أهم مرتكزات الإعلام.
- لغة اشتقاقية قابلة للتطور والنمو، وهو ما يتوافق مع الحركة الدائبة للإعلام.
- لغة قابلة لتيسير تعابيرها لغناها بالمترادفات، تنتقي منها ما شاع تداوله.
- لغة وصفية، والوصف أبرز خاصية في الإعلام المسموع.
- تقاربها مع العامية المغربية التي وجب تكثيف الدراسات والأبحاث فيها لاستثمارها في تعليم العربية الفصحى.
- لغة مقَعَّدة ومقننة صوتا وتركيبا ودلالة.
- لغة البلاغة والبيان، كما تتميز بالدقة، والدقة هدف إعلامي مطلوب تسعف الإعلامي في التصوير الدقيق المفصل.
- لغة المعرفة والثقافة والفنون، بالإضافة إلى قدرتها الفائقة على استيعاب مستحدثات الحضارة والعلم وواقعية المجتمع الجديد، وهو أمر يدعو لتنشيط البحث فيها لإغنائها وتطويرها لا تهميشها.
- لغة أدرك الإعلام الغربي قيمتها، فأنشأ محطات إذاعية وتلفزية ناجحة (هيئة الإذاعة البريطانية، صوت أمريكا، ألمانيا، مونتكارلو، فرانس 24، BBC عربية، أورونيوز euronews) وهي إذاعات تبث برامجها بلغة عربية فصحى سليمة.
- كما أن التجارب الرائدة لبعض القنوات العربية كقناة الجزيرة القطرية التي تقدم برامجها بلسان عربي مبين… تبيِّن إلى أي مدى يمكن للغة العربية أن تكون لغة إعلام بامتياز. فلماذا لا تبث هذه المحطات باللهجات، لأن القائمين عليها يدركون فقرها المعجمي ومحدوديتها المضمونية والجغرافية…
ولا شك أن ما تقدَّم من تجارب كفيل بأن يدحض تحجج إعلاميّينا بعدم ملاءمة العربية للعصر والإعلام ودفاعهم المستميت عن العامية والفرنسية لتعم الفوضى اللغوية، التي أصبحت تميز المشهد الإعلامي ببلادنا.
6-هل آن الأوان لإعلان الإفلاس اللغوي؟
لقد تحدّث العرب لغتهم سليقة، ولأسباب عديدة كالمخالطة والاستعراب طالها اللحن ولحقها الزلل، فوضعوا قواعد أمان لحفظها، ثم ما لبثوا أن استصعبوا هذه القواعد فدعوا إلى تبسيطها بل والتحرر من سلطتها وقيودها، وتحقق لهم ذلك ليدخلوا فوضى العامية التي استعملت في البيت والشارع ثم ما لبثت أن غزت المدرسة، فأضاعوا اللغة العربية الفصحى وقواعدها، وفرحوا بدارجتهم واحتفوا بها أيّما احتفاء.
وها هم اليوم كما يبدو من وسائل إعلامنا المسموعة ومنظومتنا التربوية يتخلّون عنها بتسارع عجيب بعدما جعلوها مزيجا هجينا مستهجنا بين العربية والفرنسية والعرنسية لنصل اليوم إلى “العامنسية” (كريول المغاربة أو المغاربيين) والتي تفتقد إلى الفعالية التواصلية، وهي آخر مرحلة لإعلان الإفلاس اللغوي، بعد أن تنهار آخر قلاع السلطة اللغوية بفعل تعرّضها الطويل لجرعات مفرطة من السمّ اللغوي.
..ثم ماذا بعد؟ في غياب لغة للتخاطب ننتقل إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة للإعلام، كما هو الشأن في منظومة التربية والتكوين، كي لا نفقد ألسنتنا وخاصيتنا التواصلية وتفكيرنا ونعود إلى الإشارات والإيماءات، لنقتحم حظيرة البهائم من أوسع أبوابها ككائنات حية غير ناطقة وغير عاقلة، وندفن ماضينا بعراقته وفكره ولغته وحضارته. فتدمير الإنسان يبدأ بتدمير اللسان، ولا نملك إلا أن نردد مع شاعر صقلية أجنازيو بوتيتا (Ignazio Buttitta) : “… فالشعب لا يفتقر ويُستعبد إلا إذا سُلب اللسان الذي تركه الأجداد، عندئذ يضيع إلى الأبد”[20].
