
نبضة المرأة هي نبضة المجتمع – عالم المرأة عند الطيب صالح
Dr. Haseena. P Post Doctoral Fellow Department of Arabic University of Calicut Kerala – India
مقال نشر بالعدد 17 من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية الصادر بشهر مارس 2016 والخاص بالروائي العربي الطيب صالح، ص 23.
للاطلاع على كل العدد يرجى الضغط هنا
ملخّص الدراسة
صياغة الشخصيات هي جزء لا يتجزأ من تشكيل النص الأدبي والفني، ويتم استخدام هذه الشخصيات وسيلة لتحقيق أهداف المؤلف الأدبية والفنية. وقد أبدع الروائي الطيب صالح عديدا من الشخصيات من البشر والحيوان والطبيعة التي تنبض بنبضات الحياة والحركة وأعطى لكلّ منها دورا تلعب به أثناء مجرى أحداث رواياته وقصصه. ومن أبرز ملامح الطيب صالح الأدبية أن عددا كبيرا من هذه الشخصيات تظهر أمام القراء في مختلف قصصه ورواياته حسب مقتضى المكان والزمان. وهذه الشخصيات ومركزيتهم والتطورات التي خضعت لها فهي كلها ترمز إلى تغييرات التي حدثت في المجتمع السوداني خاصة بعد الخمسينات من القرن العشرين. ومن البارز وقد خلق الطيب صالح شخصيات أنثوية عديدة في أعماله الروائية والقصصية اللاتي تلعب دورا بارزا في سيل أحداث إبداعاته الأدبية. وقد قدّم الطيب صالح هذه الشخصيات الأنثوية مع نظرته الخاصة التي تنظر إلى تطوّر أحوال النساء في المجتمع السوداني المقيد بالتقاليد والعرف والنظم التي غالبا تسدّ الطريق أمام حركة النساء ونهضتها في الأسرة والمجتمع.
الكلمات المفتاحية
الطيب صالح هو روائي حساسي صاحب موهبة إبداعية التي توّجت صاحبها بتاج “عبقري الرواية العربية” وأصبح روائيا عربيا بل عالميا بإبداعاته الأدبية العملاقة و الثرية ليس بعددها ولكمن بثراء مضمونها، المضمون الذي لمس نفوس القراء الحسية ونبضاتهم الحية وخيالاتهم الخصبة وعواطفهم الجياشة وأفكارهم الحارة. استخدم الروائي الطيب صالح قلمه السيال وتقطرت منه قطرات من الكلمات والعبارات والمعاني المليئة بحيوية الإنسان السوداني من الذكر والأنثى وبيئتهم من الدفء والنيل والنخل والدومة والتمر والمريسة والحمار والبطيخ والفول والعدس إلخ…. وخلط الروائي هذا العالم الواقعي في بلده بعالمه الخيالي والعاطفي. هكذا قدّم الكاتب عديدا من الشخصيات في حفنة من قصصه ورواياته.
البحث
الطيب صالح هو أديب ألمعي تمسّك القيم الإنسانية طول حياته وحاول لنشر هذه القيم من الحب والمودة والاحترام خلال سطور أعماله الأدبية. كان رجلا يحترم المرأة كلّ الاحترام وكان أبا حنونا لبناته الثلاثة. وقد نظر إلى المرأة نظرة فلسفية وحضارية التي تتميز بالحب والاحترام والإكرام. ولذلك رسم الروائي رسوما من شخصيات أنثوية في قصصه ورواياته مع رؤية خاصة وحلم عميق وإيمان كامل حيث أنه قدّم أمام القراء مرأة أصبحت رمز الحياة الرفيع.
وقد أتى الطيب صالح بشخصيّات أنثوية في غالب أعماله الأدبية؛ شخصيّات قويّة التي تتبوّأ مكانا كافيا في المجتمع السوداني. وبتقديم مثل هؤلاء الشخصيات كان الروائي راجيا ومتمنيا عن تغيير المجتمع السوداني وتجديديه وتطوّره خاصة في نظرة المجتمع نحو النساء. وقد أتى لهذا الهدف بفتيات ترفض قواعد المجتمع السوداني وتقاليده البالية.
“إن المرأة عند الطيب صالح قويّة جدا وذات إدارة صلبة وقدرة على الاختيار في كل الأمور وبالذات في ما يتصل بأمور الزواج والحبّ، والمرأة في أدب الطيب صالح أيضا تتطلّع دائما إلى الأمام، وتختار الأحسن والأفضل، وتحلم أحلاما زاهية عن المستقبل. هذه المرأة القوية صاحبة الإدارة والتطلع في أدب الطيب صالح، لا علاقة لها بالمرأة المتهالكة الضعيفة التابعة والمسحوقة والتي تشبع صورتها في أدبنا المكتوب عن الريف العربي”[1]. تتميز المرأة في حكايات الطيب صالح بسلوكها وأخلاقها في مجتمع يسيطر فيه الرجل. يرسم الطيب صالح المرأة قويّة جريئة كثير الكلام متحفّزة بالأحسن. المرأة في عالم الطيب صالح تعارك دائما على أحوال المرأة السائدة في المجتمع وتحاول أن تكون لها نفوذا في الحياة الفرديّة والاجتماعية في المجتمع السوداني حيث كان التعليم والأمور والقرارات الأخرى في أيدي الرجال. فتهاجم على هذه السيطرة فتيات عنيدة مثل ‘حسنة بنت محمود’ و‘نعمة بنت حاج إبراهيم’ و‘فاطمة جبر الدار’ و‘مريم’ و‘حواء العريبي’ وغيرهن حتى أصبحن نماذجا فريدة في الأدب العربي المعاصر.
