
قضية فلسطين … حقيقة المشكلة وطبيعتها، د. عبد المنعم عبد الوهاب، نقابة المحامين، البصرة، العراق. مداخلة ألقيت خلال المؤتمر الدولي الثالث عشر لمركز جيل البحث العلمي: فلسطين قضية وحق: طرابلس | لبنان 2 و3 ديسمبر 2016. ( حمل من هنا أعمال المؤتمر الدولي الثالث عشرر فلسطين قضية وحق لبنان ديسمبر 2016 الصادرة بشهر ديسمبر 2016، ص 27).
Summary:
Over seven decades ago, Question of Palestine takes the most attendance and interest among all the issues which occupied the global system in general, and our Arabic system in particular. Because of the importance and preference of The Question Of Palestine in Arab world , there were many visions about its nature and its fact . So , What is the fact of the problem of Palestine, and what is its nature? This presentation will endeavor to answer for these two questions.
الملخص :
على مدى سبعة عقود خلت ، كان لقضية فلسطين القدر الأكبر من الحضور والاهتمام بين كل القضايا التي تشغل المنظومة العالمية بشكل عام ، ومنظومتنا العربية بشكل خاص . وإزاء الأهمية والأولوية التي تحظى بها قضية فلسطين عربيا ، تعددت الرؤى حول حقيقتها وطبيعتها كمشكلة . فما هي حقيقة مشكلة فلسطين ، وما هي طبيعتها ؟ هذا ما سنتعرف عليه في هذه المداخلة .
مقدمة :
حين نُقَلَّبُ أسفار قضية فلسطين ، لاشك ستدهشنا تلك الحيوية التي تتمتع بها هذه القضية على الصعيدين الدولي والعربي . فبرغم مضي قرن من الزمان على نشوئها ، وبرغم كثير من الأزمات والانتكاسات ، الطارئة منها والمدبرة ، التي تعرضت لها ، وبرغم عديد من المشاريع غير الخافية ، والمحاولات غير المعلنة ، التي تقف ورائها إرادات فاعلة لدول قائدة ومؤسسات نافذة على مستوى العالم اجمع ، للتعتيم عليها ..، فأن قضية فلسطين لم تزل نابضة بالحياة ، عصية على تقادم السنين ، تفرض وجودها وحضورها الدائم على مختلف الأوساط والفعاليات الدولية . كما أنها لم تزل القضية التي تحتل الصدارة والأولوية بين كل القضايا العربية الأخرى . فهي تكاد أن تكون القضية العربية الوحيدة التي تتوافق مواقف الحكومات العربية بشأنها ، وبغض النظر عن طبيعة تلك المواقف ومضمونها . وهي أيضا القضية الوحيدة من بين قضايا التحرر العربية المعاصرة التي تفوقت طيلة قرن كامل من الزمان باستقطاب جماهير الشعب العربي حولها ، وانفردت دون سواها من تلك القضايا بتضحيات جسام للدم العربي ، فكانت بحق قضية العرب ، كل العرب من المحيط إلى الخليج .
ومن آيات الحيوية التي تتمتع بها قضية فلسطين في واقعنا العربي ، ما تثيره على الدوام بين صفوف النخب والمثقفين العرب من اختلاف في رؤيتهم لحقيقة وطبيعة مشكلتها . والفرق بين حقيقة المشكلة ، وطبيعتها ، هو أن الأولى تتناول ماهية المشكلة ، أي مضمونها ، فيما تتناول الثانية وصف المشكلة ، أي صفتها أو مظهرها[1]. ويترتب على معرفة حقيقة المشكلة التعرف على عناصرها المكونة لها ، فيما يترتب على معرفة طبيعة المشكلة ، التعرف على نطاقها الزماني والمكاني والإنساني . فالفارق بَيَّنٌ بين المصطلحين وما من داعٍ للخلط بينهما . فما هي حقيقة مشكلة فلسطين ؟ وما هي طبيعتها ؟ .
