
من أشكال العلاقة بين الدّعوة والسّياسة في التجارب السياسيّة الإسلاميّة المبكّرة
الباحث: أ. ربيع رحومة. كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان (جامعة القيروان: تونس).
مقال نشر في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 13 الصفحة 11.
ملخص:ساد منذ العصر الحديث، جدل واسع حول طبيعة العلاقة بين الدعوة والسياسة. وقد استدعى هذا الجدلَ محطّاتٌ ورهاناتٌ تاريخيّةٌ مهمّةٌ، منها محاولات النهوض التي سعت إليها الدولة العثمانيّة في آخر زمانها، ومنها فترة الاستعمار التي مرّت بها المنطقة العربيّة وما رافقها من مساعٍ نحو التحرّر الوطني، وبعدها محاولات بناء الدولة الوطنيّة، وصولا إلى المخاضات التي أفرزها ما يُعرف بـــ”الربيع العربي”.
ولم يخلُ الجدل في مختلف مراحله من استدعاء النصّيْن الإسلامييْن المؤسِّسَيْن، أي القرآن والسنّة، تأصيلا أو إلى التجارب التاريخيّة لقراءة العلاقة بين النظامين الدعويّ والسياسيّ. وقد قُدِّمت أفهام متباينة لطبيعة العلاقة بين الدعوة والسياسة، واختلفت تلك الأفهام حسب مناهج القراءة ومقاصدها، وحسب رهانات القراءة وسياقاتها وجهاتها. ويمكن أن نشير بإيجاز إلى أنّ الأقوال السابقة في المسألة ثلاثة: قولٌ بالتماهي وقول بالانفصال وقول بالتمايز. و من ثمّ تستهدف هذه المحاولة استقراء أشكال العلاقة بين الدعوة والسياسة من خلال حقب وتجارب تاريخيّة إسلاميّة مُنتخَبة حسب معيار شكل العلاقة.
ويقوم البحث على محورين أساسيّين: محور مفهوميّ يتتبّع مفهومي الدعوة والسياسة في مختلف التصانيف القديمة والحديثة، ومحور استقرائيّ يحاول استقراء أشكال العلاقة بينهما في تاريخهما الإسلاميّ المبكّر، ولذا نحا البحث منهجيّا منحيين اثنين: تاريخيّ يتتبّع حركة التجارب في التاريخ، واستقرائيّ يستقرئ تلك التجارب وما جاورها من نصوص ويستخلص منها شكل العلاقة. وقد توصّل البحث إلى نتائج أبرزها أنّ شكل العلاقة محكوم أبدا بالسياق التاريخيّ ومقاصد الممارستين الدعويّة والسياسيّة، وأنّ شكل النزاع هو الشكل الغالب على تاريخ العلاقة بينهما، وأنّ شكل التوافق هو مِنْ أَثْمَرِ الأشكال حضاريًّا.
وخلص البحث إلى توصيتين اثنتين: ضرورة الاستفادة من مكتسبات المناهج الحديثة لقراءة تاريخنا الدعويّ والسياسيّ وإعادة قراءته، وضرورة الإنصات إلى التجارب التاريخيّة إلى جانب النصوص باعتبار التاريخ نصّا منظورا في سبيل النهوض بواقع أمّة أُخرجت في الأصل لتكون في قمّة الإشهاد الحضاريّ.
الكلمات المفتاحية: الدعوة، السياسة، النزاع، التوافق، الاحتواء، الإسلام.
مقدمة
ساد منذ العصر الحديث، جدل واسع حول طبيعة العلاقة بين الدعوة والسياسة. واستدعى هذا الجدلَ محطّاتٌ ورهاناتٌ تاريخيّةٌ مهمّةٌ، منها محاولات النهوض التي سعت إليها الدولة العثمانيّة في آخر زمانها، ومنها فترة الاستعمار التي مرّت بها المنطقة العربيّة وما رافقها من مساعٍ نحو التحرّر الوطني، وبعدها محاولات بناء الدولة الوطنيّة، وصولا إلى المخاضات التي أفرزها ما يُعرف بـــ”الربيع العربي”.
ولم يخلُ الجدل في مختلف مراحله من استدعاء النصّيْن الإسلامييْن المؤسِّسَيْن، أي القرآن والسنّة، تأصيلا أو إلى التجارب التاريخيّة لقراءة العلاقة بين النظامين الدعويّ والسياسيّ. وقد قُدِّمت أفهام متباينة لطبيعة العلاقة بين الدعوة والسياسة، واختلفت تلك الأفهام حسب مناهج القراءة ومقاصدها، وحسب رهانات القراءة وسياقاتها وجهاتها. ويمكن أن نشير بإيجاز إلى أنّ الأقوال السابقة في المسألة ثلاثة: قولٌ بالتماهي وقول بالانفصال وقول بالتمايز. و من ثمّ تستهدف هذه المحاولة استقراء أشكال العلاقة بين الدعوة والسياسة من خلال حقب وتجارب تاريخيّة إسلاميّة مُنتخَبة حسب معيار شكل العلاقة، وهي محاولة في الإجابة عن سؤال رئيس:
– ما هي مختلف أشكال العلاقة بين الممارستين الدعويّة والسياسيّة في التجارب السياسيّة الإسلاميّة المبكّرة؟
يقتضي بحث أشكال العلاقة بين الدّعوة والسّياسة في التجارب الإسلاميّة المبكّرة، منهجيّا، استجلاءَ مفهومي الدعوة والسياسة نظرًا وإجراءً كي تستبين قواعد البحث ومسالكه، ويكون البحث على بصيرة.
1- في مفهوميْ الدعوة والسياسة:
1-1- مفهوم الدعوة:
قد لا يخلو مصنّف من مصنّفات المسلمين، قديما وحديثا، من التطرّق إلى الدّعوة تنظيرا أو تقييما أو نقدا، وذلك لما لها من دور وقيمة في معطيات الدين الإسلامي بوصفه حركة ثقافيّة وحضاريّة. ولهذا فقد كثرت الاجتهادات لتعريفها وضبط مفهومها بدأً من النصوص المؤسِّسة للإسلام ومعاجم اللغة وانتهاءً إلى التصورات الحديثة والمعاصرة.
اكتسبت مفردة “دعوة” في القرآن وفي المعاجم العربيّة دلالتين متقاربتين. يأتي هذا بالعودة إلى المساحات التي غطّتها مادّة (د.ع.و) من هذه المتون وبالنّظر في صيغة التعدّي النحوي لها، فإذا تعدّت المادّة بنفسها اكتسبت دلالة النّداء، وإذا تعدّت بوساطة حرف جرّ من قبيل “إلى، على، لـــ” دلّت على الطّلب[1].
أمّا في اصطلاح من اهتمّوا بالشأن الإسلامي في هذا المستوى، أي مستوى الدّعوة، فقد تعدّدت محاولاتهم تعريف الدّعوة، ولا ريب أنّ أمر التعدّد عائد إلى اختلاف المواقف منها ووجهات النظر إليها ودوافع التحرير والكتابة فيها.
أنتجت، إذن، هذه المحاولات ركاما من التعريفات للدّعوة تتأبّى على الحصر، إلاّ أنّ قراءة في عيّنة منها كفيلة بالكشف عن اتّخاذ الدّعوة معنيين اثنين. أمّا الأول فهو مرتبط كليّا بمستوى اسميّ ونظريّ، يأتي هذا من القول إنّ الدّعوة “دين الله الذي بعث به الأنبياء جميعا”[2]، أو “العلم الذي تعرف به كافّة المحاولات الفنيّة المتعدّدة الرّامية إلى تبليغ النّاس الإسلام”[3]، أو “فنّا يبحث في الكيفيات المناسبة التي نجذب بها الآخرين إلى الإسلام”[4]. إنّ الثّابت في هذه التعريفات أنّ كلّ واحد منها يمنح الدعوة اسما من قبيل (دين، علم، فنّ…)، وأنّه يتعامل مع الدّعوة من جهة النظر والعلم والمعرفة.