حسنة بنت محمود وبذرة الثورة الاجتماعية
‘حسنة بنت محمود’ هي التي تلعب دور البطلة في رواية الطيب صالح الفذة “موسم الهجرة إلى الشمال”. هذه الفتاة هي رمز لشابة قرويّة سودانية في المجتمع السوداني الحديث بعد الاستعمار البريطاني. هي نموذج شابة قرويّة تفوّقت على أقرانها. حسنة هي بنت ولدت في قرية سودانية متمسّكة بتقاليدها وقواعدها ونظمها المتوارثة. قبل زواجها من مصطفى سعيد كانت عندها تلك الصفات التي تتميّز بها بنت قروية مطيعة لأوامر الرجال الكبار في أسرتها ومجتمعها مع أن هذه الأوامر كانت غير محبوبة لها. وربّما لذلك أنّ حسنة بنت محمود أطاعت لزواجها من رجل غريب الذي يعده أهل القرية من الغريب وهم لا يعرفون من معلوماته إلا الأقل. ولكن زواجها من مصطفى سعيد جعلتها متغيرة حتى تدخّلت إليها بعض الصفات التي لم تكن عند فتاة قروية سودانية حتّى أصبحت مثل مرأة مدنية. وهذا الأمر واضح في قول محجوب أحد أندادها في القرية “الحقيقة أنّ بنت محمود قد تغيّرت بعد زواجها من مصطفى سعيد. كلّ النسوان يتغيّرن بعد الزواج لكنّها هي خصوصا تغيّرت تغيّرا لا توصف. كأنها شخص آخر حتى نحن أندادها الذين كنّا نلعب معها في الحيّ، ننظر إليها اليوم فنراها شيئا جديدا. هل تعرف؟ كنساء المدن”[2].
عارضت حسنة قواعد المجتمع وسيطرة الرجال حيث أنها لم ترد أن تتزوّج ثانيا لرجل آخر بعد موت زوجه مصطفى سعيد. هذه الإرادة أو الفكرة كانت غير سائدة في المجتمع السوداني ولذلك أصبحت فكرتها فكرة معادية لنظم المجتمع السوداني. عندما طلب ودّ الريس الشيخ العجوز بالزواج منها فرفضت هذا الأمر وأصرّت على إرادتها ألّا يدخل على أيّ رجل آخر بعد زوجه وأن تنفرد لتربية أولادها وقضاء حاجاتهم مع أنها كانت شابة في مقتبل عمرها. وضحت موقفها في زواج آخر مع كل العناد والإثبات حينما أدركت بإكراه والدها وإخوتها على زواجها من هذا الرجل العجوز. حينما أظهرت موقفها كان صوتها مثل نصل حاد “إذا أجبروني على الزواج فإنني سأقتله وأقتل نفسي”. هذا القول لم تقله محضا بغير إرادة. ولكن كان قولا نبع من قلبها المصر على إرادتها ووعيها غير المطواع أمام أوامر الرجال المسيطرين على فكر النساء وإرادتهن. ولذا لعنتها القرية كلّها ورأتها مرأة شيطانيّة عندما أجبرت للزواج مع الشيخ ود الريس فقتلته وقتلت نفسها بعد الزواج.
هكذا تجرّأت حسنة على رفض التقاليد الاجتماعية وردّت أذاها بأذى أخرى ووضعت حدّا لتخلّف بنات وحاولت لتحطيم جدار التقاليد الموروثة في لجّات الجهل والتخلّف الفكري. وبتصوير حسنة وثورتها حاول الروائي لبذر بذور ثورة اجتماعية صالحة لتغيير أحوال النساء في المجتمع السوداني.
نعمة بنت حاج إبراهيم وحرية الإختيار
وقد قدّم الطيب صالح ‘نعمة بنت حاج إبراهيم’ بطلة روايته الأولى “عرس الزين” فتاتا قادرة على إختيار مستبقلها وحياتها حسب إرادتها وليس وفق إرادة الكبار التي تعارض إرادتها وتمنيها. يرسمها الروائي مختلفة من بنات أخرى في البلد. كانت جريئة منذ طفولتها حتى صفعت على وجه امرأة صفعة قاسية حينما حاولت المرأة أن تضمّ نعمة الطفلة إلى حجرها. وعندما أصبحت بنتا أجبرت أباها لإلحاقها في الكتاب لتعلّم القرآن. وكانت هي البنت الوحيدة بين الأولاد في الوقت الذي فيه لم تذهب البنات إلى المدرسة. تعلّمت القراءة والكتابة في شهر واحد وحفظت بعضا من القرآن الكريم. ولكنها لم تفضّل بالتعليم الحديث. عندما شجعها أخوها لأن تستمر دراستها وتكون طبيبة فقالت له وفي وجهها ذلك القناع الكثيف من الوقار “التعليم في المدارس كلّه طرطشة. كفاية القراية والكتابة ومعرفة القرآن وفرايض الصلاة”[3].تعلّمت مع الأولاد في مدرسة الأولاد إذ أن المجتمع السوداني رفض التعليم للبنات.
وعندما أصبحت شابة جميلة كانت شابة جادة واعية بحياتها ومسؤوليتها فيها ومدركة إرادة الله المتعالي في أمور حياتها. كانت شابة في منتهى الجمال حتى “أصبحت رؤوس النساء والرجال على السواء تلتفت إليها حين تمرّ بهم في الطريق”. ولكنها لم تهتم بجمالها ولم تأبه له. حتى الزين الأبله الذي يغازل مع كلّ النسوان في القرية ويعبث معهن لم يقترب من نعمة ابنة عمه. “كل هذا وفي الحي فتاة واحدة لا يتحدّث الزين عنها، ولا يعبث معها. فتاة تراقبه من بعد بعيون حلوة غاضبة، كلّما رآها مقبلة يصمت ويترك عبثه ومزاحه، وإدا رآها من بعد فرّ من بين يديها وترك لها الطريق”[4]. كانت نعمة تمانع الزين من المغازلة مع النساء ويسبّه على هذا الأمر “كل هذا وفي الحي صبية حلوة وقورة المحيا، غاضبة العينين، تراقب الزين في عبثه ومزاحه وهزاره. وجدته يوما في مجموعة من النساء يضاحكهنّ كعادته، فانتهرته قائلة: ما تخلي الطرطشة والكلام الفارغ تمشي تشوف أشغالك. وحدجت النساء بعينيها الجميلتين. سكت الزين عن الضحك وطأطأ رأسه حياء ثم انسل بين النساء ومضى في سبيله”[5].
