
بنية الانسياب السردي في روايات الطيب صالح … (عرس الزين ـ بندر شاه ـ مريود) نموذجا … دراسة نصية
د / نبيل حمدي الشاهد أستاذ البلاغة والنقد والأدب المقارن، الجامعة العربية المفتوحة لشمال، أمريكا.
مقال نشر بالعدد 17 من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الصادر بشهر مارس 2016 والخاص بالروائي العربي الطيب صالح، ص 47. للاطلاع على المقال وكل العدد يرجى الضغط هنا
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة
لا يستطيع قارئ روايات الطيب صالح أن يكتفي بقراءة إحدى رواياته ليحكم على عالمه القصصي بالفهم والتحليل. بل لابد من قراءة أعماله مكتملة للخروج برؤية شاملة متكاملة ، وذلك لأن العالم القصصي في أعمال الطيب صالح يتشكل وفقاً لرؤية بنيوية تعتمد البناء الهرمي في التطور والتشكيل ؛ فالقاعدة الهرمية في البناء تتشكل وفقاً لنظرية العرض التراكمي الذي يؤسس لنمو الحكاية وتصاعدها عبر ثوابت ومتغيرات ، تظل في حالة جدل ديالكتيكي ينمو شيئاً فشيئاً ، فما أن تنتهي الرواية الأولى ـ والتي يكون الراوي من خلالها قد بذر آليات حكيه المتعددة ـ حتى يكون الراوي قد بنى جدارا ، على القارئ الفطن أن يتابع القراءة في باقي الروايات حتى يتسنى له استكمال الجدران الباقية ، لتكتمل أمامه الهيكلية القصصية في الرواية الأخيرة . وأظن أنها لن تكتمل . لن تكتمل الرؤية في أعمال الطيب صالح التي تتسع أمام الناقد اتساع الرؤية التي تضيق بجانبها العبارة كما قال النفري : كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة .
لا تحكم أعمال الطيب صالح نقطة نهاية يتوقف عندها الحدث ؛ فالروايات أشبه بلوحات تمتلئ بالمشاهد ، وهى تتضافر في مجموعها لرسم جداريه تجعل القارئ أينما وجد يحيا في تلك اللوحة التي أصبح جزءاً منها ، لأن روح الحياة ، وماهية الوجود ، وسر الأسرار ، يسرى في دماء الشخصيات التي أنطقها بموهبته الطيب صالح لتمشى في ود حامد ، متحاورة متصارعة وهى أمام أعيننا نعرفها وتعرفنا.
ولعل ارتباط رواياته مجتمعة بحبل سرى يجعل روايته أشبه بنهر يتدفق وينساب من منبعه في الصفحة الأولى لـ (عرس الزين ) وحتى مصبه في الصفحة الأخيرة في (مريود). التي تنتهي وقد أصبحت رواياته كتله واحده ، لا جزرا منعزلة . ولذلك يرى الباحث أن هذه الروايات ما هي إلا رواية واحدة ، مكتوبة في عدة أجزاء ، بدأت بعرس الزين ثم ” كانت بندر شاه نهاية الثلاثية الريفية المتميزة ، وكأنها الجذر والساق في الرواية السودانية وكأنها استمرار للروايتين السابقتين ، من خلال وحدة المكان ، والإشارة إلى عدد من الشخصيات ، وأثر الزمان والتطور الاجتماعي فيها ، هذا مع استقلال التكوين الفني ، ومع اعتبارها جزءا مرتبطا بالرواية التالية مريود “([1]) . إنها أشبه بثلاثية الروائي الجزائري محمد ديب (الدار الكبيرة ـ الحريق ـ النول) ، أو ثلاثية الروائي المصري نجيب محفوظ (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) ، أو خماسية الكاتب الفرنسي روجيه مارتان دي جار (آل تيبو) ، أو خماسية عبد الرحمن منيف (مدن الملح) .
ولعل النظرة النقدية التي ترى في العالم الروائي للطيب صالح عالماً متكاملاً مترابطاً، تشكل فيه كل رواية رافداً حكائياً يدعم نهر الحياة السردي بأحد أهم روافده لتتشكل في النهاية بنية حكائيه كبرى ، يمكن من خلالها الحكم على أعماله ، هي التي جعلتني أعتمد بنية الانسياب باعتبارها بنية مستمدة من طبيعة النص الروائي للطيب صالح نفسه ، وهى بنية لم تفرض على النص لتلوى عنقه وتطوعه حسب نظريات ومناهج نقدية قد تخلق هوة معرفية بين النص والقارئ ، ولكنها تتسق وطبيعة البناء في نصوص الطيب صالح ، خاصة وقد افترضنا أن هذه النصوص تعد نصاً واحداً وإن لم يجمعها شكلياً تسلسل ثلاثي أو رباعي أو ما إلى ذلك . ولعل عدم الجمع هذا هو ما قد يجعل بعض الدارسين ينظرون نظرة ضيقة لهذا العالم الرحب ، الذي تنساب فيه الحكاية مصورة شخصيات وفضاءات في لحظات تأزم واضطراب ، متخذه من المصائر الإنسانية نقطة ارتكاز وتحول ، عبر أزمنة سردية ترصد الواقع العيني بما يتضمن من سلبيات وإيجابيات يعجز التاريخ الرسمي عن الإحاطة بها. وهي تتخذ من الطول والدائرية وطريقة الحبكة الفنية وتصوير الواقع النفسي للشخصية ، بالإضافة إلى غلبة النزعة الإنسانية بأسلوب تتكاثف فيه اللغة الشعرية التصويرية ، سمات تجعلها البنية الرئيسة لدراسة أعمال الطيب صالح الروائية.
أولا: بنية الشكل الانسيابي في روايات الطيب صالح
يمكن تحديد بنية الشكل الانسيابي في روايات الطيب صالح من خلال النظرة الشمولية لرواياته التي يبلغ مجموع صفحاتها ثلاثمائة وأربع عشرة ورقة . وهى بهذا الشكل تعد رواية طويلة ، كبيرة الحجم ، بيد أن تقسيمها لأجزاء أو لروايات منفصلة مثلما أراد لها كاتبها أن تخرج ، يجعلها سهلة التقسيم ، قريبة المنال لمن أراد أن يخرج بنظرة سريعة على أعماله. ويعد هذا الطول ، وتلك الكثرة في عدد الصفحات ـ بالنظر لمجمل الأعمال ككتلة واحدة ـ من أهم صفات البنية الانسيابية “ومصدر الطول لا يرجع إلى سبب من مقدار المساحة الزمنية التي تناولتها الرواية أو مدى المساحة الجغرافية التي تصور بيئتها الاجتماعية ، وإنما يرجع إلى خاصية الاستقصاء في الوصف والدقة المتناهية في التحليل والاستغراق في تلوين الأسلوب وإثرائه بالنظريات وتجميله باللغة الشعرية ، وهذه كلها سمات تتضافر مع غيرها لتكون خصائص هذا اللون الروائي”([2]) .
إذاً فالاستقصاء في الوصف صفة أساسية في بنية الرواية الانسيابية ، وقد اعتمد الطيب صالح هذه التقنية في وصف الشخصية ، ومن ذلك وصفه للزين “كان وجه الزين مستطيلاً ، ناتئ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين. جبهته بارزة مستديرة، عيناه صغيرتان محمرتان دائماً، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه. ولم يكن على وجهه شعر إطلاقاً. لم تكن له حواجب ولا أجفان ، وقد بلغ مبلغ الرجال وليست له لحية أو شارب. تحت هذا الوجه رقبة طويلة. (من بين الألقاب التي أطلقها الصبيان على الزين الزرافه). والرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدلان على الجسم في شكل مثلث. الذراعان طويلتان كذراعي القرد. اليدان غليظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة (فالزين لا يقلم أظافره أبداً). الصدر مجوف، والظهر محدودب قليلاً، والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركى. أما القدمان فقد كانتا مفرطحتين عليهما آثار ندوب قديمة (فالزين لا يحب لبس الأحذية)”([3]) . في المقطع السابق يصف الراوي جسم الزين كاملاً، يبدأ الوصف من أعلى لأسفل ، من الوجه إلى القدمين ، يتتبع الوصف كافة التفاصيل التي تمكّن القارئ من رسم بورتريه دقيق للشخصية. وقد استعان الراوي في وصفه بالمصطلحات الهندسية من قبيل (مستطيل ـ مستدير ـ محدودب ـ مثلث) ، وكذلك استعان بالمصطلحات اللونية. وهو في وصفه يماهي بين المشبه والمشبه به بأوصاف حيوانية ؛ فالزين كالزرافة في طول الرقبة ، وكالقرد في طول الذراع، وكالكركي في طول الساق.
ولم يكتف الراوي بهذا المقطع لإلقاء الضوء على وصف الشخصية الرئيسة في الرواية ، بل تابعه بوصف الملمح المهم لديه بقوله: “كبر [ أي الزين ] وليس في فمه غير سنين ، واحدة في فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل. وأمه تقول أن فمه كان مليئاً بأسنان بيضاء كاللؤلؤ. ولما كان في السادسة ذهبت به يوماً لزيارة قريبات لها، فمرا عند مغيب الشمس على خرابة يشارع أنها مسكونة. وفجأة تسمر الزين مكانه وأخذ يرتجف كمن به حمى، ثم صرخ. وبعدها لزم الفرش أياماً. ولما قام من مرضه كانت أسنانه جميعاً قد سقطت، إلا واحدة في فكه الأعلى، وأخري في فكه الأسفل”([4]) .
يعد السنان الباقيان في فم الزين من أهم ملامحه الشكلية، لأنهما يضفيان عليه صفة تفرد ، نتجت له من حادثة خرافية. كما أنهما يمدانه ببعد دمامة ، ما يلبث أن تحوله الشخصية لموطن جمال بضحكها المستمر للحياة والناس “فيستلقي على قفاه ضاحكاً، ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رجليه في الهواء ويظل يضحك بطريقته الفذة ذلك الضحك الغريب الذي يشبه نهيق الحمار”([5]) . وقد عدّل الراوي من هيئة الزين الدميمة لهيئة أخرى أحسن حالاً “ولما عاد الزين من المستشفى . في مروى حيث ظل أسبوعين كان وجهه نظيفاً يلمع ، وثيابه بيضاء ناصعة. وضحك فلم ير الناس كما عهدوا سنين صفراوين في فمه ، ولكنهما رأوا صفاً من الأسنان اللامعة في فكه الأعلى ، وصفاً من أسنان كأنهما من صدف البحر في فكه الأسفل. وكأنما الزين تحول إلى شخص آخر. وخطر لنعمة وهي واقفة بين صفوف المستقبلين أن الزين في الواقع لا يخلو من وسامة”([6]) .
وقد كشفت هذه الهيئة الجديدة عن تغيير نظرة المحيطين بالزين ، وخاصة من نعمة التي بررت لنفسها بعد هذا التعديل أن الزين لا يخلو من وسامة تمكّنه من الارتباط بها. بل إن الراوي نفسه رأى هذه الخلقة في أحسن حالاتها جمالاَ وقت زفافه “وكان الزين يبدو مثل الديك، لا بل أجمل مثل الطاووس”([7]). وقد أضاف الراوي لهذه الأوصاف خمسة أوصاف أخرى، جعلها علامات فارقه في شخصيته ، وهي في كل الأحوال لا تخلو من ربط مباشر مع الأوصاف الشكلية التي ذكرناها ، وهي :
1ـ كثرة الحركة : فالزين “كان لا يستقر في مكان ، مايزال سحابة نهاره سائحا في البلد من أقصاها إلى أقصاها”([8]). فأنت تراه مره عند عرب القوز ، ومره خلف كثبان الرمل يتابع السيارات العائده من أم درمان . وقد تشاهده بجانب البئر يعابث النساء والأطفال ، أو في الأفراح بين الديوان والتكل أو متوسطاً لفريق محجوب عند دكان سعيد. لقد كان على حد تعبير الراوي كروحاً قلق ليس له مستقر فـ “فساقاه لا تكلان عن حمل جسمه إلى أطراف البلد”([9]) . وقد ساعدته على تلك الخفة ساقاه النحيلتان ، الطويلتان ، وقدماه المفرطحتان اللتان لا يعرفان طريقهما للحذاء. ولعل رقصات الزين المتتالية في معظم الأعراس المقامة في ود حامد تدل على زيادة النشاط الحركي، وقد بلغت تلك الرقصات مداها في عرسه الشخصي ، الذي ظل يتنقل فيه راقصاً بين النساء والرجال في حلقات المديح وحفلات الرقص الفردي والجماعي.
2ـ النهم للطعام : فقد عرف الزين بنهمه الشديد بالطعام “كان معروفاً بالنهم، إذا أكل لا يشبع وفي الأعراس حين تأتي سفر الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون ، يتحاشى كل فريق أن يجلس الزين معهم، إذ إنه حينئذ يأتي في لمح البصر على كل ما في الآنية ، ولا يترك أكلاً لآكل”([10]) . ويعد نهم الزين للطعام من أحد أهم أسباب كثرة حركته ، لأنه دائماً ما يبحث عن الأعراس أينما وجدت ليُسكن هذا الجوع الأبدي بوجبة طعام يسرقها خلسة من أصحابها.
3ـ القوة الخارقة : وهي قوة لا تتناسب مع قلة وزنه ، ونحافة جسمه “فسخّر[أي العمدة] الزين في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن. كنت ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر، في حر تئن منه الحجارة، مهرولاً هنا وهناك، يسقى جنينة العمدة. وتراه ماسكاً بفأس أضخم منه يقطع شجرة أو يكسر حطباً. وتراه منهمكاً يجمع العلف لحمير العمدة وخيوله وعجوله”([11]) . وقد استثمر الراوي هذه القوة الخارقة في صراعه مع سيف الدين ، ليؤكد عليها من خلال بعد عجائبي “تدفقت في جسم الزين النحيل قوة مريعة جبارة لا طاقه لأحد بها. أهل البلد جميعاً يعرفون هذه القوة الرهيبة ويهابونها، وأهل الزين يبذلون جهدهم حتى لا يستعملها الزين ضد أحد. إنهم يرتعدون روعاً كلما ذكروا أن الزين أمسك مرة بقرني ثور جامح استفزه في الحقل، أمسك به من قرنيه ورفعه عن الأرض كأنه حزمة قش وطرح به ثم ألقاه أرضاً مهشم العظام، وكيف أنه مرة في فورة من فورات حماسه قلع شجرة سنط من جذورها وكأنها عود ذرة. كلهم يعلم أن في هذا الجسم الضاوي قوة خارقة ليست في مقدور بشر”([12]) . ولقد جعل الراوي من هذه القوة عوضاً عن دمامة الخلقة ، كما جعلها موازية لجمال نعمة ، حتى تتعادل موازين القوى بين الأطراف.
4ـ سلامة الذوق : وهى صفة اكتسبها الزين من هيمانه المستمر بالنساء الجميلات “ومهما قال الناس عن الزين فإنهم يعترفون بسلامة ذوقه، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالاً وأحسنهن أدباً وأحلاهن كلاماً”([13]) . وقد دلل الراوي على سلامة هذا الذوق بعرضه لثلاث قصص ، هي:
أـ قصة حبه الأول مع عزة ابنة العمدة.
ب ـ قصة حبه الثاني مع حليمة الأعرابية .
جـ ـ قصة حبه الثالث مع علوية ابنة محجوب.
وفي كل قصص الحب يصيح الزين بلازمته اللغوية التي تكشف عن مدى هيامه بمحبوبته (الزين مكتول في حوش [العمدة ـ فريق الفوزـ حوش محجوب]). وهذه اللازمات اللغوية تجعلها شخصية مسطحة يستطيع القراء تذكرها ـ لأنها على حد تعبير إ 0 م فورستر ” تبعث السرور في نفوسنا عندما نذكرها في أحداثها السالفة ، ونظل نذكرها بعد أن ينتهي الكتاب الذي أوجدها “([14]) . وقد أحسن الطيب صالح صنعا بجعلها شخصية كوميدية لأن الشخصيات المسطحة ” تكون في أحسن حالاتها إذا كانت شخصية كوميدية . فالشخصية المسطحة إذا كانت جادة أو تراجيدية فإنها تصبح مملة”([15]) . وقد ازداد صنيع الطيب صالح صنعا بجعله يضع الشخصيات المسطحة في عمق المسرح الروائي مع الشخصيات المستديرة ، إذ باصطدام النمطين أمكن له تصوير الحياة بدقة .
5 ـ رهافة السمع وحدة الصوت : فصوته كما يصفه الراوي مبحوح حاد “ارتفع صوته المبحوح الحاد كما يرتفع صوت الديك عند طلوع الفجر”([16]) . وهذا الصوت دائماً ما يجلجل بالضحكات التي تشبه نهيق الحمير لتبعد عنه أي شبهة غضب “لم يكن في صوته غضب. كان صوته أقرب إلى مرحه الطبيعي منه إلى الغضب”([17]) . وللزين أذن حساسة للأصوات ، وبخاصة لأصوات النساء وهى تزغرد في الأفراح . يسمع الزين صوت الزغرودة ، فيعرف مطلقتها ومكانها ” تلتقط أذنه بحساسية نادرة زغاريد النساء على بعد أميال، فيضع ثوبه على كتفه ويهرول كأن شيئاً يجذبه إلى مصدر الصوت … ويستطيع الزين أن يميز النساء، أية امرأة زغردت”([18]) .
ويعد الاستقصاء في التحليل من أهم آليات البنية الانسيابية في روايات الطيب صالح. الذي ” يرسم شخصيته بدقة تساعد على إدراك وجودها والتعرف إليها في الواقع الفعلي ، بنفس الملامح والصفات والطباع والسلوك . سواء في ذلك الشخصيات الرئيسية أو الشخصيات الثانوية . وكل شخصية عنده ترمز إلى مرحلة أو إلى منزع ما”([19]) . وقد أكسب هذا الاستقصاء الكثير من المشاهد الروائية طولاً واضحاً ؛ فالراوي في هذه المشاهد يتمتع بطول النفس الحكائى. الأمر الذي دفعه لمحاولة الإلمام بكافة تفاصيل المشهد ، سواء من ناحية الشكل أو المضمون .