سنجتهد فنجيب على كل سؤال من هذين السؤالين في مطلب مستقل ، ثم ننهي مداخلتنا هذه بخاتمة تجمل ما نتوصل إليه من نتائج .
المطلب الأول : حقيقة مشكلة فلسطين
منذ قرن مضى تقوم في فلسطين عملية متواصلة لانتزاع الأرض من شعبها ، وتوطين بشرا آخرين عليها . عملية بدأت بتسلل خفي استحوذت من خلاله عصابات صهيونية منظمة على أجزاء من الأرض ، ثم تحولت إلى استيلاء بالقوة المسلحة لعموم الأرض . هذه العملية ليست نموذجا للاحتلال الذي مارسته القوى الاستعمارية التقليدية ، والذي كانت تفرضه بسيطرة جيوشها على مجتمع ما ، لسلب ما في ذلك المجتمع من إمكانات مادية وبشرية وتسخيرها لخدمة الدولة المُستَعمِرة . إذ لم يكن من أهداف الاستعمار التقليدي الاستيلاء على أراضي الشعوب المُستَعمَرة خالية من أهلها[2] ، أنما استهدف الاستيلاء على ثروات تلك الشعوب ، ومن ثم جعل أوطانها أسواقا مُستهلِكة لفائض منتجاته المختلفة . ولكنها – أي عملية انتزاع ارض فلسطين – خطـة مُحكَمة عملت خلالها الحركة الصهيونية العالمية على تهجير شعب فلسطين عن أرضه والاستيلاء عليها خالية من أهلها ، لتوطين بشرا آخرين حملتهم إليها من شتى أصقاع العالم . أنها عملية قريبة الشبه بما حدث في أمريكا الشمالية ، وجنوب أفريقيا ، حيث عمدت مجاميع من المهاجرين إليهما إلى الاستيطان في أراضيهما بعد طرد أصحابها الشرعيين منها والاستيلاء عليها خالية منهم . نقول عملية قريبة الشبه ، ولا نقول مشابهة تماما لها ، لان ما حدث في أمريكا الشمالية ، وجنوب أفريقيا أنما استهدف الاستيلاء على أجزاء من عموم الأرض أما لموقعها الممتاز ، وأما لما تكتنزه من خيرات وثروات ، فتم طرد السكان الأصليين من أرضهم الخاصة بالقوة ، وتم ترحيلهم إلى أماكن أخرى من البلاد . أما في فلسطين ، فلم يكتفِ الصهاينة بالاستيلاء على أجزاء من أرضها خالية من شعبها ليستوطنوها هم ، أنما استهدفوا ، وما زالوا يستهدفون ، الاستحواذ على كامل الأرض الفلسطينية ، وأراضٍ عربية أخرى تمتد من الفرات إلى النيل بزعم أنها ((أرضهم التاريخية)) ..، فالاستيلاء على فلسطين ، كل فلسطين ، خالية تماما من شعبها ، كل شعبها ، أنما هي رؤية نظرية ثابتة لدى الصهاينة[3] ، تمثل الهدف الرئيسي الذي تتبناه استرتيجيتهم العدوانية ، وتتجسد عمليا في جميع ممارساتهم منذ أن تبنوا مشروعهم الصهيوني[4] في مؤتمرهم الأول عام 1897 وحتى يومنا هذا[5].
أن جوهر الصراع مع الصهاينة في فلسطين هو صراع على الأرض[6] ، ولمن تكون . لذا فان مشكلة فلسطين في حقيقتها هي مشكلة اغتصاب لأرض ، وليست كأي مشكلة احتلال تقليدي .
تلك هي حقيقة مشكلة فلسطين . وهي حقيقة لم ينكر مضمونها حتى الصهاينة أنفسهم ، الذين ما فتئوا يبررون عدوانهم على فلسطين بزعم “استعادة أرضهم التاريخية من الغزاة العرب” . بمعنى ” استعادة الأرض ” خالية من سكانها القائمين عليها .