كانت نعمة قادرة على اتخاذ قرار حاسم ثابت في أمور حياتها خاصّة في أمر زواجها. أثبتت في قرارها وميولها في كلّ الأمور المتعلّقة بنفسها وبحياتها ولم تمل إلى أحد ولا إلى ميولهم. عندما بلغت في عامها من السادسة عشرة، فتقدم كثير من الرجال طالبين يديها للزواج ولكنّها رفضت كلهم وأكّدت حبّها نحو الزين ابن عمّها.
كانت نعمة مدفوعة بإيعاز داخليّ إلى الإقدام على أمر لا يستطيع أحد أن يردّها عنه. كانت شديدة الواعية عن الحياة الزوجيّة ومسؤولياتها فيها. وكانت يفكر فيهما دائما وتؤمن أن زواجها سيحدث على قضاء الله. ولكن لم تكن عندها أيّة صورة أو خطط مقدّمة عن زوجها القادم إلى حياتها كما تخطّط الفتيات الأخرى عن زوجهنّ وحياتهنّ المستقبل. يقول الروائي “كانت نعمة حين تفرغ إلى نفسها وأفكارها، وتخطر إلى ذهنها خواطر الزواج، تحسّ أن زوجها سيجيئها من حيث لا تحتسب. كما يقع قضاء الله على عباده، مثل كما يولد الناس ويموتون ويمرضون، مثل ما يفيض النيل وتهب العاصفة ويثمر النخل كلّ عام، كما ينبت القمح ويهطل المطر وتتبدّل الفصول كذلك سيكون زواجها. قسمة قسّمها الله لها في لوح محفوظ قبل أن تولد، وقبل أن يجري النيل، وقبل أن يخلق الله الأرض زمانا عليها. لم تكن تحسّ بفرح أو بخوف أو أسى حين تفكر في هذا ولكنّها كانت تشعر بمسؤولية كبيرة ستوضع على كتفيها في وقت ما، قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا”[6]. كانت تفكّر عن زوجها القادم إمّا يكون متزوجا له أبناء، أو رجل غير متزوّج من قبل، أو يكون شاب وسيم متعلّم، أو مزارع من عامّة أهل البلد “مشفق الكفين والرجلين، من كثرة ما خاض الوحل وضرب بالمعول”. كانت طبيعة نعمة عنيدة وكانت تشوق إلى الحرّية في الرأي. وقد أصرت على قرارها لزواجها مع الزين مع أنّ والديها وإخوتها رفضوا هذا الأمر. عندما رفضت خطبتها من رجل من أعيان الرجال “احتد حاج إبراهيم في كلامه معها وهمّ بصفعها. ولكنه توقف فجأة. شيء ما في تلك الفتاة العنيدة قتل الغضب في صدره. لعلّه تعبير عينيها، لعلّه التصميم الرزين على وجهها. وكأنما أحس الرجل بأنّ هذه الفتاة ليست عاقة ولا متمرّدة. ولكنّها مدفوعة بإيعاز داخليّ إلى الإقدام على أمر لا يستطيع أحد ردّها عنه. ومن يومها لم يكلّمها أحد في أمر الزواج”[7]. ونجحت في إرادتها القوية في اختيار حياتها ومستقبلها رافضا أوامر الرجال في بيتها “وإنّ نعمة، بما فيها من عناد واستقلال في الرأي، وربما بوارع الشفقة على الزين أو تحت تأثير القيام بتضحية، وهو أمر منسجم مع طبيعتها، قرّرت أن تتزوّج الزين. ويرجح أن معركة عنيفة دارت في بيت حاج إبراهيم بين الأب والأمّ في طرف والبنت في الطرف الآخر. كان إخوتها غائبين فكتبوا لهم. ويقال أن الأخوين الكبيرين رفضا البتة وأن الأخ الأصغر قبل وقال في جوابه لأبيه: إنّ نعمة كانت دائمة عنيدة في رأيها. والآن وقد اختارت زوجها بنفسها فدعوها وشأنها”[8].
نعمة التي أصرّت على رأيها قدمت إلى بيت الزين وطلبت من أمه أن يزوّج زين منها كما ذهبت حسنة بنت محمود في رواية موسم الهجرة إلى الشمال إلى بيت الراوي وطلبت من أمه يد الراوي. هذا النوع من التصرفات كانت تعدّ ضدّا لسلوك المجتمع الجارية آنذاك. ولكنّ الطيب صالح قد أعطى حرية كاملة لشخصياته لاختيار حياتهن ومستقبلهن.
وهكذا جعل الطيب صالح هذه البنت بنتا غير عادية من البنات الأخرى في القرى السودانية منذ طفولتها حاصلة على التعليم في المدرسة التي تعد غير عادية وفي شبابها أصبحت شابة أكّدت تمنيها أن تتزوج من الزين الشخص النادر في قريتها.
يصوّر الطيب صالح نعمة امرأة جديرة بالتقدير والاعتبار. وهي نموذج الأنثى الجميلة الإفريقية والسودانية الواعية الحازمة. ترفض سيطرة الرجال في المجتمع السوداني مع أنّها لم تحصل على التعليم الحديث أو أنها فعلت هكذا بدون أيّ تأثير من الآخر كما حدث في أمر حسنة بنت محمود في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”. هي امرأة تليق إلى صورة امرأة التي تقوم في خيال الروائي؛ المرأة التي ترفض سيطرة الرجال في المجتمع، وهي المرأة التي تعارض على التقاليد والقواعد والنظم التي تقوم سدّا أمام تطوّرها وتقدّمها.