فمن الناحية الشكلية اعتمد الراوي على الاستعانة بطرائق السرد في الحكايات التراثية من قبيل (زعم ـ حكى) . أو بصيغ الإسناد في الحديث النبوي ، وذلك ليعطى لنفسه الحق في سرد الروايات المجروحة ، وذلك من قبيل (حدث ـ روى) . وقد يعلى الراوي من قيمة الراوية باستخدامه لمصطلحات الرواية المتواترة ، وذلك من قبيل ذكر راوي الحكاية مصحوباً بالتأكيد على عدالته مثل “أما إبراهيم ود طه، وهو راوية ثقة في تاريخ ود حامد ، فيؤكد أن بلالا….”([20]) .
ومن ناحية المضمون يعتمد الراوي على إطلاق العنان لخياله ليحدّث مستفيضاً حول الحدث الواحد روايات تعطى لنفسها الحق في تتبع وتقصى الأمر من كافة جوانبه. ولننظر إلى حكاية الطاهر ود الرواسي الذي ترك له راوي الحكاية في رواية (مريود) خيط السرد ليحكي مسترسلاً قصة حياته ، أو بالأحرى قصة حياة والده “وكذلك مضى الطاهر ود الرواسي ينسج من خيوط الفجر الزاحف نحونا نسيج قصة حياته”([21]) . وقد امتدت هذه الحكاية لتستوعب عشرين صفحه كاملة تبدأ من صفحة (44) وحتى الصفحة (66) . وقد أورد الراوي في هذه الصفحات العشرين قصة حياة المدعو (حسن أو بلال أو الرواسي) من خلال موازاة حكائية مع شخصية (بندر شاه) ، الذي عرض الراوي روايات تتتبع حياته وتربطها بشخصية بلال، وهي:
أ ـ رواية أنه كان ملكا نصرانيا من ملوك النوبة .
ب ـ رواية أنه كان ملكا وثنياً .
ج ـ رواية أنه كان أميراً حبشياً يدعى مندرس .
د ـ رواية أنه كان رجلاً أبيض ، وفد على ود حامد أواخر أيام ملوك سنار .
هـ رواية إبراهيم ود طه ، والتي تؤكد أن بلالا هو الابن الثاني عشر لعيسى الملقب ببندر شاه ابن ضو البيت. وهذه الرواية هي التي تربط بين شخصيتي بلال وبندر شاه .
ويرى الباحث أن آلية الاستقصاء والتحري والإحاطة الكاملة بكافة تفاصيل الحدث من أهم الآليات التقنية التي اعتمد عليها الطيب صالح في رواياته. وهي خصيصة تجعل من رواياته عملاً شبه أكاديمي ، الأمر الذي يضعف من فنية العمل الروائي ؛ فالتصنيف الرقمي الذي يعتمده الراوي مستقصياً الحادث ، على ما له من أهمية ، يجعل من المشهد الروائي عملاً أقرب إلى البحث الأكاديمي .
ولننظر إلى مشهد انقسام أهل ود حامد حول علاقتهم بإمام المسجد ، وهو مشهد مع ما له من قيمة تفسيرية ، إلا إن صيغة التصنيف الرقمي ، والمباشرة في التقديم ، تباعد بينه وبين الفنية التي يراد منها التحليق في سماء أقرب إلى الخيال منها إلى الواقعية التوثيقية. لقد أراد الراوي أن يستقصى ـ محللاً ـ آراء سكان ود حامد حول علاقتهم بإمام المسجد ، فذكر أنهم في ذلك أربع معسكرات، وهي :
أ ـ المعسكر الأول (مع): وهو معسكر اليمين ، ويضم المؤيدين للإمام “كانت البلد منقسمة إلى معسكرات واضحة المعالم إزاء الإمام ….. معسكر أغلبه من الرجال الكبار العقلاء ، يتزعمه حاج إبراهيم (أبو نعمة) يعامل الإمام معاملة ود يشوبه تحفظ”([22]) .
ب ـ المعسكر الثاني (ضد) : وهو معسكر اليسار ، الواقف على طرف النقيض من المعسكر الأول ، وهو معسكر “أغلبه من الشبان دون العشرين يعادي إمام المسجد عداء سافراً …. ولا يحفل برجل صناعته تذكير الناس بالموت”([23]) .
ج ـ المعسكر الثالث : وهو معسكر الوسط ” وقد كان أكثر المعسكرات وزناً”([24]) . وينضم تحت لوائه محجوب وعصابته .
د ـ المعسكر الرابع : وهو معسكر لا يضم سوى الزين ، الذي يبغض الإمام بغضاً
جماً ، في مقابل انتمائه الديني لفريق المتصوفة ، الذي يمثله الولي الصالح الحنين “كان الزين في موضوع الإمام معسكرا قائما بذاته”([25]).
ولو أن الطيب صالح اعتمد في عرضه لهذه الآراء على المنهج الذي اتبعه في عرض وجهة نظر سكان ود حامد لفريق محجوب ورفاقه ، أو لفريق المدرسة الوسطى بطلابها وناظرها ، أو لغيرها من الجماعات والتكتلات المطروحة على طول الرواية ، لكان ذلك أفضل . إذ يجعل هذا المنهج القارئ مشاركاً في إنتاج النص ، وذلك بملئه للثغرات الحكائية، كما يجعله منتجاً لنص يعرض فيه الراوي سطوراً ليكمل هو صفحات .
وضو البيت من أهم الشخصيات التي تتبعها الطيب صالح ، وهو من الشخصيات التي تطرح الأسئلة أكثر مما تجيب . فقد وفدت هذه الشخصية على ود حامد بطريقة فانتستيكية وغابت عنها بطريقة فجائعية . حملته أمواج النهر إلى ود حامد في ليلة من ليالي أمشير المتقلب ، ليظهر كالعفريت أمام حسب الرسول ، وهو يسقى أرضه في الزمن البعيد ، الموغل في القدم والفقر ” وبغتة سمع حركة في الماء كأن تمساحا طفا …. ” ([26]) . يظهر ضو البيت بأوصافه الشكلية التي يختزلها الراوي ، مثلما يختزل وصف معظم الشخصيات ، بوصف الوجه باعتباره مجمع حواس الإنسان ” رأيته واقفا أمامى لا يغبانى أبيض اللون ، طويل القامة ، عيونه خضر ” ([27]) . يلفت النظر في الوصف التركيز على اللون باعتباره العنصر الفارق بينه وبين كل أهل السودان ؛ فبياض البشرة وخضرة العينين صفات لونية تميز سلالة بشرية غير السلالة التي ينتمي إليها أهل السودان . فهل هو المستعمر الأوربي حضر وافدا ومتخفيا دون مدفعه وبندقيته ؟ . هذا سؤال .
حضر ضو البيت محايدا دون اسم أو دين أو زوج أو حتى وطن ينتسب إليه . بلا أي مرجعية وبلا أطر تحدد هويته ، فهل هو السندباد البحري الذي يتجول بحثا عن الجديد والعجيب . أم هو وجه سوداني انمحى في طبقات التاريخ وقد حل أوان ظهوره؟. ولم يكن مع هذا الوافد سوى علبة الإكسير/ الدخان الذي حمله كريستوفر كولمبوس وهو يغزو الأمريكتين . ومع كل ما في هذا الحضور من أسئلة يصعب الإجابة عليها . استقبله أهل ود حامد بكل ما في أهل السودان من سماحة وتسامح ” أهلا وألف مرحبا ، بالضيف الغريب الجابى من بلاد الله “([28]) . بل واقطعوه جزءا من أراضيهم ليزرعها ، وبنتا من بناتهم ليتزوجها ، وأدخلوه في دينهم بعدما أنطقوه الشهادتين ليصير واحدا منهم . وعاش ضو البيت واحدا من أهالي ود حامد خمسة أعوام ” عمل فيها ما لا يعمله الناس فى العمر كله”([29]). ثم رحل والناس ينادون ” من مكان إلى مكان ومن شاطئ إلى شاطئ إلى أن صارت الدنيا كلها تنادى في جو الظلام ضو البيت ” ([30]) . ورغم أن ضو البيت رحل بلا رجعة ، إلا إنه خلف من ورائه بندر شاه ـ الذي عاش ضحية لأبيه وابنه ـ الذي خلف من ورائه إحدى عشر ولدا ، ومريود / الحفيد الذي أصبح بشكله وصفاته عودا على بدء ، فكأنه بوجوده يمثل نظرية العود الأبدي ، القائل بها نيتشه . وهى من النظريات التي يستعين بها كتاب الرواية الانسيابية ، الذين يحبون الاستعانة بنظريات العلوم والتربية والفلسفة من أجل إثراء أعمالهم الأدبية . وما يلفت الانتباه في شخصية ضو البيت وسلالته هو إحاطته بثلاث شفرات تستدعى التوقف والنظر ، وهى :
أ ـ شفرة الحضور : ويمثلها ضو البيت ، الذي نبت من العدم .
ب ـ شفرة الغياب : ويمثلها الانقطاع الحدثى حول شخصية بندر شاه .
ج ـ شفرة العجائبى : وتستدعيها الأحداث المتعلقة ببندر شاه ومريود ، وهى أحداث تتماس مع زمكانيات أسطورية ، وتناصات دينية ـ وبخاصة قصة يوسف u ـ وسلوكيات مضطربة من قبيل الأفعال السادية التي يوقعها بندر شاه على عبيده وجواريه ” نزع الجند الثياب عن الرجال الأحد عشر ، وأخذوا يجرونهم واحدا وراء واحد إلى مريود ، فيجلد كلا منهم ، والجالس على العرش يسمع ويرى … سالت الدماء أنهارا من ظهور أولئك الرجال الأحد عشر … جلدوهم حتى أغمى عليهم فسقطوا غرقى في دماءهم … ثم صفق فجاء الخدم بأباريق الشراب فصبوا منها لبندر شاه وصبوا لمريود … وصفق بندر شاه مرة ثالثة فدخلت القاعة فتيات عاريات بارزات الصدور تترجرج أفخاذهن وأعجازهن… ” ([31]) . إن دوال ( العدد ـ الأثاث ـ الجسد ) بالإضافة للتوزيع الحركي للشخصيات سارت مشحونة بطاقات تأويلية تستدعى إسقاطات على الكثير من مناطق الدين والخرافة واللاوعي . وهى مناطق جعلها الطيب صالح تنساب على طول الخط الروائي في روايتي ( بندر شاه ـ مريود ) لتخلق خطا باطنيا عميقا يتوازى مع الخط الظاهري السطحي.
وتعد البنية الدائرية واحدة من أكثر الآليات التي اعتمد عليها الطيب صالح في رواياته، وهي آلية تؤكد انسيابية البنية الروائية لديه. وتعتمد هذه الآلية على وجود “شخصيات تظهر ثم تختفي ثم تعود إلى الظهور من جديد فيما يشبه الحركة الدائرية”([32]). وللدائرية وظيفة فنية مقصودة ، إذ باستخدامها يحدث “جذب خفي وتكوين صلات حميدة بين الكاتب والقراء الذين يتعاملون مع شخصيات سبق لهم معرفتها من قبل في عمل سابق”([33]).
فمن الشخصيات التي ظهرت ولم يعد لها وجود أو ذكر على مدار التجربة الروائية شخصية ( الزين – مصطفى سعيد) . وهي شخصيات لعبت دور البطولة المطلقة في روايات (عرس الزين – موسم الهجرة) ويرى الباحث أن عدم عودة هذه الشخصيات للظهور مرة أخرى يرجع إلى سببين : أولهما أنها بلعبها لدور البطولة ، أصبح من العسير عليها أن تعود بشكل هامشي في باقي الروايات . والثاني أنها قد استنفذت في هاتين الروايتين كافة طاقاتها الفنية ، وأصبح أمر العودة إليها مرة أخرى حشوا لا فائدة منه.
وتعد شخصية الحنين من الشخصيات التي ظهرت لمرة واحدة في رواية (عرس الزين ) ولم تعاود الظهور مرة أخرى . ويرى الباحث أن عدم معاودتها للظهور يعود إلى طبيعة الدور الذي لعبته هذه الشخصية ؛ فهي شخصية صوفية تشبه الومضة النورانية التي تكتفي بإحداثياتها الكشفية للجوانب الميتافيزيقية .
أما محجوب ورفاقه فهم الشخصيات التي تشكل همزة الوصل ، وجسور العبور للشكل الانسيابي في روائية الطيب صالح . يلعبون بأدوارهم الثانوية دوراً مهماً في تشكيل العالم الروائي للطيب صالح ، فهم يظهرون ويختفون ثم يعاودون الظهور مرة أخرى ليؤكدوا على عمق التواصل الانسيابي بينهم وبين القراء ، الذين ألفوهم وألفوا معهم ود حامد عبر أزمان حياتهم . في (عرس الزين ) يوضح الراوي مدى قوتهم وثقلهم في الروابة “فريق محجوب وعبد الحفيظ والطاهر الرواسي وعبد الصمد وحمد ود الريس وأحمد إسماعيل وسعيد. كانوا متقاربي الأعمار ، بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين ، إلا أحمد إسماعيل فقد كان في العشرين لكنه بحكم مسئوليته وطريقة تفكيره كأنه واحداً منهم . هؤلاء كانوا الرجال أصحاب النفوذ الفعلى في البلد، كان لكل واحد منهم حقل يزرعه ، في الغالب أكبر من حقول بقية الناس ، وتجارة يخوض فيها ، كان لكل واحد منهم زوجة وأولاد . كانوا الرجال الذين تلقاهم في كل أمر جليل يحل بالبلد . كل عرس هم القائمون عليه ، كل مأتم هم الذين يرتبونه وينظمونه يغسلون الميت فيما بينهم. ويتناوبون حمله إلى قبره . هم الذين يحفرون التربة ، ويجلبون الماء ، وينزلون الميت في قبره ، ويهيلون عليه التراب ، ثم تجدهم بعد ذلك في (الفراش) يستقبلون المعزيين ، ويديرون عليهم فناجين القهوة المرة . إذا فاض النيل أو ….”([34]) . ودائماً ما يجتمع محجوب ورفاقه بجوار دكان سعيد ، بعضهم يجلس على الكنبة ، وبعضهم يفترش الأرض ، وهم في كل الأحوال حلقة منغلقة على نفسها ، لا يفهمهم إلا من دخل حوزتهم ، ولذلك اختلفت آراء أهالي ود حامد حولهم ؛ فبين من يصفهم بالضاحكين ، وبين من يصفهم بالصامتين ، يظل الرفاق محافظين على مسافة فاصلة بينهم وبين باقي الأهالي . ورغم التوافق شبه الكامل لهذه الصحبة التي يعلى من شأنها الطاهر الرواسي بقوله: “الإنسان يا محيميد…. الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين إثنين …. الصداقة والمحبة ، ما تقولي لا حسب ولا نسب . لا جاه ولا مال”([35]) . يظل لكل واحدٍ منهم طابعه الخاص ، وصفته المميزة . وقد اكتفى راوي (عرس الزين) بإجمال هذه الصفات في مشهد يضم هذه العصابة وهم مجتمعون حول دكان سعيد “أحمد إسماعيل بحكم سنة كان أميلهم إلى المرح ولم يكن يبالي إذا انتشى بالخمر في المناسبات وكان أحسنهم رقصاً في الأعراس. وعبد الحفيظ كان أكثرهم مجاملة للناس …. وكان سعيد أحسنهم في محاجاة الحكام …. وكان حمد ود الريس ذا أذن حساسة لأخبار الفضائح …. وكان محجوب أعمقهم وأنضجهم، كان مثل الصخرة المدفونة تحت الرمل تصطدم بها إذا عمقت في حفرك”([36]).
أما سعيد القانوني ، صاحب الدكان ، فهو بؤرة الدائرة . ظل علامة بارزة في ود حامد . يفرغ أشياء من صناديق ويضعها على الرفوف ، وهو يبيع ويشتري في دكانته التي لا تزيد أو تنقص ، لأن روحه تخلو من الطموح. وهو على عهده منذ أربعين سنه يأكل ويلبس ويتبرم ويغضب ويضحك، ولم يزد عليه شيئاً يذكر سوى وجود حفيد له ظهر في (بندر شاه) ليساعده في حركة البيع والشراء مع مجموعة أحفاد يتولون خدمة جدهم بفرش الأبسطة قبالة الدكان.
وقد لحق التغيير بسعيد مثلما لحق كل شيء في ود حامد، ولا أدل على ذلك من تغيير لقبه من سعيد (القانوني) لسعيد (المشوشر) ، وذلك بعد ما أقصى أولاد بكري عصابة محجوب عن مقاليد الحكم في ود حامد “القوانين الله يطرى زمانها بالخير. دلوقت أولاد بكرى يقولوا علىّ سعيد المشوشر. ال يبحث عن حقه الزمن ده يقولوا عليه مشوشر”([37]) .
ومن الشخصيات التي تختفي وتعود للظهر مرة أخرى شخصية عبد الحفيظ الذي ظهر في (بندر شاه) شيخاً يجاوز السبعين ، يداوم على حضور صلاة الجماعة بينما كان في (عرس الزين) شاباً في مقتبل العمر ، يلتف حول بقعة الضوء في دكان سعيد وهو يضحك كالطفل “عبد الحفيظ من يوم ما عرف طريق الجامع استقال من كل شيء ونفض يده”([38]). وتعد وفاة ابنته في ( بندر شاه ) الضربة الموجعة التي قسمت ظهره ، وجعلت مسار حياته يتغير بالكلية .
وتعد شخصية إبراهيم ود طه من أهم الشخصيات التي يحرص الراوي على تغييبها لفترة طويلة ، ثم ما يلبث أن يعيده فجأة ليحيى السرد الحكائي بعبارة فارقة أو بموقف ارتكازي . هو في (عرس الزين) زعيم شواذ المعسكر المؤيد للإمام ، ورغم كبر سنه إلا إنه “لا يصلى ولا يصوم ولا يزكي ولا يعترف بوجود الإمام”([39]). وهو القائل في (بندر شاه ) “يا ود الرواسي أتجنب ناس الدقون والسبح ما يجيك من وراهم إلا الشر”([40]) . وهو الراوي الثقة في (مريود) لحكاية بلال المؤذن.