خاتمة:
إن التنويع بين اللغة العربية الفصحى والعاميات في الخطاب اليومي والإعلامي أو بينهما وبين الفرنسية أو لغات أخرى، لم يكن أبدا مصدر خطر على الفصحى، ولكن الخطورة تكمن في الجمع التعسفي الهجين بين لغات ولهجات وفي دفع العامية والفرنسية دفعا لتتبوَّآ الصدارة مع تحجيم دور العربية وتقزيم استعمالها، كما هو الحال في إذاعاتنا الخاصة، بل ونعتها بأشنع الصفات في بعض المحطات والمنابر في خرق سافر للدستور وقداسة لغتنا؛ لغة الهوية والحضارة.
إن هذه اللغة هي أحوج إلى أمة تخدمها فتُحْييها، لا إلى إعلام يخذلها فيُفْنيها، ويبحث عن تميز منشود بالعامنسية والمستوى الوضيع للغة، ويسعى لاستعارة لغة أخرى هي الفرنسية يعتبرها أهلها عماد وحدتهم ورمز قيَمهم ويذودون عنها مخافة زحف اللغة الانجليزية.
إن أي إصلاح ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار التمسك باللغة العربية الفصحى وتيسير سبل استعمالها وفرْض احترامها، وتشجيع البحث فيها والتأليف بها؛ ليُمكَّن لها وتقوى على النهوض مجددا، لا أن نجعلها شماعة نعلق عليها فشل أي منظومة، فنعمل على خذلانها وإزاحتها. ويعتبر الانفتاح على تجارب الأمم الرائدة في مجال التخطيط اللغوي والإعلام أمرا حيويا؛ وذلك باستلهام روح التجربة لا لغة التجربة، فالاستفادة من التجربة الألمانية لا تعني اعتماد اللغة الألمانية، والاستئناس بالتجربة اليابانية لا يؤدي إلى التحدث باللغة اليابانية، كما أن تبنّي التجربة الفرنسية لا يقتضي بالضرورة فرْض اللغة الفرنسية على لغة الإعلام المغربي أو المغاربي. فـ”اللغة الإعلامية أهم مظهر للمحافظة على كيان المجتمع”[21]، و”أينما توجد لغة مستقلة توجد أمة مستقلة لها الحق في تسيير شؤونها وإدارة حكمها” كما يؤكد الفيلسوف الألماني فيخته…[22]
قائمة المراجع:
1-الشريف سامي، ندا أيمن منصور (2004)، “اللغة الإعلامية، المفاهيم الأسس والتطبيقات”، مركز جامعة القاهرة، مصر.
2-المركز العربي للبحوث التربوية (2012)، “واقع استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام بالدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج”، المركز العربي للبحوث التربوية لدول الخليج، الكويت.
3-حلواني فادية المليح (2015)، “لغة الإعلام العربي”، مجلة جامعة دمشق، المجلد 31، العدد الثالث، دمشق.
4-ساطع الحصري (دون تاريخ)، “ما هي القومية”، دار العلم للملايين، بيروت،.
5-علي نبيل (2001)، “الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي”، عالم المعرفة، عدد265، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
6-عثمان نوال (2007)، “أسباب تردي لغة الصحافة”، مجلة جامعة مولود معمري revue campus، عدد7، جامعة مولود معمري بتيزي وزو.
7-شرف عبد العزيز (د.ت)، المدخل إلى علم الإعلام اللغوي، منتدى سور الأزبكية، www.books4all.net
8-Billiez Jacqueline (1985). La langue comme marqueur d’identité. In: Revue européenne des migrations internationales, vol. 1, n°2, Décembre. Générations nouvelles.
9-Bourdieu )2010(,language and the média, John F. myles, PALGRAVE MACMILLAN, UK.
10-calvet louis jean, « La sociolinguistique », Que sais-je ? PUF, 8ième édition.
11-conseil supérieur de l’audiovisuel (3mars 2015) Première journée de la langue française dans les média audiovisuels.
www.csa.fr/content/…/Langue%20française%20%20discours%20vdef%20(2).pdf
12-conseil supérieur de l’audiovisuel, Journée de la langue française dans les medias audiovisuels, http://www.csa.fr/Television/Le-suivi-des-programmes/Le-respect-de-la-langue-francaise/14-mars-2016-deuxieme-Journee-de-la-langue-francaise-dans-les-medias-audiovisuels
13-Dumont Fernand (1995), « Langues, cultures et territoires, quels rapports? » Jean Lafontant, Collège universitaire de Saint-Boniface, Winnipeg (Manitoba), CAHIERS FRANCO-CANADIENS DE L’OUEST. VOL. 7, N° 2.