المطلب الثاني : طبيعة مشكلة فلسطين
على الصعيد العربي ، هناك أكثر من اتجاه في فهم طبيعة مشكلة فلسطين . يرى اتجاه أول[7] أن مشكلة فلسطين هي مشكلة دينية قائمة بين المسلمين واليهود . فهي عندهم ليست كأي مشكلة نزاع على ارض . لان ارض فلسطين -كما يؤكدون- ليست كأي ارض أخرى عاش عليها المسلمون ، أو وطأتها أقدامهم . فلأرض فلسطين مكانة سامية ، ومنزلة عاليـة ، عند جميع المسلمين ، لما تحظى به من القدسية والتكريم الإلهي ، فهي الأرض التي تحتضن المسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى ، وثاني مسجد لله في الأرض ، وثالث المساجد مكانة في الإسـلام ، وهي الأرض التي ولد فيها ، وعاش عليها ، ودفن في ثراها كثير من أنبياء الله ، وانطلقت منها دعواتهم للتوحيد ورسالات هدايتهم للناس ، وهي أيضا الأرض التي أُسرِيَ إليها بنبي الإسلام ، ومنها كان معراجه إلى السماء . وهي طبقا للمنظور الإسلامي ارض المحشر والمنشر ، وعقر دار الإسلام ، والمقيم المحتسب فيها كالمجاهد في سبيل الله ، ومركز الطائفة المنصورة الثابتة على الحق إلى يوم القيامة[8] . بهذه الصفات – كما يقولون – اكتسبت
فلسطين مكانتها العظيمة في قلوب المسلمين وضمائرهم على مر التاريخ . ولهذه الميزات – كما يزعمون – أستحق المسلمون أن يكونوا الورثة الحقيقيون الجديرون بميراث أنبياء الله ، ومنهم أنبياء بني إسرائيل الذين حكموا فلسطين تحت راية التوحيد أزمانا متعاقبة ، لأنهم حاملي راية التوحيد من بعد هؤلاء الأنبياء ، والسائرون على هديهم ، فغدت ارض فلسطين ميراثا تاريخيا لهم ، ولهم وحدهم دون سواهم من أصحاب الديانات الأخرى . ولهذا كله يقرر أصحاب هذا الاتجاه بأن حل مشكلة فلسطين يكمن في عودة أرضها لأصحابها الشرعيين ، أي المسلمين ، كل المسلمين ، وذلك لان : فلسطين ارض إسلامية ، ولا حق لأحد غير المسلمين فيها[9]. وان مزاعم “الحق التاريخي” لليهود في فلسطين تتهافت[10] وتسقط أمام حق المسلمين فيها . وهي مزاعم إذ تفضح عدوانية اليهود وأطماعهم فيما هو حق مشروع للمسلمين ، فإنها تكشف لكل من له عقل لبيب الصراع القائم بين اليهود والمسلمين منذ أربعة عشر قرنا من الزمان ؛ ذلك الصراع الذي ستبقى معاركه ومواقعه ومجرياته مستعرة على المسلمين في شتى بقاع العالم سرا وعلانية ، ولن ينتهي إلا بنهاية يهود على أعتاب يوم القيامة[11] . وهو صراع ديني يتبع أصل المشكلة ، ولم يكن يوما بغير هذه الصفة[12] . ويدلل أصحاب هذا الاتجاه على صحة رؤيتهم هذه بان من استولى على ارض فلسطين وشرد أهليها واحتل اراضٍ لدول عربية مسلمة أخرى هم اليهود الذين جاؤوا لفلسطين من كل حدب ينسلون . فما هو ثابت واقعا ومؤكد من بيانات الإحصائيات الموثقة أن غزاة فلسطين خلال قرن مضى وان كانوا قد جاؤوا إليها من بلدان شتى ، وبأحوال شتى ، ومن أجناس وألوان شتى ، ولكن ما يجمعهم هو رابط واحد وهو أنهم جميعا من اليهود .
