
شعرية العنوان في رواية إرهابيس: (أرض الإثم و الغفران) / لعز الدين ميهوبي، د. عمارية حاكم، مديرة مخبر الترجمة والتأويل في ظل التواصل متعدد اللغات، جامعة الدكتور مولاي الطاهر –سعيدة – الجزائر. بحث نشر بكتاب أعمال مؤتمر الرواية العربية في الألفية الثالثة ومشكل القراءة في الوطن العربي: الجزائر العاصمة 21-22|08|2016 ، ص 209. (للتحميل يرجى الضغط هنا)
تمهيد:
تستلزم هذه الدراسة بعون الله، شرح مصطلحات عنوان البحث: إذ المصطلحات هي مفاتيح الولوج إلى كل العلوم، ومن أجل توضيح كل مصطلح على حده، سنبدأ بمصطلح الرواية ثم الشعرية في ضوء الدراسات العربية و الغربية ثم العنوان أو العتبة كما يسميه بعض الدارسين، لنصل إلى المستوى التطبيقي الخاص بمتن رواية: ” إرهابيس أرض الإثم و الغفران” للشاعر و الأديب عز الدين ميهوبي.
-الرواية:
الرواية في أبسط تعريف لها هي الكتابة بالجسد ورسم صورة الحياة بالحكي، إنها سرد يعلن وجه الوجود بها، حيث يشكل المبدع سرّالوجود بلغة الذات، وحوار الآخر، أو قل هي سيرة الأنا وصراعه مع الأشياء و الكائنات، وهي على العموم: شكل الحياة وتحوّلاتها، وتبعثرها وتشظيها وانعكاس ذلك كله على الجسد لحظة الكشف و الحدس و التجربة، إذن الرواية هي سفر الجسد والوجود في الزمكان حيث يقوم السرد في الفن الروائي على ثلاثية الجسد والتخييل و شكل الحياة.
وعلى هذا الأساس: “فإن القول بمحايثة الرواية للحياة أو للواقع (بمعناها العام) :يحيل إلى القول بأنّ الرواية وهي تنتج، لا تنتج إلا بتراكيب التفكير الجمالي بالحياتي، ولذلك فإنها تنقاد بالقوة إلى استعارة شكلها من تقطيع متميّز ومخصوص لأبعاد الواقع و مستوياته المختلفة “[1] و الرواية من منظور عبد الله رضوان:هي “ألصق الفنون الأدبية بالمجتمع، بل إنها الفن الوحيد الذي يكاد يرى في المجتمع صورة ذاته متمثلة ومنعكسة داخل النص الرّوائي”[2]
ومعلوم أن المجتمع يتشكّل من عدّة صور أولها الصورة النفسية ، و الصورة الاجتماعية فالسياسية ثم الاقتصادية إلى الثقافية، ثم إنّه يمثل حمولة من الآمال و الآلام ولقد “عكست الرواية العربية منذ نشأتها الصورة النفسية للإنسان العربي -عكست ما يضطرم في نفسه من آمال و أحلام، وما يضطرم فيها من خيبات أمل ونزوات يأس، كما حملت الرواية العربية هموم الإنسان العربي و مشكلاته السياسية و الاقتصادية، وعبّرت أيضا عن عقده النفسية التي تكوّنت من خلال تعايشه مع تلك الهموم و المشكلات”[3].
وقد انجرّ عن التحولات الكبرى في المجتمع العربي تغيّرات جذرية في بعض المناطق الجغرافية ،حيث انمحى بعضها وتشوّه بعضها الآخر، إذ هدّمت المنازل ،وشرّد الخلق، فمرضت النفوس، وخابت الآمال، وانفتح المجال للمبدعين كي يشاركوا هذا المجتمع المريض ويلاته بأقلامهم الدامية، حيث إن العالم العربي كلّه عاش أو يعيش توترا وحروبا غير معهودة، ومن هذه الظروف المزرية أصبح كل مبدع يغرف روايته تحت عناوين مقتضبة هي في ذاتها تمثل روايات أو تجمع في طياتها مضامين لكل الأجناس الأدبية، وعلى العموم، فلقد”تركت أحداث سبتمبر 2011م بصمتها على الضمير العربي، مما أرّق الفكر والإبداع، لذلك من الطبيعي أن يزداد طرح إشكالية “الأنا” والآخر” في الرواية العربية، حيث زاد حرص الذات العربية على تأكيد هويتها و الدفاع عنها في مواجهة تهمة الإرهاب التي ألحقها الآخر الغربي بها، بعد أن شاع لديه الرهاب منها أي (الإسلام فوبيا) فاستمر في اختزال (الأنا) العربية في صورة نمطية مشوّهة، كانت قد بدأت بالظهور منذ بداية الاحتكاك بينهما في القرن الثامن عشر”[4]
وتجدر الإشارة هنا إلى ” أن الأدب العربي قد تغذّى من الأدب العالمي الحديث دون أن ينفصل الأدبان العربي أو الغربي عن التراث الإنساني القديم وما فيه من أنواع أدبية استمرّت حسب ظروف كل حضارة وظروف كل جماعة، ثم تطوّرت بسبب تغير هذه الظروف مرّة أخرى”[5].
وعلى أساس التغييرات المستمرّة في ظروف كل مجتمع، يملك كل نوع أدبي في العالم تاريخا طويلا من النشأة و الاستقلال و التجاوب مع النوع الأدبي المشابه أو المغاير لدى الأمم و المجتمعات الأخرى، خلال المراحل التاريخية القديمة و الوسيطة و الحديثة و المعاصرة “[6] ونحن هنا لسنا بصدد المقارنة بين الأدب العربي و الآداب الأخرى، لأن هذه المقارنة تخلق نوعا من الحساسية في العصر الحديث، خاصة لدى الشعوب المقهورة، وجعلها تبذل جهودا كبيرة لتثبت أنها لم تأخذ عن الآخر، وجعلها تدّعي أنّ ما لديها تطوّر من تراثها. في حين إنّ معظم الآداب يرتبط بعضها بالآخر، سواء عن طريق التأثر، أو الترجمة، أو بسبب الاستعمار.خاصة في العصر الراهن عصر التكنولوجيات الحديثة وتدهور الأوضاع في العالم ككل. وعلى الخصوص الرّبيع العربي الذي أزّم العرب، وأمرض النفوس، وبدأ ينتقل شرّه إلى بلدان أخرى من العالم. وفي مقدّمتها فرنسا التي أصبحت تشهد بين الحين و الآخر انفجارات وعمليات إرهابية تنسب مباشرة إلى المسلمين.