وأمّا المعنى الثاني فهو معنى فعليّ وإجرائيّ، يحصر الدعوة في أفعال مثل “إنقاذ النّاس من ضلالة”[5] و “تطبيق الإسلام في واقع الحياة”[6] و “بناء المجتمع المسلم”[7] و “نقل الأمّة من محيط إلى محيط”[8]. وهذا المعنى يتتبّع آثار الدّعوة على مستويي الإجراء والممارسة في الأفراد أو الجماعات أو الأمم أو الحضارات.
إنّ ما يستقرّ عندنا من فهمنا الدّعوة هو كونها نشاطا اجتماعيّا من لدن جهة داعية سواء كانت فردا أو مجموعة أو هيئة تنهض على الأساس بعمليّة نقل للمعتقدات أو الشرائع أو المقالات أو الأفكار الإسلاميّة من مصدرها إلى مدعوين، قصد استمالتهم أو تحويلهم من حالهم الراهنة إلى حال أخرى يُدعى إليها.
فالدّعوة بهذا المعنى هي عمليّة نقل في اتّجاهين، اتجاه أوّل من داعية إلى مدعوّين المنقول فيه أفكار أو مقالات أو معتقدات، واتّجاه ثان من حال راهنة إلى أخرى مدعوٍّ إليها المنقول فيه مدعوّين، فهي أشبه ما يكون بحركة المدّ والجزر.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ ما نعنيه بالدعوة في هذا البحث هو ذلك النّظام من الممارسات الاجتماعيّة المختلفة الواقعة في سياق معيّن بين جهة داعية وأخرى مدعوّة، وفي نيّة الأولى التأثير في الثانية واستمالتها في الغالب نحوها بأساليب ووسائل مناسبة.
يقيم هذا المفهوم اعتبارا رئيسا للمعطى الإجرائي والطبيعة الاجتماعيّة للنشاط الدعويّ، إذ ينظر لهذا النشاط بوصفه ممارسة وباعتباره خاضعا لقوانين دراسة الظواهر الاجتماعيّة، كما يركّز على جهتيْ هذا النشاط وعلاقة التفاعل بينهما: جهة داعية وأخرى مدعوّة تربطها علاقة فاعل ومنفعل أي مؤثّر ومتأثّر، ويستحضر أيضا آليات ذلك ووسائله المختلفة التي تكون في الغالب متأثّرة بسياق الخطاب ومقصده.
ولعلّ معنى كهذا يشير إلى ما للنشاط الدّعوي من أبعاد مختلفة بين اجتماعيّة وثقافيّة وأخلاقيّة، وأيضا سياسيّة، وهذه الأخيرة هي مدار بحثنا.
1-2- مفهوم السياسة:
يتعيّن لتحديد أوجه العلاقة بين الدّعوة والسّياسة استجلاء مفهوم السّياسة كما صيغ في نصوص الحضارات المختلفة، وهذا الإجراء في الواقع تمليه الضرورة المنهجيّة، إذ يحصل بهذا التحديد، أوّلا وضوح أوجه العلاقة أكثر، وثانيا توضيح ما نعنيه بالأبعاد السّياسيّة في هذا البحث، وأخيرا أن يأخذ البحث منحاه إلى التحليل.
قد لا يبدو هيّنا وفي المتناول تحديد مفهوم للسّياسة، فمصطلح “سياسة” يشوبه قدر من الرّخاوة الاصطلاحيّة يحول دون بلوغ حدّه ومعناه بيسر. وهذا لا يعود إلى اتّساع نطاق استعماله وتداوله فحسب، بل وإلى تشتّت معناه في إطار الجدليّة الواقعة بين النظر والممارسة السّياسيين والقائمة إلى الآن. ولهذا السّبب أيضا اختلف معناه بين التراث الإسلامي والأدبيّات الحديثة والمعاصرة.
إنّ أوّل المعاني التي اكتسبها لفظ “سياسة” في التراث الإسلامي هو ذلك المعنى اللّغوي المحايث لمعنى “فعل السائس الذي يسوس الدوابّ سياسة، يقوم عليها ويروضها. والوالي يسوس الرعيّة أمرهم”[9] . و يمكن القول إنّ المعنى الاصطلاحي للسّياسة قد بدأ في التشكّل في عصر الدّولة الأمويّة، حين كان “للقاضي فعل السّياسة”[10] من خلال تقدير العقوبات التي كانت تزيد عن الحدّ الشرعي وتنقص، مكتسبا بذلك دلالة قضائيّة تعزيريّة. لاحقا، اُستعملت السّياسة بمعنى تدبير شؤون النّاس وإدارة شؤون الحكم وممارسة السلطة، مكتسبة بذلك دلالة أكثر شمولا. ومن هنا يمكن القول إنّ مفهوم السياسة في التراث الإسلامي يبدو مشتملا لكلّ ممارسة متّصلة بأصول الحكم وتدبير شؤون الناس، سواء بالاستناد إلى الشريعة أم بدونه، وتدور القضايا السياسيّة الكبرى في معظمها حول طرق انتقال السلطة وممارستها.
أمّا الأدبيات الحديثة، فهي محمّلة بتعاريف متنوّعة للسّياسة، فقد ورد في موسوعة السياسة مجموعة من التعريفات تبدو متأثّرة إلى حدّ كبير بالأفكار السياسيّة التي زخر بها تاريخ الأفكار، وبالممارسات السياسيّة المتعاقبة عبر التّاريخ، وبالجملة، يمكن ردّ مجموع التعريفات والمفاهيم التي صيغت للسياسة إلى أربعة رئيسة، فبينما تركّز بعض التعريفات على الفاعلين السياسيين المأثّرين في صناعة الفعل السياسي كالأحزاب والجماعات ومختلف التنظيمات السياسيّة، تركّز تعريفات أخرى على ماهيّة الفعل السياسي بوصفه فعلا للحكم في الحياة العامّة، وفي حين يركّز صنف ثالث من التعريفات على ظاهرة الدولة وطبيعتها وميدان نشاطها، يركّز صنف رابع على الأبعاد الاجتماعيّة، باعتبار أنّ الفعل السياسي هو ممارسة اجتماعيّة في إطار اجتماعي[11]، وهذا ما نميل إليه.
وبالرّغم من تعدّد تعريفات السّياسة واختلافها في هذه الأدبيّات، هنالك معنى جامع بينها يمكن تعريف السّياسة وفقه على أنّها ممارسة السلطة في المجتمع مهما كان شكلها وملامح المجتمع، بكلّ ما تقتضي من أفكار وإجراءات تجتمع حول الحفاظ على الوحدة الاجتماعية والسّلم الدّاخلي والخارجي والنهوض بواقع حياة الفرد والجماعات، بحيث يشتمل هذا المفهوم، من ناحية، على مسائل النظر من آراء وتصورات ورؤى سياسية، وعلى ما يتّصل بالإجراء والممارسة من أجهزة الفعل السياسيّ وحكومة وأنظمة ومؤسسات وأحزاب من ناحية أخرى.
إنّ المتأمّل في المعاني التي تحملها الدّعوة من ناحية ونظائرها التي حملتها السّياسة يلحظ بيسر القدر الكبير من التطابق بينهما. فكلاهما، أي الدعوة والسياسة نشاط اجتماعيّ محيطه المجتمع، فلا غنى للدّاعية عن المجتمع في تبليغ دعوته وليس في وسع السياسي الاستغناء عن المجتمع لترجمة سياسته، فالمجتمع يوفّر لكليهما أصنافا عديدة من المتقبّلين، مدعوين ومواطنين، وفضاءات متنوّعة تسمح لكليهما بتبليغ صوته وممارسة نشاطه وعقد العلاقات مع مختلف الأطراف.
وهذا النشاط الاجتماعي يقتضي وجود طرفين اثنين، فاعل ومنفعل أو باثّ ومتقبّل، ففي مجال الدعوة نجد داعية ومدعوّين، وفي مجال السياسة سائس ومسوسين. وفي كلا المجالين تربط الطرفين علاقات تواصل متنوعة يمارس في إطارها الفاعل منهما فعله وتأثيره، أي يمارس سلطته.