أما أحمد إسماعيل الذي كان أصغر العصابة سنا في ( عرس الزين ) ، صار في (بندر شاه ) أبا لبنات غلبت كثرتهن على اسمه حتى أصبح يلقب بوجودهن . وهو لقب معيب ، وكاشف عن مدى تبنى المجتمع السوداني للنظرة الذكورية ، التي تعلى من شأن جنس الرجال في مقابل الانحطاط الدوني لجنس النساء.
والطريفي من أهم الشخصيات التي اعتمد الطيب صالح عليها فى بناء دائرية الانسياب السردي ، لأننا إذا علمنا أن هذا الطفل الصغير لم يوسم في (عرس الزين) سوى بالمكر، وهو وسم عرضي لمحه الناظر في عينيه وهو يحكى خبر عرس الزين “وكانت حصة الناظر
“يا ولد يا حمار .أية أخرك؟.
ولمع المكر في عيني الطريفي :
يا فندي سمعت الخبر
خبر بتاع أيه يا ولد يا يبهيم؟”([41])
وقد عاد الراوي مرة أخرى ، وبعد ستين صفحة ، ليؤكد في نفس المشهد المقطوع من قبل على هذه الصفة ” جلس الطريفي خلسة في مقعدة، بعد أن حدث الناظر بخبر عرس الزين، جلس خلسة على طرف مؤخرته كأنه يتهيأ للهروب في أية لحظة ، فقد كان في سمته وطبعه شيء من سمت الضبع وطبعه. ونظر حوله بعينيه الماكرتين . وهمس في أذن جاره من اليمين : نجنا الليلة من الجغرافيا، أشارطك الناظر ما يتم الحصة”([42]). إن استخدام الراوي لتقنية التواتر التكراري . ومعناه كما يذكر جيرار جنت أن “يروي مرات لا متناهية ما وقع مرة واحدة (ح ن /ق)”([43]) . تدل على لازمة أسلوبية تتعدى مجرد الإخبار عن الفائدة إلى لازم الفائدة . ولازم الفائدة المتحقق في تكرار الملفوظ السردي للحدث الحكائي يحيل على أصالة لا محدودة ، وفنية لا نهائية للطيب صالح ، الذي كانت الانسيابية حاضرة في ذهنه لحظة كتابة الرواية الأولى (عرس الزين) لأنه من خلال هذه اللفتات القليلةـ مع التأكيد على تأثيرها ـ لشخصية غير مؤثرة في الراوية ، استطاع الطيب صالح أن يجذر معالمها الفنية التي تتسق وطبيعتها الحياتية في رواية (بندر شاه) .
إن المكر اللامع فى عين الطريفي ، وهيئة جلوسه المتأهبة والمتهيئة للهرب، إذ في سمته مكر الضباع ، صفات أهلته لتكوين أول جبهة معارضة وحركة تمرد في تاريخ ود حامد ” يتزعم هو الخطأ وينال العقاب غيره كأنما الأقدار كانت تعده لهذا الدور”([44]) . وقد جعل الراوي من حادث الانقلاب والتمرد الذى قام به الطريفي على خاله محجوب ، حادثاً سطحياً يخفي في عمقه رغبة الطريفي في الانتقام والثأر لكرامته التي أهانها محجوب “أيام عرس الزين ، أوكله محجوب بتوفير العلف لحمير الضيفان، وكان هو أميل إلى توفير الخمر للشاربين ، ولما انتبه محجوب ، وجد الحمير بلا علف وبحثوا عن الطريفي فوجدوه يسكر مع السكارى. محجوب أنتهره وصفعه لم يسكت الطريفي ولكنه صرخ في وجه محجوب وقال له (أنت تفتكر نفسك مين؟) وترك العرس ولم يشارك فيه….. وكان محجوب يقول لأبيه في المجالس الطريفي ولدك ربنا يكفينا شره”([45]). إذا فما ولد في (عرس الزين) من مكر وخداع وصراع ، فقد أثمر في (بندر شاه) ثأرا وانتقاما وتغييرا.
كان الطريفي ود بكرى كما يؤكد الراوي في “الثانية عشرة في عام عرس الزين”([46]) . وفي (بندر شاه ) صار في “السادسة والثلاثين أو السابعة والثلاثين”([47]). في (عرس الزين) لم يكن الطريفي إلا طفلاً صغيراً لا دور له ، وها قد مرت الأيام ودارت دورتها وأصبح الطريفي داعية التغيير في ود حامد”الدنيا لازم تمشي لي قدام مش لي ورا”([48]) . ولذلك حمل الطريفي لواء التغيير ، وعقد أول اجتماع عام للجمعية التعاونية ، بعد ثلاثين عاما على تأسيسها لإقصاء محجوب وعصابته. وما يلفت الانتباه في دور الطريفي في الروايتين أمران مهمان :
1ـ رغبة الطيب صالح في التأكيد على دور العلم في إحداث التغيير المنشود ؛ فالمدارس “طلعت أولاد بقوا يتفاصحوا”([49]) . وهم الآن الذين يدعون لإحداث نقلة نوعية في طبيعة الممارسات السياسية في ود حامد/ السودان. ولذلك فهم الذين استبدلوا مبدأ القبول بمبدأ العلم “مبدأي انتشال البلد دي من وهدة التخلف والتأخر لازم نماشي ركب الحضارة. العصر عصر علم وتكنولوجيا”([50]). إن الفرق بين مبدأ القبول الذي تبناه محجوب وعصابته ، ومبدأ العلم /التغيير الذي تبناه الطريفي ورفقته ، هو الفرق بين التفكير البدائي القائم على العاطفة ، والتفكير العلمي القائم على السببية. وهو نفسه الفرق بين ما كان قائما ثابتا ، وبين ما هو كائن وسيكون .
2ـ تأكيد الطيب صالح على ضرورة التبادل السلمي للسلطة “كل شيء موجود وسيظل موجوداً . لن تنشب حرب ولن تسفك دماء. سوف تلد النساء بلا ألم . والموتى سوف يدفنون بلا بكاء، وسوف يحدث التغيير كما تتغير الفصول، في مناخ معتدل، فصل وراء فصل، كل في فلك يسبحون، والليل لا يسبق النهار”([51]). إن التناص الحادث مع آي القرآن الكريم ﴿لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلاً في فلك يسبحون﴾(*) يؤكد على ضرورة التغيير ، باعتباره آلية حتمية من آليات الخلق. ومهما يكن من أمر فإن “محجوب أدى دوره وانتهى”([52]) . وقد حان الوقت لأن يقول الناس “محجوب وجماعته بره. الطريفي وعشا البايتات جُوه”([53]). إن التقاطب الحادث بين الدخول والخروج والصعود والهبوط يشي بالإفصاح عن صرخة المؤلف الضمني بضرورة التمسك بالديمقراطية، إذ إن الأمر ببساطة كما يقول سعيد البوم “الحكاية رضي واختيار”([54]). وطالما أن المعارضة قد استقطبت جموع الناس وأصبح لها شوكه تمكنها من عمل المظاهرات ، مطالبة بالتغيير، فليس على صاحب السلطان إلا الإذعان لهذه المطالب “محجوب، بعدما يربو على ربع قرن من السلطان المطلق، وجد نفسه وجهاً لوجه أمام شعب ود حامد يقاضونه الحساب….. هل تصدق يا محيميد أن أولاد محجوب صوتوا ضده؟ وأن البنات عملن مظاهرة في ود حامد وهتفن بسقوط محجوب وشلة الحرامية “([55]) .
وتعد شخصية سعيد البوم من الشخصيات الرئيسة في دائرية العمل الروائي عند الطيب صالح. فهذه الشخصية ذات الأثر الضعيف في (عرس الزين ) نمّاها الطيب صالح في (بندر شاه) وطوّرها لتتبوأ مكانه غير التي كانت عليها. ولم يكن اختيار الطيب صالح لهذه الشخصية اختياراً اعتباطيا ، بقدر ما كان اختياراً عمدياً وفنيا.
لم يكن سعيد في (عرس الزين) شخصية بالمعنى المفهوم للشخصية ، لأنه لم يزد على كونه كتلة من الكتل المتحركة في العالم الروائي. واحداً من الكومبارسات المنوط بها ملء ثغرات في الفراغ الحكائي لعالم (عرس الزين) . لم يكن سعيد واحدا من فقراء ود حامد وكفى، بل كان واحدا من الذين يعيشون في الدرك الاجتماعي الأسفل لفقراء ود حامد. كان أجيراً في البيوت الغنية ، وبخاصة في بيت الناظر الذي كان يستغله ” في جلب الحطب والماء لبيته، وكان سعيد يبيع حطب الوقود ويخدم في البيوت ويدخر ماله عند الناظر”([56]). كما أنه كان أضحوكة يتندر بها محجوب ورفاقه في أوقات فراغهم بسبب زوجه ، التي كان لا يمسها ، وعاش معها قريباً من الحلول ـ على حد تعبير الراوي ـ إذ كان يراها جيفة ، لأنها “لا تتعطر ولا تتزين كبقية النساء…. ولما قارعته الكلام صفعها على وجهها وقال أمشي أخدي دروس من بنات الناظر” ([57]). وفي (بندر شاه) تعدى سعيد دور الكتلة ، ليصبح شخصيه متكاملة، شخصية تدل دلالة واضحة على حالة التغيير والتطور الذي أصاب ود حامد ، كما أصابه . وقد أصابه التغير من عدة جهات.
فمن ناحية الاسم لم يعد كما كان ، سعيد البوم ، لأنه اشترى بجنيهاته العشر اسما جديداً أطلقته عليه المغنية المشهورة فطومة “عشرة جنيه عاقله وحياة خوتك يا محيميد. قلت لها أمسمعي ياوليه، المثل يقول أدي الغناي وعده، وأدي المداح وعشه. بدور منك اسم، ينسى أهل ود حامد إلى أبد الآبدين كنية سعيدة البوم. جننونا الله يرضى عليك…. البوم…. البوم .. يقطع طاريهم. قلت لي: وقت الدارة تعمر والرقيص يهيج تشوف كيف غُنا فطومة”([58]). لقد أراد سعيد أن يمحو عنه الصورة القديمة القابعة في ذاكرة الناس ، ولا شيء يؤكد هذا التغيير سوى الاسم ؛ فالبوم الذي هو لقب لا كنية ـ كما يذكر سعيد بجهل ـ يتعمد الراوي التأكيد عليه ليوضح أنه تغيير شكلي لا جوهري ـ يدل على الشؤم والنحس في المجتمع القروي ـ ومن أجل ذلك اشترى سعيد بالجنيهات العشرة ، وهو مبلغ مالي كبير في ذلك الوقت ، ومن فم مغنية مشهورة ، لا تأتي إلا في الأعراس الكبيرة ، الاسم الجديد (عشا البايتات).
ومن ناحية المهنة استبدل سعيد مهنته القديمة ( أجير في الحقول ـ يبيع الحطب) بمهنتين جديدتين ، تمكنانه مع تغيير الاسم من محو الصورة القديمة عنه.
المهنة الأولى: حيث عمل مؤذناً للمسجد ، رغم جهله بمخارج الحروف ، وعلوم الصوتيات ” كان سعيد عشا البياتات قد وصل في آذانه إلى (حي على الفلاح فمضى يعاظلها متعسراً كسيارة شحن غطست في الرمل ، يخترع حروف مد ليست موجودة ، ويغض الطرف عن الموجود منها”([59]). بل ورغم سوء صوته الذي هو من أهم صفات المؤذنين “انتبهت فجأة لصوت المؤذن (حي على الصلاة حي على الفلاح). كان صوتاً أخرق ضعيفاً فاقد الرنين سألت عنه ، فقال عبد الحفيظ سعيد”([60]). ويرى الباحث أن اختيار الراوي لمهنة المؤذن كان اختيار له دلالات كبيرة ؛ فهي أولاً مهنة لها احترامها ووقارها وبخاصة في مجتمع قروي وبسيط كمجتمع ود حامد ، فإذا ما تولاها واحد مثل سعيد فإن صفات المهنة ستنتقل بالضرورة لممتهنها ، وهذا ما يرغب فيه سعيد . كما أنها مهنة دينية، وأصحاب المهن الدينية قليلوا العدد ، ولذلك فهي مهنة تعطي صاحبها شهرة وذيوع صيت بين الأهالي، وهذا ما رغب فيه سعيد، إذ بانتشار صيته ، عبر صوته ، يمحو ما لحق به ، ويظهر ما يريد إظهاره. وإذا علمنا أن سعيدا قد تحول حاله ، وأصبح من الأغنياء أصحاب الثروات ، أمكن لنا أن نقول: أن وظيفة المؤذن ـ وهي وظيفة كما ذكر سعيد نفسه ،أنه لا يتقاضى عنها أجرـ تعد تماهياً بين ما هو ديني وما هو دنيوي”الآذان شن فيه…. أنا عامله علىّ الحرام حسنة لوجه الله تعالى، واصله حمد قال فتر من طلوع الميدنة كل يوم”([61]) .
المهنة الثانية: أمين صندوق الجمعية التعاونية، وهي مهنة شرفية ، تولاها سعيد في هوجة الانقلاب المطيح بمحجوب وعصابته ، ليؤكد الطيب صالح من خلالها على عمق التغيير الحادث في ود حامد ؛ فها هي الأيام تدور ويصبح سعيد واحداً من رؤوس الحربة الموجهة لمحجوب. ولم يكن لسعيد في هذه الوظيفة طموح مالي بقدر ما كان يريد من خلالها تغيير الصورة التي لصقت عنه في عقول الناس “الشغل في اللجنة غير الجهجهة والتلاتل ما وراه فايده جملة الأيمان، يوم الليلة، أنا لا سائل في لجنة ولا مشروع ولا حتى سائل في حكمدار المديرية”([62]).
ويعد دخول سعيد في هذه اللجنة نكاية لظلم قديم أوقعه محجوب عليه “محجوب راجل حبابه عشره. راجل ما يتفضل عليكم خدم البلد وسرق ونهب. باع لي البرسيم الحوض بين خمسين قرش قلت له أشاركك في البقرة قال شراكة مش عاوز…. قال [سعيد] وهو يكاد يختنق من الضحكك: أديت كل إنسان حقه . عدل ولا مو عدل”([63]).
ومن ناحية المركز الاجتماعي تحول سعيد لواحد ممن يشار إليهم بالبنان ، وها هو الآن يجلس متحاوراً ومشاركاً مع محجوب ومحيميد والطريفي وعبد الحفيظ والطاهر الرواسي وسعيد القانونى والناظر ، وهم الذين كانوا يصفونه “بالوسخان العفنان”([64]) . بل وها هو يناطح الناظر بنسبه وحسبه، معتزا بذاته ومتفاخرا بقومه ، وهو يتزوج ابنته “قلت له هيح افتح اضانك زين .أنا سعيد ود زايد ود حسب الرسول. عربي حر. علىّ اليمين أهلي في سود ري يحجبو ضو الشمس. مالي أنا ؟ مسلم موحد بالله”([65]) . في هذا المقطع التعريفي يبدأ سعيد قوله بأنا. أنا النفس والذات ، أنا القوة والجبروت ، التي ترى في نفسها طبقا لمعيار التسلسل العائلي ، ذاتا عربية من قبيلة بدوية ، تنظر لغيرها نظرة دونية “فهم يعتبرون أنفسهم عربا خلصاً”([66]). بالإضافة لكونه من ناحية الدين مسلم ، يرتكز على ثقافة تدعو لمعاملة بالتساوي ، فلا فرق فيها بين عربي قح ، وبدوي جلف ، وأعجمي خسيس ؛ فالناس أمام الله كأسنان المشط ، لا يفرق بينهم إلا التقوى. وإيماناً بآليات التغيير الاجتماعي الجديد صنع سعيد عرساً “خلى ناس هالبلدة تنسى عرس الزين . اسأل أياً من كان يقول لك العرس عرس سعيد وإلا بلاش”([67]) .
ومن ناحية المركز المالي أصبح سعيد من أثرى أثرياء ود حامد”ناظر شنو؟ أنا فاضي في الناظر ولا حتى في العمدة. أنا عندي القروش. علىّ الحرام في اليوم العلينا دا أن ردت بت العمدة أخدها”([68]) . وقد ذكر الراوي سببين لهذه الثروة : أحدهما واقعي وهو الأقرب للحقيقة ، وكان بفضل كده وجده وتعبه لعشرات السنين التي قضاها بين الحقول أجيراً ، وفي البيوت خادماً ، وفي الأسواق بائعاً. ويدل على ذلك تلك اللفتة اللطيفة التي أوردها الراوي أثناء حواره مع محيميد وهو يحكي له قصة زواجه من بنت الناظر. فقد وقف سعيد ضاحكاً منتصبا ، قاطعاً خط السرد بقوله: ” لازم امشي أحصل السوق حكاية القروش أحكيها وقت تاني”([69]) . إن الشخصية التي تعطي الوقت حقه ، وتحترم أسباب رزقها (السوق) لابد وأن تنجح كل هذا النجاح. ولننظر إلى تاريخه المالي الذي بدأ بجمع قروش قليلة ، ظل يراكمها في حجر الناظر حتى بلغت ألفاً “ولا بعدين ولا قبلين . يمكن فوق سبعة سنة وأنا أشتغل زي الحمار. كل ما أجمع خمسة قروش أو عشرة أو عشرين جنيه، أمشي لي صحبي أبو البنات يقيده لي في دفتر ، وأمشي أديها الناظر”([70]) . وتدل أيضاً اللفتة الدقيقة في المقطع السابق أن سعيداً كان دقيقاً في حساباته المالية ، لدرجة أنه كان يوثق حساباته بالكتابة والشهادة معا ، وذلك حتى يتمكن من المطالبة بحقوقه المالية من الناظر بعد ذلك.