فاطمة بنت جبر الدار وجرأة شيطانية
وفي هذا المجموع من الفتيات تأتي “فاطمة بنت جبر الدار” في رواية “بندر شاه”. وهي من أقوى شخصيّات المرأة التي أبدعها الروائي الطيب صالح. كانت فاطمة أيضا جريئة وحاسمة منذ طفولتها. تعلّمت مع الأولاد وحفظت القرآن. وهي رمز للفتيات التي ترجو عن التغيّرات في المجتمع السوداني الذي يتمسك بقواعدها ونظمها.
كانت فاطمة صغيرة أخواتها وأقلّ الجمال منهنّ. وإن كانت نحيفة في الخارج كانت قوية في الداخل وإن كانت قبيحة في الظاهر كانت أكثر جميلة في الباطن. كانت صاحبة عقل قاطع وقلب صلب. كانت هي البنت الوحيدة التي حفظت القرآن من القرية في تلك الأيّام. قرأت مع الأولاد حتى غلبت على الأولاد في الجري والعوم وطلوع التمر مع أن أباها كان يمنعها من هذه الأفعال بكونها بنتا. لم تعش حياتها مثل حياة النسوان الأخرى في القرية، وكان الأولاد والرجال يغضّون أبصارهم بالخوف عندما تنظر وتردّهم بحدّ طرف نظرتها. كانت تركب وتزرع وتحرث في المزارع والحقول مثل الرجل. وبسبب سلوكها وتصرّفاتها هذه كان أبوها يقول دائما “الله سبحانه وتعالى أعطاني أربعة بنات، حليمة ومريم وميمونة والله لينا – الله لينا هو ولده رجب سار عليه لقب الله لينا بسبب خوفه – وأنعم عليّ بولد واحد هو فاطمة”[9].
كانت فاطمة فتاة واعية عن مسؤولية المضيفة وحقوق الضيف حتى كانت ترعى “ضو البيت” الرجل الغريب الذي طهر في النيل وقدم إلى أهل القرية. ولكن فاطمة رعت هذا الرجل كلّ رعاية وفحصته حينما كان فاقد الوعي لشهر واحد. رعت ضوّ البيت وتعبت غاية التعب في علاج ذلك الرجل الغريب حتى أفاق من غيبوبته وعندما أفاق الرجل فعلّمته القرآن واللغة العربيّة.
وعندما رأى الناس رعايتها وملاحظتها نحو ضو البيت كانوا يقولونها فكاهيا “الراجل دا يمكن عفريت ما هو بني آدم. إذا خطفك أو خسف بيك الأرض أو عمل لك مصيبة”. ولكنها ردّت لهذه الأقوال بإجابة حاسمة “إذا كان هو الشيطان فأنا إبليس ذاته كبير الشياطين”[10]. ولكن عندما فرغت من علاجها ورعايتها لضو البيت أدركت أنّها تحبّه حبّا عميقا وعندما سألها أبوها عن رأيها في تزوّجها من ضو البيت وافقت عليه بقلب حاسم. هكذا صوّر الطيب صالح فاطمة بنت جبر الدار امرأة جريئة تساوي مع الرجل في كلّ الأمور في المجتمع.
مريم والعالة بين الجنس
“مريم” هي شخصية قدّم الروائي صورتها في رواية “ضو البيت” بشكل صغير وفي رواية “مريود” بشكل كبير خلال ذكريات الراوي عنها. مريم، هي أخت محجوب صديق الراوي محيميد وهي أمّ الطريفي الذي أصبح قائد المجتمع. يصوّرها الروائي رمزا لشابة سودانية تفكر عن تطوّر الدولة السودانية تطوّرا شاملا يشمل قرى بلدها حتى يتسع نطاقها إلى كلّ مناطق البلد. وخلال هذه الشخصيّة تقدّم الروائي أحلامه وأفكاره عن المرأة السودانية خاصة والمرأة العربية عامة في نطاق واسع. وهو الذي كان يفكّر عن المرأة أن تتقدم إلى الأمام مع الرجال في كلّ الأمور وأن لا تخضع أمام القواعد الاجتماعية الصالحة لتقدّم الرجال فقط. وكان يريد منها أن تثور على سيطرة الرجال وقوانينهم التي تسد الطريق أمام تحقيق آمال المرأة وأمنياتها وأحلامها. وهذا واضح في معظم شخصيّات الطيب صالح النسويّة اللاتي تتمسّك بهذه الخصائص المهمّة.
ومريم أخت محجوب كانت تحبّ أخاها حبّا عميقا حتى كانت تفاخر به فخرا عظيما. وعندما ثار ابنها طريفي على محجوب وسلطته في القرية لم تقف مع ابنه ولكنّها وقفت مع أخيها محجوب وأيّدته ضدّ ابنها وتركت الدار وأقامت عند محجوب.