وكلا النشاطين، الدّعوي والسياسي، يأخذ نفس الأشكال تقريبا، يأخذ النشاط الدعوي شكل الخطبة مثلا ويأخذ النشاط السياسي شكل الخطاب. ويعوّل الداعية على التواصل المباشر أحيانا بالمدعوين، والشكل نفسه يعوّل عليه رجل السياسة في التواصل مع الشعب. والمواسم الدينيّة إطار يأخذ فيها النشاط الدعوي شكل المحاضرات تلقى على مسامع المئات والآلاف من المدعوين أتباعه، والمناسبات الوطنيّة فرصة السياسي لعقد الاجتماعات الشعبية يلقي فيها كلمته أمام جمع غفير من المواطنين والمواطنات أنصاره.
ويزعم الداعية أن الغرض من نشاطه ودعوته “إنقاذ الناس من ضلالة، أو شرّ واقع بهم، وتحذيرهم من أمر يُخشى عليهم الوقوع في بأسه”[12]، أي الحرص على تحقيق ما يصلح بالمدعوّين في العاجل والآجل. ويدّعي السياسي أنه يطمح إلى “إقامة النظام والعدل وتغليب الصالح العام والمصلحة الاجتماعيّة المشتركة”[13]. وفي هذا تطابق واضح على مستوى الغاية من النشاط.
وهذه الغاية لا يتمّ بلوغها وتحقيقها إلاّ بوسائل تناسبها، فإذا كان صاحب الدعوة يتوسّل بالمنبر وحلقات الدرس والكتابة وغيرها لتبليغ دعوته العباد، فإنّ هذه الوسائل نفسها وزد عليها يعوّل عليها رجل السياسة في إيصال فكرته وتقريبها من أفهام الناس.
تتطابق الدعوة والسياسة، إذن، وكما هو واضح، في مستويات عديدة اقتصرنا على خمسة منها أكّدت على أنّ الحدود بين الدعوة والسياسة تكاد، على مستوى النظر، أن تكون معدومة، والجدير بالملاحظة في هذا التطابق، وهو أخطر ما في الأمر، التماهي التام في الأدوار والغايات بين الداعية ورجل السياسة من ناحية، واشتراكهما في محيط الفعل وممارسة السلطة من ناحية أخرى. إلاّ أنّ التماهي والاشتراك أفرزا تاريخيّا، وعلى مستوى الممارسة التاريخيّة للدعوة والسياسة في سياق اجتماعي واحد في الحضارة العربيّة والإسلاميّة، أشكالا متنوّعة في العلاقة بينهما.
2- من أشكال العلاقة بين الدعوة والسياسة:
2-1 – النزاع (Conflit):
يبدو هذا الشكل من العلاقة بين الدعوة والسياسة هو الأغلب على مختلف أشكال العلاقة بينهما تاريخيّا. وقد أخذ بدوره أشكالا متعدّدة منذ أول لحظاته بدايةَ الدعوة المحمدية بين النيّ صلى الله عليه وسلّم داعية الدين الجديد وأعيان قريش وسادتها.
وتعود أسباب هذا النزاع إلى الأخطار التي قدم بها الدّين الجديد على الصالح العام القُرشي، فهذه الدعوة الجديدة تهدّد الوحدة الاجتماعية والسياسيّة القُرشيّة، والخطر هنا هو تفكيك الاجتماع القُرشي وإعادة تركيبه وترتيبه بشكل يحطّ من مكانة السيّد ويرفع من درجة العبد والمرأة في السلم الاجتماعي القرشي. وتهدّد هذه الدعوة الجديدة كذلك المصالح الاقتصادية لأعيان المنطقة من خلال تركيزها على أصحاب رؤوس الأموال ونجاحها في استقطاب البعض منهم مثل أبي بكر الصديق، “فأصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر أبي بكر رضي الله عنه في الإسلام أكثر من غيره[14]. وكلّ هذه التهديدات التي تستهدف الخاصرات الاجتماعية والسياسيّة والاقتصادية للمنطقة القرشية تمثّل خطرا حقيقيّا على الأمن القومي القرشي.
أخذ هذا النزاع بين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأنصار دعوته من ناحية وأعيان قريش وسادتها من ناحية أخرى أشكالا تطورت مع مرور الزمن وتصاعد وتيرة الأحداث، فكان أوّل هذه الأشكال رفض قريش لهذه الدعوة الجديدة بكلّ تفاصيلها ومعارضتها. وأمام إصرار النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ومضيّهم في الدعوة الجديدة تقدّم قادة قريش خطوة في طريق المعارضة والصدّ وتنفير الناس من هذه الدعوة فشنّوا هجمة إعلاميّة قادها المغيرة بن شعبة لتشويه النبيّ صلى الله عليه وسلّم ودعوته، “فأغروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم سفهاءهم فكذّبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون”[15]. ثمّ تحولت، من بعد، اللهجة القرشية من الصيغة الإعلاميّة إلى صيغة التهديد والوعيد بكلّ أذى وسوء.
ولمّا لم يستجب النبيّ صلى الله عليه وسلّم وجماعته لتهديدات قريش أخذت العلاقة بين الطرفين، دعاة الدعوة الجديدة وساسة قريش، شكلا أكثر حدّة مثّل طورا جديدا من أطوار معارضة الدعوة المحمدية وهي التعذيب، إذ تسجّل كتب السيرة إقدام قريش على إيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم وتعذيب أصحابه معنويّا وماديّا “فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحَرُّ، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يَصلُب لهم ويعصمه الله منهم”[16].
وصعّد أشراف قريش في معارضتهم، فعملوا على الضغط أكثر على الدعوة الجديدة وأصحابها، فرأوا، بعد أن امتنعت عشيرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم على تسليمه للقتل، أن يضيّقوا على محمّد وجماعته ومن يتعاطف معه في نوع من الحصار الاجتماعي والاقتصادي، وكان هذا الحصار يقضي، كما تبيّن الصحف والمواثيق والعقود التي أبرموها في الغرض، بقطع العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة ببني هاشم التي منعت النبيّ صلى الله عليه وسلّم من القتل، “فلا ينحكوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببا من أسباب الرّزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولايكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم… ثمّ تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثمّ علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم”[17].
ولم تنته أشكال النزاع بين صاحب الدين الجديد والدعوة الجديدة وأصحابه من جهة، ومناوئيه من جهة أخرى، عند هذا المستوى، أي الحصار، وإنّما تعقّدت الأمور أكثر واشتدّ النزاع أكثر إلى درجة أخذ فيها أعيان قريش قرار الإبعاد من مكّة في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأتباعة، وذلك بالضغط أكثر لإرغامه على الرّحيل أمام امتناعه عنهم لمكانته من عمّه أبي طالب. وأمام الوضع الصّعب الذي وضعت فيه قريش الدعوة الجديدة وأتباعها و”لما رأى رسول الله –صلّى الله عليه وسلّم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية… قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد”[18]. وكان لقريش ما أرادت، “فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أرض الحبشة”[19]، وكان هذا هو الإبعاد الأوّل قبل إبعاده مرّة ثانية إلى المدينة فيما أصبح يعرف في التاريخ الإسلامي بـ”الهجرة”[20].
ولما انتهى الإبعاد بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم ودعوته إلى الاستقرار بالمدينة، وتمكّنه من تشكيل “الأُمّة” وبسط الأمن الاجتماعيّ دخلت العلاقة بين الدعوة المحمّدية والسياسة القرشيّة طورا جديدا من النزاع، وهو ما بات يعرف بـ”الغزوات”، أي طور من النزاع المسلّح لكسب مكّة من جهة المعسكر المحمّدي ولمنعها من النبيّ صلى الله عليه وسلّم من جهة المعسكر القرشي. فبعد حيازة المدينة، اتّجه تفكير النبيّ صلى الله عليه وسلّم نحو حيازة مكّة لما لها من قيمة سياسيّة باعتبارها تأوي قبائل السيادة وأعراقها وأهميّة اقتصاديّة بوصفها سوقا مركزيّة مفتوحة تتقاطع فيها كلّ الحركات التجاريّة الكبرى باتجاه الشام شمالا وباتّجاه اليمن جنوبا، ولموقعها الجغرافي الآمن من الغارات الرومانيّة بحرا والفارسيّة برّا، إذ تبعد مكّةُ عن البحر الأحمر اثنين وسبعين كيلومترا، ويفصلها عن التراب الفارسي وقتئذ بحر فارس والرَّبع الخالي. وهو أيضا موقع يربط كلّ أمصار المنطقة وقبائلها.