أما السبب الثاني لثروة سعيد فقد كان سبباً أسطورياً ، نسجه سعيد بخيوط من برودة الشتاء , وحلم الفقراء ، ونبوءة العارفين “الشتاء الفات في أمشير. الدنيا برد وهبوب بين العشا والفجر. ما تقولو حلم، أبداً . شوف عيال زي ما أنا شايفكم هالساعه…. شيخنا الحنين اللهم ارضي عنه …. امش القلعه . تلقي قصر. قلت له قصر منو؟ قال لي قصر بندر شاه. قلت له قصر بندر شاه يبقى منو؟ قال لي واحد من سلاطين الدنيا الزائلة…. ادخل استلم الأمانة وأمرق…. الأمانة مال. مالك حلالك. بندر شاه ظن نفسه يرث الأرض ومن عليها. الأرض أرضك وأرض الضعفاء بعدك…. دا وارث وطالب حق…. سلمه الأمانة وخليه ينصرف بلا شر. الولد سلمني صرة أخذتها ومرقت زي ما دخلت لا سلام ولا كلام ولا بم ولا بفم …. فتحت الصرة لقيت أشكال وألوان ، كأنها كنوز الملك سليمان”([71]) . تنسج الأسطورة ملامحها من التماهي مع نبوءة الولي الصالح /الحنين الذي كان في عام الزين بشارة خير لكل من دعا له بالخير “ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد حتى محجوب، وهم يرون المعجزة تلو المعجزة ، أن مرد ذلك كله أن الحنين قال لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة: (ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم)”([72]) . وها هو يزور سعيدا ويخبره بحقه وحق الفقراء الضعفاء من أمثاله في تركة بندر شاه. وما لبث سعيد أن أطاع الولي ، وذهب منفذاً أوامره ، في القصر الخيالي ، ليتسلم الأمانة التي حولته بين عشية وضحاها لسعيد السعيد.
كل هذه المتغيرات أثمرت عن تحول سعيد لقطب الرحى ـ على حد تعبير الراوي ـ في الليلة المضيئة للانقلاب السلمي على عصابة محجوب ، بل ولتحوله إلى مركز الثقل الجديد في ود حامد “أيه رأيكم نقوم كلنا نحضر صلاة الفجر وأصله اليوم يوم جمعة بعد الصلاة كلكم معزومين فطور عندي في ديوان جناب الناظر. عندي حمل عديل ندبحه ونتبسط عليه”([73]) . بل ولقد وصل التحول لذروته بإعلان العهد الجديد في ود حامد عهدا لسعيد عشا البياتات “دلوقتيي يا سيدي نحن في عهد سعيد عشا البياتات”([74]) . ليتوازى هذا العهد على قدم وساق مع العهد البائد لمحجوب ورفاقه، أو العهد الصالح للحنين / الولي أو العهد الفرح للزين وعروسه ،أو العهد الأسطوري لبندر شاه ، أو العهد الفجائي لضو البيت. واختر أنت أيها القارئ الكريم لعالم الطيب صالح ، أي العهود يتوازى أو يتضاد معها العهد الجديد لسعيد عشا البياتات، وأيا كانت قراءتك فإنها ستكون صحيحة لأن الكثافة الفنية للعوالم الروائية للطيب صالح تستدعي كل هذه العوالم وزيادة.
ثانيا: واقعية الطيب صالح تلتقي في مسارات الواقعية الانسيابية
تتشابك واقعية الطيب صالح مع واقعية الروائية الانسيابية بشكل كبير؛ فواقعية الرواية الانسيابية التي تبنّاها الطيب صالح تعد “سجلا صادقاً وأصيلاً لتاريخ المجتمع بكل أبعاده من أفكار محلية وعادات ومعتقدات وتقاليد ونظم سياسية واقتصادية، وما يعرفه عن غيره من المجتمعات والشعوب الأخرى في تلك الفترة التاريخية المحددة في الرواية، ومظاهر لن تعود إلى الوجود بعد فوات وقتها ولا يحفل بها عادة المؤرخون سواء المهتمون بالأحداث أو الحضارات، وأحداث أو أشياء صغيرة جداً يلتقطها الكاتب الواعي ويعطيها مكانتها في سجله الكبير لتصوير مجتمع ما من المجتمعات”([75]) . وما فعله الطيب صالح من توثيق تاريخي ـ غير رسمي ـ يقوم على عنصر الاختيار الواعي ، يعد تصويرا أمينا ، وصورة واضحة المعالم للمجتمع السوداني ، الذي عجزت وسائل الإعلام العربي ، وكتب التاريخ الأكاديمي عن تصويره أو توصيله لغير السودانيين في العالم العربي. لذلك تدخل الأعمال الروائية للطيب صالح بوصفها سرديات تعتمد المحلية ، في تجاوز عقبة التواصل والتوصيل ، في تأريخ ما ليس تاريخا ، وكشفا لما هو مسكوت عنه في الواقع السياسي والاجتماعي .
لقد اعتمد الطيب صالح المحلية بكل أطيافها وتشكلاتها ، لإيمانه بأنها ليست فقط حقا عليه كتابتها أو لأنها ملهما جديدا للكتابة السردية التي استنفذت طرائق حكيها البكر، ولكن لأن السرد “يعجز عن بلوغ العمق والشمولية بدون انتماء غنى في الموروث والمحلية : فالدراية الواسعة بالأصول وتفاصيل الحياة هي وحدها التي تتيح للموهبة الانتشار في الأنماط الأصلية والمعاني الإنسانية ؛ كمالا أنها وحدها التي تمنح الكتابة نكهتها المميزة”([76]) . وقد اتخذ الطيب صالح من الإطارين الاجتماعي والسياسي متكئا يعتمد عليه في رصد الواقع من خلال بعد درامي يشعرك وأنت تقرأ أن ما يرصده الراوي قد دس عرضا ، رغم أنه مقصود حتما .
1 ـ الإطار الاجتماعي
اتخذ الطيب صالح من قرية ود حامد نموذجاً يرصد من خلاله واقع الأسرة السودانية من كافة الاتجاهات. فمن ناحية الطعام حفلت المشاهد الروائية للطيب صالح بذكر العديد من الطقوس الاجتماعية المرتبطة بالمطعومات .
ولعل أبرز هذه الطقوس هو اجتماع أهل البلد في الأعراس للأكل في حلقات “وفي الأعراس حين تأتي سفر الطعام ويتحلق الناس حلقات.”([77]) . وغالبا ما تفصل هذه الحلقات الرجال عن النساء ؛ فالرجال يتحلقون في ديوان البيت . والنساء يتولين إعداده في أماكن خاصة (التكل) داخل البيوت “كان الزين قد أوكل بنقل الطعام في عرس سعيد فكان يمشي جيئة وذهابا بين الديوان حيث اجتمع الرجال والتكل في داخل البيت حيث تقوم النسوة بالطهي”([78]) .
وفي الأعراس وبخاصة الكبيرة تذبح البهائم إكراما للضيوف الطامعين في الأكل حتى الشبع “نحرت الإبل وذبحت الثيران ووكئت قطعان من الضأن على جيوبها كل أحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى ارتوى”([79]) . ويصف الراوي بتفصيل دقيق أنواع الطعام المقدم وكيفية تقديمه وغير ذلك من التفاصيل المتعلقة به “يأكلون الدجاج المحمر، والملوخية بالمرق، والبامية المصنوعة في الطاجن . في كل ليلة يذبح أحدهم إما شاة صغيرة، وإما حملا. ويغدو عليهم أطفالهم بمزيد من الأكل، ينزل الصحن مليئاً وما يلبث أن يرتد فارغاً . هذا الوقت من الليل هو قمة يومهم ؛ لمثل هذا تعمل زوجاتهم من طلوع الشمس إلى غروبها بأتيهم المرق في صحون عميقة واللحم المحمر في صحون بيضاوية واسعة. يأكلون الأرز وخبزا سميكا من القمح، وفطائر رقيقة تصنع على صاجات ملساء من الحديد. يأكلون السمك واللحم والخضار، والبصل والفجل”([80]) . المقطع السابق يعد معجماً خاصا بأصناف المأكولات التي يمكن مقارنتها بالأكلات الأكثر قدماً ، والتي كانت أساسية في وقتها “الـ عنده تمر الـ عنده لبن والـ عنده لوبيا والـ عنده عصيدة”([81]) . وهي في معظمها تقدم مادة معلوماتية واسعة عن سلوكيات وآداب الطعام ، وطرق تقديمها في المجتمع السوداني.
ومن ناحية الشراب يرصد الطيب صالح واقع المشروبات القديمة (ديك الأيام ما كنا عرفنا الشاي والبن، نشرب الحلبة باللبن والتمر والسمن”([82]) . ثم حدث التطور في المجتمع، وفي المشروبات ، فدخل الشاي باعتباره المشروب الأول الذي يقدم مباشرة عقب تناول الطعام “وحين ترتد الأواني فارغة يؤتي بالشاي فيملئون أكوابهم”([83]) . والشاي مشروب أساسي يقدم في كل. الاجتماعات والمقابلات. يحمله سعيد لضيوفه في المتجر (وجاء سعيد يحمل الشاي”([84]) . يطلبه الزين مختلطا باللبن ” خلي المرة تعمل شاي مضبوط باللبن”([85]) . ليشربه في صخب وهو يمصه مصا “وشرب الزين في صخب كعادته يمص الشاي مصاً له زئير”([86]) . وهو آخر ما ينزل جوفه عقب عودته للدار فجراً “وحين يؤذن المؤذن لصلاة الفجر يقفل عائداً إلى أهله فيوقظ أمه لتصنع الشاي”([87]).
وللشاي أنواع وأوقات يقدم فيها “فالشاي السادة بالنعناع إذا كان الوقت ضحى والشاي الثقيل باللبن إذا كان الوقت عصراً. وبعد الشاي يؤتى بالقهوة بالقرفة والحبهان والجنزبيل سواء كان الوقت ضحى أو عصر”([88]).
ويدخل العرقي واحداً من المشروبات المحلية الصنع ، التي ذكرها الطيب صالح، وهو خمر مصنوع من البلح بطريقة بدائية ، تقدمه الجواري للشبان في الواحة “قسم الواحد يشرب قزازة العرقي يبقى زي سمه منو دا؟ شهبندر ولا بندر شاه”([89]).
وتعد الأعراس من أهم المظاهر الاجتماعية التي حرص الطيب صالح على رصدها وتصويرها. فالأعراس في ود حامد تأخذ شكل الاحتفال الكرنفالي الذي يطغى ويطفو على كل الاحتفالات ، ولها من المظاهر ما جعل الراوي يفرد لها أربع عشرة صفحة متصلة في رواية (عرس الزين) . وأول هذه المظاهر الأصوات الحنكية التي تطلقها النساء بواسطة تحريك اللسان بين جانبي الحنك بسرعة شديدة “أول من زغردت أم الزين “([90]) . ولا يقتصر أمر الزغاريد على نساء العرس فقط ، بل يمتد الأمر لتشارك فيه كل النساء المدعوات “وهكذا انطلقت عقيرة أم الزين بالزغاريد وغرد معها جيرانها وأحبائها وأهلها وعشيرتها وكل من يتمنى لها الخير” ([91]) . وبتضافر أصوات النساء بالزغاريد يعلو الصوت مرتفعا معلنا وجود العرس لأبعد مدى ممكن “فإذا أقيم حفل على بعد ميلين تسمع زغاريده”([92]) .
ومن مظاهر الفرح السوداني دفع النساء للأموال متفرقة ، على أمل تجميعها يوم أن تقيم في دارها عرساً مماثلاً “وزواج الزين مناسبة تسترد فيها هداياها لأهل البلد في زواج أبنائهم وبناتهم وكان الناس أحياناً يتعجبون وهم يرونها تسارع بدفع ربع الجنيه ونصف الجنيه في الإعراس”([93]) . وهذا الطقس مازال منتشرا في التقاليد الاجتماعية المصرية ، ويسمى بـ ( النقطة ) .
ومن المظاهر المهمة أيضاً في إتمام مراسم الزواج ، إتمام العقد في المسجد بحضور ولي العروس ، الذي يقبض مهر ابنته من ولى العريس ، بحضور جمع غفير من الناس ، فى صحن المسجد . ويتولى الإمام إبرام العقد الذي ينهيه بالمباركة وصالح الدعوات لكلا العروسين “أجرى الأمام مراسيم الزواج في المسجد، ناب حاج إبراهيم عن ابنته وناب محجوب عن الزين ولم تم العقد قام محجوب ودفع المهر عن صحن حتى يراه كل أحد…أمسك الإمام يده وشد عليها بقوة وقال بصوت متأثر مبروك ربنا يجعله بيت مال وعيال”([94]) .
وتتعدد مظاهر العرس لتشمل إطلاق الرصاصات من البنادق “وأطلق العمدة من بندقيته خمس طلقات”([95]). ومن المظاهر أيضاً توافد جميع الطوائف والقبائل “الأمة ما لقينا محل نحشرها . قبايل قبايل كل قبيلة تسوى الشيء الفلاني”([96]) . ويحيى العرس المغنيات والراقصات ، بمشاركة العازفين وضاربي الدفوف “جيء بأحسن المغنيات وأحسن الراقصات ضاربات الدف وعازفي الطنابير”([97]).
وغالباً ما يشارك الهواة من الرجال والنساء في حلقات الرقص والغناء “وقف الرجال في دائرة كبيرة تحيط بفتاة ترقص في الوسط ثوبها أنحدر عن رأسها، وصدرها بارز للأمام، ونهداها نافران. ترقص كما تمشي الاوزة . وذراعاها إلى جانبيها نحركها في تناسق مع رأسها وصدرها ورجليها. ويصفق الرجال ويضربون الأرض بأرجلهم، ويحمحمون بحلوقهم وتضيق الدائرة على الفتاة، فترمي شعرها الممشط المعطر على وجه أحدهم. ثم تتسع الدائرة. وتتماوج الزغاريد، ويشتد التصفيق”([98]) . وهكذا تختلط أصوات الزغاريد بأصوات التصفيق ذى الإيقاع الراقص على أنغام العازفين والمغنيين والراقصين من الجنسين.
يبدأ الاحتفال بتجمعات محددة ومحدودة ؛ فعرب القوز في حلقة ، وأصحاب العاهات في حلقة ، والمشايخ وكبار السن في حلقة ، والشباب والسكارى في حلقة ، والنساء في حلقة، والأعيان في حلقة ، غير التي تضم الموظفين والتجار والفلاحين والإجراء. ثم ما يلبث الاحتفال في التصاعد حتى تتشابك الحلقات وتتداخل فلا تستطيع أن تفصل أحدها عن الآخر “اجتمعت النقائض تلك الأيام.. جواري الواحة غنين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره وكان المشايخ يرتلون القرآن في بيت والجواري يرقصن ويغنين في بيت والمداحون يقرعون الطار في بيت. والشبان يسكرون في بيت . كان فرح كأنه مجموعة أفراح”([99]). وغالباً ما يشارك العريس في كل الحلقات سواء بالحضور فيها أو بالمساهمة في تنشيطها “وهنا استبد به الطرب فوقف وضرب برجله وقفز وهز بيده كأنه في حلقة رقص”([100]).
ومن المظاهر الاجتماعية التي حرص الطيب صالح على رصدها في رواياته (الختان) . وأهل ود حامد في السودان يحتفلون بالختان احتفالهم بالعرس. نفس المظاهر وإن كانت بشكل أقل “وفجأة تدفقت في مخيلته صورة كاملة واضحة ليوم ختانه. كان في السادسة تذكر الضجة ووجوه الرجال والنساء يدخلون ويخرجون في الدور والذبائح والزغاريد وتذكر وجده ممسكا به والسكين”([101]).
في حفل الختان يتماهى المختون بالعريس ، غير أنه لا عروسة يزف إليها وتزف إليه، فهو حفل من جانب واحد. ورغم كل مظاهر الاحتفال تبقى ذكرى السكين وقطع جزء حساس من جسد الرجل علامة فارقة بين الحفلين ، الذي ينتهي أحدهما بمنتهى اللذة وينتهي الآخر بمنتهى الألم “استيقظت البلد مبكرة على حس الزغاريد في بيت محمود وبيت ابن عمه وصهره جبر الدار، وكان الرجال قد صلوا الفجر جماعة ولبثوا ينتظرون عند الشروق ذبح العجل في فناء المسجد، وساق محمود “ضو البيت” من ذراعه وعداه، فوق العجل الذبيح، ومفتاح الخزنة يهتف “ابشروا بالخير، ابشروا بالخير” . كان ضو البيت يوم ذاك كملك وسط الرعية، لابساً قفطانا أخضر من الحرير، وطاقية حمراء، وعمة كبيرة بيضاء، متلفعاً بشال مزركش الأطراف، وحذاؤه الأحمر يلمع في الضوء، ينظر الناس إلى هيئته ويضحكون فرحين، فقد كان منهم من يلبس خرقه حول وسطه، والمتسخ الثياب، والممزق الثياب…. أجلسوه على قدح الحراز الكبير المنكفئ، محمود يمسك بيمينه، وعبد الخالق بيساره . شحذ رحمة الله ود الكاشف سكينه، وفي لحظة كان الدم قد سال، وقضى الأمر، ومفتاح الخزنة يهز ويبشر، والرجال يضحكون سروراً وعجباً كما لم يضحكوا من قبل. وسمعت النسوة جلبة الرجال وهن في أكواخ الطين والقش المتناثر حول المسجد، فنادين بالزغاريد”([102]). وما يلفت النظر في حفل العرس وحفل الختان هو معاملة المحتفى به من قبل الأهالي معاملة الملك المتوج ، ولا أدل على ذلك من التشابة الكامل بين ملابس الزين في عرسه وملابس ضو البيت في ختانه.
وتدخل طقوس الموت في الطقوس الاجتماعية التي دشنها الطيب صالح في عالمه الروائي . ومن ذلك طقس توزيع الصدقات بغية ايصال حسناتها للمتوفى “وذات يوم والناس مازالوا على فراش البكاء وقد فرغوا لتوهم من إقامة الصدقة دخل عليهم سيف الدين”([103]). ومن ذلك أيضاً طقس العزاء الذي يتم بين أقارب الميت وباقي الناس ، الذين يتوافدون على سرادق العزاء المقام لهذا الطقس “ثم تجدهم بعد ذلك في الفراش يستقبلون المعزين “([104]).