وانطلاقا من إلحاق كل عمل إرهابي بالعرب والمسلمين تأتي أهمية دراسة صوت “الأنا” في مواجهة “الآخر” في كتابات المبدعين لتميز العقد الأول من الألفية الثالثة (2001م-2016م)حيث إن رواية كل مبدع تحاول أن تجسّد الرغبة في فهم الآخر وقد اخترنا رواية( إرهابيس أرض الإثم و الغفران) نموذجا لدراسة الرواية العربية في الألفية الثالثة .لكن قبل ذلك،لابدّ من الوفاء بشرح مصطلح الشعرية.
-مصطلح الشعرية:
تعود الأصول المعرفية لمصطلح الشعرية إلى آرسطو، حيث ساهمت عوامل تاريخية وثقافية في إنتاج كتابه (فن الشعر) من منظور الدراسات النقدية غربا وشرقا أوّل جهد نقدي تناول ظاهرة الشعرية من جهة، ولأنّ النقاد العرب المحدثين قد تاثّروا إلى حد كبير بوجهة النظر تلك ،فاعتقدوا أن نقدنا لابدّ أن يكون قد تأثّر بآراء آرسطو في ميدان الشعر”.[7]
وإذا كان التسليم، بمركزية الغرب في هذا المجال، فليس في الامتاح من روافد العقل الإنساني ما يشين ذلك أن الفطرة الإنسانية وسيرورة الحضارات هي أخذ و عطاء، حيث تصب كل الإنجازات على اختلاف جغرافيتها ومعتقداتها ودياناتها وعلى مدى تشعب مشاربها ، واختلاف وجهات نظرها -كلها تصب- من بحر الثقافة الإنسانية ،مثل الأدوية ولكن مايرفض هو أن تعيش أمة عالة على منجزات أمة أخرى.
وعلى ذكر الأخذ و العطاء والامتياح من روافد الآخر، فإن الشعرية العربية تعود إلى أصول فلسفية “لآراء ثلاثة من كبار الفلاسفة المسلمين الذين شرحوا كتاب أرسطو (فن الشعر) وقرأوه قراءة موضوعية حينا، وتأويله حينا أخرى، كما فعل الفارابي (ت 339ه) وابن سينا(428ت) أو قراءة موضوعية تراوحت بين الموضوعية و الإسقاطية كما فعل ابن رشد(595ه)”[8] ولسنا هنا بصدد التأصيل للشعرية، وإنما هي إشارة لتحديد خصوصية الأدب العربي وتميزه عن الأدب الغربي، لنؤكد للقارئ ” أن المفهوم النقدي للشعرية العربية الذي سعى نقادنا العرب إلى تأسيسه، كان ذا رؤية عربية و إن ظهرت عليه -هنا وهناك-بعض الظلال الأرسطية، فذلك لا يعني تبعيته الفكرية،لأن فلاسفتنا ونقادنا كانوا يعون التمايز النوعي بين الأدبين العربي و اليوناني من النواحي البنائية و الفنية و الوظيفية”[9]
وإذا كان مفهوم الشعرية عند أرسطو يقوم على (المحاكاة) فقد تميز ابن رشد بفهمه الدقيق لمصطلح المحاكاة المقترن (بالتمثيل) حينما قرن المحاكاة بالقصص و الحكايات التي عدّهما من العناصر الجوهرية التي تمثل صلب الشعرية اليونانية في الملحمة والدراما متكئا على قول أرسطو نفسه “فالقصاصون و المحدّثون بالجملة هو الذين لهم قدرة على محاكاة العادات و الاعتقادات”[10] حيث إن العادات و الاعتقادات من وجهة نظر ابن رشد تمثل “أعظم أجزاء المديح،لأن صناعة المديح ليست صناعة،هي تحاكي الناس أنفسهم من جهة ماهم أشخاص، ناس محسوسون ،بل إنما تحاكيهم من قبل عاداتهم الجميلة ،وأفعالهم الحسنة ، واعتقاداتهم السعيدة تشمل الأفعال و الخلق”[11]
يستنتج من المنظور الآنف الذكر أن فكر ابن رشد يحوم حول فكرة أرسطو التي مفادها أن (الفكر) و(الخلق) و(الإبداع) هما اللذان يحددان الأفعال،والأفعال هي التي تجعلنا ننجح أو نخفق، أما (الخلق) فهو الذي يجعلنا نقول عن الأشخاص الذين نراهم يفعلونه إنهم يتصفون بكذا أو كذا من الصفات، وأما (الفكر) فهو كل ما يقوله الأشخاص لإثبات شيء أو للتصريح بما يقرّرون”[12]
ومهما يكن من أمر الشعر و الشعرية، فقد مهّدت نظرية أرسطو و كل من تأثر به إلى جمالية الأسلوب و اللغة، وشعرية التخييل وشعرية الانزياح، الانحراف و العدول، أم اللعب باللغة ،حيث إن (فن الشعر) لأرسطو، يتضمن قوانين مشتركة لجميع الأمم، سواء تعلق الأمر بالشعر أو بالنثر، إذ إن كل ما أتى بعد الدراسات القديمة، هو نتيجة لتطوير الفكر الإنساني الذي يأخذ من ماضيه ويغرف من حاضره بظروفه الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. و الشعرية في أبسط تعريف لها تمثل الأثر الجمالي لتفاعل عناصر الخطاب اللغوي (شعرا أو نثرا) في أرقى مستوياته الأسلوبية وتقنياته (التعبيرية التي تؤلف في مجموعها الوظيفة الجمالية للخطاب اللغوي، لذلك فالشعرية في فكر الفارابي هي نتاج لترتيب الألفاظ وتحسينها، في حين يأتي مفهوم الشعرية عند ابن سينا في معرض كلامه عن الأسباب المولدة للشعر وهي (الالتذاذ والمحاكاة) وحب الناس للتأليف المتقن والألحان حيث يقول “فمن هاتين العلتين توّلدت الشعرية”[13].
