
الفكر الإنساني و سجن الأطر حسب كارل بوبر
لوصيّف رحومة/جامعة قفصة، تونس
مقال نشر في مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 35 الصفحة 75.
ملخص:
يبين كارل بوبر في كتابه “أسطورة الإطار” كيف أن النماذج و المذاهب العلمية،مثل الداروينية،و كذالك المذاهب و العقائد الدينية والثقافية و السياسية تشكل مجموعة من الأطر أو هي عبارة عن سجن يمنع معتنقي هذه المذاهب من توسيع زوايا النظر لديهم في رؤيتهم للواقع المتشعب والمتغير،كما يمنعهم من التواصل مع أصحاب المذاهب الأخرى أو من تصحيح و تعديل قناعاتهم و معتقداتهم. وبالتالي يسود التعصب و ينعدم الحوار والتسامح. إن ما ينقده كارل بوبر من تعصب و انغلاق لدى أصحاب النظريات العلمية و معتنقي المذاهب السياسية المختلفة ينسحب أيضا على أهل كل مذهب أو عقيدة الذين يكونون غير قادرين على قبول الاختلاف مع الغير و لا على نقد وتعديل أحكامهم و وجهات نظرهم.
الكلمات المفتاحية: التاريخانية – العقلانية النقدية- أسطورة الإطار- النسبّية- اللّامقايسة-التعصّب.
في خضم التطورات التي شهدها الفكر الغربي عموما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وداخل التطوّرات الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي شملت حرب كونية أولى وحرب عالمية ثانية، نمت فلسفة كارل بوبر فحاولت الدفع بالتقدم المعرفي من خلال تحليل ونقد نظريات معرفية متوارثة ومناهج العلم الحديث، ومحاولة التصدّي للمذهب الطبيعي والنزعة العلماويّة [1]من داخل موقف علمي يستثمر جلّ التطوّرات التي وقعت في مجال علم الفيزياء وعلم الرياضيات ولاسيما الثورة العلمية التي حققتها نظرية النسبية.
حاول بوبر تحرير العلم من مناهج خاطئة تعيق تقدمه ومن الإيمان الدغمائي بمقولات العلم الطبيعي الذي لا يحتوى سوى على نظريات قابلة للنقد والتعديل من طرف نظريات أخرى. ولقد حاول أن يفسح المجال أمام جميع المعارف الأخرى والمصادر المختلفة- غير الحسّ المشترك والملاحظة – لكي تساهم في عملية التقدّم المعرفي للإنسان وتساهم في البناء الحضاري والثقافي للمجتمعات.
إن فكر بوبر هو صراع طويل ضدّ الدغمائية والانغلاق والتقوقع أو الانحباس داخل نظرية أو مذهب معيّن، وضدّ النزعات العلميّة التي تختزل الواقع الطبيعي والواقع الإنساني وتريد أن تهيمن على حساب النزعات والتوجهات الأخرى. ومن خلال نقده” للنزعة التاريخانية” والمذهب الطبيعي تتأسس دعوته للدفع بالمجتمع المفتوح نحو التحقيق عبر تبنّي عقلانية نقديّة منفتحة، كفيلة بمساعدتنا للخروج- ولو نسبيا- من أطرنا المعرفية والمذهبية المختلفة.
1:العلم يتقدم بالنقد و بتصحيح أخطائه وليس بتراكم النظريّات
أطلق بوبر اسم “أسطورة الإطار” على تلك النظريات التي تقول بأنّ المناقشة النقدية والتفاهم بين النظريات العلمية مستحيل ما دامت تختلف وتتناقض في مجموع الافتراضات والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها كل واحدة من تلك النظريات،و هذه التوجهات القائلة باستحالة التواصل بين النظريات تدّعي أن كل نظرية علمية لها مقاييسها ومبادئها الخاصة بها، التي لا يمكن أن يتخلى عليها أصحاب النظرية أو يستبدلونها بمبادئ أخرى :كل نظرية لها منطقها الخاص وحقيقتها الخاصة بها والنتيجة الوحيدة المتوقّعة -حسب هذا التوجه -هي انتصار نظرية على أخرى والتخليّ على النظرية المنهزمة كليّا لصالح النظرية المنتصرة، بعد المناقشات النقدية المتبادلة .