وقد شهدت فترات أخرى من تاريخ الإسلام شكلَ النزاعِ في العلاقة بين الممارستين الدعويّة والسياسيّة، فبعد فترة الخلافة الرّاشدة، أي مع صعود بني أميّة سدّة الحكم واستقرار الحكم بحوزتهم ملكا عضوضا ردحا من الزمن، نشبت نزاعات متفاوتة الحدّة بين الدعاة ممثّلين في أشخاص أئمة الصلاة والفقهاء والعلماء وبين سلاطين بني أميّة وولاّتهم، ومن أشكال ذلك “رفض ابن المسيّب ولاية العهد للوليد وسليمان ابني عبد الملك إلاّ بعد وفاة والدهما، مستدلاّ على موقفه بالنهي عن البيعتين في الإسلام، وضُرب ضربا مبرحا”[21].
ولم ينته الأمر عند الرّفض، بل تجاوزه إلى ما يسمّى بـالمتاركة، أي ترك تولّي الوظائف الدينيّة في أجهزة الدولة، وهي أشبه ما يكون بالعصيان المدني وهو صورة من صور الاحتجاج آنذاك من الدعاة على سياسات بني أميّة. “فلقد حاول الحجّاج أن يولّي أبا قلابة الجرمي البصري القضاء ففرّ إلى الشّام، وأراد الوليد بن عبد الملك أن يولّي يزيد بن مرثد الهمداني الدمشقي القضاء فرفض، ورفض أبو حازم بن دينار أن يكون من خاصّة سليمان بن عبد الملك وأهل مشورته… وعندما طلب إليه سليمان أن يزوره، قال له أبو حازم: “إنّا عهدنا الملوك يأتون العلماء، ولم يكن العلماء يأتون الملوك، فصار في ذلك صلاح الفريقين، ثمّ صرنا في زمان صار العلماء يأتون الملوك، والملوك تقعد عن العلماء، فصار في ذلك فساد الفريقين جميعا”[22].
إنّ شكلا آخر من أشكال النزاع كان له حضور بارز أيّام حكم بني أميّة، وهو التحريض على القتال، فمن قول سعيد بن جبير يوم دير الجماجم يحرّض على سلاطين بني أميّة “قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين وتجبّرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة، واستذلالهم المسلمين”[23]، وكذلك قول الشّعبي: “يا أهل الإسلام ، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم ، فوالله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم ، فليكن بهم البدار ، وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين وعلى آثامهم ، قاتلوهم على جورهم في الحكم ، وتجبرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة”[24].
وانتقل شكل النزاع بين الدعاة والسّاسة في نفس الفترة من التحريض على القتال إلى الثورات المسلحة كتعبير عن رفض السياسات الأمويّة ودليل على الوعي بخطورة الملك العضوض. ومن هذه الثورات تلك التي شارك فيها فريق من القرّاء والفقهاء والعبّاد والزهّاد، وهي ثورة أهل المدينة وأهل مكّة مع عبد الله بن الزبير من سنة ثلاث وستّين إلى سنة ثلاث وسبعين، انتهت بمقتل عبد الله بن الزبير على يدي الحجّاج بن يوسف الثقفي، وذهب ضحيتها خلق كثير[25]. ومنها أيضا الثورة التي انضمّ إليها جميع من في البصرة “من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب، وهي ثورة أهل البصرة وأهل الكوفة على عبد الملك بن مروان ونائبه الحجّاج بن يوسف مع عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكندي، من سنة إحدى وثمانين إلى سنة ثلاث وثمانين”[26].
انتهى العصر الأموي، إذن، بثورتين مسلّحتين شارك فيهما جمع من الدعاة والفقهاء والعلماء، سيطر على مشاهدهما عنف دموي كبير وفتن عديدة كان لها أثر كبير في تعامل الدعاة مع التقلّبات السياسيّة وعلاقتهم بالحكّام في العصر الموالي.
لم يخل العصر العبّاسي هو الآخر من مشاهد النّزاع بين رجال الدعوة ورجال الحكم بدرجات متفاوتة، ولعلّ فتنة خلق القرآن من أبرز الشواهد على توتّر العلاقة بين المنظومتيْن الدعوية والسياسيّة، حيث طغى على مشاهدها صور التعذيب والتنكيل، ولعلّ قطع الأرزاق شكل من أشكال التعذيب في هذه الفتنة. إنّ أولّ داعية “امتحن في خلق القرآن عفان بن مسلم، فقال له إسحاق بن إبراهيم: يا أبا عثمان. قال له: ما تريد؟ قال: كتب إليّ أمير المؤمنين أن أمتحنك. قال: في أي شيء؟ قال: تزعم أن القرآن مخلوق. قال: ما أقول، ثم قرأ {قل هو الله أحد} حتى ختمها. إذا لا أقول قال الله عز وجل {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} {وكلّم الله موسى تكليما} إذا لا أقول، هذا الكفر بالله، فقال له إذا تقطع أرزاقك، قال عفان قال الله تبارك وتعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} أما لك باب لا وقفت عليك أبدا … فما أقام إلا أياما حتى مات”[27].
ومن أشكال التعذيب والتنكيل أيضا التهديد الذي تعرّض له أحمد بن حنبل في مرحلة أولى، فقد “كتب المأمون إلى عامله بطرسوس ووجّه إليه بكتاب، فقال اقرأه عليه، فإن أقر بما فيه وإلا اقطع يديه ورجليه”[28]، ثمّ في مرحلة ثانية التعليق والضرب الذي تلقّاهما أيّام المعتصم الذي “أحضر أحمد، وأمر الجلادين فعلقوه بين السماء والأرض، ووقف له ستين جلادا، ثلاثين ناحية وثلاثين ناحية، فقام إليه المعتصم فقال: ويحك يا أحمد إني أسأل الله أن لا يبتليني بك، ما تقول في القرآن؟ فقال له: يا أمير المؤمنين ما أعرف الكلام إنما طلبت أمر ديني وصلاتي وأُعلّم الناس، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق، فأمر به فضرب، ثم سأله فأعاد قوله الأول كلام الله، فأمر فأعادوا عليه الضرب…”[29].
شهد، إذن، تاريخ العلاقة بين الدعوة والسياسة فصولا طويلة من النزاع متفاوتة الحدّة ومنتوعة الأشكال لعلّ أدناها درجة من جانب الدعاة الرفض والمتاركة وأقصاها الخروج على الحاكم في ثورات، ولعلّ التهديد من أخفّ درجات النزاع من جهة الحكّام والقتل من أقصاها، وهذا ممّا كان له أثر جليّ في عدول العلاقة بين الداعية والسياسي عن شكل النزاع إلى الشكل النقيض له.
2-2 – التوافق compatibilité))
التوافق بين الداعية والسياسي، كما ذكرنا، هو في الأصل عدول عن النزاع الذي يرهق الطرفين، وقد عرفت محطّات عديدة وبارزة في تاريخ العلاقة بين الدعاة والساسة توافقات عديدة لأسباب متنوعة وبأشكال متباينة.
ففي سنوات الإسلام الأولى، وبعد إبعاد قريش النبيّ صلى الله عليه وسلّم بدعوته وجماعته من مكّة، لم يجد الأخير بدّا من التوافق مع أعيان المدينة بمختلف مِللهم ونِحلهم وإلاّ تكرّرت مشاهد مكّة، أدناها المعارضة والصدّ وأقصاها الترحيل والتهجير والإبعاد.