يفهم من رؤية أصحاب هذا الاتجاه ، أن الانتماء إلى دين ما يولد حقا تاريخيا لأتباعه في ملكية الأرض التي ظهر أو انتشر أو ساد فيها دينهم ، وذلك بغض النظر عن حقيقة وجودهم الاجتماعي على هذه الأرض وعلاقتهم التاريخية بها . فيجب – طبقا لهذه الرؤية – أن يكون لكل دين ارض ، وان يكون لكل ارض دين .
أن منطق هذه الرؤية قد يصح على الجماعات الإنسانية البدائية ، أو القبلية ، التي جمعتها وحدة الأصل والدين واختصت بأرض معينة ، فلا نظفر بين أي منها بمن ينتسب لأصل آخر ، أو يعتنق دين مغاير ..، ولكنه يشكل منطقا شاذا ومناقضا للوجود الاجتماعي للأمم والشعوب التي تتعدد فيها الأصول والأديان مع اختصاص كل منها خلال تكوينها الاجتماعي بأرض معينة مرسومة الحدود ، إذ قد نجد امة واحدة جُزِّئت أرضا وبشرا بين دول شتى كما هو حال امتنا العربية ، وقد نجد شعبا اغتصبت أرضه وشُرِدَ عنها كما هو حال شعبنا العربي في فلسطين ، ولكن من المستحيل أن نجد في عالمنا المعاصر مواطني أمة من الأمم أو شعب من الشعوب على دين واحد .
ولأنها رؤية شاذة ومناقضة للوجود الاجتماعي للأمم والشعوب فقد سبق وان تبنتها قوى عدوانية متخلفة لمرتين في تاريخنا[13] . فهي ذات الرؤية التي تبنتها الكنيسة الأوربية قبل أكثر من تسعة قرون لتبرير عدوانها على الأرض العربية في فلسطين وما جاورها تحت ما بات يعرف تاريخيا باسم حملات الحروب الصليبية (1096-1291) . ففـي أواخر عام 1095 م جمع البابا “أربان الثاني” (1088-1099) أمراء الإقطاع في أوربا وحشد من أهلها المتدينين وغير المتدينين في مدينة “كليرمونت” بجنوب فرنسا ، وخطب فيهم قائلا : ” يا لعار المسيحيين ، أن أعداءهم لم يزالوا من عهد بعيد ناصبين سرادقات نفوذهم على سوريا وأرمينيا ،
بل ارتكبوا ما هو أدهى من ذلك وأمر إذ أنهم اختلسوا قبر المسيح ذلك المهد العجيب لإيماننا ..، اذهبـوا وقاتلوا أعداء الله ..”[14] . ثم أضاف محرضا ومغريا مستمعيه بما ينتظرهم من مغانم : ” تقدموا إلى بيت المقدس .. انتزعوا تلك الأرض الطاهرة ، واحفظوها لأنفسكم ، فهي تُدِرُ سمناً وعسلاً . أنكم أن انتصرتم على عدوكم ورثتم ممالك الشرق “[15] . وهكذا نرى أن الحروب الصليبية التي اكتوت بلظاها أجيال متعاقبة من الشعب العربي ، وأحرقت الحرث ، وأبادت النسل ، ودمرت شواخص قائمة للحضارة العربية الإسلامية على مدى قرنين كاملين من الزمان ، أنما استندت على رؤية روجت لها الكنيسة أواخر القرن الحادي عشر مفادها : أن ولادة السيد المسيح ونشأته في فلسطين تمنح أتباعه حقا تاريخيا وحصريا بأرضها . ومن هذه الرؤية غذت مزاعمها بضرورة تخليص أرضهم المقدسة من سيطرة المسلمين ، واستعادتها خالية ممن استحوذوا عليها[16].