والموت في أدب الطيب صالح يأخذ تصورات وتشكلات مهمة ، فهو يشكل عالما “من أكثف عوالم رواياته . فكثير من شخوصه تظل معلقة بخيط من خيوطه يحركها في مجرى الأحداث ، تارة تقرب من الموت إلى حد يجعلها تلتحم به وتدور في فلكه ، وأخرى تبتعد عنه حتى تبدو مبتوتة الصلة بدنياواته . ولكن نهاية الرواية دائما تشف ـ بوجه أو بآخرـ عن معنى من معاني الموت أو إجابة لسؤال يتصل به أو محاولة لاستكناه سره ومغزاه . ويلفت النظر أن الموت في أدب الطيب صالح يقف منفردا وشامخا مقابل كل الحقائق الأخرى في الوجود . وهو يدور حول محورين هما
أ ـ موت الأنثى / الخطيئة ب ـ موت الرجل / العلوي “([105]) .
والزراعة بطقوسها من الملامح المهمة التي رصدها الطيب صالح في رواياته ؛ فالفلاحة هي المهنة الأكثر انتشارا بين كافة المهن . هي بطبيعة الحال الأكثر انتشارا في ظل المجتمع الزراعي الذي لا يعرف شيئا عن الصناعة ومنجزاتها ” زمان لما الباخرة تظهر الناس يتلموا تحت الدوامة ويتفرجوا عليها كأنها المعجزة ” ([106]) . وتبقى ملاحظة أن الراوي لا يعرّف الشخصية بمهنتها إلا إذا كانت تمتهن مهنة أخرى غير الفلاحة . فالفلاحة هي الأصل السائد ، هي مهنة العمدة والزين ومحجوب ورفاقه ، حتى ضو البيت الذي وفد غريبا عليهم انضم عاملا في الحقول التي تتسع ، ولذلك فالراوي لكي يفرق بين هذه الأغلبية الكاثرة وغيرها ممن شذ عن الأصل يلجأ إلى تعريف الشاذ بمهنته فإدريس الذي رغب في خطبة نعمة يعرفه الراوي بأنه يعمل مدرسا ، والناظر لا يعمل إلا في المدرسة وأهل المدينة يعملون في الحكومة موظفين ، وهؤلاء الشواذ لا تربطهم في الأصل روابط كتلك التي يرتبط بها الأصل نفسه ، لأن الفلاحين تجمعهم اهتمامات خاصة مثل السؤال عن مواعيد الزراعة ، وكيفيتها ، وطرق الاهتمام بها وأنواع المزروعات المرتبطة بالفصول السنوية والآفات وكيفية مقاومتها وكيفية تخزين المحاصيل ومقاومة الفيضان ، وما إلى ذلك من موضوعات تدخل في دائرة اهتماماتهم وتبتعد عن اهتماممات غيرهم من الشواذ ” “يقول لك المحجوب إذا سألته عن إمام المسجد أنه ( راجل صعب . لا يأخذ ولا يدي ). معنى ذلك انه لم يكن يسايرهم أو يخوض معهم في أحاديثهم ، لم يكن يعنيه ، كما يعنيهم ، أوان زراعة القمح وسبل ريه وسماده وقطعه أو حصاده . لم يكن يهمه هل موسم الذرة في حقل عبد الحفيظ نجح أم فسد وهل البطيخ في حقل ود الريس كبر أم صغر؟ كم سعر إردب الفول في السوق ؟ هل هبط سعر البصل لماذا تأخر لقاح النخل؟ كانت تلك أمور ينفر منها بطبعه ويحتقرها بسبب جهله بها “([107])
ويستخدم الفلاحون في زراعتهم الآلات الزراعية التقليدية ؛ فالفأس والساقية والمنجل والمحراث أدواتهم التي لا يعرفون سواها . ويزرع الفلاحون في ود حامد القمح والذرة والشعير والفول والنخل والبصل والبقوليات وغيرها من المحاصيل الزراعية التقليدية التي تتناسب وحالة الاستقرار المجتمعي التي ألفها من يعيشون على جانبي النيل ، ولذلك فوجئ الفلاحون بالثورة الزراعية التي أحدثها ضو البيت ، هذا الوافد الغريب الذي زرع محاصيل الشتاء في الصيف والعكس ، وأدخل في أراضيهم زراعة محاصيل لم يعرفوها ” كان يزرع محاصيل الشتاء في الصيف والشتا ….. علم الأرض تنبت التنباك وعلمنا زراعة البرتقال والموز”([108]) . والتمباك أهم ما لفت نظر ود حامد من هذه المزروعات ، لأنه الشيء الوحيد الذي كان في جعبة ضو البيت لحظة حضوره .
وقد انتشرت زراعة الدخان في ود حامد لدرجة أنها صارت مشروبا أساسيا لا يفارق أصابع الرجال ” ويشعل كل واحد منهم سيجارة ” ([109]) . يلتهمها الزين لحظة الغضب “وأمسك الزين السيجارة … وأخذ ينفخ فيها بغيظ ” ([110]) . ويعتاد محجوب على شرائها من دكان سعيد ” دخل محجوب دكان سعيد ووضع قطعة نقد على الطاولة فأخذها سعيد في صمت وانزل من الرف علبة سجاير بحارى ” ([111]) .
ويرى الباحث أن الترابطات العائلية المؤكدة لاستمرارية الشكل القبلي في مجتمع ود حامد واحدة من أهم المظاهر الاجتماعية التي ذكرها الطيب صالح في عالمة الروائي . وقد حرص الطيب صالح على قرنها بنظره متعالية متجذرة بحكم تكوينها لكل ما هو ذكورى “مهما يكون الراجل راجل والمرة مرة. وأضاف عبد الصمد: (والبت بت عمه على كل حال) صمت الناظر، فإنه لم يجد ما يجابه به على كلامهما من الناحية الشكلية على الأقل، فكون بنت العم لابن العم حجة ليس بعدها حجة في عرف أهل البلد. إنه تقليد قديم عندهم ، في قدم غريزة الحياة نفسها، عزيزة للبقاء وحفظ النوع”([112]) .
ورغم التشابكات العائلية القائمة على أسس قبلية في المجتمع السوداني ، إلا إن الطيب صالح تعمد إلقاء الضوء راصدا فئات وتجمعات لا تشكل القرابة فيها عنصرا ضاما وجامعا. ومن هذه الفئات أصحاب العاهات ، الذين انمحى تسلسلهم العائلي وانتسبوا لعاهاتهم باعتبارهما العنصر التعريفي الوحيد الباقي لهم في ود حامد “يعتبرهم أهل البلد من الشواذ، مثل موسى الأعرج ، ونجيب الذي ولد مشوهاً، ليس له شفة عليا، جنبه الأيسر مشلول”([113]).
ومن هذه الفئات أيضاً ذكر الطيب صالح فئة (الخدم) وهن الجواري اللائي ملكن حريتهن من أسر الرق ولكنهن رفضن الاستقرار والاندماج مع أهالي ود حامد، فخرجن إلى حافة البلد، في الصحراء ليعيش حياة التمرد “كن رقيقًا أعطى حريته ، بعضهن هاجرن من البلد وتزوجن بعيدا عن موطن رقهن . وبعضهن تزوجن الرقيق المعتقين في البلد وعشن حياة كريمة، بينهن وبين سادتهن السابقين ود وتواصل وبعضهن لم تستهويهن حياة الاستقرار، فبقين على حافة الحياة في البلد ، محطا لطالب الهوى واللذة. والحق أن مجتمع الجواري هذا كان شيئا غريبا ، فيه روح المغامرة والتمرد والخروج على المألوف”([114]) . ومثلما اعتبر أهالي ود حمد أصحاب العاهات شواذا خارجين عن دائرتهم ، اعتبروا أيضا مجتمع الواحة شاذا وخارجا ، ولذلك فهم يستوجبون الطرد والعيش خارج البلد بأكملها “ضاق بها أهل البلد فأحرقوها لكنها عادت إلى الحياة مثل نبات الحلفا. لا يموت وطردوا سكانها وعذبوهم بشتى السبل لكنهم لم يلبثوا أن تجمعوا من جديد كالذباب الذي يحط على بقرة ميتة”([115]) .
والحلف واحد من المظاهر الاجتماعية في المجتمع السوداني ، وله صيغتان لا يخرج عنهما ، فإما يقسم الحالف مستخدما صيغة (علىّ الحرام) أو بصيغة (على اليمين ـ على الطلاق) . وهي من الصيغ الدالة على أن الحالف رجل ذو شأن فهو من المتزوجين الذين يجب على المقسوم عليه أن يبر قسمه ، حتى تظل حياته الأسرية مستقرة . وتستخدم هذه الصيغ للتأكيد على صحة القول “وحين أصبحت بني آدم حلفتك بالطلاق يا دوب أصبح ليها معنى”([116]) .
والمعتقدات الدينية من أهم الأشياء التي ضمنها الطيب صالح في عالمه الروائي، راصدا من خلالها سريان المعتقد الديني في نفوس أهل السودان ، الذين تتجاذبهم الفطرة النقية للإيمان بالإسلام “هل أنت مسلم أو نصراني أو يهودي؟ أطرق مفكراً كالأولى ، وبعد مرة قال: كان عندي دين ، لابد. لا أعلم سأله عبد الخالق ود حمد بزعل وكان دائماً أسرعنا إلى الغضب “يا بني آدم. هل في إنسان ما عنده دين؟ جايز تكون عابد نار أو عابد بقر أو عابد رماد؟ فهمنا “([117]).
والإسلام هو الدين الوحيد في مجتمع ود حامد ، وحتى إن كانت هناك أديان أخرى، فإن الراوي قد سكت عن ذكرها مكتفيا بالإسلام دينا وحيدا وواحدا . وعلى أية حال تظل صيغة الاستفهام الإنكاري عن حقيقة وجود إنسان بلا دين دليلا على إيمان المجتمع السوداني بوجود إله لهذا الكون. وتدل حادثة دخول ضو البيت في الإسلام على سماحة وتسامح أهل ود حامد في تعاملهم الديني”جينا بعد داك لموضوع الدين، عمي محمود قال له يا ضو البيت. نحن ناس مسلمين . لكن ما عندنا تشدد في موضوع الدين كل نفس بما كسبت ، والله مخير في عباده . ولو كنا نعلم لك ملة لتركناك على ملتك. أما وأنك لا تعرف أنت من أي دين فايه رأيك ندخلك معانا ملة الإسلام، نحن نكسب ثواب وأنت تنجو من غضب الله . ويسهل عليك التعامل مع ناس البلد إذا حبيت تستقر من ناحية الزواج والصهر”([118]). وإمعاناً في التأكيد على دخول ضو البيت لحظيرة الإسلام عقب نطقه بالشهادتين ، قرر أهل ود حامد تطبيق فطرة الإسلام بختان ضو البيت “يا جماعة صلوا على النبي. نحن عاملين احتفال مولد، مش نتأكد أول الراجل أغلف ولا مطهر” كشفنا على ضو البيت فوجدناه ويا للخسارة، أغلف. لكن فرحنا بدخوله الإسلام ما نقص، وعقدنا العزم أن نعمل له ختان باحتفال كبير وطبل وزمر وغناء ومديح”([119]). وقد مكّن الإسلام ضو البيت من المطالبة بالزواج، وهو وإن كان مطلباً عاديا إلا إنه وفي ظل مجتمع محافظ ومتحفظ نحو الغرباء قوبل الطلب بالدهشة والاستنكار والصمت حتى ذكّرهم الحاج محمود أن ضو البيت بدخوله الإسلام صار واحدا منهم “الخوة واحدة مو اتنين ، والدين واحد ما هو اتنين، لا يوجد دين للحياة ودين للموت، وصداقه في الشغل وفي الزواج لا. ضو البيت أصبح زينا ومتلنا على الخير والشر في الحارة والباردة. وما دام طلب مصاهرتنا على سنة الله ورسوله فأهلاً وسهلاً بيه”([120]) . وأهل ود حامد في علاقتهم بالدين، يصنفون لفريقين:
- ـ الفريق الأول: وهو الفريق المنحاز للدين الرسمي ، ويمثله إمام المسجد وكبار السن المواظبون على حضور الصلاة في المسجد ويكتفون من أموالهم بصدقة الفطر وتقديم جلود الأضاحي للفقراء.
- ـ الفريق الثاني: وهو الفريق المنحاز للدين الشعبي ، ويمثله أولياء الله الصالحون من أمثال الحنين وبلال المؤذن.
ولكل فريق منافسون يناصبونه العداء ؛ فالفريق الأول يعاديه العصاة من الشباب دون العشرين ومعهم الزين “لم يدخل المسجد في حياته”([121]) . والفريق الثاني له معارضوه ممن ينكرون الكرامات والولاية ، وعالم الروحانيات ، وأشهرهم في ذلك الإمام ومحجوب .
وباتخاذ الطيب صالح من الشخصيات ذات الكثافة الرمزية محوراً في رواياته ، جنحت العديد من الأحداث للاقتراب من الطابع الملحمي الذي ينحو إلى التهويل والتفخيم والإتكاء على العوالم الخيالية والغيبية ، وهذا الجنوح الأسطوري المستمد من الملاحم الإغريقية يعد واحدا من أسس الارتكاز في بنية الرواية الانسيابية .
وقد دشن الطيب صالح في عالمه الروائي هذا الخيط الغيبي، وهو أحد الخيوط التي تدل على تغلغل الجانب الروحاني في المجتمع السوداني ، وذلك عن طريق الاستعانة بشخصيات دينية ذات بعد شعبي ، ولذلك فعالمه الروائي يتميز” بقدرة فائقة على مزج الواقع بالخرافة والأسطورة والحكايات الشعبية المتداولة … نحن في رواياته نشعر وكأننا أمام عالم فريد ، وهو مزيج من الرؤى والأحاسيس والوقائع والأحداث والجلال والجمال والبساطة . إنه ينظر إلى الأحياء والأشياء نظرة متعمقة صوفية في أساسها”([122]). وأول هذه الشخصيات هو الشيخ الحنين الذي كان “رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة . يقيم في البلد ستة أشهر في صلاة وصوم ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعداً في الصحراء ، ويغيب ستة أشهر ثم يعود ولا يدرى أحد أين ذهب ولكن الناس يتنقلون قصصاً غريبة عنه”([123]). ومعظم أهالي ود حامد يشعرون بنفس الشعور الذي يشعر به محجوب نحو هؤلاء النساك “وأحس محجوب بخفة خفية في قلبه. كان فيه رهبة دفينة من أهل الدين، خاصة النساك منهم أمثال الحنين. كان يهابهم ويبتعد عن طريقهم. ولا يتعامل معهم. وكان يحاذر نبوءاتهم ويحس بالرغم من عدم اهتمامه الظاهري بأن لها أثراً غامضاً . (نبوءات هؤلاء النساك لا تذهب هدراً “([124]). وقد كان لوجود الحنين كبير الأثر على شخصيات الرواية فنبوءاته ودعواته أثمرت نتيجتها بسرعة شديدة “بعد ذلك تولت الخوارق معجزة تلو معجزة، بشكل يأخذ باللب لم تر البلد في حياتها عاماً رخياً مباركاً مثل عام الحنين كما أخذوا يسمونه”([125]).
إن تأكيد الراوي على حدوث المعجزات المادية المحسوسة ، سواء للشخصيات أو للبلد بعامة يدل على توغل التفكير الغيبي في المجتمع الريفي ، وهو التفكير الذي يربط بين المتغيرات السياسية والاقتصادية ، بل والفردية وبين الكرامات الصوفية لولى الله المقدس. ويؤكد هذا التوغل للتفكير الخرافي على رغبة باطنية من المؤلف الضمني لرفضها وطردها وإزاحتها ، من خلال تصويرها ورصدها ، وإفساح المجال أمامها للظهور والتجلي . ويمكن تقسيم هذه المعجزات إلى :
1ـ معجزات عامة: وتتمثل في التغييرات الاقتصادية التي ألمت بود حامد عقب موته، ومنها سماح الحكومة للأهالي بزراعة القطن ، وبناء معسكر للجيش على أطراف البلد؛ بالإضافة لبناء مستشفى ومدرسة ثانوية وأخرى زراعية ، وأخيراً القيام بمشروع زراعي يعتمد ماكينات المياه وسيلة للري .
2ـ معجزات خاصة: وتتمثل في حالة التغيير الذي لحق بشخصيات ما كان لها أن تتغير ؛ فمن ذلك التغير الجذري في شخصية سيف الدين ، الذي تحول بين عشية وضحاها من سكّير مقامر ، زير نساء ، لرجل صالح لا يفارق المسجد ، ويسعى لكل فعل خير “وبينما البلد بأثرها تضج من ذلك البلاء الذي اسمه سيف الدين إذا به فجأة بعد حادث الحنين يتغيير كأنه ولد من جديد”([126]) . ومن ذلك أيضاً زواج الزين الهبيل الغشيم ـ على حد وصف آمنة ـ من نعمة بنت الحاج إبراهيم وذلك تنفيذا لأوامر الحنين في رؤية منامية لنعمة “نعمة رأت الحنين في منامها فقال لها عرسى الذين اللي تعرس الزين ما تندم”([127]) .
3ـ معجزات طبيعية: ولا سبب منطقي يدعو لحدوثها أو لتفسيرها سوى أنها حدثت في عام الحنين المبروك “كلامك صحيح جناب الناظر . فعلاً النسوان القنعن من الولادة ولدن. البقر والغنم جابت الاتنين والتلاتة. وواصل حاج على تعداد المعجزات التي حدثت ذلك العام: (تمر النخيل كتير لا من غلينا من الشوالات النشيلة فيها. التلج نزل. دا كلام! التلج ينزل من السما في بلد الصحراء زي دي”([128]) .
وقد استخدم الراوي وسيلتين لدحض هذا التفكير ورفضه ؛ فهو أولا قد أفسح المجال له ليحدده ويحيط به ، بل وليجعل من إفراد مساحة ورقية كبيرة له وسيلة لتقويضه ونقضه.