إنّ مسوّغات التوافق الذي أُبرم بين النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأعيان المدينة كثيرة، منها ما له صلة بالداعية الجديد ومنها ما يرتبط بمصالح أعيان الحاضنة الجديدة، أي المدينة. فالنبيّ صلى الله عليه وسلّم مدفوع بالحاجة إلى مكان استقرار لدعوته وجماعته يضمن له مزيدا من المناصرين، وبطلب دعائم ماديّة تدعم دعوته وربّما تموّلها وتوفّر لها حاجاتها المختلفة، وأكثر من هذا بالبحث عن الحصانة والحماية، أي عن غطاء أمني يضمن منعه من أعدائه وقابل للاستثمار في طلب الأنصار والأمصار لفائدته ولفائدة دعوته، ألم يمكث النبيّ صلى الله عليه وسلّم “عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي الموسم بمنى يقول: من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟”[30]؟ وأعيان المدينة بدورهم لا يرغبون في تفويت فرصة استثمار الدين الجديد بأشكال مختلفة، فدين جديد في ذلك الزمان من المعطيات المهمّة في عمليّتي التعبئة والانتماء خاصّة أمام انعدامهما في اليهوديّة وتهرّئ المسيحيّة وعجزها عن ضمانهما في ظلّ بُعدها آنذاك وفي منطقة الحجاز عن معقلها الماثل في الامبراطوريّة الرومانيّة. فسرعة استجابة أعيان المدينة للدعوة المحمّدية لم تكن على أساس عقدي بقدر ما كانت بدوافع سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة واضحة. فلو كان للعقيدة وأعمال القلوب اعتبار في الاستجابة لاستغرق الأمر عقودا من الزمن، ولكنّ الاعتبار الرئيس في المسألة كان لأعمال العقول وإعمالها.
إنّ ما يؤكد اعتبار الصالح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في التوافق الحاصل بين النبيّ محمّد وسادة المدينة هو فصول الاتفاقيّتين اللتين اُصطلح على تسميتهما بـ”بيعتا العقبة”. أما البيعة الأولى التي اشتهرت باسم بيعة النساء، فيتحدّث أحد من شهدها، وهو عبادة بن الصامت، عن بنودها، فيقول: “كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف”[31].
يبدو واضحا أنّ بنود هذه البيعة تستهدف تنظيم الاجتماع المدني بالدرجة الأولى، فضبطت شكل العلاقات والمعاملات الاجتماعيّة وحدودها، وهذا إجراء يسدّ المنافذ أمام انتهاك الحرمات التي كان احترامها أمانا وانتهاكها حربا في ذلك العصر وهي المال (لا نسرق) والعِرض (لا نزني، لا نأتي ببهتان) والدمّ، وهذا أيضا إجراء يطلب النموّ الدّيمغرافي لتكوين المجال الاجتماعي سريعا (لا نقتل أولادنا) ويطلب كذلك شيئا من الولاء والطّاعة السياسيين (لا نعصيه في معروف).
وأمّا بيعة العقبة الثانية، فقد كانت بنودها أكثر وضوحا وصراحة من سابقتها. تقضي بنودها بأن يضمن أهل المدينة الطّاعة السّياسيّة لصاحب الدعوة الجديدة كما يظهر في قوله، الذي نقله أحد الحاضرين وهو جابر بن عبد الله، “بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل[32]“، وبضمان النفقة اقتصاديّا كما في تصريحه “وعلى النفقة في العسر واليسر”[33]، وتقضي كذلك بنصرته وتوفير الحماية الأمنيّة كما استأنف قائلا “وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم”[34]. وهذا البند هو الذي سوّغ تسمية هذه البيعة بـ”بيعة الحرب”.
يتّضح من بنود البيعتين حرص النبيّ صلى الله عليه وسلّم على ضمان مناخ آمن ومستقرّ يوفّر له الولاء والطاعة، واجتماعٍ يضمن حشد الأنصار لدعوته وعُدّةٍ حربيّةٍ تتكفّل بنشرها في الأمصار المجاورة، وهذا عدولٌ صريح عن شكل النزاع الذي كانت عليه علاقته بساسة قريش إلى شكل التوافق مع أعيان المدينة، وعن خطاب المصادمة في مكّة إلى خطاب المشاركة في المدينة، وهذه استفادة كبيرة من التجربة المكيّة التي لم تجلب له ولدعوته ولمن تبعه سوى المصائب والويلات.
إنّ مشهدا آخر من مشاهد أيّام الدعوة المحمّديّة يكرّس شكل التوافق بين صاحب هذه الدعوة وقريش في شهر ذي القعدة من السنة الهجريّة السادسة وهو صلح الحديبيّة الذي كان يقضي بـ”وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمّد لم يردوه عليه وأنّ (بين الفريقين) عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه”[35].
إنّ هذه البنود أشبه ما تكون بــالهدنة بين الفريقين، وهي أدخل في باب سياسة النبيّ محمّد الخارجية التي توخّاها مع قريش المعارض الأوّل لدعوته، وهي تأجيل لصدام ليس في صالح الفريقين على السواء وإن كان لا بدّ منه في مثل هذه الظروف من الصراع على النفوذ السياسي والجغرافي، وهي أيضا شكل من أشكال التوافق المؤقت الذي لن يصمد طويلا أمام معطيات تنذر بالنزاع في أيّة لحظة.
ليس التوافق في التحقيق سوى شكل من أشكال العلاقة بين الدعوي والسياسيّ ولحظة من لحظات التقائهما أو التقاء مصالح بين الطرفين إمّا طوعا واختيارا (بيعتا العقبة) أو كرها واضطرارا (صلح الحديبيّة)، وهو كما يبدو شكل مثمر من أشكال العلاقة بينهما، فالملاحظ أنّ مراحل التوافق بين الدعويّ والسياسيّ جرت في محطّات تاريخيّة مثمرة سواء على مستوى عمل الفرد أو على مستوى عمل الجماعة. وليس التوافق الشكل الوحيد أو اللحظة الأخيرة، فقد عرف تاريخ العلاقة بين الداعية والسّياسيّ شكلا مغايرا ولحظة مختلفة لا هي نزاع ولا هي توافق.
2-3 – الاحتواء: (Endiguement)
الاحتواء علاقة بين فاعل ومنفعل في العلاقة بين الدعوة والسياسة، وقد عرف تاريخ هذه العلاقة تبادلا للدورين بين قطبي الدعوة والسياسة، فتارة يُنسب الفعل لأحدهما وتارة يُسلَّط عليه.
2-3– 1- احتواء الدعويّ للسياسيّ:
احتوى الدعويُّ السياسيَّ في تاريخ العلاقة بينهما في فترات ومحطّات مختلفة، لأسباب عديدة، وبأشكال متنوعّة. ولعلّ المرحلة المدنيّة من مراحل تكوين الدعوة المحمّديّة وتمكّنها من اللحظات التي تجلّت فيها هذه العلاقة بوضوح.
إنّ من أسباب احتواء النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الشأن السياسي في المدينة هو عزمه الجهر بدعوته والدخول في الطور الرسميّ منها، وهو ما دفعه نحو السعي إلى امتلاك أسباب القوّة والمناعة والسّلطة بمختلف أشكالها، وكأنّ الرجل ما زال يعيش تحت تأثير المشاهد التي عاشها في مكّة والتي انتهت بإبعاده، وما عامله به ثقيف وبنو عمرو من رفض وضرب وإهانة حين سعى إلى الطائف داعيا إلى دعوته. فدعوته لم تعد تحتمل الإخفاقات تارة أخرى، والإخفاق في المدينة هذه المرّة قد يعقّد عليه الأمور أكثر، وقد يعسّر عليه المضيّ في دعوته، وربّما ينتهي به الأمر ودعوته نحو طريق مسدود. لذلك كان في تلك المرحلة الدقيقة حريصا كلّ الحرص على ألاّ يُفوّت فرصة منحته إيّاها المدينة والمهاجرين والأنصار.
اتّجه تفكير النبيّ صلى الله عليه وسلّم في بداية المهمّة في المدينة، بعد أن ضمِن أسباب الاستقرار فيها، نحو توفير أسباب التمكين، فكانت أولى خطواته أن بنى المسجد الذي كان من أهمّ الركائز في بناء المجتمع المدني، والذي كان بمثابة مركز القيادة وعقد الاجتماعات، ” وملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته… ومدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهدا يؤمّه طلاب العلم من كل صوب… وقلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد، والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث… منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد… ويتعرف منه على حركات العدو المريبة”[36].