بعد أكثر من ستة قرون على انحسار موجات الغزوات الصليبية ، تتبنى الحركة الصهيونية العالمية ذات الرؤية الكنسية من حيث المنطق العام ، ولكنها تسندها هذه المرة إلى اليهودية ، فتزعم أن اليهود قد تلقوا وعدا من الله بان تكون ارض فلسطين لهم ، فعليهم استعادتها خالية من سكانها الغزاة مسلمين ومسيحيين . فالصهيونية – طبقا لهذه الرؤية – تنطلق من فرضية مفادها أن ثمة شعبا يهوديا واحدا مشتتا في العالم ، وان هذا الشعب يجب أن ينقل – شاء أم أبى – إلى ارض الميعاد ، فلسطين ، التي هي وطنه القومي[17] . وتحقيقا لهذا الهدف ، فقد اعتمدت الحركة الصهيونية العالمية ، والأدوات التابعة لها ، إستراتيجية عدوانية تتضمن ثلاثة عناصر أساسية هي : أولها ، حَمل يهود العالم – بالإقناع أو بالإجبار – على الهجرة إلى فلسطين ، وثانيها ، العمل بكل الوسائل المتاحة للاستيلاء على الأرض الفلسطينية ، وتمكين المهاجرين من استغلالها وحمايتها ، وثالثها ، التزام القوة أسلوبا في التعامل مع ساكني الأرض لإجبارهم على تركها طائعين أو كارهين[18] . وهذا ما تحقق فعلا .
فهل يسوغ لأي منا نحن العرب أن يتبنى رؤية من كانوا أعداء لامتنا باسم المسيحية لقرنين كاملين من الزمان ، ومن هم ما زالوا أعداء لنا باسم اليهودية ؟ . أن اخترنا ذلك ، فالمؤكد أننا سنبرر للعدوانيين عدوانهم ، وسنضفي شرعية على اغتصابهم لأرضنا وتشريدهم لأبناء شعبنا . وهذا ما يأباه – لاشك يأباه- جميع المخلصين لهذه الأمة ، مسلمين وغير مسلمين .
وهناك اتجاه ثانٍ يرى[19] : أن مشكلة فلسطين هي مشكلة فلسطينية . ويدللون على صحة رؤيتهم هذه بان الأرض التي اغتصبها الصهاينة خلال عقود من الصراع الظاهر والخفي وما زالوا يحتلونها اليوم ، هي ارض فلسطين ، المعروفة باسمها هذا ، وحدودها الجغرافية على مر العصور . وبأن الشعب الذي طرده الصهاينة من أرضها ، وشردوه بين الأمصار حتى غدا شعبا بلا وطن هو شعب فلسطين . وبأن جُلُّ الدماء التي سالت ، ولم تزل تسيل ، في مواجهة العدوان الصهيوني ، هي دماء فلسطينية . ويدّعِمون رؤيتهم هذه بالقول : أن جميع دول العالم ومؤسساته ، عربية وغير عربية ، بل وحتى ما كان منها داعما أو متعاطفا مع دولة الصهاينة ، لا تنكر هذه الحقائق ، وتسلم بها . ويسوقون شواهد مما تتبناه تلك الدول والمؤسسات من سياسات وقرارات وممارسات ترسي قواعد “حق شعب فلسطين في العودة إلى أرضه” و”حقه في تقرير مصيره” و” حقه في إنشاء دولته” ، وتؤكد في ذات الوقت على “رفع الوصاية عن شعب فلسطين ” و” عدم التدخل بشؤونه” . ولكل ذلك تكون مشكلة فلسطين عندهم هي مشكلة فلسطينية .
يفهم من رؤية أصحاب هذا الاتجاه ، أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ، وان شعب فلسطين
وحده هو من يختار حلها الذي يتناسب مع إمكاناته وظروفه ، ثم يقرر الأسلوب الملائم لتنفيذ ذلك الحل .
وقد يفلحون أن صدقوا ..، لكن ممارستهم ترينا غير ذلك تماما ، حيث ما انفكوا يصرون على ضرورة تحقيق “الإجماع
العربي” حول قضية فلسطين ، وما برحوا يتنادون بأهمية توحيد “الخطاب العربي” بشأن فلسطين ، وما زالوا يلتمسون تسديد فواتير البيت الفلسطيني من الأخ العربي .