مريم هي فتاة ترجو إلى تنمية القرى السودانية ونشأتها. وهي شخصية ذات إرادة قويّة ترغب في حدوث التغيّرات في المجتمع السوداني المقيّد بالتقاليد والعرف. وهي ليست بنتا مثل البنات الأخرى في القرية السودانية. أدركت منذ طفولتها عن عدم المساواة بين الجنس – بين الولد والبنت – في المجتمع السوداني واستوعبت واعية أنّ هذا الظلم الذي يطبّقها الرجال على النساء سيسدّ الطريق أمامها في تحقيق رجاءها وأملها وارتقاء شخصيّتها. فرفضت مريم البنت الصغيرة أوامر النظام الأبوي التقليدي الذي يكبح المرأة ويضطهدها. تعلّمت في المدرسة مع الأولاد وكانت تدّعي عن عدم الفرق بين الأولاد والبنات في الحصول على العلم والتفوق فيه. وكانت تأكّد بحقّ المرأة في رفع مستواها ومكانتها في المجتمع. يذكر الراوي في هذا الصدد “أنا أرى مريم طفلة دون الرابعة، تقرأ معنا القرآن في خلوة حاج سعد، فعلت ذلك قدرة واقتدارا، لا رادّ لرغبتها العارمة في فكّ طلاسم الحروف. تجيئ فنطردها فلا تنطرد، فاضطررنا أنا ومحجوب أن نعلّمها، فكأنّنا أطلقنا جنّا من قمقم. أخذت تقرأ وتحفظ وتفهم، حتى لحقت بنا وكادت تفوقنا. وصارت تقارعنا الآية بالآية والسورة بالسورة، حتى ضقنا بها ذرعا. ولمّا دخلنا المدرسة سعدنا أنّنا نتعلم أشياء لا تفهمها، ونرجع ونقرأ لها التاريخ والجغرافيا والحساب، نغيظها بذلك. فأخذت تمالئنا وتستعطفنا لنأخذها معنا”[11]. هكذا تعلّمت العلوم المختلفة بشدّة شغفها ورغبتها وأرادت أن تلتحق بالمدرسة. ولكن المدارس آنذاك كانت تعلّم الأولاد فقط “المدرسة للأولاد. ما في بنات في المدرسة”. وعندما فهمت عن هذا التعصّب بين الجنس قالت بجرأة عزيمة “أيه الفرق بين الولد والبنت؟… خلاص ما دامت الحكومة لا تقبل غير الأولاد أصير ولد… ما دامت الحكومة ما تقبل إلّا الأولاد ألبس جلابية وعمّة وأمشي معاكم، متلي متلكم. مافي أي إنسان يعرف أي حاجة. أيّ الفرق بين الولد والبنت؟”[12]. أخيرا وافق أخوه محجوب ومحيميد على رأيها وإرادتها الحاسمة ووجهة نظرها عن حياة المرأة. “لم تكن خجلة. واجهتنا بغتة، فرأينا أضواء ذلك الأفق البعيد، تتوهّج على جبهتها وحول عينيها. نظرنا بعضنا إلى بعض كالمسحورين. وقلنا أنا ومحجوب بصوت واحد، وقد بدأ ذلك الأفق البعيد يترائى لنا نحن أيضا: صحيح. ليش لا”[13]. وهكذا التحقت بالمدرسة وتعلّمت مع الأولاد ونجحت في إرادتها القويّة وعزمتها الفريدة.
كانت المدينة في نظر مريم مكانا لائقا لتحقيق أحلامها في التعليم حيث رأت فيها فرصة متساوية بين الجنس – بين الذكر والأنثى – في أجل التعليم ووجدت هناك مستشفيات وكهربائية تليق بحداثة المجتمع وتقدّمه. يقول وائل حسن “إنّ عصيان مريم وتمرّدها ضدّ النظام الأبوي يتحدّث عن رفضها القرية ورغبتها وشوقها في المدينة. ولا تجسد هذه الرغبة في تمنّيها للحصول على أمور حديثة فقط بل في الفكّ من القيود التي يجبرها عليها المجتمع السوداني التقليدي عندما تنمو إلى امرأة كاملة. لأنّ مريم الطفلة ترى القرية ود حامد مترادفة للتقاليد القديمة حينما تنظر إلى المدينة تمثيلا للحداثة”[14]. وكانت مريم ترجو إلى حدوث التغيّرات في قريتها ورغبت في تقدم القرية وتجدّدها في كلّ مجال حياة الإنسان مثل حياة الناس في المدن. تمنّت أن تجد مدرسة جديدة في قريتها التي تسهّل فرصة لعلم البنات. فقيل لها “مثل مدرسة ود حامد؟” فقالت في ثورة “ود حامد تغطس في الأرض. مدرسة كبيرة من الحجر والطوب الأحمر وسط الجناين”. قالت لمحيميد الذي كانت يحبّه “نسكن البندر. المويه بالأنابيب والنور بالكهرباء والسفر سكة حديد فاهم؟ أتمبيلات وتطورات. أسبتاليات ومدارس وحاجات وحاجات. البندر فاهم، الله يلعن ود حامد. بحم ورماد. فيها المرض والموت ووجع الرأس. أولادنا كلهم يطلعوا أفندية. فاهم؟ زراعة أبدا. وحياة محجوب اخوي زراعة ما نزرعها أبدا”[15]. وفي هذا القول توضح مريم عن رفضها في تقلّص حياتها في قرية ود حامد تنال العيش بسبب الزراعة ولكنها تمنت أن يكون أبنائها كلهم من الأفنديين يشتغلون في مختلف مجال العيش.
ولأجل ذلك اهتمت مريم بالتعليم اهتماما كبيرا. لأنها رأت المدارس أبوابا إلى نجاح الحياة. كانت ترجو أن تكون لها عشرة أولاد وأن تجعلهم موظّفين يتناولون مناصبا عالية في المجتمع من مديرين ومحامين ومهندسين وناظرين ومعلّمين وحكماء.
أمّا أحلام مريم لم تتحقق لأنها تزوّجت بكري ليس الراوي الذي رأت فيه عمادا لتحقيق أمنياتها. ماتت مريم ودفنت أحلامها عن المستقبل المشرق مع جسدها. تمكّنت مريم أن ترى الأحلام عن التغيّرات في المجتمع السوداني المتمسّك بالقوانين والنظم، ولكنّها عجزت في تجسيدها حينما أنقض الموت على أمانيها. ولعلّ هذا المصير يكشف لنا عن إحساس الطيب صالح في أعماقه أن أحلام مريم لم تتحقّق حتى الآن، وعادت مريم بعد موتها إلى باطن الأرض، وعندما تمّ دفنها فتمّ دفن أحلامها، فالآن هذه الأحلام موجودة في باطن الأرض، فلا بدّ للأرض أن تعيد وتلد مريم من جديد وتحقّق هذه الأحلام المدفونة.