وثانيا أنه جعل منه وسيلة للتسلية ليس إلا ، ولذلك جعل صوت العقل ـ وإن بدا ـ خافتا يعلن بوضوح أسبابا منطقية لمعظم هذه الحوادث ؛ فسيف الدين تغيّر لأنه “وصل السفاهة حدها وكان لابد أن يتغير في يوم من الأيام”([129]) . ونعمة قبلت الزواج من الزين لما “فيها من عناد واستقلال في الرأي ، ربما بوازع الشفقة على الزين أو تحت تأثير القيام بتضحية وهو أمر منسجم مع طبيعتها”([130]). ولم يتعمد الراوي إعطاء تفسيرات منطقية لكل الغرائب ، وذلك حتى يعطي مساحة للقارئ لأن يعمل فكره الشخصي وعلمه ليرد عمليا على هذه الخرافات التي يتمنى الطيب صالح اجتثاثها من بلده.
ويرى الباحث أن شخصية بلال المؤذن من أهم الشخصيات التي استخدمها الطيب صالح في عالمه الروائي لتجسيد الجانب الغيبي ، وإبراز البعد الروحاني في مجتمع ود حامد “ذكروا أن أول عهده بمصاحبة الشيخ نصر الله ود حبيب كان وهو فتى يافع فوق الخامسة عشرة ودون العشرين، ربما كان يضرب بعيداً في الخلاء يتفنت ويتعبد، الله وحده يعلم، لأنه كان غير واضح في البلد، كأنه ليس موجودا فيها بالمرة”([131]) .
والشخصيات الصوفية في عالم الطيب صالح تعيش في عزلة بعيدا عن الناس. تعبد الله في الخلاء، ولا تصاحب إلا الأتقياء فالحنين “يجتمع برفقة من الأولياء السائحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون”([132]). وبلال يلبى نداء قطبه ومريده الشيخ نصر الله “أنت القطب أنت . أنت صاحب الزمان وأنا عبدك ومملوكك”([133]). وبلال كالحنين في الظهور والخفاء ، ولكن إذا كان الحنين يظهر ويختفي على مدار العام، فإن بلالا ظهر فجأة واختفى فجأة “ومن عجب أنه شب كأنه نزل فجأة من السماء ، أو انشقت عنه الأرض ، أو أنه طلع من النيل ، شخصا كامل الهيئة والتكوين ، فلا إنسان من أهل البلد يذكره طفلا ولا أحد يعلم من رباه ، ولا أحد يقول لك رأيت بلالا أو سمعت بلالا إلى أن ظهر فجأة وهو فتى يافع”([134]).
وعموما فإن الطيب صالح اعتمد على إبراز الجانب الروحي في ود حامد ، من خلال تصويره لشخصيات صوفية ، تعيش جنبا إلى جنب مع الشخصيات العادية . ولم يكن الطيب صالح في ذلك مبالغا أو فارضا لوجود هذه الشخصيات على مجتمعها ، فهي شخصيات من إفراز البيئة والواقع السوداني الذي تستشري بين طبقاته أفكار خرافية ، ومعارف دينية شعبية. وقد غذّى وجود هذه الشخصيات ـ تاريخيا ـ أن الكثير من الفرق الصوفية قد اتخذت من السودان منطلقا لنشر الإسلام والدعوة إليه في مجاهل أفريقيا.
2 ـ الإطار السياسي
لم يتعرض الطيب صالح في رواياته كثيراً للواقع السياسي ، بل ولم تكن السياسة تشكل في أعماله خلفية مرجعية مثل الخلفية الاجتماعية التي حرص على تصويرها من أكثر من زاوية. ولكننا لم نعدم بعض الإشارات التي يمكن من خلالها استكشاف رؤيته السياسية.
ينقل الطيب صالح على لسان الراوي نظرة أهالي ود حامد للحكومة، التي هي في اعتقادهم مثل (الحمار الحرون) ، والحمار الحرون في التعبيرات الشعبية ، هو الحمار الذي لا يسير وفقا لهوى صاحبه، فهو يفعل ما يحلو له وقتما يريد “وصحيح أيضا أن الحكومة ، هذا المخلوق الذي يشبهونه في نوادرهم بالحمار الحرون قررت لغير ما سبب ظاهر ايضا أن تبنى في بلدتهم – دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر، وهم قوما لا حول لهم ولا طول، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام – قررت الحكومة أن تبنى في بلدهم دفعة واحدة، مستشفى كبيرا”([135]).
المقطع السابق يوضح أن علاقة أهالي ود حامد ـ وهم في ذلك مثل كل أهالي السودان ـ بالحكومة علاقة مقطوعة البتة ، لأنهم لا يجدون من يمثلهم برلمانيا ليرفع مطالبهم ويطالب بحقوقهم، ولذلك تأتى قرار الحكومة من طرف واحد ، إذ ليس للشعب الحق في الاختيار أو الاعتراض. ولذلك استقال محيميد ـ أو أحيل للتقاعد ـ لأن الصراع بين الدين والدولة دائما ما يفرز حكومات تسير في سياستها طبقاً للهوى ، وقد نتج عن ذلك ـ في حالة تدعو للضحك والفزع ـ أن عانى السودان من تعاقب حكومات دينية خلفاً لحكوماتٍ مدنية ، وهكذا دواليك، فما بين الدولة والدين يتشرذم السودان “أحالوني على التقاعد لأنني لا أصلى الفجر في الجامع ، سيقول ود الرواسي (هل هذا جد ولا هزار) ؟ سيقول محيميد (عندنا الآن في الخرطوم حكومة متدينة، رئيس الوزراء يصلى الفجر حاضرا في الجامع كل يوم وإذا كنت لا تصلى أو كنت تصلى وحدك في دارك، فسيتهمونك بعدم الحماس للحكومة. إن تحال للمعاش كرم منهم).
يدهش ود الرواسي ويقول (أما عجايب).
وسيقول له محيميد (بعد عام أو عامين أو خمسة ستجيئنا حكومة مختلفة. لعلها غير متدينة. وقد تكون ملحدة. إذا كنت تصلى في دارك أو في الجامع فإنهم سيحيلونك للتقاعد )
سيسأل ود الرواسي بدهشة عظيمة (بأي تهمة)؟ وسيرد عليه محيميد قائلا (بتهمة التواطؤ مع الحكومة السابقة)”([136]). يؤكد حوار ومحيميد أن لعبة السياسة في السودان قد تعدت كل الأطراف السياسية ، وأصبح الأمر فيها هذرا ساخرا “قال الطاهر: (حكاية وزير هينة الزمن دا أيا من كان ممكن يبقى وزير. جملة الأيمان الطريفى ود بكرى إذا ما بقى وزير، ما أبقى أنا ود أبوى).
وقال محيميد: (من وين يجيبوا له وزارة ؟ البلد ما فضل فيها جنس وزارة.
وقال الطاهر:
(ما بيغلبو حيله. يعملوه وزير الجمعيات الخيرية أو وزير الأجذخانات أو وزير الوابورات. أى شيء من جنس اللغاويص البنسمع بيها”([137]).
لقد أصبح الأمر مستباحا لكل من هب ودب ، ولذلك فليس غريباً أن تسمع بين عشية وضحاها أن فلاناً أو فلاناً قد أحدث انقلاباً ، وأصبح رئيساً لدولة بحجم السودان.
إن الطرافة القائمة في الحوار تدعو للبكاء لا للدهشة ، لأن ما يقوله الطاهر هو عينه ما يحدث عيانا بيانا “وقال الطاهر (أنت تفتكر الحكاية بالكفاءة ؟ الموضوع كله أونطه في أونطه. المهم تبقى فصيح لسان وقليل إحسان. بس كتر من يحيا ويعيش. شوف الحزب القوى ادخل فيه. شى خطب وشى عوازيم وشى براطيل. شويتين تلقى نفسك بقيت نايب فى البرلمان. بعد داك أرقد قفى. قال له محيميد:
(وإذا كان بعد ما دخلت البرلمان ما عملوك وزير؟ تعمل شنو؟
قال ود الرواسى:
(إذا ما عملونى وزير جملة الأيمان اعمل عليهم انقلاب)
قال محجوب:
“وبعدين؟”
قال الطاهر:
“وبعدين كمان شنو؟ ما خلاص. أرقد قفى. أي حاجة عاوزها أضرب الجرس. أدخل يافلان وامرق يا علان. فلان ، عينتك حكمدار. فلان سويتك باشمفتش. فلان حكايتك بايظه معاى، دخلتك السجن. فلان ما تورينى خلقتك. فلان حبابك عشره. وقتين امرق بالعربية الشفرليت وسط البلد الناس تهتف، يعيش الطاهر ود الرواسي. يحيا الطاهر ود الرواسي. خلاص بقيت حاكم عام”([138]). لقد أوجز الطيب صالح فأوفى، لأنه لم يعد من المستحيل أن يتحول ود الرواسي بانقلاب أكروباتى لحاكم عام ، يضغط على الزر ليعيّن هذا ، ويعزل هذا ، ويسجن هذا. فالسياسة أصبحت تحكمها العصبية القبلية ، بكل ما فيها من صخب وكرم ونفاق ، وحيث لا مكان للكفاءة على الإطلاق .
ثالثا : الفضاء الانسيابي في روايات الطيب صالح
جعل الطيب صالح من قرية ود حامد فضاءً جغرافيا تتحرك فيه الشخصيات وتحيا فيه الأحداث . وقد حاول الطيب صالح بشتى الطرق الفنية أن يجعل من هذا الفضاء واقعا حيا ، مصورا ومشاهدا في لوحات قصصية. والفضاء الجغرافي لود حامد يتحدد بمثيولوجيا مكانية تتحدد معالمها الأساسية بعلامات مكانية لا يبرح القارئ أن يشاهدها أينما حل أو ارتحل .
وهذه العلامات حلت بديلا وعوضا عن المقاطع الوصفية التي تجاوزها الطيب صالح. لصالح هذه العلامات التي وردت أيضا مضمنة بداخل المشهد الروائي ، ولذلك لا يستطيع قارئ روايات الطيب صالح أن يتجاوز صفحات أو سطور من إحدى رواياته ، لأنها تكتفي بالوصف على حساب السرد ، إذ إن السرد حاضر في الوصف حضور الوصف في السرد ذاته. ومن أهم هذه العلامات المكانية
1 ـ السوق: وتصله حينما تجتاز دربا كبيرا يؤدى إليه “كان قد اجتاز الدرب الكبير المؤدى إلى السوق”([139]). يفد عليه الناظر ليشرب قهوته ، ويتعرف أخبار البلد. به دكان الشيخ على. وهو المكان الأساسي لسعيد عشا البياتات ، الذي جمع من خلال بقائه فيه أموالا طائلة. يذهب إليه سعيد بحماره (الكورتاوى) ، في حين يدخله أولاد بكرى بسيارتهم التي أحدثت نوعا من الضجيج والتغيير”أولاد بكرى من يوم ما جابوا عربيتهم مسخوا علينا دخول السوق . كل دقيقة وثانية توت توت ، عملوا لنا صداع”([140]) .
2ـ البئر: وهو يقع في منتصف ود حامد ، فكأنه محورها ومرتكزها، ترده النساء لتملأ الجرار قافلة بها على البيوت “كان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء”([141]) .
3- الطريق: وهو الخط الواصل بين ود حامد والمدينة . يقع خلف كثبان الرمل، خارج البلدة “وأحيانا يسطع النور فجأة من وراء كثبان الرمل حين تعود السيارات آتية من امدرمان”([142]) .
4- الساقية: وهى علامة مكانية بارزة في ود حامد ، وهى من الأهمية بحيث أن تحديد الاتجاهات في ود حامد ينّصب عليها، ولذلك فالشخصيات غالبا ما تذكر أنها كانت بجوار الساقية ، أو ناحية الساقية ، أو في اتجاه الساقية.
والساقية تلعب دورا أساسيا في مجتمع ريفي كمجتمع ود حامد، فهي التي ترفع المياه لتسقى الأرض المرتفعة “كان وحده على الساقية يسير وراء ثوره الوحيد الاقوق ثم يجرى ليحبس الماء عن حوض امتلاء ويفتح مجراه في حوض فارغ”([143]) .
وإذا كانت الساقية تمثل الوجه القديم للري ، فإن ماكينات رفع المياه الجديدة التي وفرتها الحكومة قد غطت ، كما غطت الكثير من وسائل التكنولوجيا الحديثة على الوسائل القديمة ، بل وجعلتها في دائرة النسيان ، علامات على عهد ولّى وفات “صوت غناء في مزياع…. ضوء سيارة يقترب ويتضح ويعلو ويفوت، مكنات الماء على الشاطئ”([144]) . فها هو صوت الضفادع يتوارى في الليل لحساب صوت المذياع . وها هى السيارات التي كانت تسير مختبئة خلف كثبان الرمال ، أصبحت تمرق بأصواتها وأضوائها في كافة الاتجاهات. وها هي ماكينات المياه تدور رافعة “كميات لا تقوى عليها عشرات من سواقيهم في عشرات الأيام ، وإذا بالأرض على اتساعها من ضفة النيل إلى طرف الصحراء يغمرها الماء ، بعضها أراض لم تر الماء منذ أقدم السنين”([145]).
5 ـ شجرة السيال: وهى من العلامات البارزة في ود حامد . عندها كان يجتمع الأطفال عقب خروجهم من الكتاب “نجتمع بعد الدرس تحت شجرة السيال الكبيرة الموجودة إلى يومنا هذا”([146]) . وهى من الأهمية بحيث إن عندها اجتمع أولاد بكرى ، ومن تابعهم لعزل عصابة محجوب عن رئاسة اللجان التنفيذية في البلد “تحت السيالة الكبيرة ، وسط البلد ، نص النهار ، محجوب انهزم”([147]). والشجرة في المجتمع الزراعي لها أهمية كبيرة ؛ فهي من العلامات المكانية التي تحدد الاتجاهات، كما أن ثمرها له فوائد جليلة في مجتمع مقفر ، كمجتمع ود حامد. وهى تلعب بكثافة فروعها ، وغزارة أوراقها الوظيفة الأكبر في مقاومة قيظ الصيف الحارق “عند منعطف الدرب حذاء الجدول الكبير كانت تشمح شجرة حراز ضخمة معرشة”([148]) . ويبقى النخل علامة مكانية أصلها ثابت وفرعها في السماء. يقف شاهدا على كل متغيرات ود حامد على مدى السنين “رأى النخلة عند تقاطع الدروب”([149]) .
6 ـ كتّاب القرية: ظل كتّاب القرية المكان الوحيد لتعليم الأطفال قبل أن تعرف المدارس طريقها لود حامد. في كتّاب الحاج سعد تعلم كل الأطفال حفظ القرآن والكتابة كشكل وحيد للتعليم قبل أن تتولى المدارس الابتدائية والثانوية مهمة عملها. في الكتاب نبغت نعمة بنت الحاج إبراهيم ، وفاطمة بنت جبر الدار ، لدرجة أنها البنت الوحيدة التي أتمت حفظ القرآن “أظنها البنت الوحيدة من قبلى إلى بحري الحافظة القرآن ، قرأت مع الأولاد في خلوة حاج سعد”([150]). وكذلك نبغت مريم أخت محجوب ، نفس نبوغ فاطمة ، غير أنها تطلعت لمزيد من التعليم، فاحتالت على ذلك بالتخفي في زى الأولاد. لتدخل المدارس التي كانت حكرا على الصبيان “ولما دخلنا المدرسة سعدنا أننا نتعلم أشياء لا تفهمها ونرجع فنقرأ لها التاريخ والجغرافيا والحساب ، نغيظها بذلك ، فأخذت تمالئنا وتستعطفنا لنأخذها معنا. قلنا لها: ( المدرسة للأولاد. ما في بنات في المدرسة)”([151]) . وقد تغير التعليم في ود حامد كثيرا ، وخاصة بعد ما افتتحت الحكومة مدرسة ثانوية وأخرى للزراعة.
7 ـ المسجد: أيا كانت علاقة أهل ود حامد بإمام المسجد ، إلا إن علاقتهم بالمسجد نفسه لا تنقطع ، فهو علامة على إيمانهم الفطري ، ولذلك فهو يقع في منتصف القرية التي تلتف حوله وكأنها تطوف به. وقد كان المسجد في عهده القديم “غرفة واحده من الطين محوط بسور من القش”([152]) . ولما تطورت ود حامد اقتصاديا واجتماعيا ركب المسجد موجه التغيير على يد ضو البيت “الجامع بنيناه من جديد ووسعناه وفرشناه بالسجاد والبساط هدية من ضو البيت”([153]). إن حالة التقاطب الحادثة في المسجد بين القديم (الضيق ـ الضعيف ـ المنخفض) ، والجديد (الواسع ـ المتين ـ العالي ـ المفروش) تدل دلالة واضحة على كل حالات التقاطب والتغيير التي مرت بها ود حامد على مدار السنين . وهذا ما دفع الطيب صالح للعودة والتركيز على الأمكنة المرتبطة بالطفولة والنشأة ، لأنها أمكنة الحنين التي تتخفى في قبو الذاكرة ، ولذلك فقد فقدت هذه الأماكن وضوحها، فقدته لأنها أماكن مألوفة تقع في منطقة وسطى بين الخارج عن الذات الفسيح والداخل في النفس الضيق ، وبين الداخل والخارج يكون الانقسام ” فالمكان الذي نحبه يرفض أن يبقى منغلقا بشكل دائم إنه يتوزع ويبدو وكأنه يتجه إلى مختلف الأماكن دون صعوبة ، ويتحرك نحو أزمنة أخرى وعلى مختلف مستويات الحلم والذاكرة”([154]) .
ولقد دخل الراوي المسجد من الداخل ليمر على ردهاته ونوافذه ومحرابه ومئذنته ، ليوضح مدى أهميته المكانية من ناحية ، ومدى اهتمام أهل ود حامد به من ناحية أخرى ، لأنه ليس فقط مكانا لإقامة الشعائر ، بقدر ما هو مكان موجود ومتواجد في القلوب والأحداث التي تمر بأهل القرية ؛ فهو حاضر وقت عقود الزواج ، ووقت تشييع الجنازات ، ووقت عقد المؤتمرات والندوات والاجتماعات، بل هو مكان لاستضافة الغرباء والمرضى “احضرنا له سرير في المسجد وقمنا على تمريضه شهر بطوله”([155]) .
