
مظاهر الصراع الأيديولوجي في رواية الأزمة الجزائرية: “متاهات” لـ احميدة عياشي أنموذجا من إعداد الأستاذة غنية بوحرّة جامعة الحاج لخضر –باتنة-
مقال نشر بالعدد الثالث من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 175، للاطلاع على كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:

لقد جاءت بداية التسعينيات في الجزائر إيذانا لبدء مرحلة جديدة في الكتابة الروائية ميَّزتها عن رواية السبعينيات والثمانينيات، سواء على مستوى المضمون أو الشكل إذ كشفت روايات هذه الفترة عن التوجهات الأيديولوجية السائدة التي نتج عنها صراع حاد في مستوى الأفكار بين فئات مختلفة، فأظهرت ذلك الصراع القائم بين السلطة والجماعات الإسلاموية من جهة وبين المثقف وهذين الاتجاهين من جهة أخرى، ومحاولة كل منهما (السلطة والجماعات الإسلاموية) إلغاء الأخرى ورفضها وإقصائها، لتكشف الرواية بذلك عن رفضهما للمثقف و براغماتيتهما، كونهما تختفيان خلف قناع خدمة المصالح العامة، في حين تعمل كل منهما على خدمة مصالحها الخاصة وتحقيق أهدافها وغاياتها السياسية. لذلك سنحاول في هذه الدراسة إبراز مظاهر هذا الصراع الأيديولوجي في رواية “متاهات” من خلال الأيديولوجيا البراغماتية، أيديولوجيا الرفض والنضال، ودينامية الأيديولوجيا.
- الأيديولوجيا البراغماتية:
الأيديولوجيا البراغماتية هي أيديولوجيا نفعية ذات نظام فكري متصل بمجموع الأفراد أو الجماعات بمختلف توجهاتها الفكرية والثقافية، ولعلها ترتبط أكثر بالطبقة السياسية والبورجوازية وبالشخصيات الانتهازية التي تسعى إلى استغلال كل ما يخدم مصالحها، ولا يهمها ما قد ينتج عن جراء تصرفاتها البراغماتية ما دامت تخدم مصالحها الخاصة حتى وإن كانت على حساب الآخرين. والملاحظ أيضا على الشخصيات البراغماتية أن لها علاقات مختلفة مع جهات متعددة لاشتراكها في المصالح، وبذلك تعم الفائدة والمنفعة هذه الجماعات، وتضر بالآخرين الذين غالبا ما يقعون ضحية هذه الأيديولوجيا.
برزت الأيديولوجيا النفعية في “رواية متاهات” في اتجاهين مختلفين تماما في البنية الفكرية والتحتية. الاتجاه الأول يتمثل في السلطة التي مثلت لها الرواية بالهرم العسكري المتسلط من خلال أجهزتها القمعية التي مارست عنفها ضد المنتسبين أو المتعاطفين مع التيار الإسلامي، فيكون هدفها هو القضاء على المعارضة الإسلامية – المنافس الوحيد على كرسي العرش- لتخلو لها الساحة وتستولي على الحكم، بعد أن أحست بضياعه وقرب انتهائه، فتقضي بذلك على المعارضة وعلى أفكارها التي كانت سبب قوتها وفوزها في الانتخابات، وتوهم الناس برغبتها في التخلص من المنحرفين والقتلة الذين يريدون السيطرة على البلاد والعباد، فتخدم بذلك مصالحها السياسية وتحافظ على السلطة ومكانتها السياسية. وإن كانت المدونة لم تكشف عن ذلك صراحة، ولكن القارئ يستطيع أن يستشف ذلك من خلال عرضها لبعض النماذج السلطوية، سواء على لسان السارد أو على لسان بعض الشخصيات التي عاشت هذه المواقف واستطاعت أن تكشف عن عنف السلطة وعملها من خلال مؤسساتها التي «تثبت الوضع بترسيخ أيديولوجيتها، وقمع الفكر المخالف باستئصال أيديولوجيا الآخر، أي فرض نفسها على أفراد شعبها»[1] كما كانت تفعل في بداية تبنيها للأيديولوجيا الاشتراكية، إذ كانت تفرض على كل من أراد أن يلتحق بوظيفة تابعة للحكومة أن يثبت انتماءه إلى نظام الحزب الواحد.