14-Marie-Christine Hazael-Massieux (2002), Les créoles à base française : une introduction. Travaux Interdisciplinaires du Laboratoire Parole et Langage d’Aix-en-Provence (TIPA), Laboratoire Parole et Langage, 21. <hal-00285406>
http://www.booksjadid.info/2013/07/pdf_6429.html
15-Mathieu GUIDERE )2000(, Publicité et traduction, L’Harmattan.
[1] -سامي الشريف، أيمن منصور ندا، “اللغة الإعلامية، المفاهيم الأسس والتطبيقات”، مركز جامعة القاهرة، 2004، ص33.
[2] -المرجع نفسه، ص38.
*الكريول: مزيج من اللغات تشكلت نتيجة اختلاط ناتج عن الاستعمار، مثلا فالكريول الفرنسي ظهر في مناطق مختلفة من المستعمَرات الفرنسية ما بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وحملات العبودية…
-Marie-Christine Hazael-Massieux. Les créoles à base française : une introduction. Travaux Interdisciplinaires du Laboratoire Parole et Langage d’Aix-en-Provence (TIPA), Laboratoire Parole et Langage, 2002, 21. <hal-00285406> p65
[3]-Ibid, p65
[4] -سامي الشريف، أيمن منصور ندا، مرجع سابق، ص34
[5] -عبد العزيز شرف، المدخل إلى علم الإعلام اللغوي، منتدى سور الأزبكية، www.books4all.net، ص32
(http://www.booksjadid.info/2013/07/pdf_6429.html)
[6] -نوال عثمان، “أسباب تردي لغة الصحافة”، مجلة جامعة مولود معمري revue campus، عدد7، شتنبر 2007، جامعة مولود معمري بتيزي وزو، ص104
[7] -Fernand Dumont (1995), « Langues, cultures et territoires, quels rapports? » Jean Lafontant, Collège universitaire de Saint-Boniface, Winnipeg (Manitoba), CAHIERS FRANCO-CANADIENS DE L’OUEST. VOL. 7, N° 2, 1995, p.228.
[8] -louis jean calvet, « La sociolinguistique », Que sais-je ? PUF, 8ième édition, p5
[9] -Ibid. p6
[10] -Ibid. p20
[11] -Billiez Jacqueline. La langue comme marqueur d’identité. In: Revue européenne des migrations internationales, vol. 1, n°2, Décembre 1985. Générations nouvelles. P101
[12] -المركز العربي للبحوث التربوية، “واقع استخدام اللغة العربية في وسائل الإعلام بالدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج”، المركز العربي للبحوث التربوية لدول الخليج، الكويت، 2012، ص54
[13] -المرجع نفسه، ص54
[14] -Mathieu GUIDERE , Publicité et traduction, L’Harmattan, 2000, P18.
[15] -Bourdieu, language and the média, John F. myles, 2010, PALGRAVE MACMILLAN, UK, p16
[16] -Ibid. p19
**-Première journée de la langue française dans les médias audiovisuels, 3mars 2015, conseil supérieur de l’audiovisuel
[17] -Journée de la langue française dans les medias audiovisuels , conseil supérieur de l’audiovisuel, P5, http://www.csa.fr/Television/Le-suivi-des-programmes/Le-respect-de-la-langue-francaise/14-mars-2016-deuxieme-Journee-de-la-langue-francaise-dans-les-medias-audiovisuels
[18] -فادية المليح حلواني، “لغة الإعلام العربي”، مجلة جامعة دمشق، المجلد 31، العدد الثالث، دمشق، 2015، ص26.
[19] -راجع: المركز العربي للبحوث التربوية، مرجع سابق، ص24.
[20]-نبيل علي، “الثقافة العربية وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي”، عالم المعرفة، عدد265، يناير 2001 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص233.
[21] -عبد العزيز شرف، ص84.
[22] -ساطع الحصري، “ما هي القومية”، دار العلم للملايين، بيروت، دون تاريخ، ص56.