ثمّ آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت هذه الخطوة من أقوى الدعائم في بناء هيكل الأمة في المدينة، باعتبارها تكريسا حقيقيّا لمبدأ المواطنة، يضمن تماسك البناء الاجتماعي المدني المكوّن من ملل مختلفة ونحل عديدة وأعراق متنوعة من ناحية، ومن أخرى حلّ مشاكل الاقتصاد المستحدثة والمتمثلة في الفقر والجوع والتعب والعزلة والغربة التي ترتبت على الهجرة من مكّة.
ثمّ أصدر ما يعرف بــ”وثيقة أو صحيفة المدينة”، والتي أطلقت عليها بعض الأبحاث الحديثة لفظ “دستور”، وفصّلتها إلى سبعة وأربعين فصلا أو مادّة[37] تجتمع حول تنظيم العلاقات الاجتماعيّة، وتتضمن مبادئ عامة كما هو شأن الدساتير الحديثة، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمّة -حسب وثيقة المدينة أو صحيفتها أو دستورها- تضمّ المسلمين جميعا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم، وهذا عدول صريح عن العقد القبلي الذي كان ينظم العلاقات صلب المجتمعات العربية القديمة، وسعي واضح لوسم المجتمع المدني بطابع خاصّ يميزه عن المجتمعات المجاورة[38].
وتكفّلت فصول هذا النص الدستوري أيضا بضبط المرجعيّة العليا في سائر التشريعات، “فالفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في المادة الثالثة والعشرين التي جاء فيها: “وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم”[39]، والمغزى من هذا واضح كما صرّح محمّد رشيد رضا في تفسير المنار”وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدّد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول صلى الله عليه وسلم على الدولة”[40]، وبالتالي منحت الصحيفة السلطات الثلاث؛ التشريعية، والقضائية، والتنفيذية للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، وهذا كلّه إجراء مستحدث في تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية في الجزيرة العربيّة آنذاك.
وكخطوة أخيرة، كوّن النبيّ صلى الله عليه وسلّم جيشه الذي منه انبثقت سرايا الحرب والمقاومة، واكتسب المنعة من أعدائه في الداخل والخارج، وهذا إجراء عسكري بالغ الأهميّة في مسيرة الدعوة المحمّدية، فقد سجلت محطات مهمّة من تاريخ هذه الدعوة أنّ هذا العتاد العسكريّ يسبق في أحيان النبيّ صلى الله عليه وسلّم أو دعاته إلى دعوته، وأحيانا يكون محمّلا بالدعوة ذاتها إمّا في شكل رسالة مكتوبة أو رسالة شفويّة منه إلى رؤساء الأمصار المجاورة، وأحيانا يكون لاحقا لها أو يكون مرحلة ثانية بعد إرسال الرسل والدعاة داعين إلى دعوته، وكان هذا العتاد ينتظم في شكل سرايا اعتراضيّة مثل سريّة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر وسريّة عبيدة بن الحارث إلى رابغ وسريّة عبد الله بن جحش إلى نخلة، أو في شكل سرايا تعقّبية مثل سريّة سعد بن أبي وقّاص إلى خرّار وسريّة كرز بن جابر لمطاردة المفسدين من الأعراب، أو في شكل بعثات تعليميّة ودعويّة مثل بعث الرجيع وبعث بئر معونة وغيرهما، أو سرايا ذات مهمّات خاصة مثل سرية عبد الله بن غالب الليثي إلى بني الملوح، أو سرايا تحطيم الأوثان مثل بعث خالد بن الوليد إلى العزى، وسرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة[41].
تمكّن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، إذن، عبر هذه الخطوات الأربع من احتواء الشأن السياسي المدني بكلّ تفاصيله ومن بسط نفوذه عليه سالكا في هذا الإجراء نهج التدرّج بمخاطبة الوجدان واستنفار حماسة العامّة، إلى جانب سياسة الوعد والوعيد، فكان يتنقّل بين العامة ويُدعى من قِبلهم ويرسل رسالاته بصفته نبيّا وداعية، والحال أنّه الحاكم والمشرّع والقاضي والمنفّذ، ينظّم الاجتماع المدني، ويضبط اقتصاده، ويفصل في النِّزاعات، ويعقد الصفقات، ويبرم المعاهدات والمواثيق، ويعلن الحرب والهدنة، وعلى سياسة الاحتواء نفسها سار خلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم من بعده إلى حين وقوع الأزمة السياسيّة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان لتكسر هذا الاحتواء ولتجعله عكسيّا في مراحل لاحقة.
2-3- 2- احتواء السياسيّ للدعويّ:
كان لهذا الاحتواء حضور في تاريخ العلاقة بين الشأنين الدعويّ والسياسيّ، ومثّلت الدولتين العبّاسيّة والفاطميّة صورتين جليّتين لهذا الاحتواء، لأسباب مختلفة وبأشكال متنوّعة.
كان للأزمات السياسيّة المتتالية التي مرّ بها المسلمون بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان وعلى امتداد حكم بني أميّة أثرا واضحا على الدعاة والساسة على السواء أيّام الدولة العباسيّة، فمشاهد الفتن التي عصفت بالأمّة ومزّقت أشلاءها لازالت لم تفارق ذاكرة الدّعاة والانقلابات المتتالية على حكّام بني أميّة لازالت حاضرة في أذهان حكّام بني العبّاس.
حاول الدعاة والعلماء والفقهاء تجنّب الانخراط في كلّ ما يمكن أن يبعث الفتنة من جديد في الأمّة، وكان لممارسات حكّام بني أميّة وولاّتهم تجاههم الأثر السلبي على مشاركتهم في الحياة السياسيّة. وأدرك الحكّام العبّاسيون من جهتهم أنّ فسح المجال أمام هذه الشريحة يمارسون نشاطاتهم بحريّة سيمنحها صدارة المجتمع والتصرّف السيادي داخل الدولة.
لهذا المعطى، اتّجه تفكير بني العباس نحو تجميد الشقّ المتعلّق بالسياسة في نشاطات هذه الفئة وافتكاكها من العامّة وكسبها لدولتهم والاستفادة من باقي نشاطاتها في تركيز حكمهم وتقوية شوكته والدعاية له، وذلك إمّا بالسيف سحقا وقمعا، أو بالمال فتنة وإغراءً. فانصرفوا بذلك نحو هيكلة الدعاة والفقهاء والعلماء ضمن مؤسسات الدولة، وبذلك يكون هؤلاء تحت عين الرقيب السياسي، وتسحب من الأمة إرادتها لتختزل في إرادة هؤلاء وبمسوّغهم بوصفهم “أهل الحلّ والعقد”.
ليس إحداث خطّة “أهل الحلّ والعقد” ضمن مؤسسات الدولة العباسيّة سوى شكل من أشكال احتواء الحكام العباسيّين المنشط الدعوي الذي يضمن لسلطانهم الطاعة المطلقة. وقد كانت هذه الأفكار الجديدة من بنات رؤوس كتّاب الدواوين، لعلّ أبرزهم عبد الله بن المقفّع وعبد الحميد الكاتب، اللذيْن نالا حضوة داخل البلاط الملكيّ، فروّجوا للمفاهيم السلطويّة، وقتلوا طموح الدعاة والفقهاء وذوّبوهم في جزئيات الدولة الجديدة وصرفوهم عن شأن الحكم وما يتعلّق به. وهذا أمر جعل من الدعاة على اختلاف مذاهبهم يدركون “عجزهم التام عن مواجهة سلطة الدولة، فرضوا بمواقعهم تحت سلطة التفرّد، وتفرّغوا للأعمال العلميّة والجدل العقدي والفقهي”[42].