أن منطق هذه الرؤية يصح لو كانت فلسطين كيانا اجتماعيا قائما بذاته ، حيث سيحدد الوجود الموضوعي لكيانها الاجتماعي حينئذٍ الإطار المكاني والبعد الزماني لجميع المشكلات التي تواجهها ، وحلولها الصحيحة ، وما تستلزمه من إمكانيات بشرية ومادية متاحة لتنفيذ تلك الحلول في الواقع . ولكننا حين نعلم أن فلسطين ، أرضا وبشرا ، هي جزء من الأمة العربية ، مرتبطة عضويا بالوجود القومي العربي ، وحين نعرف أن المشكلات التي يثيرها الواقع القومي هي مشكلات قومية ، تجد حلها الصحيح ضمن إطار المصير القومي ، وتستدعي توظيف الإمكانيات القومية ، بشرية ومادية ، لتنفيذ حلها في الواقع [20]..، ندرك أن مشكلة فلسطين هي مشكلة قومية عربية ، لا يمكن حلها حلا صحيحا إلا في أطار المصير القومي العربي بإمكانيات وقوى عربية . وندرك كذلك ما يعتري منطق أصحاب هذا الاتجاه من خلل بَيًّنٌ ، وما تطرحه رؤيتهم من فهم خاطئ لطبيعة مشكلة فلسطين وحل فاشل لها .
مشكلة فلسطين أذن ، مشكلة عربية قومية . وماذا بعد ؟
حين ننتهي إلى أن حقيقة مشكلة فلسطين هي مشكلة اغتصاب لأرض عربية تنتزع خالية من شعبها ، وان طبيعة هذه المشكلة هي مشكلة قومية ، بمعنى أنها تمس الوجود القومي العربي كله وليس جزءا منه ، وأنها تمس الوجود القومي العربي وحده وليس أي وجود آخر خارجه ، ندرك بيقين راسخ أن حل هذه المشكلة الصحيح ، والوحيد ، هو استرداد كامل أرض فلسطين المغتصبة من قبضة الصهاينة ، وإعادتها إلى أصحابها العرب مسلمين وغير مسلمين . وان تنفيذ هذا الحل في الواقع يقتضي تسخير كافة الإمكانات العربية البشرية والمادية ، وفقا لإستراتيجية شاملة وموحدة ، لا تستثني من حساباتها أي جزء عربي ، لا أكثر من ذلك ، ولا اقل .
خاتمة :
لم يعرف تاريخنا العربي المعاصر قضية أخرى فاقت ما حظيت به قضية فلسطين من حضور دائم واهتمام متواصل لدى الأوساط العربية الرسمية والشعبية . في مقابل ذلك ، فان قضية فلسطين هي من القضية التي تثير القدر الأكبر من الاختلاف على مضمونها وطبيعتها بين النخب والفعاليات العربية .
وان يكُ اختلاف البشر في فهم حقائق الأمور سجية إنسانية ، جبلوا عليها ، فان عدم اتفاقنا نحن العرب على فهم موضوعي واحد لحقيقة وطبيعة مشكلة فلسطين بعد قرن كامل على نشوئها لا شك يشكل سببا من أسباب استمرار وجودها وتأخر حلها حلا عادلا يعيد الأمور إلى نصابها ويعطي كل ذي حق حقه .
وحين نواجه بموضوعية ما يطرح على الساحة العربية من رؤى حول حقيقة مشكلة فلسطين وطبيعتها ، سنكتشف حتما أن الصهاينة أنما يستهدفون الاستيلاء على ارض فلسطين خالية من أهلها ، فلا ننخدع بما يروج له تحت لافتات “التعايش السلمي” أو “حل الدولتين” ، لان جوهر الصراع في فلسطين هو صراع على الأرض ولمن تكون . ثم سنكتشف حتما أن كون فلسطين شعبا وأرضا جزء من الأمة العربية يفرض وحدة موضوعية للوجود والمصير بينهما ، فلا نقعن بما يتصوره ، أو قد يصوره ، البعض عبر مزاعم “عدم التدخل بالشأن الداخلي الفلسطيني” أو “حقهم في تقرير المصير” ، من أن مشكلة فلسطين هي مشكلة خاصة بشعب فلسطين ، لان الواقع الذي تثور فيه مشكلة فلسطين هو جزء من الواقع القومي العربي ، ولهذا لن تجد لها حلا صحيحا إلا
في إطار الوجود القومي العربي ، وبالإمكانيات القومية العربية .