مثلت الرواية للأيديولوجيا البراغماتية السلطوية بالدركي وكيفية استنطاقه لشخصية “كمال” والجنرال الذي أوهم الصحافة أنه استقال لأنه كان ضد إخراج الدبابات في وجه أبنائه[2].
فالدركي أثناء استنطاقه “لكمال” وإلصاق تهمة التعامل مع الإرهاب من أجل الاطاحة بالسلطة على الرغم من عدم ثبوت الأدلة، يدل على نية السلطة الخفية التي تضمرها. فبسجن المعارضين والمتعاطفين مع التيار الإسلامي تكون قد حققت مبتغاها في التخلص من منافسيها والبقاء في السلطة متخفية بقناع حماية الشعب من الإرهاب الذي يهدد حياتهم، ولم يكن الجيش إلا أداة قمع بين يدي المسؤولين العسكريين الذين يشغلهم مصيرهم الشخصي.
أما الجنرال المتقاعد أثناء الحوار الذي أجراه معه كل من “احميدة” و”عمر” و”علي خوجة”، فقد كشف عن التوتر والصراع الفكري بين زعماء الجيش على مستوى قمة الهرم العسكري. لذلك قرر الجنرال الاستقالة والتنازل عن منصبه.
إذا كان الجنرال استقال بمحض إرادته كما يدعي أو أرغم على ذلك كما كان يظن الصحفيون، فإن ذلك ينم عن صراع داخلي وعن تباين الأفكار واختلافها، وبذلك سوف يقف هذا الاختلاف حائلا بينهم وبين تحقيق مصالحهم ، ولأن الأولوية للمصلحة السياسية بالنسبة للشخصيات السياسية، فإنه ليس من الصعب التخلص من كل ما يعيق طريقهم في سبيل تحقيق غاياتهم وأهدافهم البراغماتية، ومن السهل إحالة الجنرال على التقاعد إذا كان يزعجهم تواجده ومعارضته لهم.
هذا فيما يخص الاتجاه الأول، أما الاتجاه الثاني فيتمثل في براغماتية الجماعات المسلحة -نقيض الأول- والتي كان هدفها «المعلن دوما هو الحرية والعدالة، لكن وسيلة الوصول إليه هي الجريمة»[3] . ويختلف الثاني عن الأول في كون قيامه على أفكار دينية وقناعات سياسية أسهمت في تسيس الدين وجعلته جسرا للوصول إلى السلطة، فاستعملته لأغراض شخصية ووسيلة للتمويه وتحقيق المصالح السياسية، لذلك فهي محملة بالنفاق السياسي والأخلاقي والديني «لتخوض معركة فكرية باسم حماية الدين للدفاع عنه، وإن كانت في الحقيقة لا تدافع إلا عن مصالحها تحت ستاره […] وبهذا المسلك شوهت الأيديولوجيا النفعية الدين وسخرته بشكل مفضوح وسيء، موظفة الرؤية الاجتماعية والنظرة المحدودة لدى فئة منتجة لخطاب مشوه للدين، بربطه بشكل مباشر بحدود ضيقة تتنافى وحقيقته الشمولية الواسعة»[4].
وخير من مثّل هذه الأيديولوجيا في المدونة شخصية الإرهابي “أبي يزيد” صاحب الحصان الأشهب، الذي استطاع استغلال الدين أحسن استغلال، وتوظيفه لصالحه الخاص، بفهم النصوص القرآنية فهما خاطئا، والأخذ بظواهرها دون معرفة مقاصدها حتى يتمكن من اطلاق فتواه المتعلقة بالقتل والتكفير والجهاد في سبيل إقامة دولة إسلامية، وأيضا فرض الجزية على الناس، وبخاصة على كبار التجار والمسؤولين الذين تُقتطُع منهم الأموال بدعوى الزكاة.