وترد الشعرية عند ابن رشد فيما ينقله عن أرسطو “وكثيرا ما يوجد في الأقاويل التي تسمى أشعارا ،ما ليس فيها معنى الشعرية إلا الوزن كأقاويل سقراط ،وأقاويل إنباذو قليس في الطبيعيات بخلاف الامر في أشعار أوميروش”[14] لتتأكد لنا من خلال كل ما قيل إن للشعرية علاقة بالتخييل و الخروج عن المألوف في ضروب اللغة كالتشبيه، و الاستعارة، و الكناية وإنطاق الجماد وإثارة الشعور بالعجب ،بالإضافة إلى المظاهر الأسلوبية .من تقديم وتأخير وحذف وزيادة، حيث إن تغيير التراكيب النحوية ينجر عنه هو كذلك وظيفة جمالية تزيد الخطابات شعرية تعمق من متعة القارئ.
ونشير إلى أن في العصور الحديثة والعصر الراهن لم تعد الشعرية لصيقة بالشعر، وإنما هي لصيقة بالأدب (شعره ونثره)لأنها مرتبطة بوظيفة اللغة التي تنتظم في سياقات وأنساق معينة لتحدث أثرا جماليا تستجيب له النفس بالأريحية و المتعة، فالشعرية تجربة شعورية مرتبطة بالبنية النفسية لكل من المبدع و المتلقي، وهي بنية ثابتة ومشتركة بين كل البشر في كل الأمكنة و العصور، ومن ثمّ فهي ظاهرة جمالية تحكمها شروط حضارية معينة “[15]
وبعد ما عرفنا أن الشعرية تمثل الجانب الجمالي لوظيفة اللغة بكل مستوياتها ومظاهرها النحوية و التركيبية و الأسلوبية ،جاز لنا المرور إلى العنوان وما حيك عنه من مفاهيم في الدراسات النقدية قديمها وحديثها بإيجاز.
- العنوان:
تشير الدراسات إلى أن العنوان يظل مكوّنا ضروريا في إنتاج النصوص وتأويلها،إذ يدرك المبدع أنه من شروط تداول الكتاب أو النص أن يكون له عنوان، مثل أن لكل شخص اسما يُعرف به، لذلك فهو يحاور نصّه، ويؤول مقاصده الكلية، ثم يحوّلها إلى بنية مختصرة ومختزلة عبر التركيب و إعادة التركيب من منظور تيماتي أو جمالي ، أو هما معا ، لصياغة عنوان مطابق أو شبه مطابق للمحتوى النصّي أو مراوغ لدى الباحثين عن جمالية التنافر و التمويه خاصة في مجال الإبداع الأدبي، أو مثر أو مغر يجذب المتلقين لقراءة المادّة المكتوبة، كما هو الشأن في عناوين الصحف و المقالات المختلفة في المنتديات و المواقع الرقمية، ونشرات الأخبار “[16]وما إلى ذلك من عناوين مغرية مفخخة وموهمة.
- نظرية العنوان الحديثة:
سوف لن نسهب في الشرح ،فقط نودّ أن نوضّح قيمة العنوان في الدراسات الحديثة التي تعدّ أن العنوان يمثل “عتبة قرائية، وعنصرا من العناصر الموازية التي تسهم في تلقي النصوص وفهمها وتأويلها داخل فعل قرائي شمولي، يفعل العلاقات الكائنة و الممكنة بينهما”[17] ويؤكد جيرار حينيتGerard) (Genette على أن العنوان هو” مجموعة من العلامات اللسانية(…) التي يمكن أن توضع على رأس النصّ لتحدّده، وتدل على محتواه لإغراء الجمهور بقراءته…”[18]
ويحيل رأي “جنيت” على أن العنوان يكشف ظاهر بواطن النص ، لذلك فالعنوان يعد اسما مميزا ومحددا لهوية مادة النص، وإن كان هناك اختلاف في بنية العناوين وصياغتها، إذ منها العناوين الرمزية ومنها المجازية، مما يحفز المتلقي ويدفعه إلى التأويل لإيجاد ألوان من التطابق أو شبه التطابق بين مضمون النص و عنوانه، خاصة أن هناك بعض العناوين في الشعر والروايات و القصص يقوم على المراوغة و الإيحاء.
وفي دراسة للعنوان، فقد حدّد “جنيت” أهم وظائف العنوان في: وظيفة التحديد ،والوظيفة الوصفية ،و الوظيفة الإيحائية و الوظيفة الإثارية -الإغرائية، حيث إن هذه الوظائف تتضمنها الاستعمالات الدلالية لمصطلح عنوان .وإذا كانت هذه الوظائف قد لا يتحقق جلّها في بعض العناوين ،فإن الوظيفة المركزية المهيمنة للعنوان هي الوظيفة المرجعية حسب أنطوان كومبانيون (Antoine Compagnon) .[19] لأن العنوان يحيل إلى نص بأكمله عبر علامة واحدة ،إضافة إلى الوظيفة الإغرائية التي يقوم بها ،حيث اسم المؤلف وعنوان الكتاب هما مادتان تتكفلان بوضع المؤلف في الفضاء الثقافي لعملية القراءة أمام قرّاء ذوي أوضاع اعتبارية متباينة ،لأن اللقاء الأول مع أي كتاب يتم عبر هاتين العلامتين في الغالب “[20]
إن شعرية العنوان في كل كتاب وفي مقدمتها الروايات، تقوم على إمكانات واختيارات عديدة يدخل فيها ماهو موضوعي، وما هو جمالي، وماهو تأويلي، وما هو تجاري غرضه إغراء القارئ أو الترويج للكتاب، وكل ذلك وفق استراتيجيات جمالية تشكل ثقل و أهمية العنوان التي يؤديها في الدلالة على مادة الكتاب، ومن هنا “فالعنوان حامل معنى و حمّال وجوه ،مواز دلالي للنص، وعتبة قرائية مقابلة له توجّه المتلقي، بل وتغريه للإطلاع على فحوى الرسالة المراد ايصالها من قبل المؤلف.[21]
وبعد شرح مصطلحات العنوان يمكن الانتقال إلى تحليل رواية (إرهابيس: أرض الإثم والغفران).