تصوّر الرواية موت مريم فرصة الاتحاد الروحي والعاطفي بين الناس. اشتركت القرية كلّها في المسجد لصلاة جنازتها. اجتمعت كلّ القرية حتّى الفريق من الرجال اللذين لم يدخلوا مرّة واحدة في المسجد في حياتهم حتى الآن. رسم الطيب صالح مشهد موت مريم في صورة رائعة جميلة، ليست صورة موت من الحزن والكآبة والمأتم ولكنّها أصبحت مثل صورة مشهد العرس من البهج والرونق. يقول الراوي “لم تكن بها علّة ولم تلزم فراشها غير يوم واحد، كأنّها قرّرت أن ترحل فجأة. كأنّ كل الذي حدث لم يحدث. هو (محجوب) على يمينها وأنا على يسارها، وحدنا معها، كما أرادت. كانت خضلة مثل عروس، ليس بها شيء، سوى بعض حبّات العرق على جبهتها. كان وجهها متألقا وعيناها تتلامعان مثل البروق”[16]. “دفنّاها عند المغيب كأنّنا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سرا عزيزا سوف تتمخض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال”[17]. “كانت مثل طائر، رفعها محجوب من نعشها فشهق ضوء المصابيح على حافة القبر، وسمعت هبوب أمشير تناديني بلسان مريم. كنت خفيفة مثل فرخ طائر وأنا أسير بها في طريق طويل يمتدّ من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل. لم يكن حلما أبدا. كانت مريم نائمة على كتفي”[18]. وهكذا رسم الروائي الطيب صالح شخصية مريم في أحلى صورة في حياتها وموتها حيث جعلها الروائي رمز الحياة المليئة بالأحلام التي تكسّر الحدود والقيود التي تقوم مثل السدود أمام التجديد والتحديث، وهي التي كانت تريد أن تزيل الأحجار وأن تميط الأذى من الطريق لتحقيق أمور جديدة متنوعة في حياة الإنسان ولطلوع عالم جديد متغيّر أمامه.
حواء بنت عريبي وحنانة الأم
وهناك فتاة أخرى “حواء بنت عريبي” في ‘مريود’ التي إختارت زوجا الذي أحبّته؛ بلال. وهي مثل حسنة بنت محمود لم تعش مع أيّ رجل آخر بعد موت زوجها. “كانت في ود حامد امرأة صاعقة الحسن تدعى حواء بنت العريبي، هبتت من ديار الكبابيش مع أبويها في سنوات قحط وجدب. فماتا عنها، وبقيت وحدهاـ تنشط وتغزل وتعمل في دور الميسورين في البلد. ووصفوا أن وجهها كان كفلق الصباح، وشعرها أسود كالليل مسدل فوق ظهرها إلى عجيزتها. وأنها كانت فرعاء لفاء، طويلة رموش العينين، أسيلة الخدّين، كان في فمها مشتار عسل، وأنّها كانت مع ذلك شديدة الذكاء، قويّة العين، مهذارا، حلوة الحديث، متبرّجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون. ومنهم بعض عراة أهل البلد، فتمنعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال وحرام”. أحبّت بلال وأخبرته عن رغبتها فيه ولكنه لم يأذن حيث أنه كان من الصوفيين يبعد من أمور الدنيا. ولما أعيتها الحيلة لتنته من محاولتها اقتربت من الشيخ نصر الله ود حبيب، شيخ بلال وشكت له وأخبرته عن حاجتها. فأشار الشيخ على بلال أن يتزوّجها. فتزوجها بلال واجتمعا ليلة واحدة وحبلت منه تلك الليلة نفسها وسرحها بلال. أبت أن تتزوّج أي رجل آخر بعد أن سرحها بلال، ولكنها انصرفت لتربية ابنها. يقول ابنها طاهر “ما رأيت حبّا مثل حبّ تلك الأم. وما شفت حنانا مثل حنان تلك الأم. ملئت قلبي بالمحبة حتى صرت مثل نبع لا ينضب”[19].
هكذا يصوّر الروائي الطيب صالح هذه الشخصية الأنثوية كأنها ناجحة في إرادتها وحصلت على أمور أرادتها في حياتها بقوّة إرادتها وعزمتها وأصبحت نموذجا لإنسان كامل الذي يعيش حسب خطته في الحياة لا حسب خطة الآخرين كما قال رجاء النقاش “إنها نموذج للإنسان الكامل، إذا اعتبرنا أن الإنسان الكامل هو الذي يعيش حسب خطته، لا حسب خطة الآخرين، أو بعبارة أخرى هو ذلك الإنسان الذي يعيش كما يؤمن ويعتقد لا كما يؤمن الآخرون ويعتقدون”[20].
شخصيات أخريات
وفضلا لهؤلاء الشخصيات الأنثوية وقد أتى الطيب صالح شخصيات أنثوية أخرى مثل البنت رباب في قصته “يوم مبارك على شاطئ أم باب” وبنت مجذوب وأم مصطفى سعيد في “موسم الهجرة إلى الشمال”. وكذلك أتى الطيب صالح بشخصيات أنثوية أوروبية مثل جين مورس وآن همند وشيلا غرينود وإزبلا سيمور ومسز روبنسن في هذه الرواية وقد أتى الروائي بهذه الشخصيات مع معاني حاسمة في حياتهن وإن مثّلت معظمها بأسلوب سلبي.
إن القصة “يوم مبارك على شاطئ أم باب” هي قصة تلعب فيها شخصية أنثوية دورا مركزيا. البنت رباب هي في التاسعة من عمرها ولكنها تخص بشخصيتها الشاذة الفذة التي تتسم بقدرة خارقة فوق الطبيعة. يصوّرها الطيب صالح بنتا تتميّز بعلمها العميق والإبداعية والقيادة والإيمان والصوفية.