وبرغم الاختلاف القائم ، فان صدقت النوايا ، وتحقق في البحث ، وأُنعِمَ في النظر .. سينتهي الخلاف ، كما قال عالم العرب الموسوعي الحسن ابن الهيثم ، وسنكون جميعا على مسافة واحدة من قضيتنا الأولى .
المصادر
كتب اللغة :
- جيران مسعود ، المعجم الرائد ، ط7 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1992 .
- محمد جمال الدين ابن منظور ، لسان العرب ، مج 2 و مج5 ، دار الحديث ، القاهرة ، 2013 .
الدراسات والبحوث :
- احمد رضا بك ، وثائق عن الحروب الصليبية ، ترجمة محمد بورقيبه ومحمد الصادق الزمرلي ، ط3 ، دار بو سلامة للطباعة والنشر ، تونس ، 1977 .
- عبد الرحمن أبو عرفه ، الاستيطان التطبيق العملي للصهيونية ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1981 .
- عبد السميع سالم الهراوي ، الصهيونية بين الدين والسياسة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1977 .
- د. عبد المالك خلف التميمي ، الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي ، ط2، مؤسسة الشراع العربي ، الكويت ، 1989 .
- د. عبد الوهاب المسيري ، الأيديولوجية الصهيونية ، ط2 ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت .
- د. عصمت سيف الدولة ، عن العروبة والإسلام ، ط1 ، دار المستقبل العربي ، 1986 ، بيروت .
- د. عصمت سيف الدولة ، نظرية الثورة العربية – المنطلقات ، ج 3 ، ط1 ، دار المسيرة ، بيروت ، 1979 .
- د. قاسم عبده قاسم ، ماهية الحروب الصليبية ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1990 ، الكويت .
- مجموعة مؤلفين ، القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني ، ط1 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، بيروت ، 1973 .
- د. محسن محمد صالح ، حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية – رؤية إسلامية ، مؤسسة فلسطين للثقافة – دمشق ، 2013 .
- د. محمد عماره ، معارك العرب ضد الغزاة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1972 ، ص 21 .
- منير ماشوش ، الصهيونية ، ط1 ، دار المسيرة ، 1979 .
- د. ناصر سليمان العمر ، رؤية إستراتيجية في القضية الفلسطينية ، المنتدى الإسلامي ، الرياض ، 1422 هـ .
[1] ينظر : المعجم الرائد ، جبران مسعود ، ط7 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1992 ، ص 312 و ص 518 على التوالي . لسان العرب للعلامة ابن منظور ، مج2 و مج5 ، دار الحديث ، القاهرة ، 2013 ، ص 529 و ص560 على التوالي .
[2] ينظر : د. عبد الوهاب المسيري ، الأيديولوجية الصهيونية ، ط2 ، سلسلة عالم المعرفة ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، ص 30 .
[3] المصدر السابق ، ص 52 .
[4] د. عبد المالك خلف التميمي ، الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي ، ط2، مؤسسة الشراع العربي ، الكويت ، 1989 ، ص 125 .
[5] جاء في برنامج المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة بال السويسرية (21-31 آب 1897) ما نصه : ” تسعى الصهيونية إلى بناء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون الدولي العام ..” . ولمزيد من التفاصيل حول برنامج ذلك المؤتمر ومقررات المؤتمرات اللاحقة له ينظر : مجموعة مؤلفين ، القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني ، ط1 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، بيروت ، 1973 ، ص 51 وما بعدها . منير ماشوش ، الصهيونية ، ط1 ، دار المسيرة ، 1979 ، ص42 وما بعدها . عبد السميع سالم الهراوي ، الصهيونية بين الدين والسياسة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1977 ، ص 10 وما بعدها . عبد الرحمن أبو عرفه ، الاستيطان التطبيق العملي للصهيونية ، ط1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1981 ، ص 10 وما بعدها .