إذ أول ما يثير المتلقي في رواية (إرهابيس) هو نوع الغلاف ونوع الكتابة، وعدد الألوان، حيث لون الغلاف هو أرضية سوداء تحمل اسم المؤلف بلون أبيض، وكتابة (إرهابيس) بخط عريض أحمر، إنه امتزاج لألوان يغلب عليها الأسود ويميزها الأحمر، وللألوان في الثقافة الإنسانية دلالات عديدة ومتعددة، حيث يمثل الأسود: الحزن و الهم و الدمار …و الأحمر القاني هو لون للدمّ، في حين يمثل الأبيض الطهارة و الأمان، أو السلام.
ونعتقد أن المبدع قد قصد إلى استعمال هذه الألوان الثلاثة، غير أن المتلقي لا يدرك مغزاها إلا بعد أن يقرأ مادّة الرواية، وذلك راجع إلى ثقافة كل متلق، وإلى خلفيته اتجاه الألوان لكن المحيّر هو ذلك التضاد (أرض الإثم والغفران). وكذلك صياغة العنوان التركيبي (إرهابيس) حيث يتساءل المتلقي ما غرض اللاحقة (إيس)؟ ولإشباع فضوله لابدّ عليه أن يفتح الكتاب ويقرأ،علّه يجد الإجابة لتساؤلاته.
-*-شعرية الاستهلال:
من البلاغة حسن الابتداء أو الاستهلال وهو أن يتأنق المبدع في أول كلامه، لأن الاستهلال هو أول ما يشدّ انتباه القارئ أو المتلقي، أو يقرع سماعه إذا الكلام شفاهيا، فالكلام شفاهيا كان أو محرّرا يوجه إلى متلقين آفاق انتظارهم ليست موحّدة، فكل واحد منهم يستقبل النصوص بأطر معرفية مشكلة من قبل في ذاكرة التلقي الموسعة، لذلك يعمل المبدع في ظل توجهات وضوابط يعترف بها النسق الثقافي الذي ينتج داخله خطابه، مراعيا في ذلك مقام المتلقين وظروفهم المحيطة، والظاهر أن المبدع في رواية(إرهابيس) يوجه نصه إلى متلقين واسعي الثقافة و الاطلاع،حيث يستهل روايته بسؤال يحمل في مضمونه عبرا وحكما “هل رأى القردة تقرأ شكسبير و السلاحف تردّد أشعار كبلينغ؟”[22]،إنه استفزاز الاستهلال لقراءة المحتوى، إذ الجواب ليس في بداية النص، وهو ذكاء من المبدع الذي نعتقد أنه قد خبر نفسية المتلقين الذين لا يهدأ لهم بال حتى يتمكنون من كشف الباطن ،وهذه طبيعة البشر المتمثلة في الفضول وحبّ معرفة المجهول .
وبعد هذا الاستهلال الاستفزازي ،يبدأ المبدع روايته معرفا المتلقي ،بحدود الزمن الذي تجري فيه أحداث الرواية ،مضيفا الفضاء المكاني المتمثل في الجزيرة ،وكذلك شخصيات الرواية المتمثلة في ماركوس اللغز قائد السفينة ،و الصحافيون الكاتب ومن معه ،القادمون من ميناء آيورا بجزيرة سانتا كروز ،،وعلى لسان قائد جزيرة (إرهابيستان) يعرفنا المؤلف بشخصيات الرواية القادمين من أجل معرفة حقيقة أبطال (إرهابيس) .يقول المؤلف:”ثم سحب من جيبه ورقة دوّنت فيها أسماؤنا وراح يقرأ بهدوء: السيد كوستا مارتينيز معد برامج في قناة غلوبو، البرازيل (…)السيدة ماريا كاستينوفا ،صحفية بوكالة أنترفاكس، روسيا(…)السيد كوامي سوماري ،صحفي دايلي غرافيك غانا، السيد أمين الدرّاجي ،صحفي وكاتب سير ذاتية لشخصيات سياسية ،الجزائر ،السيد جون كمبيس ،صحفي في دايلي “تليغراف انجلترا(…)جواد أمان الله صحفي لقناة جيو باكستان.(…)
لقد عرّف المبدع المتلقي بأبطال روايته، وفي كلّ مرّة يكشف لهم عن سر أحد الذين يقيمون في تلك الجزيرة الأسطورية التي أقيمت على أنقاض جزيرة إيتلانتيس، ولعلّ المتتبّع لمقدمة الرواية ،يعتقد أنه يقرأ كتابا في مادة الجغرافيا، وآخر في العلوم، لأنه مرّة يذكر الحدود الجغرافية، وأخرى يذكر العالم داروين -صاحب نظرية الخلق و النشوء-وإن كانت تلك النظرية تعدّ من بين الأساطير.
-شعرية الأسطورة:
لقد استعان كثير من الأدباء بتوظيف الأسطورة في إبداعاتهم ،حيث عمدوا إلى توظيف رؤاهم الفكرية الإبداعية ملبسين التراث ثوبا جديدا محملا بقدرات دائمة على العطاء المتجدد، ومحافظين في الوقت ذاته على أصالة الأسطورة من العادات والتقاليد والشعائر وهي تفسيرات للشعائر الدينية وتأويلها”[23]
ولعل الذي يجعل الأدباء و المبدعين يلجؤون إلى توظيف الأسطورة ،هو أنها حافلة بمختلف أنواع الخوارق و المعجزات التي يختلط فيها الواقع بالخيال ،ويمتزج عالم الظواهر بما فيه من إنسان وحيوان ونباتات وظواهر كونية بعالم مافوق الطبيعة من قوى غيبية آمن بها الإنسان الأول ،واعتقد بألوهيتها ،فتعددت نظرة الآلهة مقتربة بتعدد مظاهرها المختلفة.[24]
ولقد ارتبطت الأسطورة بالأدب و اللغة ارتباطا وثيقا بعدها تراكمات لمخلفات الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب و الفن ،حيث كانت الأسطورة في بداية أمرها مصدر إلهام للفنان و الشاعر ،وتتمثل شعرية توظيف الأسطورة في الفن و الأدب في تلك الخوارق وذلك الخيال الذي يتحقق فيه المستحيل أو كل غرابة لها أثرها الجمالي الفعّال،لذلك وظفها ميهوبي في روايته.