أمّا والدة مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال هي امرأة أرملت مبكّرا. هذه المرأة أصبحت مع ولدها مصطفى سعيد أمّا حنونا مع مزايا أبيه الغليظ الذي يعيّن لولده حرية الاختيار ورجولته. ولذلك حينما قرّر مصطفى سعيد أن يذهب إلى مصر لدراسته العليا فقالت أمّه هكذا مع نبرة قاطع “لو ان اباك عاش ما اختار لك غير ما اخترته بنفسك، افعل ماتشاء، سافر او ابق انت وشانك، انها حياتك انت حر فيها، وفى هذه الصرة ما تستعين به، كان ذلك وداعنا لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء مخلوقان سارا شطرا من الطريق معا ثم سلك كل منهما سبيله”[21]. هنا أصبحت هذه المرأة الأرملة وأم الولد أبا جريئا يحفز ابنه لاتخاذ القرار على نفسه لتعيين طريقه في حياته.
وشخصية أخرى في هذه الرواية هي “بنت مجذوب”. هي شخصية قوية في سبعين من عمرها ولكنها جميلة في هذا العمر. تبيّنها الروائي جريئة بغير حياء وخجل حتى تحدّث مع رجال القرية عن أمور الجنس مع أزواجها أو الأمور المسكوت عنها في المجتمع خاصة بين النساء. كان رجال القرية والنساء فيها يتسابقن على السواء لسماع حديث هذه المرأة لمافيه من جرأة وعدم تحرّج وخجل. كانت تدخن السجاير وتشرب الخمر وتحلف بالطلاق كأنّها رجل. وكانت تشتغل في أكلام الرجال عن الجنس وتبوح تجربتها وآرائها في الأمور الجنسيّة مثل الرجال. قالت لود الريس وهي تسخره عندما وقف زواجه من النساء لعامين “ما بالك، لك عامان وأنت مكتف بزوجة واحدة؟ هل ضعفت همتك؟”[22].
وهناك في الرواية شخصية “مبروكة” زوجة ود الريس الاولى التي كانت تحلم بالتغيير وتغضب على تصرّفات الرجال القسوة نحو النساء في المجتمع السوداني. يصوّرها الروائي تصويرا فكاهيا حينما تصفها نائمة مع الغطيط في وقت حدوث القتل والصراخ والنبش بين زوجه وبين حسنة بنت محمود. حينما سألتها بنت مجذوب عن هذا الأمر قالت كأنها في إقناع كامل في قتل زوجها على أيد حسنة كأن فتيات القرية سلمن من أيد هذا العجوز الذي يبدل المرأة كما يبدل حماره. قالت بنت مجذوب للراوي عن تصرّف مبروكة في وقت هذه الحادثة “العجيب في الأمر أن زوجته الكبيرة مبروكة لم تصح من نومها طول هذه المدة، مع أن الصياح جذب الناس من طرف الحلة. رحت إليها وهززتها فرفعت رأسها وقالت: بنت مجذوب، ماذا جاء بك في هذا الوقت؟ قلت لها: قومي، حصلت قتلة في بيتكم. فقالت: قتلة من؟ قلت لها: بنت محمود قتلت ود الريس وقتلت نفسها. فقالت: في ستين داهية. وواصلت نومها. وكنا ونحن نجهز بنت محمود نسمع شخيرها. ولما عاد الناس من الدفن وجدناها جالسة تشرب قهوتها .بعض النساء أردن أن يبكين معها فصرخت فيهن: يا نساء كل واحدة تروح في حالها. ود الريس حفر قبره بيده. وبنت محمود بارك الله فيها، خلصت منه القديم والجديد”[23]
والنساء الأوروبيات في هذه الرواية كلهن تتميّز بصفات جريئة تمرّدية مع أنهن تمثّلن فيها مع صفات سلبيّة. فمثلا شخصية إزبيلا سيمور كانت زوجة لجرّاح ناجح وأمّا لبنتين وابن التي قضت أحد عشر عاما في حياة زوجيّة سعيدة وكانت مؤمنة بالدين المسيحي وتذهب إلى الكنيسة في صباح كلّ الأيّام الأحد بانتظام عاملة في جمعيّات البرّ. والمرأة الأخرى شيلا غرينود صوّرها الروائي متمثّلة لطبقة النساء العاملات في المجتمع البريطاني وهي تعمل خادمة في مطعم في وقت النهار وتواصل الدراسة في البوليتكنيك في وقت الليل. وكانت تؤمن “أنّ المستقبل في العالم ستطلع للطبقة العاملة، وسيجيئ يوم تنعدم فيه الفروق ويصير الناس كلّهم إخوة”[24]. وآن همند هي طالبة أرستقراطية تدرس الأدب العربي وهي معشوقة لفلسفة الشرق وكانت تعدّ أن تتحوّل إلى البوذية أو الإسلام. أمّا جين مورس فهي صاحبة ذكاء ماكر حادّ الذي تمكّنت بهذا الذكاء أن يهين مصطفى سعيد الذي غلب على النساء الأوروبيات الأخريات.
هذا هو عالم المرأة عند الطيب صالح وهكذا شكّل معالم عوالم الشخصيات الأنثوية في رواياته وقصصه. وهذا العالم مليء بفتيات رائعات من القرى السودانية. وقد أتى الطيب صالح بهذا النوع من الفتيات وهو يرسم صورة غير واقعية من الحياة الريفية آنذاك في السودان مع رجائه اللامع لتغيّر واقع الحياة في مجتمع بلده.