هذا هو الإطار المكاني العام لود حامد، أما عن بيوت ومساكن أهل ود حامد أنفسهم ، فقد أوضح الراوي أنها مرت بمرحلتين، مرحلة ود حامد القديمة ، في مقابل ود حامد الجديدة .
في المرحلة القديمة كان الأهالي يسكنون بيوتا من القش ، وكان البيت عبارة عن غرفة واحدة ، ولما تطورت الأحوال الاقتصادية وزادت المحاصيل الزراعية بفعل التوسعات الحكومية ، استبدلت بيوت القش ببيوت الطين “بنينا بيوت الجلوص بدل القش ال كان عنده غرفة عمل ثلاتة وال ما عنده حوش عمل حوش”([156]). ويعد التحول من بيوت القش لبيوت الطين ، نقله نوعية في طبيعة المبانى. ويرجع الفضل في هذه النقلة لضو البيت الذي أوجد بوجوده ، زراعات ومحاصيل وتجارات ما كان لأهل ود حامد أن يتوصلوا إليها.
وتبقى البيوت علامة مكانية فارقة على الطبقية الفاصلة بين الأغنياء والفقراء؛ فبيوت الأغنياء تجاوزت مرحلة البناء بالطين لتبنى بالطوب الأحمر “ستدخل [أم الزين] ذلك البيت الكبير المبنى من الطوب الأحمر (فليس كل بيوت البلد من الطوب الأحمر)”([157]) . إن تدخل الراوي بعباراته الاعتراضية ، يدل دلالة واضحة على مدى تميز بيت الحاج إبراهيم المبنى بالطوب الأحمر ، في حين أن أغلب بيوت أهل البلد مبنية بالطين. ودار الحاج إبراهيم تتميز بالاتساع “دار حاج إبراهيم على سعتها امتلأت”([158]) . وهى دار بها عدة دواوين، أحدها للرجال ، كتلك التي جلس فيها الإمام “كان الإمام حاليا مع جماعة ، في ديوان حاج إبراهيم الذي يشرف على فناء الدار”([159]). وأخرى للنساء كتلك التي دخلها سيف الدين على أمه ، ومن معها من الحريم “ولما وصل النبأ بقدومه إلى أمه في الجناح الآخر من البيت وهى وسط الحريم”([160]). وفى الديوان أجزاء فسيحة تتسع لاستقبال الضيوف ، كما في ( برندة ) الديوان التي يستقبل فيها أحمد إسماعيل محيميد .
أما بيوت الفقراء فمعظمها فهي وإن زاد اتساعها ، وكثرت أحواشها إلا إنها ما تزال مبنية بالطين ، وهى في كل الأحوال أحسن حالا من بيوت المعدمين ، من أصحاب العاهات ، الذين يتخذون من بيوت القش وجريد النخل مكانا يأوون إليه “وبنى له [أي لموسى الأعرج] بيتا من جريد النخل”([161]). وهى وأحسن من بيوت الخدم القابعين “في طرف الصحراء بعيدا عن الحي تقبع بيوتهن المصنوعة من القش”([162]) . وكل بيوت البلد تخصص مكانا لطهي وطبخ الطعام فى (التكل) “الحريم فى التكل”([163]). ويتم الطهي في قدور توقد تحتها الأخشاب والحطب ، الذي يقف الزين ليكسّره بفأسه . وقد راجت هذه التجارة مع سعيد عشا البياتات الذي اشتهر ببيعه.
وفى ظل هذا التجلي الواضح للفضاء الريفي انمحى الفضاء المدينى ، إلا من شذرات ، ظلت متآكلة لحساب الفضاء الريفي ، الذي نمى وتضخم ، ليتحول بطلا وحيدا في العالم الروائي للطيب صالح.
وتعد بطولة المكان واحدة من أهم الأسباب الداعية لتبنى فكرة الانسياب السردي في أعمال الطيب صالح ، لأن استبقاء فضاء واحد ، باعتباره الثابت، في مقابل شخصيات وأحداث تلعب دور المتغير ، يجعل البنية الانسيابية ميكانزم يستدعى الحضور والتساؤل. وقد استدعى فضاء ود حامد المدينة ليتّسع الفضاء أمام القارئ. وهو لم يخرج عن كونه فضاء استدعاء ، لا فضاء حضور وتواجد ؛ فالمدينة يتم استدعاءها باعتبارها فضاء تتوافر فيه خدمات يخلو منها فضاء ود حامد. يذهب إليها الزين للعلاج والتداوى من الجرح العميق الذي أحدثه سيف الدين في وجهه “لبسونى هدوما نظاف … السرير يرقش. الملايات بيض زى اللبن. والبطاطين والبلاط يزلق الكراع”([164]) . ما يلفت النظر في رؤية الزين هو حالة النظافة الشديدة في مستشفى مروى ، التي أعادت نظافتها الظاهرية للزين هيئة جديدة ، محت عنه الهيئة القديمة القبيحة. إذا فالمدينة تستدعى الجمال في مقابل القبح الذي تضج فيه ومنه ود حامد.
ومثلما تستدعى المدينة الجمال ، فإنها أيضا تستدعى التغيير، فلو لم يحضر مفتش التعاون من مروى ليشهد اجتماع الجمعية التعاونية ، لما تمكّن أولاد بكرى ومن ناصرهم من عزل محجوب وعصابته “وانتهى الأمر بانعقاد الجمعية برئاسة باشمفتش التعاون الذي جاء خصيصا من مروي لذلك اليوم المشهود”([165]) .
وتظل المدينة في أعمال الطيب صالح فضاء لاستقطاب النوابغ من المتعلمين في ود حامد. فما أن يتم الشخص تعليمه ويصبح ذا شأن في قريته ، حتى يفارقها عاملا وقاطنا في المدينة ، ولذلك نجد أولاد الحاج إبراهيم يفارقون ود حامد للعمل في (الحكومة). والحكومة في المفهوم الريفي تعني المدينة والمركز .
والمدينة هي مركز الخدمات ، وكعبة الفقراء الذين يحلمون بالعيش فيها “نسكن البندر سامع البندر. المويه بالأنابيب والنور بالكهرباء والسفر سكة حديد. فاهم؟ اتمبيلات وتطورات. اسبتاليات ومدارس وحاجات وحاجات. البندر. فاهم؟ الله يلعن ود حامد. بحم ورماد. فيها المرض والموت ووجع الراس. أولادنا كلهم يطلعوا افندية. فاهم؟ زراعة ابدا. وحياة محجوب أخوى زراعة ما نزرعها ابد.”([166]).
لقد عبّرت مريم فى المقطع السابق عن الجدلية القائمة بين المدينة والريف بين ، الزراعة والصناعة ، بين الخدمات المتاحة والأخرى المعدومة، بين المستقبل الذي يبدو مشرقا للأولاد ، وبين الريف الذي يحمل جينات المرض والموت ووجع الرأس. ولكن هل يرضى بذلك محيميد. محيميد الذي قرر العودة تاركا المدينة والعمل في الحكومة ، مدفوعا للعودة إلى ود حامد ، حيث موطن الذكريات ، متسائلا عن “غابة الطلح الكثة التي كانوا يلعبون فيها أيام الطفولة”([167]). ومكان النورج أيام الحصاد، والروائح العبقة التي مازلت تثيره “رائحة التبن. رائحة القمح. رائحة روث البقر. رائحة اللبن أول ما يحلب. رائحة النعناع. رائحة الليمون”([168]) . ولكنه يفاجئ بحالة التغيير التي صدمته ، كصدمة عبارة سعيد القانوني “إنت فاكر ود حامد هى ود حامد ال إنت عارفها”([169]) .
لقد أراد محيميد أن يرى ود حامد كما تركها ، ولكنه ، ويا للأسف ، لم يجد فيها على حاله ، سوى كنبة سعيد ،التي بقيت على حالها أمام الدكان “الدنيا كلها تكبر والكنبة دى فى حالتها”([170]) . إن رغبة محيميد في العودة إلى العمق ، إلى الكوخ ، رغبة دفينة لأننا ” نتوق إلى العيش بعيداعن البيوت المزدحمة ، وعن هموم المدينة . نهرب بالخيال لنعثر على مأوى حقيقي “([171]).
عاد محيميد باحثاً عن الحقيقة التي تركها كل هذه الأعوام ، ليجد أن صراعاً بداخله ينشب ، بين ما كان وما سيكون “ود حامد التى حملها فى خياله كل هذه الأعوام وعاد الآن يبحث عنها مثل جندى فى جيش مهزوم”([172]). وها هو يعتصر الآن ألماً وهو يتذكر أيام الفرح الأولى في ود حامد “كنت فرحان فى ود حامد ازرع بالنهار وأغنى للبنات بالليل. اشرك للطير وأبلبط فى النيل زى القرنتى القلب فاضى وراضى”([173]) . إن الفرح الطفولى الذي يعيشه محيميد وهو يستعيد قيم الآلفة الجاذبة للأحلام المقوقعة بداخلنا ، يجعل أحلام اليقظة تطفو على سطح السرد لأن هذه الأحلام “تتميز بالاكتفاء الذاتي إذ يستمد متعة مباشرة من وجوده ذاته ، ولهذا فإن الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديد . ونظراً لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة ، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة”([174]) .
لقد سكنت ود حامد في قلب محيميد ، ولذلك أصبح خروجها منه يعنى الموت . ود حامد التي تعنى الفطرة والنقاء والطبيعة والجمال الخالص. ود حامد التي تسكنها الذكريات وأيام الطفولة والحب العفيف. ود حامد التي تخلو من الصخب والضجيج والانقلابات والتعيينات. ود حامد التي تأكل فيها حتى الشبع ، وتنام فيها قرير العين على (العنقريب) ، بعدما تكون قد صليت في المسجد. ود حامد التي تمشى في دروبها ، وبين بيوتها ، فترى ناساً طيبين ، يخرجون من الحقول حبا وعسلا حلو المذاق. ود حامد ، السيال ، والحراز ، والساقية ، والبئر ، والكتاب ، وبيوت القش ، والحنين وبلال ، والفرح السرمدى المرسوم على وجه الزين وهو يعدو ، ومن خلفه الأطفال والنساء وقت الغروب. ود حامد دار الآباء والأحباب “عاوز أروح لى أهلى دار جدى وأبوى. أزرع وأحرث زى بقية خلق الله. أشرب المويه من القلة وآكل الكسرة بالويلة الخضراء من الجروف. أرقد على قفاى بالليل فى حوش الديوان أعاين السماء فوق صافية زى العجب والقمر يلهلج زى صحن الفضة. قلت لهم عاوز أعود للماضى أيام كان الناس ناس والزمان زمان”([175]). ولا يعرف قيمة هذا الجمال إلا من خبره سنيناً طويلة ، وعاش بعيداً عنه حالماً بالعودة إليه .
ومع ذلك ، فهي في نظر الطاهر الرواسي ، الحالم بالاستدعاء المدينى يراها “مسجمة ومرقدة . فى الصيف حرها ما يتقعد، وفى الشتاء بردها أجارك الله. النمتى وقت لقوح التمر، والضبان وقت طلوع المريق. فيها الدبايب والعقارب ومرض الملاريا والدسنتاريا. حياتها كد ونكد ومشاكلها قدر سبيب الراس. اسألنا نحن خابرينها زين”([176]) .
لقد وضعنا الطيب صالح إزاء تساؤل أكبر من أن نجيب عليه، لأننا إما أن نكون في عهد سعيد عشا البياتات الذي أصبح فيه “الزين من الأعيان وسيف الذين على وشك يعمل نائب فى البرلمان”([177]) . أو أن نكون في بقعة الضوء على كنبة ود البصير.
رابعا : بنية الزمن الانسيابي في روايات الطيب صالح
إذ صح لنا أن نقول إن بنية الانسياب السردي المستمدة من أعمال الطيب صالح أساسها المكان ، باعتبار أن أحداث رواياته المدروسة تحدث جميعها في ود حامد ، فإنه من الأصح أن نقول: ماذا حدث في ود حامد على مدى السنين؟ . وذلك لأن الطيب صالح لم يجعل من ود حامد مكانا ثابتا وخشبة مسرح تجرى عليها الأحداث وكأنها ديكور باهت ؛ فبفعل الزمن أصبحنا أمام متغيرات تسير في اتجاه متغيرات.
لم يدشن الطيب صالح كما هو معتاد ـ حدثا ينمو ويتطور على مدى الروايات والسنين ، بل جعل في رواياته أحداثاً من فوق أحداث ، وأحداثاً توازى أحداثا . وأحداثا تنقطع لتبدأ أحداث من حيث انتهت الأولى ، بل إنه جعل في رواياته المدروسة كلها حدثاً واحداً ، ولكنه مصور من وجهات مختلفة . ولذلك فبراعة الطيب صالح تكمن في تصويره للزمن السردي الذي انساب عبر رواياته، ليخلق معماراً حكائياً وهيكلاً سردياً ، يستطيع الراوي من خلاله ، أن يجعل من فعل الحكى فعلاً لذيذاًً ، لا يمل القارئ منه ولا يسأم . ويمكن دراسة الزمن السردي من خلال المضمون والشكل.
1ـ فمن ناحية المضمون: يمكننا إثارة القضايا الآتية:
أ ـ القدر: وهو ميكانزم استمده الطيب صالح في معالجة بعض القضايا من واقع البيئة السودانية ، التي ترى في القدر إلزاما لفعل لا راد له. ويعد الزواج واحدا من هذه القضايا ، فهو يتم متى حل الأوان “وكانت نعمة حيث تفرغ إلى نفسها وأفكارها وتخطر على ذهنها خواطر الزواج، تحس أن الزواج سيجيئها من حيث لا تحتسب. كما يقع قضاء الله على عباده. مثل ما يولد الناس ويموتون ويمرضون. مثل ما يبيض النيل، وتهب العواصف، ويثمر النخل كل عام، كما ينبت القمح ويهطل المطر وتتبدل الفصول كذلك سيكون زواجها، قسمة قسّمها الله لها في لوح محفوظ قبل أن تولد، وقبل أن يجرى النيل، وقبل أن يخلق الله الأرض وما عليها”([178]) . لقد أراد الطيب صالح أن يصور لنا كيف يفكر أهل الريف العربي عموماـ والسودان خصوصا ـ في القضايا الخطيرة التي تمس حياتهم ؛ فزواج نعمة من الزين سيحدث حتما ، لأنه مثل كل القضايا الحتمية الطبيعية (العواصف ـ الثمرـ المطرـ تعاقب الفصول) والقضايا البشرية (المرض ـ الميلاد ـ الموت) والقضايا الدينية (الأزل ـ الخلق) .
وتمتد يد القدر لتجعل من فعل الحضور والوجود فعلاً قدرياً “وانت يا عبد الله جيتنا من حيث لا ندرى، كقضاء الله وقدره القاك الموج على أبوابنا”([179]) . فضو البيت حضر لود حامد في اللحظة ، عين اللحظة ، المماثلة لحضور الحنين وقت أن أطبق الزين على رقبة سيف الدين .
والقدر ليس حالة زمنية تقع في الزواج فقط بل يمتد ليكون فعلاً زمنياً يسيطر على المصير الإنساني بأكمله “أفندى بالغلط ، مزارع زى ما قلت ، هام على وجهه ورجع لنقطة البدء”([180]). فمحيميد أراد لنفسه أن يكون مزارعاً ، ولكن القدر كان له رأى آخر، فجعله أفندياً يهيم على وجهه ، طبقا لمشيئة لا دخل له فيها . ومحجوب نبغ في المدرسة وكان المستقبل في الخرطوم ينتظره زعيما لولا القدر الذي أراد له شيئا آخر ” أنا كنت أزكى واحد في الفصل . محيميد كان ورا أبوى رحمة الله عليه قال كفاية. بلاش مدارس وكلام فارغ . السنة ديك القمح الناس غلبو فى حشه . قال يالله اتزرع معان زيك زى غيرك”([181]) .
(ب) المصائر: يدخل الزمن في تحديد المصير الإنساني ، من خلال تماهى المصير الفردي بالمصير الجماعي . ولننظر لضو البيت الذي عاش في ود حامد بين الناس مثل الطيف ، ومضى مثل الحلم مضحيا بروحه فداء لحسب الرسول “كنا نتذاكر ماذا حصل عند المغيب ذاك اليوم. عمى محمود قال إنه يذكر انه لمح. ضو البيت كأنه معلق بين السماء والأرض ويحيط به وهج أخضر. بعد ذلك لا يذكر إلا أنه وجد نفسه على الشاطئ كأنه يستيقظ من حلم، والناس يتصايحون ويجرون مشتتين ها هنا وها هنا. وقال حسب الرسول إنه يذكر وهو بين الموت والحياة أنه رأى ضو البيت وكأنه فى قلب الشفق الأحمر ، يبتعد ويبتعد ، وفجأة امتدت يد مارد من حمرة الشفق وانتزعته وحدفت به فإذا هو على الشاطئ. استيقظ فإذا العالم ظلام والدنيا تصرخ “ضو البيت”([182]) . بل إن المتغيرات الكبرى في حياة الجماعة يتولاها أناس ما كان لهم أن يقوموا بهذا الدور ، لولا القدر الذي اختصهم للقيام بهذا الدور “دائما يفعل هو [أي الطريفى] الخطأ وينال العقاب غيره. كأن الأقدار كانت تعده لهذا الدور”([183]) .
(ج ) التحولات: لعل أبرز ملامح التأثير الزمني تكمن في التحولات. وتعد روايات الطيب صالح خير مثال في تصوير هذه التحولات ، التي تطول الشخصيات والأماكن ؛ فبفعل الزمن تحول سيف الدين وتحول سعيد البوم وتحول عبد الحفيظ وود الرواسى ومحجوب وسعيد القانوني ، وغيرهم من الشخصيات التي تابعها الطيب صالح على طول الخط الزمني.
وقد طالت التحولات نفسها ود حامد التي يصور حالتها حسب الرسول بقوله :”كنا أقارب بيوتنا جنب جنب”([184]) . وهذا القول يدل على مدى إحساس القرابة النفسية والحسية التي يتأسى عليها الطيب صالح ، الذي يمثله صوت محيميد ، الذي يعود إليها وقد هاله مدى التغيير الذي نخرها كما ينخر السوس العظم.