هكذا تكون كل نظرية وكل مذهب هو إطار يجمع بين معتنقيه ويقاسمون داخله مجموعة من الافتراضات الأساسية والمبادئ التي تكون لديهم بمثابة الحقيقة المطلقة . وحسب ” أسطورة الإطار” هذه ، كلّ مناقشة بين أطراف الأطر المختلفة لا تفعل سوى أن تجعل كل واحد يتشبث أكثر بنظريّته ويرفض كليّا النظريّات الأخرى، وبالتالي تنغلق كل ذات على نفسها أو تحاول جاهدة إقناع الجهات الأخرى بنظريتها أو فرضها عليهم بالعنف . يجب الـتأكيد هنا، كما يفعل بوبر في إطار دفاعه عن العلم والعقلانية، أن صورة الإطار هذه لا تحكم توجهات فلاسفة العلم المعاصرين أو “ما بعد الحداثة ” فحسب ،بل تطغى على الفكر السياسي والاجتماعي الحديث بل أن هذه الأسطورة كانت قد بدأت تغزو الفكر بعد هيغل وبعد أن ارتسمت معالمها وطغت على الأذهان، امتدت إلى ميدان العلم لتعلن عن نفسها بكل وضوح عن طريق توماس كون وبول فيرباند.
2:الحياة كلها حلول لمشاكل
يبّين بوبر في فصل أسطورة الإطار من كتابه الذي يحمل نفس العنوان (ترجمة: يمنى طريف الخولي،تحرير:مارك أ.نوترنو) اتجاهين من بين التوجّهات التي أدت إلى ترسيخ أسطورة الإطار: يتمثل الاتجاه الأول في التفاؤل المفرط بانتصار الحقيقة كنتيجة للمناقشة بين أصحاب المذاهب أو النظريات مع الاعتقاد المسبّق بأن الحقيقة يمثّلها بعض الأطراف وأن الزيف والبهتان يمثّله الطرف الأخر . هذا التفاؤل ينقلب إلى خيبة أمل لأن المناقشات لم تظهر الحقيقة وبالتالي يحدث تشاؤم عام ويجب أن نحاول التعلم منها.
ويتمثل الاتجاه الثاني في الإقرار بأن كل طرف له حقيقته الخاصة به و يساهم ماركس بدوره في ترسيخ هذه الأسطورة بقوله بأن كل طبقة اجتماعية لها إطارها الخاص الذي يلّم جميع القيم والمعايير و الإنتاجات المعرفية، كل طبقة لها الايدولوجيا الخاصة بها ،وإمكانية التحاور والتواصل والنقد المتبادل معدومة. لقد ساهمت هذه النسباوية في ترسيخ أسطورة الإطار عندما أدت إلى ظهور التوجه الفكري لما بعد الحداثة الذي يقوم على مبدأ اللاّمقايسة- وهو من وضع المفكر توماس كون – يعني أن كل نظرية علمية لها مبادئها الخاصة بها وتلعب دورها التاريخي الخاص بها، وهي غير قابلة للقياس مع لاحقاتها من النظريات، فكل نظرية لها إطارها الخاص المنفصل، والتقدم العلمي لا يتحقق بالنقد والتعديل والتجاوز في النظريات بل بالانتقال من نظرية إلى أخرى ينتصر لها الناس، عندما تظهر قدرتها على تفسير ما عجزت على تفسيره النظرية السائدة من ظواهر غريبة وشاذة: يقول توماس كون في كتابه”بنية الثورات العلمية” بأن كل قبول لنظرية علمية جديدة يصاحبه رفض ونبذ النظريّة التي كانت سائدة بأكملها[2] ويقول أيضا بأن نظرية “كوبرنيك” لا يمكن أن تكون أبسط وأوضح من نظام بطليموس، ذلك أن كل نظرية سائدة( أو “براديغم”) ترتبط برؤية خاصة لنظام الكون:نظرية نيوتن لا تكون مقبولة إلا داخل نظام مركزية الأرض وثباتها.