نتج عن هذا الإجراء السياسي الساعي إلى احتواء المنشط الدعويّ أن صار للسلطان العبّاسي ومذهبه دعاة وعلماء خاصة في العصر العباسيّ الأول كأحمد بن أبي دؤاد أيّام المأمون والمعتصم، وصار أن حادت رسالة الداعية عن استقلاليّتها، ونشط الكلام في فترة حكم العباسيين وازدهرت مدارسه وخاصّة المعتزلة، وذاع صيت المتكلّمين كواصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلّاف، وإبراهيم النظّام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وبشر بن غياث، وثمامة بن أشرس، وكثرت المناظرات في قصور الخلفاء والمساجد وبيوت الحكمة حول قضايا كلاميّة مشهورة كقضيّة خلق القرآن وأفعال العباد وغيرهما.
وبنفس الإجراء الهيكلي، سعى الفاطميون إلى احتواء الدعاة وإن بشكل هيكلي مغاير، فلما استقر الفاطميّون بمصر شعرت الخلافة الفاطمية بالحاجة إلى مضاعفة جهودها لتثبيت نفوذها خاصّة وأنّ التحدّيات في مصر أعسر من تلك التي كانت في بلاد المغرب من قبل، فالمجتمع المصريّ مجتمع متمدّن خبر الأحداث الدينية والسياسية والفكرية.
لقد كانت الدعاية السريّة أهمّ دعائم الخلافة الفاطمية في بثّ دعوتها وغزو الأذهان بطريقة منظمة، لأن الدعاية المنظمة هي خير الوسائل لغزو الأذهان وحشد الأنصار لتأييد الدعوة المنشودة. ولذلك كان لهم دعاة في سائر الأقطار الإسلامية؛ وكانت مصر منبر هذه الدعوة ومركزها ومجمعها، تنطلق منه نحو باقي أمصار الإمبراطورية الفاطميّة الشاسعة وإلى سائر الأقطار الإسلاميّة الأخرى.
أخذت دعوة الفاطميّين في البداية شكل الدعوة إلى قراءة علوم آل البيت (علوم الشيعة) والتفقه فيها، وكان يقوم بإلقاء هذه الدروس قاضي القضاة وغيره من أكابر العلماء المتضلّعين في فقه الشيعة، وكانت تلقى أحياناً في القصر وأحياناً في الجامع الأزهر، بيد أن هذه الدعاية المذهبيّة الظاهرة التي بدأت في صورة الدروس الفقهيّة المذهبيّة سرعان ما اتّجه الفاطميّون نحو هيكلتها وإكسابها طابعا مؤسسيّا، فتمّ إحداث “خطة دينية تضارع في المرتبة والأهمية خطة الوزارة ذاتها؛ وكان هذا المنصب الخطير من أغرب الخطط الدينية التي أنشأتها الدولة الفاطميّة وانفردت بها؛ وكان الذي يشغل هذا المنصب يُـنعت بداعي الدعاة وهو أيضاً من أغرب الشخصيات الرسميّة التي خلقتها الدولة الفاطمية، وكان داعي الدعاة يلي قاضي القضاة في الرتبة ويتزيّا بزيه ويتمتع بمثل امتيازاته، ويُنتخب من بين أكابر فقهاء الشيعة المتضلّعين في العلوم الدينيّة وفي أسرار الدعوة ويعاونه في مهمّته اثنا عشر نقيباً وعدّة كبيرة من النّواب يمثلون في سائر النواحي”[43].
تتمثّل مهمّة داعي الدّعاة على الأساس في عقد المجالس لتلقين الدعوة الفاطمية وأخذ العهد على الراغبين في الدخول فيها، و كان يؤدّي له النجوى من استطاع، وكان يستهدف بهذا كلّ الشرائح الاجتماعيّة عامّتها وخاصّتها، رجالها ونساءها، وقد تعدّدت المجالس وتنوّعت بتنوّع الشريحة الملقَّنة، فمنها ما كان “يُعقد بالقصر لبعض الهيئات والطبقات الممتازة من أولياء المذهب – ورجال الدولة والقصر – ونساء الحرم والخاص، ويسودها التحفّظ والتكتّم، ويُحظر شهودها على الكافّة، وتُعرض فيها الدعوة الفاطميّة على يد دعاة تفقّهوا في درسها وعرضها؛ وكان تلقين هذه الدعوة، هو أخطر مهمة يقوم بها الدعاة”[44]، وكان “للكافّة أيضاً نصيب من تلك المجالس الشهيرة، فيُعقد للرجال مجلس بالقصر، ويُعقد للنساء مجلس بالجامع الأزهر ويُعقد مجلس للأجانب الراغبين في تلقي الدعوة؛ وكان الداعي يشرف على هذه المجالس جميعاً إمّا بنفسه أو بواسطة نقبائه ونوّابه، وكانت الدعوة تُنظّم وتُرتّب طبقاً لمستوى الطبقات والأذهان فلا يتلقّى الكافّة منها سوى مبادئها وأصولها العامة، ويرتفع الدعاة بالخاصة والمستنيرين إلى مراتبها وأسرارها العليا”[45].
إنّ هذا الإجراء الإداري الفاطميّ الذي استحدث خطّة داعي الدعاة في الأصل احتواء صريح للدعويّ من قبل السياسة الفاطميّة، وليس الغاية من هذا سوى تدعيم أركان الحكم الفاطميّ وإلباسه حلية دينيّة، وسلب الرعيّة إرادتها وعقلها ووجدانها، وكسب أسباب انتشار الدعوة وتوسيع رقعة نفوذها، وبالتالي الاستحواذ على كلّ أسباب السلطان والتفرّد بها ومنعها ممّن سوى الحاكم.
يبدو الاحتواء، إذن، من الأشكال التي عرفتها العلاقة بين الدعوة والسياسة في فترات زمنية مختلفة، تدفع نحوه أسباب معيّنة، إلاّ أنّ اللاّفت للانتباه عند دراسة هذا النمط من العلاقة أنّ احتواء الدعويّ للسياسيّ لا ينجرّ عنه كبير عنف أو صراع كما مرّ معنا مع تجربة الاحتواء المحمّديّة، وأنّ الاحتواء المعاكس لا يكون إلاّ بالتسلّط وتكميم الأفواه والإقصاء والتعنيف والتهديد كما هو الحال مع التجربتين العبّاسيّة والفاطميّة. وإنّ ما يلفت الانتباه أكثر هو أنّ هذا الاحتواء، وفي الاتجاهين، كان ملغومًا غير قادر على صمود، وإن كانت المساحات التي غطّاها من تاريخ المسلمين مشرقة فإنّها كانت إلى حين، إذا لم يقب احتواءً إلّا ثورةٌ.
خاتمة:
بين الدعوة والسياسة، إذن، علاقات مختلفة سواء على مستوى النظر والمبادئ أو على مستوى الإجراء والممارسة التاريخيّين، ومهما اختلفت هذه العلاقات وتباينت أنماطها ومستوياتها، فإنّ نقاط الالتقاء بين الدعوة والسياسة عديدة ومتنوّعة بتعدّد استحقاقات سياق الالتقاء ورهاناته وتنوّعها. فللسّياق دور كبير وآثار واضحة على مستوى العلاقة بين الدعوة والسياسة. وتتجلّى انعكاسات ذلك بوضوح على الدعوة خطابا. فالخطاب الدعوي في تفاعل مستمرّ مع سياقاته المختلفة القريبة والبعيدة، المباشرة وغير المباشرة يرسم بذلك أوجه مختلفة من العلاقات معها.
ويمكن الاستفادة، نظريّا، من مكتسبات المناهج المعاصرة لدراسة التفاعلات المختلفة بين النشاطين الدعويّ والسياسيّ، من ذلك المقاربة السياقيّة “Approche contextuelle”، كما يرجى إعادة التفكير في ضبط العلاقة بين الدعوة والسياسة في عصرنا بأنْ لا يقتصر الجدال على استدعاء النصوص استدعاءً عسفيّا للانتصار للرأي في إطار التصامم الإيديولوجيّ، وإنّما باستدعاء التجارب التاريخيّة وتحليلها وتخيّر ما ينفعنا منها من مبادئ عامّة لا تسنتسخ التجارب استنساخا وإنّما تؤسّس لبناء تجارب فريدة تقصد إعادة الاعتبار لأمّة جُعِل الديّن في أصل تأسيسها وأُخرجت في الأصل لتشهد على النّاس.