[6] د. عبد المالك خلف التميمي ، مصدر سابق ، ص 136 .
[7] يضم هذا الاتجاه حشدا من الحركات والتنظيمات والأحزاب التي تشكل ما يعرف اصطلاحا باسم تيار الإسلام السياسي ، والنخب والشخصيات ذات الرؤى الإسلامية ، مضافا إليها التشكيلات الاجتماعية والثقافية ذات التوجه الإسلامي ، والهيئات الدعوية والمؤسسات الدينية من شتى المذاهب والطوائف الإسلامية .
[8] د. محسن محمد صالح ، حقائق وثوابت في القضية الفلسطينية – رؤية إسلامية ، مؤسسة فلسطين للثقافة – دمشق ، 2013 ، ص 10 .
[9] د. ناصر سليمان العمر ، رؤية إستراتيجية في القضية الفلسطينية ، المنتدى الإسلامي ، الرياض ، 1422 هـ ، ص5 .
[10] د. محسن محمد صالح ، مصدر سابق ، ص 12 .
[11] حيث يؤمن أصحاب هذا الاتجاه بان “الانتصار على اليهود قضاء كوني وشرعي .. والانتصار النهائي والمعركة الفاصلة ستكون آخر الزمان ..” (د. ناصر سليمان العمر ، مصدر سابق ، ص 48) . وان ” هزيمة المشروع اليهودي الصهيوني في فلسطين واندحاره ليست أمرا ممكنا فقط ، وإنما هي حقيقة أكيدة لأنها بشرى ربانية ..، وبشرى نبوية ..”(د. محسن محمد صالح ، مصدر سابق ، ص 38) .
[12] فالصراع القائم في فلسطين له “جذوره في التاريخ ، ولم يكن ذلك الصراع صراعا عرقيا أو قوميا ، وإنما هو صراع بين صاحب الحق وبين الدخيل ، بين الكفر والإسلام ..، فالمتأمل لهذا الصراع في جميع فتراته يدرك طبيعة المعركة .. بأنها بين الكفر والإيمان ، ولم تكن أبدا معركة عرقية أو قومية أو وطنية ، لم تكن بين جنس وجنس ، أو بين قبيلة وقبيلة من اجل ارض أو تراب ” (د. ناصر سليمان العمر ، مصدر سابق ، ص 10وما بعدها ) .
[13] ينظر : د. عصمت سيف الدولة ، عن العروبة والإسلام ، ط1 ، دار المستقبل العربي ، 1986 ، بيروت ، ص 36 وما بعدها .
[14] احمد رضا بك ، وثائق عن الحروب الصليبية ، ترجمة محمد بورقيبه ومحمد الصادق الزمرلي ، ط3 ، دار بو سلامة للطباعة والنشر ، تونس ، 1977 ، ص 66 .
[15] د. محمد عماره ، معارك العرب ضد الغزاة ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1972 ، ص 21 .
[16] د. قاسم عبده قاسم ، ماهية الحروب الصليبية ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1990 ، الكويت ، ص111 .
[17] د. عبد الوهاب المسيري ، مصدر سابق ، ص 11 .
[18] منير ماشوش ، مصدر سابق ، ص 69 .
[19] يضم هذا الاتجاه كافة الدول والمؤسسات في النظام الرسمي العربي ، مضافا إليها قوى وتنظيمات وحركات ونخب سياسية ومجتمعية من داخل فلسطين ومن خارجها .
[20] ينظر : د. عصمت سيف الدولة ، نظرية الثورة العربية – المنطلقات ، ج 3 ، ط1 ، دار المسيرة ، بيروت ، 1979 ، ص 141 .