يقرّ أصحاب النسباوية وعلى رأسهم توماس كون وبول فايربند بعدم إمكانية التحاور والمناقشة بين أصحاب النظريات المختلفة لإنعدام مقاييس مشتركة متفق عليها من الطرفين، ولكن يدحض بوبر ذلك بقوله بأن المناقشة النقدية بين أصحاب النظريتين لا تكون مثمرة ومفيدة إلا عندما تكون هذه النظريات مختلفة ومتناقضة، لان طبيعة الأسئلة والانتقادات المتبادلة ستكون حادة وجريئة تستدعي إعادة انظر في بعض أو أغلب المسلمات هو ما يؤدي إلى التخلص من ضيق الأفق الذي تحصرنا فيه النظرية.فمجابهة النظريات يبعضها البعض يخلق مشاكل جديدة على كل نظريّة أن تواجهها إذا أراد أصحابها نصرتها ، كما يمكن أن يؤدي إلى ظهور نظريات جديدة.
يبيّن بوبر أنّ العلم الحديث كان نتيجة الصدام الثقافي والحضاري بين الإغريق الحضارات الشرقية القديمة و نتيجة الاختلاف بين ثقافات إغريقية وأخرى تبدوا غريبة غير مقبولة كثقافة الأحباش أو الثقافة التراقية، كما يبين أنّ العقلانية الغربية هي حصيلة التناول النقدي من طرف المفكرين اليونانيين لنظريات سابقيهم وللأساطير الدينية والأقاصيص الخيالية.
وبالتالي أنّ العلم لا يمكن أن يتطوّر أو يتقدّم بمعزل عن الحياة الثقافية والسياسية أو المنظومة العقائدية والأخلاقية لاسيما، وكما يقرّ بوبر في تفسيره لمبدأ “اللاّمقايسة”، أن نظريّة تسود تعضدها دائما طريقة للنظر للعالم والطبيعة وللإنسان عموما، فالعلم في مرحلة تاريخية معينة هو وجهة نظر أو موقف يتشكل داخل إطار معيّن ويتكوّن من نظريّة عامة سائدة تعضدها مجموعة أطروحات أو فرضيات ثانوية: أنّ نظرية نيوتن، التي كانت تتويجا للثروة الكوبرنيكية ولتضحيات علماء مثل Bruno وGallilé، لم تكن لتسود لو لم تتغير مبادئ ومواقف عديدة وهامة في غرب ما بعد العصر الوسيط، شملت الحياة الاجتماعية الثقافية العقائدية والأنظمة السياسية .
لقد أصبحت هذه النظرية إطارا سائدا وشهد العلم تطوّرا هاما داخلها ولكن لم تنعدم النظريات التي كانت تحاول فرض نفسها ولم تنعدم الانتقادات والمناقشات[3] وصولا “للفيزياء الكوانطيّة”ونظريّة النسبيّة. يقول بوبر بأن داخل العلم ،المشكلات والنظريات هي التي تسود وتفرض نفسها ،والعلماء لا يهتمون بالنظريات بنقدها والبحث عن نظريات بديلة إلا من أجل فهم العالم ومن أجل البحث عن الحقيقة وعن تفسير أكثر تطابقا مع الوقائع والظواهر الفيزيائية المتجدّدة والمتغيّرة، وهذا يعني أنّ سيادة نظريّة ما وجعلها إطارا يتحرّك داخله البحث العلمي وتتشكل به المنظومة القانونية الأخلاقية والعقائدية،هي مسألة حضارية ثقافية بل أيضا هي مسألة أخلاقية إنسانية*. يكون مبدأ اللاّمقايسة دليل على الدغمائيّة والتقوقع ودافعا لهما أكان ذلك في ميدان العلم أو في الميدان القانوني والأخلاقي