قائمة المراجع :
- أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، (ت 458هـ)، دلائل النبوّة، وثق أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه : د. عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1408ه/1988م.
- أحمد غلوش، الدعوة الإسلاميّة: أصولها ووسائلها، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1987.
- إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، أبو الفداء، (ت 774هـ)، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1408ه/ 1988م.
- بريك بن محمد بريك أبو مايلة العمري، السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة، إشراف: أكرم ضياء العمري، دار ابن الجوزي، الرياض، ط1، 1417ه/1996م.
- البهي الخولي، تذكرة الدعاة، دار العلم، دمشق، ط 5، 1397ه/ 1977م.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو عبد الرحمن، كتاب العين ، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرّائي، سلسلة المعاجم والفهارس، 41 _ 47، وزارة الثقافة والإعلام، دار الحريّة، بغداد، 1982.
- سيّد الجميلي، غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1416ه.
- عبد الله الشاذلي، الدعوة والإنسان،المكتبة القوميّة الحديثة، مصر، ط 1، د.ت.
- عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ)، السيرة النبويّة لابن هشام، علّق عليها وخرّج أحاديثها وصنع فهارسها د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1410ه/1990م.
- عبد الوهاب الكيالي (إشراف)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الهدى للنشر والتوزيع، بيروت، د.ت.
- علي محمد الصلابي، السيرة النبويّة: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط7، 1429ه/ 2008م.
- محمّد أبو الفتح البيانوني، المدخل إلى علم الدعوة، مؤسسة الرسالة، لبنان، ط 3، 1995.
- محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، ط1، 2000.
- محمّد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي، أبو العرب، (ت 333هـ)، كتاب المحن، تحقيق د. يحي وهيب الجبّوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت ، ط1، 2006.
- محمّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (ت 310هـ)، تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1407ه.
- محمّد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (ت 230هـ)، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410ه/1990م.
- محمّد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3،1414ه.
- محمّد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسيّة للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط5،1405ه/1985م.
- محمّد الخضر حسين، الدعوة إلى الإصلاح، المطبعة السلفيّة، القاهرة، 1346ه.
- محمّد الراوي، الدعوة الإسلاميّة “دعوة عالمية”، مكتبة الرشد، الرياض، ط3، 1411ه/ 1991م.
- محمّد رشيد رضا، تفسير المنار، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1947.
- محمّد طاهر الكردي المكي، التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، دار خضر للطباعة، بيروت، ط1، 1420ه/2000م.
- محمّد العبد الكريم، صحوة التوحيد: دراسة في أزمة الخطاب السياسي الإسلامي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2012.
- محمّد عبد الله عنان، داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين، مجلة الرسالة، عدد 192، مصر،1937.
- نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807ه)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر، بيروت، 1412ه.
- فتحي يكَن، الإسلام فكرة وحركة وانقلاب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 11، 1411ه /1991م.
- هشام جعيّط، تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة، دار الطليعة، بيروت، ط4، 2016.
[1] – انظر: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، ج 14، ص ص 257 _ 262.
[2] – محمّد الراوي، الدعوة الإسلاميّة “دعوة عالمية”، مكتبة الرشد، الرياض، ط3، 1411ه/ 1991م، ص 39.
[3] – أحمد غلوش، الدعوة الإسلاميّة: أصولها ووسائلها، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1987، ص 10.
[4] – عبد الله الشاذلي، الدعوة والإنسان، المكتبة القوميّة الحديثة، مصر، ط 1، د.ت، ص 39.
[5] – محمد الخضر حسين، الدعوة إلى الإصلاح، المطبعة السلفيّة، القاهرة، 1346ه، ص 17.
[6] – محمد أبو الفتح البيانوني، المدخل إلى علم الدعوة، مؤسسة الرسالة، لبنان، ط 3، 1995، ص 19.
[7] – فتحي يكَن، الإسلام فكرة وحركة وانقلاب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 11، 1411ه /1991م، ص 39.
[8] – البهي الخولي، تذكرة الدعاة، دار العلم، دمشق، ط 5، 1397ه/ 1977م، ص 35.
[9] – أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين ، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرّائي، سلسلة المعاجم والفهارس، 41 _ 47، وزارة الثقافة والإعلام، دار الحريّة، بغداد، 1982، ج7، ص 335.
[10] – محمّد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، دار الفكر، بيروت، ط1، 2000، ج4، ص 259.
[11] – انظر: عبد الوهاب الكيالي (إشراف)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار الهدى للنشر والتوزيع، بيروت، د.ت، ص ص 362 _ 372.
[12] – محمد الخضر حسين، مرجع سابق، ص 17.
[13] – عبد الوهاب كيالي، مرجع سابق، ج3، ص 362-363.
[14] – علي محمد الصلابي، السيرة النبويّة: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط7، 1429ه/ 2008م، ص 90.
[15] – عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، أبو محمد، جمال الدين (المتوفى: 213هـ)، السيرة النبويّة لابن هشام، علّق عليها وخرّج أحاديثها وصنع فهارسها د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1410ه/1990م، ج1، ص 391.
[16] – نفسه، ص 344.
[17] – نفسه، ص 350.
[18] – نفسه، ص 350.
[19] – نفسه، ص350.
[20] – يُنظَر تحت عنوان: هجرة أم تهجير؟ هشام جعيّط، تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة، دار الطليعة، بيروت، ط4، 2016، ص 291 وما بعدها.
[21] – محمد العبد الكريم، صحوة التوحيد: دراسة في أزمة الخطاب السياسي الإسلامي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2012، ص 36.
[22] – محمد طاهر الكردي المكي، التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم، دار خضر للطباعة، بيروت، ط1، 1420ه/2000م، ج4، ص 525.
[23] – أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد (ت 230هـ)، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410ه/1990م، ج6، ص 275.
[24] – محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (ت 310هـ)، تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 1407ه، ج3، ص 635.
[25] – انظر: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت 774هـ)، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1408ه/ 1988م، ج8، ص362 وما بعدها.
[26] – ابن كثير، مرجع سابق، ج9، ص 46.
[27] – محمد بن أحمد بن تميم التميمي المغربي الإفريقي، أبو العرب (ت 333هـ)، كتاب المحن، تحقيق د. يحي وهيب الجبّوري، دار الغرب الإسلامي، بيروت ، ط1، 2006، ص ص 339 _ 340.
[28] – نفسه، ص 340.
[29] – نفسه، ص 341.
[30] – نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807ه)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، دار الفكر، بيروت، 1412ه، ج6، ص 54.
[31] – ابن هشام، مرجع سابق، ج1، ص 433.
[32] – أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي (ت 458هـ)، دلائل النبوّة، وثق أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه : د. عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلميّة – ودار الريان للتراث، ط1، 1408ه/1988م، ج2، ص 443.
[33] – نفسه.
[34] – نفسه.
[35] – ابن هشام، مرجع سابق، ج3، ص 264.
[36] – علي محمد الصلابي، مرجع سابق، ص ص 306 _ 308.
[37] – محمّد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسيّة للعهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، بيروت، ط5،1405ه/1985م، ص ص 41 _ 47.
[38] – الأذان والقبلة والتحايا هي الأخرى من السمات التي وسم بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مجتمع المدينة الجديد.
[39] – علي محمّد الصلابي، مرجع سابق، ص 329.
[40] – محمد رشيد رضا، تفسير المنار، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1947، ج12، ص 309.
[41] – انظر سرايا النبي على سبيل المثال في: بريك بن محمد بريك أبو مايلة العمري، السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة، إشراف: أكرم ضياء العمري، دار ابن الجوزي، الرياض، ط1، 1417ه/1996م. وسيّد الجميلي، غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1416ه.
[42] – محمد العبد الكريم، مرجع سابق، ص 41.
[43] – محمد عبد الله عنان، داعي الدعاة ونظم الدعوة عند الفاطميين، مجلة الرسالة، عدد 192، مصر،1937،ص22.
[44] – نفسه.
[45] – نفسه.