فمن الواضح أنّ الطيب صالح له وجهة نظر خاصة نحو المرأة. وكان ينظر إليها نظرة إحترامية وكان يعتبرها صاحبة ثقافة وقيم إنسانية. ليست هي غارقة في مظاهر التخلف وليست بعيدة عن التقدم والتغيير. كان الروائي يؤمن إيمانا عميقا عن قوة المرأة وتأثيرها في إحداث تقدّم الحياة وجعلها حياة خصبة رائعة. وكان الروائي يؤكّد خلال كتاباته أن المرأة تجدّد حياة الإنسان وحياة المجتمع وحياة البلد، لأنها هي صاحبة قلب بصير ورغبات مشتعلة وثورة متمردة عنيدة حتى أن تتكسّر الحواجز والقيود والحدود التي تسدّ سبيلها في نيل الحياة.
المصادر والمراجع العربيّة
- الأعمال الكاملة – الطيب صالح، دار العودة، 2004، بيروت.
- الرواية والتحليل النصي، حسن المودن، الدار العربيّة للعلوم، 2009، بيروت.
- شكل التعبير الديني في روايات الطيب صالح، د. إبراهيم محمد زين، هيئة الخرطوم والصحافة والنشر، 2008، الخرطوم.
- الطيب صالح – دراسات نقديّة، الدكتور حسن أبشر الطيب، رياض الريس للكتب والنشر، 2001، بيروت.
- الطيب صالح عبقريّ الرواية العربيّة، أحمد سعيد محمدية، جلال العشري، رجاء النقاش، سيد فرغلي، عبد الجلاب، عثمان حسن أحمد، د.علي الراعي، هدى الحسني، دار العودة، 1984، بيروت.
- غربة الكاتب العربي، حليم بركات، دار الساقي، 2011، بيروت.
- في الأدب السوداني الحديث، عبد المنعم عجب الفيا، دار نينوي للدراسات والنشر والتوزيع، 2011، سورية.
- القصّة القصيرة دراسات ومختارات، د. الطاهر أحمد مكّي، دار المعارف، 1985، القاهرة.
- قضايا في الأدب والنقد، الدكتور ماهر حسن فهمي، دار الثقافة، 1986، قطر- الدوحة.
- وطني السودان، الطيب صالح، رياض الريس للكتب والنشر، 2005، بيروت.
الدوريّات والمجلّات العربية
- جريدة الوطن، العدد 730، سبتمبر
- الشرق الأوسط، العدد 11041، فبراير
- القدس العربي، يومية – سياسيّة – مستقلّة، المجلّد 20، العدد
- عالم الفكر، المجلّد السابع عشر، العدد الأوّل، وزارة الإعلام، 1986، كويت.
- عالم الفكر، المجلّد الثامن عشر، العدد الرابع، وزارة الإعلام، 1988، كويت.
- مجلّة الدراسات العربيّة، المجلّد 7، العدد 7، قسم اللغة العربيّة بجامعة كشمير، 2009، كشمير.
- مجلّة كاليكوت، المجلّد الأوّل، العدد الثاني، قسم العربيّة، جامعة كاليكوت، كيرلا.
المراجع الإنجليزيّة
- Ami Elad Bouskila, Voices of exiles – A study of Al – Tayyib Salih and his works, Oxford University press, 2007, New York.
- A. Elewa, In search of the other / self: Colonial and Postcolonial narrative identities, 2002, The University of Hong Kong.
- Shirley Maakroun, Journey of darkness and light, Palma journal 2003.
- Tayeb Salih, Season of Migration to the North, translation – Denys Johnson Davies, Heinemann educational books, 1970, London.
- Thayeb Salih, The wedding of Zein, trans – Denys Johnson Davies, Heinemann educational books, 1969, London.
- Wail Hassan, Tayeb Salih – Ideology and the craft of fiction, Syracuse University press, 2003, New York.
الدوريات والمجلات الإنجليزية
- Comparative literature and culture, volume 12, 1ssue 2, June 2010, Purde University press.
- The Gombak review, volume 1, No: 2, 1996, International Islamic University, Malaysia.
- The journal of modern African studies, volume 8, number 2, Cambridge University press, New York.
- Irish journal of public policy, volume 4, issue 1.
- Literary Research, volume 25, summer 2009, International Comparative Association.
- New comparison – A journal of comparative and general literary studies, NO: 17, 1994, British Comparative Literature Association.
- News Letter, volume 18, No:3, March 1999, The Sudan Studies Association of North America
[1] ) مريود قصيدة في العشق والمحبة، رجاء النقاش، الديب صالح دراسات نقدية، د\ حسن أبشر الطيب، ص – 22
[2] ) موسم الهجرة إلى الشمال، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 110
[3] ) عرس الزين، الأعمال الكاملة الطيب صالح ، ص – 213
[4] ) المصدر السابق ، ص – 200
[5] ) المصدر السابق، ص – 204
[6] ) عرس الزين، الأعمال الكاملة الطيب صالح ، ص – 214
[7] ) المصدر السابق، 268 – 269
[8] ) عرس الزين، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 268 – 269
[9] ) ضو البيت، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 380
[10]) ضو البيت، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 380
[11] ) مريود، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 461
[12] ) مريود، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 462 – 463
[13] ) الصدر السابق، ص – 464 – 465
[14] )Tayeb Salih ideology and craft of fiction, Wail Hasan, p: 167
[15] ) مريود، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 457
[16] ) مريود الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 466
[17] ) المصدر السابق، ص – 456
[18] ) المصدر السابق، ص – 469
[19] ) مريود، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 455
[20] ) مريود قصيدة في العشق والمحبة، رجاء النقاش، الطيب صالح دراسات نقدية، د\ حسن أبشر الطيب، ص – 22
[21] ) موسم الهجرة إلى الشمال، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص 27
[22] ) موسم الهجرة إلى الشمال، الأعمال الكاملة الطيب صالح، ص – 87
[23] ) المصدر السابق، ص- 129-130
[24] ) المصدر السابق، ص – 146