2ــ من الناحية الشكلية
فرق الشكليون الروس بين المتن الحكائى والمبنى الحكائى ” إننا نسمى متنا حكائيا مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها والتي يقع إخبارنا بها خلال العمل … في مقابل المتن الحكائى يوجد المبنى الحكائى الذي يتألف من نفس الأحداث بيد أنه يراعى نظام ظهورها في العمل ، كما يراعى ما يتبعها من معلومات تعينها لنا”([185]). وبناء على هذه القسمة أصبح لدى القارئ أحداث خام تساوى في زمن حدوثها زمن حكيها ، ويمكن للقارئ تصورها بمقابلتها مع زمن حكايتها ، ومن خلال هذه المقابلة يمكن تصور حالة التشويهات الزمنية الجمالية في بناء الزمن . ويعد ضبط هذه العلاقة بين زمن وقوع الأحداث مع زمن حكايتها مؤشراً واضحا لتحديد مظهري هذه العلاقة وهما ( الاسترجاع ـ الاستباق ) . وما ينبغي ملاحظته في ضبط هذه العلاقة أن الراوي في روايات الطيب صالح يعمد إلى إحداث نوع من عدم التطابق بين الزمنيين ، ولذلك فحالة التوازن المثالي بين زمن وقوع الأحداث مقارنا بزمن حكايتها مفقود نهائيا، إذ لا يتسق توالى عرض الأحداث الخام مع زمن حكايتها بتاتا. وقد نتج عن هذا الانقطاع الزمني استخدام تقنية الاسترجاع بشقيها الداخلي والخارجي ، وذلك لأن الطيب صالح اعتمد على تصوير الحدث أكثر مما اعتمد على تطويره ونموه ، فهو يتخذ من نقطة بداية الحدث منطلقا لتصويره من زوايا مختلفة وعبر شخصيات لكل منها علاقة بدرجة أو بأخرى بذلك الحدث. ولا أدل على ذلك من عرضه لحادثة حضور ضو البيت في نهاية رواية ( بندر شاه ) ، رغم أن كل الأحداث المتقدمة عليه وردت متأخرة عنه.
خامسا : شعرية اللغة00 نحو نموذج مفتوح في السرد الانسيابي
تعتمد بنية الانسياب السردي في روايات الطيب صالح اللغة الشعرية بديلا عن اللغة السردية. ويرى الباحث أن اعتماد الطيب صالح على اللغة الشعرية جاء نتيجة الطول الواضح في الروايات وهو الطول الذي استعاض عنه الطيب صالح بلغة شعرية تكسر فتور القارئ وتمنع سأمه . وقد تعدى الطيب صالح بلغته الشعرية ، اللغة المعيارية التي تعتمد على الإخبار والتوصيل ، باعتباره أساس العلاقة بين المروى والمروى له ، ومن ثمّ خرج الطيب صالح من دائرة المعتاد إلى اللامعتاد ، ومن المألوف إلى اللامألوف، لأن شعرية اللغة المتبناه في عالمه الروائي أصبحت متعددة الدلالة ، زاخرة بالكثير من الرموز ، ومتماسة مع المناطق المشحونة بالتأويل والكشف ، لاستبطان البنيات العميقة في الفكر والشعور.
لقد ذكرت من قبل أن السرد لدى الطيب صالح لم يعد حاملا للحدث الذي ينمو ويتطور عبر الصفحات ، وذلك لأنه انزوى لحساب الطاقة الشعرية المفعمة بشخصيات فلسفية ورؤيوية تستنفر الحدس المعرفي والعاطفي . وقد كان لاعتماد الطيب صالح هذه اللغة أن تنوعت طرائق الحكى ومستوياته ؛ فتارة يسرد الراوي عن ذاته ، وتارة يسرد عن غيره ، وتارة أخرى يسرد عنه وعن الغير في آن واحد، لتظل اللغة الشعرية دوماً باحثة عن العالم والناس والأشياء ، وهى في حالة فوران وتشكّل دائم ، لأنها استحوذت على مساحة من الانحراف اللغوي على غير عادة لغة الحكى المحددة الدلالة ، والمحكومة بخط سير يسعى دائما للحفاظ على نمو الأحداث.
وفى سبيل تلك الطاقات الشعرية الخلاقة ، كانت اللغة التصويرية المرتكزة على المجاز والاستعارة “ملأ صدره بالهواء . وترك وجهه يغتسل بنسيم الفجر . لكن روحه لم تنتعش . تريث قبل أن ينحدر في الأرض المسواة الممتدة. وراءها غابات النخل ووراء ذلك النهر ، يلوح هنا وهنا بين فرجات الشجر. المنظر ، كأن محيميد يراه أخر مره . وجهه متوتر كأنه يقاوم رغبة جارفة للبكاء”([186]) .
إن التجريد الذي يحاول رسمه الطيب صالح من خلال اللاحدث يفضى إلى تبنى شكل جمالي وإيقاع شعوري ، يعتمد المجازات والاستعارات ، التي يمحو بها قبح الواقع بحثا عن جماليات مفقودة في الطفولة، حيث الدفء والحنين ، وهكذا يصبح الحدث الذي هو لب العملية السردية تشكيلا جماليا مصورا باللغة “كانت الدوامة التى يسمونها “الكونية” ملتقى تيارات رهيبة، يتجنبها أطول السباحين باعا. إن الموت ولا شك يسكن في تلك البقعة من النهر، مثل حيوان خرافي مروع. ومع الخوف بدأ يحس لذة الخطر. ثم تماسك على نفسه وقد وطن نفسه على الخوض فى المخاطرة حتى الموت. كان جده ينظر إليه وفى عينيه ذلك البريق. كان وجهه مقنعا بقناع الموت. فيما بعد، حين كبر، وأصبح أقدر على الفهم، أدرك أن الشعور الذي ربط بينه وبين جده فى تلك اللحظة، قبيل الشروق، على شاطئ النهر، كان شعورا بالكراهية مثل لهب النار”([187]). فالمشهد الذي يبدأ من (كانت الدوامة) حتى (أطول السباحين باعا) مشهد سردي ، يمتزج لحظة حركة الشخصية في النهر، بحركة لغوية تصور الموت والحيوان الخرافي، ممتزجا بالمشاعر الإنسانية الفياضة ، مثل الخوف الذي يلمع في حدقات العين عبر شاطئ النهر. نحن إذا أمام لوحتين: إحداهما سردية ، والأخرى لغوية. وهكذا يبنى الطيب صالح مشهده الروائي ، عبر الرسم بالحركة السردية من ناحية ، والحركة اللغوية من ناحية أخرى .
ولم يخل بالشعرية اعتماد الطيب صالح لأساليب أو تعابير محلية، لأن ذلك أعطى لرواياته المزيد من الالتصاق بالمحلية ، التي ساعدته على تعدد المستويات اللغوية ، وإثراء للعربية ، القادرة بحكم مرونتها على استيعاب تلك المستويات لدمجها بالفصحى.
وقد كان الطيب صالح مخلصا لبيئته بنقله لهذه التعبيرات ، وبخاصة في الحوارات التي تضمنت ألفاظا من قبيل (زول ـ شنو- عنقريب ـ يشلع ـ هسع ـ الدلاليك ـ أرروك ـ ترمصيص ـ المريق ـ سجم) . أو بتضمينه لبعض الأغاني الشعبية لتكون نوعا من استحضار الماضي الجميل والأليف الذي تتوق إليه الذات ، لأنه يمثل مرحلة الطفولة التي يهرب إليها من الواقع المتهرئ. ومن ذلك الأغنية التي تغنت بها فطومة في عرس سعيد البوم.
“وقتين الخبر جانى الخميس الفات
رغردت وقدح لك يا اخو الاخوات
أريدك يا سعيد يا عشا البايتات”([188]) .
ومن ذلك أيضا نشيد المداحين في عرس الزين
“نعم العباد وحادا
بى سهل القريش شاف العلم نادى
زار جد الحسين
فرشو له الزبيب والتين والحبحب
فرشوا له كاسات من حميات قالوا له هاك اشرب
زار جد الحسين “([189]).
قائمة المصادر والمراجع
القرآن الكريم
أولا : المصادر
1 ـ الطيب صالح : عرس الزين ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط 9881 .
2 ـ الطيب صالح : مريود ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط 1987 .
3 ـ الطيب صالح : بندر شاه ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1997 .
ثانيا : المراجع العربية
1 ـ د / أحمد سيد محمد : الرواية الانسيابية ( وتأثيرها عن الروائيين العرب ) ـ دار المعارف ـ ط 1985 .
2 ـ د/ سيد حامد النساج : بانوراما الرواية العربية الحديثة ـ مكتبة غريب ـ ط 1985
3 ـ د/ عبد الرحمن عبد الرؤوف الخانجى : رؤية الموت ودلالتها فى عالم الطيب صالح الروائى من خلال روايتى موسم الهجرة للشمال و بندر شاه ـ حوليات كلية الآداب ـ مجلس النشر العلمى ـ جامعة الكويت ـ الحولية الخامسة عشر ـ 1995 .
4 ـ د / محسن جاسم الموسوى : انفراط العقد المقدس ـ ( منعطفات الرواية بعد محفوظ) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ط 1999 .
5 ـ د / محمد حسن عبد الله : الريف في الرواية العربية ـ عالم المعرفة ـ العدد 143 ـ ط 1989 .
ثالثا : المراجع المترجمة
1 ـ إ 0 م فورستر : أركان القصة ـ ( ترجمة ) كمال عياد جاد ـ مكتبة الأسرة ـ ط1ـ2001.
2 ـ جيرار جينت : خطاب الحكاية ( بحث في المنهج ) ـ ( ترجمة ) محمد معتصم، عبد الجليل الأزدى ، عمر حلى ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ ط2 ـ 2000.
3 ـ غاستون باشلار : جماليات المكان ـ ( ترجمة ) غالب هلسا ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ ط2 ـ1984 .
- ـ مجموعة كتاب : نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكلانيين الروس ) ـ (ترجمة) إبراهيم الخطيب ـ الشركة المغربية للناشرين المتحدين / مؤسسة الأبحاث العربية ـ ط1 ـ1982 .
([1]) د / محمد حسن عبد الله : الريف في الرواية العربية ـ عالم المعرفة ـ العدد 143 ـ ط 1989 ـ ص 300. وقد خصص المؤلف الفصل الثامن لدراسة الريف السوداني من ص 297 إلى ص 332
([2]) د / أحمد سيد محمد : الرواية الانسيابية ( وتأثيرها عن الروائيين العرب ) ـ دار المعارف ـ ط 1985 ـص 77،78.
([3]) الطيب صالح :عرس الزين ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط 988 ـ ص 12 .
([4]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص11 .
([5]) المصدر السابق : ص 12 ، 13 .
([6]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 43 .
([10]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 13 .
([11]) المصدر السابق : ص 20 ، 21 .
([14]) إ 0 م فورستر : أركان القصة ـ ( ترجمة ) كمال عياد جاد ـ مكتبة الأسرة ـ ط1ـ2001ـ ص 95 .
([16]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 20 .
([18]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 41 ، 42 .
([19]) د/ سيد حامد النساج : بانوراما الرواية العربية الحديثة ـ ط 1985 ـ مكتبة غريب ص 339 ـ وقد خصص المؤلف الفصل الخامس لدراسة الرواية العربية في السودان من ص 327 إلى ص 324 .
([20]) الطيب صالح : مريود ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط 1987 ـ ص 55 .
([22]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 75 .
([26]) الطيب صالح : بندر شاه ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ط 1 ـ 1997 ـ ص 111 .
([27]) المصدر السابق : ص 114 .
([28]) المصدر السابق : ص 114 .
([29]) المصدر السابق : ص 143 .
([30]) المصدر السابق : ص 142 .
([31]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 58 .
([32]) د / احمد سيد محمد : الرواية الانسيابية ـ مرجع سابق ـ ص 71 .
([33]) د / احمد سيد محمد : الرواية الانسيابية ـ مرجع سابق ـ ص 43 .
([34]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 76 ، 77 .
([35]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 40 .
([36]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 84 ، 85 .
([37]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 14 .
([39]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 76 .
([40]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 21 .
([41]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 5 .
([43]) جيرار جينت : خطاب الحكاية ( بحث في المنهج ) ـ ( ترجمة ) محمد معتصم ، عبد الجليل الأزدى ، عمر حلى ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ ط2 ـ 2000 ص 131 .
([44]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 101 .
([45]) المصدر السابق : ص 101 ، 102 .
([48]) المصدر السابق : ص 100 .
([49]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 53 .
([50]) المصدر السابق : ص 104 .
(*) القران الكريم : سورة يس ـ الآية (40) .
([52]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 71 .
([55]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 25 ، 35 .
([56]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 72 .
([58]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 31 ، 32 .
([61]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 38 ، 39 .
([63]) المصدر السابق : ص 72 ، 73 .
([65]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 36 .
([66]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 21 ، 22 .
([67]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 30 ، 31 .
([70]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 34 .
([71]) المصدر السابق : ص 73 ـ 78 . بتصرف
([72]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 60 .
([73]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 80 .
([75]) د / أحمد سيد محمد : الرواية الانسيابية ـ مرجع سابق ـ ص 79 .
([76]) د / محسن جاسم الموسوى : انفراط العقد المقدس ـ ( منعطفات الرواية بعد محفوظ ) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ط 1999 ـ ص 259 .
([77]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 13 .
([80]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 89 .
([81]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 116 .
([82]) المصدر السابق : ص 115 .
([83]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 90
([85]) المصدر السابق : ص 86 ، 87 .
([87]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ 42 .
([89]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 79 .
([90]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 91 .
([93]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 91 .
([96]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 31 .
([97]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 97 .
([98]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 98 .
([99]) المصدر السابق : ص 97 ، 98 .
([100]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 33 .
([101]) المصدر السابق : ص 62 .
([102]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 131 ، 132 .
([103]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 56 .
([104]) المصدر السابق : ص 77 .
([105]) د/ عبد الرحمن عبد الرؤوف الخانجى : رؤية الموت ودلالتها فى عالم الطيب صالح الروائى من خلال روايتى موسم الهجرة للشمال و بندر شاه ـ حوليات كلية الآداب ـ مجلس النشر العلمى ـ جامعة الكويت ـ الحولية الخامسة عشر ـ 1995 ـ ص 11 .
([106]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 101 .
([107]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 74 ، 75 .
([108]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 143 .
([109]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 90 .
([110]) المصدر السابق : ص 86 .
([111]) المصدر السابق : ص 81 .
([112]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 68 ، 69 .
([113]) المصدر السابق : ص 26 .
([114]) المصدر السابق : ص 53 ، 54 .
([115]) المصدر السابق : ص 54 .
([116]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 97 .
([117]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 117 .
([118]) المصدر السابق : ص 125 .
([119]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 126 .
([120]) المصدر السابق : ص 130 .
([121]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 102 .
([122]) د / سيد حامد انساج : بانوراما الرواية العربية ـ مرجع سابق ـ ص 341 .
([123]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 25 .
([124]) المصدر السابق : ص 49 .
([125]) المصدر السابق : ص 61 .
([126]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 58 .
([127]) المصدر السابق : ص 92 .
([128]) المصدر السابق : ص 67 .
([129]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 60 .
([130]) المصدر السابق : ص 92 .
([131]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 58 .
([132]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 25 .
([133]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 60 ، 61 .
([134]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 57 .
([135]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 62 .
([136]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 47 ، 48 .
([137]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 89 .
([138]) المصدر السابق : ص 90 ، 91 .
([139]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 15 .
([140]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 29 .
([141]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 9 .
([142]) المصدر السابق : ص 41 .
([143]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 111 .
([144]) المصدر السابق : ص 15 .
([145]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 63 .
([146]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 41 .
([147]) المصدر السابق : ص 54 .
([148]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 13 .
([149]) المصدر السابق : ص 15 .
([150]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 120 .
([151]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 75 .
([152]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 116 .
([153]) المصدر السابق : ص 143 .
([154]) غاستون باشلار : جماليات المكان ـ ( ترجمة ) غالب هلسا ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ ط2 ـ1984 ـ ص 72 .
([155]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 120 .
([156]) المصدر السابق : ص 143 .
([157]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 91 .
([158]) المصدر السابق : ص 94 .
([159]) المصدر السابق : ص 99 .
([160]) المصدر السابق : ص 56 .
([161]) المصدر السابق : ص 37 .
([162]) المصدر السابق : ص 54 .
([163]) المصدر السابق : ص 14 .
([164]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 44 .
([165]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 52 .
([166]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 70 .
([167]) المصدر السابق : ص 13 .
([168]) المصدر السابق : ص 14 .
([169]) المصدر السابق : ص 12 .
([170]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 16 .
([171]) غاستون باشلار : جماليات المكان ـ مرجع سابق ـ ص 56 .
([172]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 55 .
([173]) المصدر السابق : ص 94 .
([174]) غاستون باشلار : جماليات المكان ـ مرجع سابق ـ ص 37 ، 38 .
([175]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 96 .
([176]) المصدر السابق : ص 98 .
([177]) المصدر السابق : ص 12 .
([178]) الطيب صالح : عرس الزين ـ مصدر سابق ـ ص 38 .
([179]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 123 .
([180]) المصدر السابق : ص 98 .
([181]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 94 .
([182]) الطيب صالح : بندر شاه ـ مصدر سابق ـ ص 144 .
([183]) المصدر السابق : ص 101 .
([184]) المصدر السابق : ص 116 .
([185]) توماشفسكى : نظرية المنهج الشكلي ـ مجموعة كتاب : نظرية المنهج الشكلي ( نصوص الشكلانيين الروس ) ـ (ترجمة) إبراهيم الخطيب ـ الشركة المغربية للناشرين المتحدين / مؤسسة الأبحاث العربية ـ ط1 ـ1982 ـ ص 180.
([186]) الطيب صالح : مريود ـ مصدر سابق ـ ص 13 .
([187]) المصدر السابق : ص 21 .