والسياسي، لأنّ العلم مثل سائر الأنشطة الإنسانية داخل المجتمع هو بحث حلول للمشاكل، هو بحث عن فهم وتفسير واقع الكون والإنسان، يتطوّر من خلال النقد ومواجهة النظريات بعضها ببعض ، يقول بوبر : “إنّ منهج العلم ، منهج المناقشة النقدية ، هو الذي يجعل من الممكن لنا أن نعلو ليس فقط على أطرنا المكتسبة من الثقافة، بل أيضا على أطرنا الفطرية . هذا المنهج يجعلنا نعلو ليس فقط على حواسنا ،بل أيضا على منحانا الغريزي جزئيا نحو اعتبار العالم كونا من الأشياء المحدّدة وخصائصها. ومنذ عهد هيراقليطس، يوجد الثوريون الذين يخبروننا أنّ العالم يتألف من عمليات Processes ، وأنّ الأشياء أشياء في المظهر فقط ، إنها في الحقيقة عمليات، مما يبيّن كيف يستطيع التفكير النقدي أن يتحدّى الإطار ويعلو عليه حتى لو كان ضاربا بجذوره ، ليس فقط في اللغة المتعارف عليها، بل أيضا في جيناتنا الوراثية، فيما يمكن أن نسميّه الطبيعة الإنسانية ذاتها.”[4]
3:المعرفة والعلم في مواجهة التعصّب والإنغلاق
يقول بوبر في فصل “عقلانية الثورات العلميّة” بأن من أشهر العقبات التي تواجه التقدّم العلمي هي العقبات الإيديولوجية المتمثلة في التعصّب الإيديولوجي أو الديني وكذلك بالدوغمائية والافتقار إلى الخيال.[5]تصبح كل نظريّة أو مذهب إطارا أو سجن عندما تكون محلّ اعتقاد وإيمان إلى حد التعصب وتكون بذالك مجموعة أفكار غير قابلة للمقايسة والمقارنة وفي مأمن من كل نقد، يحصّنها- ولكن أيضا يجمدّها -الإيمان الدوغمائى للذوات التي تدين بها . ينتج عن ذلك حتما العنف، الانغلاق والاستبداد لأنّ أصحاب كل مذهب أو نظريّة يكونون مجبرين على استعمال العنف والحيلة لفرض توجههم على الآخرين وإجبارهم على الارتداد على معتقداهم. لا يقف هذا أمام التقدّم المعرفي والأخلاقي للمجتمع فحسب بل أمام إمكانية تحقيق مجتمع مفتوح عقلاني يضمن داخله التواصل والتحاور بين الناس وبين مختلف المذاهب، الأديان والمعتقدات. وحتى إذا وجد نظام سياسي أفضل ومؤسسات اجتماعية أحسن،فسوف تكون مجبرة على تبني إحدى المذاهب وفرضها على الآخرين ما لم تتوفر اطر أرحب للتفاهم والنقاش واستعداد متبادل لتصحيح وتعديل المبادئ والاختيارات من اجل حل المشاكل الاجتماعية والسياسية المستعجلة والمتجدّدة. إن المناقشات يجب أن تطال المبادئ والأسس التي تقوم عليها كل نظرية، مذهب أو أيديولوجيا لأن ذلك يجعلها غير قابلة للتحصين أي قابلة للتخطئة والدحض والرفض إذا ما ثبت أنها لا تتوافق مع الواقع الطبيعي أو الاجتماعي. يبيّن بوبر في فصل”عقلانية الثورات العلمية” أن النظرية العلمية يمكن أن تصبح مذهب أو بدعة عقلية أو إيديولوجيا دغمائيّة ومنغلقة – وهو ما يمثّل عقبة أمام التقدم العلمي والتطور الاجتماعي الايجابي.