ونشير هنا إلى أن اللغة التي توظف الأسطورة ،هي بالتأكيد لغة هادفة ،ولابد أن تكون أداة لتحويل العالم إلى ماهو أفضل ،ثم لأن للأسطورة أثرا طيبا ،ثم إن للكلمة سلطة إذ إن الكلمة المقصودة من قبل المبدع لا تقول الشيء نفسه و إنما تكوّنه .ومنذ فجر التاريخ يسعى الإنسان إلى التغير لذلك يترك العنان لخياله متأملا في الكون ومبدعه .ولعل عز الدين ميهوبي من خلال توظيفه لعنصر الأسطورة في خطابه يسعى إلى هدف نبيل هو تغيير العالم إلى الأفضل .لذلك نجده يحاور شخصيات من جزيرة إرهابيس، هذه الشخصيات المتمثلة في أكبر مجرمي الحرب و الدمار.والظلم و الاستبداد .وإن كان بعضهم يعدّ مقاوما لا مجرم حرب ودمار:
- ستة مسلحين قائدهم اسمه “مانكو”قائد كتيبة ثورية مسلحة ضمن الفارك تحت إشراف مانوال مارولندا.
- حششان يخططان للتخريب ولو بتدمير ذاكرة الكرة التي صنعت بهجة العالم.
- الأباء المؤسسون لجزيرة إرهابيس هم:
د.إرنستو شيغيفارا ،الشيخ أسامة بن لادن، السيدة أولريكي ماينهوف،السيد أوم شينريكيو ،آل كابون،السيد بابلو إيسكوبار ،كارلوس بوكاسا، باتيستا كيم جولغ إيل وبتزكية من :
- موسيليني وستالين ،وبول بوت،وبينوشيه،وعيدي أمين،وصدّام، و القذافي ،وتشاوسيسكو،وهتلر هؤلاء أبطال الرواية الذين أرادوا تغيير العالم بالدمّ ولا ضريبة غير الدمّ.
يقول الكاتب عن أدبيات إرهابيس وبيان تأسيسها:”شعورا منا بالحاجة إلى عالم بديل ،ليس فيه مرتزقة باسم القيم،ولا سماسرة باسم الثورة ،ولا أنبياء يدّعون العصمة في عصر النفاق ، ولا زعماء يصنعون المجد من جماجم شعوبهم ،فإننا نحن الذين أعلنا الحرب على عالم مزيّف ،وشعوب خنوعة ،وساسة يمتهنون الكذب و النفاق ،وعلى أفكار تقتل حق الإنسان في أن يرفض ويقول لا. وعلى إيديولوجيات خبيثة وماكرة ،قرّرنا هجرة هذا العالم الموجود وبناء عالم مختلف أسميناه على بركة الله إرهابيس يلتحق فيه القاتل من أجل لقمة العيش ،و المؤمن من أجل فرض شرع الله،و الثوري من أجل اقتلاع أنظمة فاسدة ،و الديكتاتور الذي يرى القوة سبيلا للاستقرار ،و المتاجر في السلاح و المخذرات لتحقيق أمنية الحق في الموت الرّحيم،إنها ليست فلسفة طاباوية ،لكنها حقيقة العالم الذي لا يعترف به الآخرون ،ليبارك الله إرهابيس”[25]
حيث إرهابيس ليست دولة و لا مملكة ولا إمبراطورية ،هي عائلة تجمع منظمات وحركات شعارها “القوة أبدا”[26]إذ “عائلة إرهابيس هي العالم الحقيقي بتعدد أعراقه ،وتنوع ثقافاته ، وعمق تجارب كل حركة أو منظمة اختارت الالتحاق بها عن قناعة وطواعية”[27].
-شعرية العناوين الفرعية :
يمثّل العنوان موضوعا للتأويل كما أنف الذكر ،ومفتاحا تأويليا للنص الذي يعنونه ،و إن كان من الممكن أن يكون خادعا ومراوغا وسرابيا ،عندما يبنى على قصدية الإثارة و الإغراء ،و هو مايحتّم على القارئ الاستعداد لتلقي عناوين توهيمية ، تمارس مكرها اللغوي و الدلالي ، وتستخدم سلطتها الاعتبارية في الإغراء مما يتطلّب من المتلقين التزود بمكر قرائي مضاد، وبوسائل معرفية وتأويلية للتحقق من تطابق الاسم مع المسمى ،أو الاقتناع على الأقل بالمادّة التي هو مدعو إلى فهمها بالتفاعل معها “[28].
وحريّ بالذكر أن المبدع عز الدين ميهوبي قد وضع عنوانا رئيسا لروايته ، ثم قسم محتوى النص إلى عناوين فرعية هي بمثابة محطات شارحة للعنوان الخارجي ،حيث اختار بذكاء المبدع واسع الثقافة عناوينه الفرعية ،فكانت كالتالي :”هل رأى القردة تقرأ شكسبير و السلاحف تردّد أشعار كيبلينغ ؟”احذرهم إذا أقسموا وصدّقهم إذا مسحوا لحاهم “،”ربما في الدمّ ما يؤلم لكنّه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن محوها بقليل من الماء “،”ولولا أنني غريب بين أيدي هؤلاء القتلة لبصقت على صومعة الشرك و الضلال ، “عندما لا تعرف إلى أين تذهب تذكر من أين أتيت “،”حتى الخيانة لها نصيب في صناعة التاريخ”،”لو تزوج أسامة ويتني في العالم 1996 ما وقعت 11سبتمبر2001″،”ثم يصرح أنا الرب ،أنا يسوع ،أنا يوحنّا المعمدان ، أنا لومومبا -أنا صومعة القيامة”،” يذكرون لوحة غرنيكا لبيكاسو كان ذلك من شأنه أن يغيّر ألوان التاريخ، أكره الذين يكتبون تاريخا مبتورا” ،”قاتلنا واحد ،وإن اختلف عيار الرصاص الذي اخترق جسدينا”،” من يصنع التاريخ لا يضع في جيبه ممحاة لتغيير بعض مفرداته “،” إذا كان لي أن أموت اليوم ،لا تبك لأنه لن يكتب لنا البقاء على الأرض ،سأكون في انتظارك بعد القيامة” ،” لولا أننا في مؤتمر سيّد لمسحت بك الأرض ،لكن سيأتي يومكم لن ينفعكم شجر الغردق الذي تختبؤون وراءه”.
وبعملية إحصائية ،فإن العناوين الفرعية لرواية (إرهابيس)عددها ثلاثة عشر عنوانا ،تتضمن معظمها شرحا وتفسيرا للعنوان الرئيس ،حيث اشتملت على الإثم و الغفران ،إذ المتتبع لمفردات كل عنوان يلمح بسرعة لون الدم وروح الإثم وكذا الغفران ،فالدم هو الحقيقة الوحيدة التي لايمكن محوها بقليل من الماء ،وهنا الإثم و الغفران ،إذ الدم يمثّل الإثم ، و الماء يمثل الغفران.
فلقد استعمل الأديب العبارات الاستفهامية ،و الشرطية في معظم العناوين التي بالإضافة إلى ذلك تمثل حكما وعبرا ،فللتعجب و الاستفهام أثره الجمالي الذي لا ينكر .و التعجب و الاستفهام خاصيتان تنفرد بهما الرواية بشكل لافت ،خاصة الحوار، فقد استعمل استفهام (هل ) ،احذرهم (أمر) ،(ربّما ،لكنّه) شك وتوكيد.(ولولا) أسلوب شرط ،(عندما لاتعرف،تذكر)أسلوب شرط كذلك ،(حتى الخيانة)توكيد،(لوتزوج بن لاند -ما) أسلوب شرط ،(ثم يصرّح …أنا ،أنا، أنا) استئناف وتعقيب وتغليب الأنا المشركة الضالة .(يذكرون…أكره) أسلوب إخبار تضمن تعجب ،(ماقلنا … واحد) إخبار ،(من يصنع، لا يقع) أسلوب شرطي ،(إذا كان …لا تبك) أسلوب شرط وتوكيد ،لوأننا ….لكن سيأتي )شرط واستدراك.
إن الملاحظ أنّ معظم العناوين الفرعية قد تضمنت أسلوب الشرط و التوكيد ،في حين وجد استفهام واحد غرضه التحقير و الاستنكار ،وكذا التعجب حيث ّإن هذه الأساليب الإنشائية لصيقة بالحوار. ولعلّ من شعرية العناوين وتفاعل المتلقي معها ،هومايحدثه في نفسه من جمالية التركيب ،وصياغة الأساليب الإنشائية فمرّة يجمع الأضداد (الاثم ،الغفران) ،ومرّة الترادف( صومعة الشرك و الضلال ) (تقرأ ،تردد).
ومن أجل أن يتواصل المتلقي مع أي رواية لابدّ للمؤلف من تهيئة وضع الفهم و الإفهام وذلك أن جهود الإفهام تتطلب أولا من الكاتب خلق الاستعداد لدى القارئ من أجل التعاون فيما بينهما لإنجاح مهمّة التواصل ،ومساعدة القارئ على أن يستنتج في كل جزء من النص ما يمكن أن يأتي في الجزء اللاحق ،بواسطة مجموعة من أحداث النص ،يستطيع الكاتب ،أن يضمن فهما صحيحا وسريعا لدى القارئ وذلك عن طريق المدخل الاستعراضي لموضوع النص (العنوان الرئيس ،و العناوين الفرعية).حيث تعد العناوين الفرعية -من وجهة نظرنا -عناصر شارحة ومحددة بدقة للمهم في مادة الرواية .
ولأن بناء النصوص لا يتحدد بقواعد بناء ثابتة ،فإنه لا يمكن التنبؤ بقواعد عامة تحكم أبنيتها ،ولا تتيسر معرفة الإطار الذي يختار لها إلا في مجال حل مهمة اتصالية معينة، وتشترط بعض النصوص المكتوبة بعض المعرفة لدى قرائها ،الأمر الذي يجعل الكاتب مضطرا للتقليل من سوء الفهم في بعض النصوص ولذلك يلجأ إلى :
- التعويض عن فقدان الإشارة الحسية إلى الأشياء التي تتميز بها النصوص المنطوقة عن طريق أوصاف دقيقة ومحددة للأوضاع(وصف الأشخاص،و الأمكنة و الأزمنة) وهو العمل الذي قام به ميهوبي في روايته ،حيث ما يميزه هو الوصف الدقيق لشخصيات الرواية بدءا من ماركوس العجوز قائد السفينة إلى الجنود الستة المسلحين الذين استقبلوهم في الجزيرة نهاية بمجرمي الحرب و الدمار ،كل باسمه ،ثم هناك أيضا وصف الأمكنة و للزمان ولمعظم الأحداث .
- التوضيح الكافي للبيئة التي نشأ فيها النص ،المكتوب لأنها غير معلومة بالضرورة للقارئ وكذلك بعض عوامل السياق المهمة للفهم؟ و الواضح أن رواية (إرهابيس) أحداثها و إن كانت عامة وشاملة لكل الحروب ،فإن محركها الأساس العشرية السوداء و الربيع العربي وأحداث 11سبتمبر2001 -وشنق صدام-وتشويه القذافي -وهذا هو سياق الرواية -حيث يؤكد المبدع أن ما يحدث في الوقت الراهن هو امتداد للزمن الماضي . زمن هتلر وتشي غيفارا ،وموسوليني وغيرهم ممن يراهم بعض المحللين مقاومين ،ويراهم الكاتب مجرمي حرب ،وخراب إلا تشي غيفارا.
وتكمن جمالية الرواية في ربط الماضي بالحاضر وكيف استطاع ميهوبي بطريقة ذكية أن يمنطق الاحداث ،فالواضح هو اهتمامه بالتكوين الهرمي للأفكار في النص ، وإيضاح العلاقات بين عناصر الخطاب الأساسية فهما ثم الأخرى الفرعية ،حيث يوضح عز الدين ميهوبي النقطة المشتركة بين مجرمي دمار البشرية من زمن هتلر و القنبلة الذرية و أحداث هيروشيما ونكازاكي إلى يومنا هذا زمن بن لادن و الربيع العربي و في مقدمتها العشرية السوداء التي عاشها الشعب الجزائري .