يجب التأكيد هنا مع بوبر بأن هذه المذاهب مثل الداروينية أو النظرية الكوبرنيكية كانت ملاذا أو اختيار صعبا وخطيرا لانعدام البديل، ولعجز المؤسسة الدينيّة عن التطور ومسايرة التطور الثقافي والاجتماعي في الغرب ، فلقد حلت هذه الإيديولوجيات محلّ الدين المسيحي بمذاهبه المختلفة مثل الكاثوليكية والبروتستنتية والأنكليكانية ANGLICANISME :” و أحسب أن هذه المشكلة، يقول بوبر، تغدوا خطيرة حقا حينما يقع العقلاء ، ومن بينهم العلماء، في أسار الإعجاب بإيديولوجيات وبدع عقلية شائعة. قد يعود هذا إلى تراجع دور الدين، إلى الاحتياجات اللاّواعية وغير المشبعة لمجتمعنا المفتقر إلى الأب. وبخلاف شتّى الحركات الاستبدادية الشمولية التي عاصرتها في حياتي،كنت شاهد عيان علي عدد لا بأس به من الحركات التي ترفع الثقافة العقلية الرفيعة و تجهر بأنها حركات لا دينيّة وهي متصفة من بعض الجوانب بخصائص دينيّة لا تخطئها العين بمجرد أن تراها.[6].”
في ظل التطور الهائل للعلوم الطبيعية والفيزيائية، واكتساحها لجميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، كان كل من أراد الدفاع عن الدين أو الثقافة وكل من أراد سد الاحتياجات اللاواعية، النفسية والاجتماعية مضطّر إلى التحصّن بنزعة أو مذهب يقوم على نظرية علمية أو فلسفية، ربما لفرض نفسه أو لتحقيق استجابة الآخرين[7] .
4:نحو التحرّر من بوتقة المذاهب والأيديولوجيات
لقد انتشرت خلال القرن العشرين الحركات والنزاعات الاشتراكية والشيوعية في كل بلدان العالم تقريبا، وكذلك الحركات القومية والنزعات الأصولية الثقافية والدينيّة. وكانت هذه الحركات تتأسّس على النظرية الاقتصادية الماركسية، التي تدّعي بأن حلول الاشتراكية وثم الشيوعية هي مسألة تاريخيّة حتميّة. لم تحل هذه الايدولوجيا المشاكل التي خلقتها الليبرالية الرأسمالية، بل خلقت بدورها مشاكل جديدة وخطيرة، ربما لسبب بسيط وهو أنها تقوم على مبادئ علمية طبيعية وعلى مبادئ الوضعية التي اعتمدتها العلوم الاجتماعية والاقتصادية التي قد تمت تجاوزها في مجال العلوم الفيزيائية والطبيعية. أما النزعة القومية فهي غالبا ما تتأسّس على اللغة والثقافة أو العرق أو الدم ،رافضة للتنوع والاختلاف داخل المجتمع الواحد.
إن هذه الايدولوجيا الاشتراكية، مثلها مثل الإيديولوجيا الليبرالية الاقتصادية أو الحركات الأصولية الدينيّة،كانت ولا تزال تهدف لإصلاح المجتمعات وإعادة بنائها -بل وهيكلتها وقولبتها- معتمدة في ذلك منهج الشمولية العلماوية والوضعيّة (فون حايك ). تمثّل كافة هذه المذاهب أطر مختلفة ومتناقضة يسلّم أصحابها باستحالة التناقش والتفاهم في ما بينهم والاستفادة من بعضهم البعض ويرفضون الاستعداد لقبول النقد من أي جهة، خاصة إذا كان النقد سيطال المبادئ الأساسية والمسلّمات التي تقوم عليها هذه المذاهب.
إضافة إلى أن هذه المذاهب تعوق التقدم المعرفي والعلمي، فهي تعطل التطور الطبيعي للمجتمعات نحو الانفتاح كما تعوق أمكانية قيام أنظمة سياسية عقلانية وحكيمة أو إصلاح اجتماعي واقتصادي أو تفاهم متبادل بين الثقافات المختلفة.