ولعل ما يميز نص الرواية هو تكرار تلك اللازمة (لم تر شيئا يا صديقي) ومن وظائف التكرار التأكيد ،أما أثره الجمالي فيتمثل في كون تلك اللازمة تحرّك اشتياق المتلقي لمعرفة اللاحق من الأحداث .إذ كلّما عرف الصحافيون معلومة عن عائلة إرهابيس إلا وشوّقهم القائد ماركوس لاكتشاف معلومات أخرى أكثر غرابة واندهاشا مثل قوله: “بالمناسبة لن نقوم بتفتيشكم ،ماركوس هو الفيزا ،أخبرنا أنكم لا تحملون أسلحة أو ممنوعات ،قد تقولون كيف أبلغنا ؟الأمر بسيط …إذا سمعناه يغني وعدنا لخاراميو فلا داعي للتفتيش …وإذا غنى كارديناس ،لابدّ منه ….أما كيف عرف ذلك ،فما عليكم إلا أن تسألوه …إذا عدتم -إذا عدنا؟ ،قال كوستا وقد جحظت عيناه، ابتسم القائد مازحا مع كوستا ،-لم تر شيئا يا صديقي –”[29] وتتكرر هذه اللازمة من بداية النص ،لتنبه أن هناك دائما ماهو أغرب ،وفعلا فإن كلّ الأحداث التي توالت منذ وصول الصحافيين إلى جزيرة إرهابيس حتى نهاية الرواية -كلها من الخوارق و الأساطير-
وفي نهاية الرواية يختم المبدع مادته السردية برأي حكيم على لسان المقاوم تشي غيفارا الذي -حسب المبدع- لوكان حياّ أو لو عاد للحياة لرفض كل أساليب الخراب التي اتفق عليها مجرمي تدمير البشر ،وكأن الحكام السابقين قد اتفقوا على تدمير كل المعالم الحضارية الإنسانية لكل دولة ،كالبيت الأبيض، برج إيفل، تاج محل، الأهرامات، تمثال الحرية، تمثال المسيح المخلص، برج بيزا ،بالإضافة إلى الكعبة ،وقبة الصخرة.
يقول المبدع على لسان تشي غيفارا: ” تصفقون، عجبت لكم، تدمرون و تصفقون، تعودون لتدمير ما يبني الإنسان، أنتم إرهابيون، اعتقدت أنكم جئتم إلى هذه الجزيرة لتتركوا الدمّ وراءكم، وتعلوا شأن الإنسان…أنا لم آت إلى هنا إلا أن هناك من يصف الثورة بالإرهاب، انتهت رحلتي معكم، سأعود لأواصل الثورة هناك… إنما هذه المرّة ستجدون التشي أوّل من يحمل السلاح في وجه من يدمّر هذا المعالم …أنتم تدمّرون الإبداع، وخرج التشي دون أن يضيف كلمة واحدة، بينما كان المؤتمرون واجمين لا يصدقون الذي يحدث أمامهم”[30]
من خلال هذا النص، يتضح جليا أن هناك من حكموا العالم بالعدل، وبأنهم لو عادوا للحياة من جديد لرفضوا كل هذه التغييرات التي نادى بها مجرمو الحرب و من هؤلاء الثوري تشي غيفارا، ولقد اختار ميهوبي أن يشارك ويلات العالم من خلال الفن الروائي، “لأن هذا الفن يستطيع عبر إمكاناته السردية و الجمالية أن يفضح أوهام الذات، وانحرافاتها الفكرية و الشعورية خصوصا حين تسجن الآخرين في أوهام الذات في انتماءات ضيقة (مذهبية أو عرقية) مثلما يستطيع التغلغل إلى أعماق الروح الإنسانية ،ليبرز قدرتها على تجاوز هذه الإنتماءات، والدخول إلى عوالم رحبة تحرر الإنسان من إكراهات تربّى عليها”[31].
ولقد حاول ميهوبي أن يغوص في أعماق من سماهم بكبار إرهابيس من خلال السرد الروائي الذي يعدّ من أقدر الفنون على سرد تفاصيل الحياة بكل مضامينها حيث نسب لكل شخصية من شخوص الرواية الوظيفة المنوطة إليها. و الصفات الحقيقية أو القريبة من الحقيقة على الأقل من وجهة نظره، هو كمحقق صحفي، وكما تعدّدت صفات شخصيات الرواية تعدّدت أصواتهم، إذ الرواية تتغلغل كذلك في الأعماق لتناقش الإكراهات التي تعشش في اللاوعي فتقتحم المخبوء في تصوّر الذات والآخر.”[32]
نفهم من الرواية أن ميهوبي، قد راودته هواجس وتساؤلات كثيرة حول الدمار الذي حلّ بالعالم، وبناء على مرجعياته المعرفية و التاريخية و الجغرافية و السياسية و الاقتصادية و في مقدمتها الثقافية بالإضافة إلى عامل مهنة الصحافة فقد نسج روايته حول كل مادار في خلده، محاولا فهم الآخر الذي يدمّر، ويغير بالدم، فبنى للمتلقي دولة من الخيال سمّاها إرهابيس شخوصها من أعظم حكام العالم، أو مخربي العالم، لهم نشيدهم الرسمي، وبيانهم السياسي، وقاعات مؤتمراتهم، وكبار حكامهم وقاداتهم، وأنت تقرأ الرواية تشعر وكأنك في عالم أسطوري خرافي وهمي، تتمنى لوأنه يكون مجرد حلم، وفعلا فقد ختم ميهوبي روايته وكأنها حلم مزعج، حيث إن المتمعن لعنوان الرواية إرهابيس( أرض الإثم و الغفران) يتمنى لو أن المبدع قد سمّاها “ما بعد القيامة” لهول الأحداث التي سردها ميهوبي، وحاول تقريب الحقائق من المتلقي الذي حتما قد يندهش لذكاء المبدع في ربط الحقائق بالخيال. حيث اتسع العنوان ليشمل، القبح و الجمال (الإثم و الغفران) حيث اجتمعت الدلالة السلبية بالدلالة الإيجابية.
ولكن ما يعاب -من وجهة نظرنا- على هذه الرواية أن المؤلف لم يكن له وظيفة في النص غير السّرد لكنّه استطاع أن يقرّب كثيرا من الحقائق إلى أفهام المتلقين واسعي الثقافة، حيث أن المتلقي العادي لا يمكنه الفهم الكثير من هذا السبق الصحفي الذي يجمع بين نظرية الخلق و النشور داروين و الجزر القديمة التي تستدعي المتلقين لقراءة الجغرافيا، أما الأحداث التاريخية و السياسية فلا أحد من المتلقين ينكرها.سواء جيل ما قبل العشرية السوداء في الجزائر أو جيل الربيع العربي .