فإذا كان الانتماء إلى مذهب أو حركة ( دينية، سياسية، عقائدية ) لازم وطبيعي ،لا يجب أن نسجن أنفسنا داخل هذه الأطر ونتوقّع أو نتقبل أي مواجهة أو صدام كارثي وعقيم مع الأطر الأخرى، بل على العكس من ذلك يجب أن نقوّى أنفسنا بقبول النقد المتبادل ومساومة ايجابية مع الآخرين أكان ذالك نظم سياسية ،نزعات أو حركات اجتماعية دينية.
تختلف البني الثقافية والاجتماعية والسياسية داخل المجتمع نفسه وتتفاعل مع بعضها، وهى تتطور باستمرار مع التطور الطبيعي والاقتصادي الذي يشمل كافة المجتمعات الإنسانية ويؤثر على طبيعة المعاملات والعلاقات في ما بينها، و بالتالي لزاما علينا محاولة الإنعتاق من سجن المفاهيم والإيديولوجيات والأحكام المسبّقة. فالصدام الثقافي والحضاري وإن كان كارثيّا أحيانا يمكننا أن نجعله مغذيّا وحافزا للتطور والتقدم المعرفي،الأخلاقي والسياسي نحو الخير والجمال والسلام. وهذا من مهمات المفكرين والعلماء بالأساس:”وخلاصة القول، كما يقول بوبر، إن الأطر، مثل اللغات، قد تكون حواجز، بل وقد تكون سجونا. ولكن إطار المفاهيم الغريب، تماما كاللغة الأجنبية، ليس البتة حاجزا: إننا نستطيع اقتحامه، تماما كما نستطيع الهروب من إطارنا الخاص، سجننا الخاص. إن اقتحام حاجز الإطار تماما كاختراق حاجز اللغة، عسير ولكن يستحق منا كل اهتمام وجهد، ويمكن أن نجد لجهدنا في الاقتحام مردود سابغا هو توسيع أفقنا العقلي، ليس فحسب بل أيضا بأن نحظى بالمزيد من المتعة. الاقتحام بهذه الشاكلة هو اكتشاف بالنسبة إلينا.[8] “
قائمة الـمراجـع:
- -كارل بوبر،أسطورة الإطار، ترجمة: يمنى طريف الخولي،سلسلة عالم المعرفة،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.الكويت. مارس،أفريل.2003.
- –كارل بوبر. بؤس الايدولوجيا، ترجمة: عبد الحميد صبرا، دار الساقي بيروت. 1992 .
- –كارل بوبر. الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة: بهاء درويش، دار المعارف الإسكندرية .
- -كارل بوبر. المجتمع المفتوح وأعداؤه، الجزء. 1، ترجمة السيد نفادي، دار التنوير، لبنان .
- V .F،Scientisme et sciences sociales،Agora،by librairie Plon.1953
- -Popper.K،La misère de l’historicisme،Librairie Plon،1955
- -Popper. K،L’avenir est ouvert،Flammarion،1990
- -Popper. K،La société ouverte et ses ennemies،TI،Hegel et Marx Ed du Seuil،1979,
- Kuhn Thomas،La structure des révolutions scientifiques، Paris، Flammarion، 2008(1re éd. 1962)، (( Laure Meyer)
[1] : تتمثل النزعة العلماوية في تطبيق مناهج العلوم الطبيعية و العلوم الصحيحة في مجالات العلوم الاجتماعية و الإنسانية .أنظر:
Scientisme et sciences sociales،Agora،by librairie Plon.1953 – Von Hayek .F,
[2] : Kuhn Thomas،La structure des révolutions scientifiques،Paris،Flammarion,2008 (1re éd. 1962)،((trad. Laure Meye)
[3] كارل بوبر ، أسطورة الإطار،ت.يمنى طريف الخولي .عالم المعرفة.2003، ص. 85.
[4] ، نفس المرجع،ص. 87 – 88.
[5] نفس المرجع ، ص 48.
[6] كارل بوبر،أسطورة الإطار ت.ي.ط.الخولي،عالم المعرفة،ص55.
[7] نفس المرجع، ص. 51.
[8] كارل بوبر،أسطورة الإطار،فصل أسطورة الإطار،ص.90