ومهما يكن من أمر ،فقد تمكن ميهوبي من خلال عنوانه أن يبرهن على قيمة الغفران مقابل الإثم الذي لن ينتصر دائما ،وإن كانا يقوما ن على أرض واحدة.فالعالم منذ خلق الإنسان في صراع الأضداد ،الخير و الشرّ ،الحرية و الاستعمار، الإرهاب و المصالحة و الوئام، وهكذا، فمرّة يسود السلام ومرّات يسود الدّمار، وتستمر الحياة وتتعاقب الأجيال وتؤرخ الأحداث الراهنة لتقرأها الأجيال اللاحقة. حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وليت ما يحدث في العالم مجرد حلم نستفيق منه لنجد الأمان و السلام.
وحتى وإن كان المواطن العربي لا يقرأ، فإن وسائل الاتصال الحديثة تفرض أخبارها عليه عنوة، وإن كان هذا لا يثقف بالدرجة نفسها التي يقدّمها فعل القراءة و التواصل الفعال مع الآخر قراءة و استيعابا.
و في الختام، نشير إلى أننا قد أغفلنا في هذه الدراسة شعرية الحوار و التناص، التي ميزت الرواية بشكل كبير، وذلك أن هذين العنصرين يحتاج كل واحد منهما إلى بحث مستقل لما لهما من عظيم شأن في الدراسات النقدية الحديثة. ثم إن رواية إرهابيس تتسع لأكثر من مقاربة، ولأكثر من مجال بحث.
قائمة المصادر والمراجع.
القرآن الكريم.
المصادر:
-رواية ارهابيس (أرض الإثم و الغفران)، عز الدين ميهوبي، الجزائر،2006.
المراجع:
01-الأساطير و الخرافات عند العرب، محمد عبد المعيد خان، الدار الحديثة للطباعة بيروت،1981.
02-الأسطورة في الشعر العربي، أمين داوود، مكتبة عين شمس، القاهرة، دط،دت.
03-آليات إنتاج النص الروائي (نحو تصور سيميائي) عبد اللطيف محفوظ منشورات الاختلاف الجزائر ط1 ،2008.
04-نقد الرواية عبد الله رضوان، دار البازوري العلمية للنشر و التوزيع عمان، الأردن، ط1،2003.
05-إشكالية الأنا و الآخر (نماذج روائية عربية ماجدة حمود، عالم المعرفة، الكويت، العدد 398،مارس 2013.)
06-السرد الروائي العربي (قراءة في نصوص دالة) مدحت الجيار، الهيأة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط01،2008.
07-النقد المنهجي عند العرب، محمد منذور، دار نهضة مصر، القاهرة، دط،د ت.
08-الشعرية العربية (أصولها و مفاهيمها و اتجاهاتها)، مسلم حسب حسين، منشورات ضفاف، البصرة، العراق، ط01،2013.
09-فن الشعر، أرسطو،تر،تح، عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت 1973.
10-العنوان في الثقافة العربية (التشكيل و مسالك التأويل)، محمد بازي، منشورات الاختلاف، الرباط، المغرب، ط01، 2012.
.1987- Gerard Genette Seuil -paris
La seconde main ou le travail décitation ,Aintoine Compagne seuil ,paris,1979
[1] -آليات إنتاج النص الروائي ،نحو تصور سيميائي -عبد اللطيف محفوظ منشورات الاختلاف الجزائر،ط1، 2008،ص19.
[2] -البنى السردية (نقد الرواية)عبد الله رضوان، دار البازوري العلمية للنشر و التوزيع،عمان ، الأردن،ط1،2003،ص07
[3] – البنى السردية (نقد الرواية)عبد الله رضوان ، ص 07.
[4] -إشكالية الأنا و الآخر (نماذج روائية عربية) ،ماجدة حمود عالم المعرفة -الكويت-العدد398، مارس 2013 ص07.
[5] -السرد الروائي العربي (قراءة في نصوص دالة) مدحت الجيار الهيئة المصرية العامة للكتاب -القاهرة ط1-2008-ص19.
[6] – السرد الروائي العربي (قراءة في نصوص دالة) مدحت الجيار ، ص 19.
[7] -ينظر (النقد المنهجي عند العرب -محمد منذور،دار نهضة مصر -القاهرة- د ط-(د ت) ص03/132.
[8] -الشعرية العربية (أصولها ومفاهيمها و اتجاهاتها)-مسلم حسين حسب حسين منشورات ضفاف، البصرة،العراق، ط01-2013-ص41.
[9] -م ن -ص59/60
[10] – فن الشعر أرسطو -تر و تح عبد الرحمن بدوي،دار الثقافة -بيروت 1973ص209
[11] -م ن ص210.
[12] -المصدر نفسه ،ص 19
[13] -الشعرية العربية -مسلم حسب حسين حسن،ص15
[14] – تلخيص كتاب فن الشعر تح بدوي ص 204
[15] – تلخيص كتاب فن الشعر تح بدوي، ص367
[16] -ينظر:العنوان في الثقافة العربية (التشكيل ومسالك التأويل) محمد بازي، منشورات الاختلاف -الرباط -المغرب-ط01-2012 ص07
[17] -نفسه ،ص 15
[18] -p651987- Gerard Genette Seuil -paris
[19] La seconde main ou le travail décitation ,Aintoine Compagne seuil ,paris,1979 ,p ,329
[20] -العنوان في الثقافة العربية ، ص 16
[21] -المرجع نفسه ، ص16-17-19
[22] -إرهابيس (أرض الإثم و الغفران) عز الدين ميهوبي رواية ص05
[23] -ينظر: الأساطير و الخرافات عند العرب-محمد عبد المفيد خان-الدار الحديثة للطباعة بيروت 1981ص18.
[24] -ينظر: الأسطورة في الشعر العربي -أمين داوود-مكتبة عين شمس :القاهرة دط،دت ص19
[25] -رواية إرهابيين (أرض الإثم و الغفران) عز الدين ميهوبي -ص20
[26] -نفسه ،ص21
[27] -نفسه،ص22
[28] -العنوان في الثقافة العربية ، محمد بازي ،ص19-20
[29] -رواية إرهابيس ،ص10
[30] -إرهابيين -عز الدين ميهوبي ص260
[31] -إشكالية الأنا و الآخر ،ماجدة حمود ،ص08
[32] -نفسه ،ص14