كل هذه المفاهيم التي اكتسبها “أبو يزيد” والتي اكتسبت في الآن ذاته أيديولوجية نفعية مستمرة من خلال مواقفه وقناعاته الشخصية، فتكفير السلطة وكل من يعمل في مؤسساتها، والدعوة إلى قتالهم بدعوى الجهاد والتخلص منهم، وابتزاز الناس وأخذ أموالهم. ليس من أجل إقامة دولة إسلامية كما تدعي ولا هي رغبة في التمسك بمبادئ وسلوك السلف الصالح، ولا هي تبنت رفع لواء الدين من أجل ذلك. وإنما فعلت كل ذلك من أجل منفعة ذات نزعة ذاتية تسعى إلى تحقيق المصلحة الخاصة، والمتمثلة في استعمال الدين للحصول على أكبر عدد ممكن من الأصوات المؤيدة والتي تساعدها في الوصول إلى سدة الحكم والانتقام من النظام الذي منعهم حق الانتخاب، وبالتالي فهي استعملت الدين عن طريق إحدى شخصياتها الفاعلة كطعم ووسيلة لتحقيق الغاية السياسية.
أما الوجه الآخر للأيديولوجيا البراغماتية بعيدا عن السلطة والجماعات المسلحة فتمثلت في إحدى الشخصيات الثرية التي استغلت ثراءها لكسب مسؤولي السلطة ( من عسكريين وولاة وضباط…) ، إنها شخصية المقاول “محمد هارون”، صاحب المشاريع الكثيرة التي استطاع الحصول عليها كمقابل للخدمات التي يقدمها لهؤلاء المسؤولين. أضف إلى ذلك فقد « كان دائما يحرص أشد الحرص على أن يعطي لنفسه صورة الرجل البسيط، المتواضع الذي لم يفسده ولم يغيره الثراء الفاحش، حيث يظهر كل جمعة ببرنوسه وبشاشيته البيضاء، وبلغته الصفراء في مسجد المدينة الكبير ضمن الصفوف الأولى ويلمع في مختلف المناسبات الدينية والتقليدية بعطائه وتبرعاته لصالح الفقراء والمساكين والمعوزين […] وهو بالرغم من ظهوره أمام الناس بمظهر المحافظ المتمسك بالأصالة والتقاليد فإن أبناءه وبناته لم يكونوا يتكلمون إلا الفرنسية ويرتدون آخر الموضات التي تظهر في الغرب، وعندما زاره الشيخ في فيلته الجديدة بالمدينة المنورة أظهر إعجابه بذكائه وتقواه التي سخرها الله في خدمة المشروع وقال الشيخ حينذاك، إن الله ينصر دولة الإسلام بالمؤمن القوي»[5].
كل المخططات والأفعال والتصرفات التي يقوم بها “محمد هارون” إنما هي لخدمة مصالحه الخاصة، وحتى يكسب ثقة الجميع، حتى شيخ البلدية الذي أثنى عليه كثيرا على الرغم من الممارسات غير المشروعة التي يقوم بها، فهو شخصية في قمة الانتهازية، إذ يظهر بمظهر المتدين والمحافظ المتمسك بالأصالة والتقاليد وهي في الحقيقة «مظاهر النفاق الأخلاقي والاجتماعي واضطراب القيم الحاصل في طبيعة الأيديولوجيا النفعية الذي يمكن رده إلى النفاق وانعدام الصدق مع الذات والواقع حتى ولو حاول أصحابها الظهور بمظهر التماسك والتواصل المنطقي والمنهجي»[6].
استطاعت شخصية محمد هارون أن تجمع بين المتناقضات عن قصد أو عن غير قصد، لأنه حينما يدعي التمسك بدين الله ومساعدة الفقراء نجده يرتشي ويقدم المساعدات المالية للجماعة الإرهابية من جهة، ومن جهة أخرى نلحظ تبرج بناته وتقليدهن للغرب في الملبس واللغة على الرغم من ادعائه تقوى الله و محافظته على تقاليده وأصالته. فطبعًا لا يهمه شيء من ذلك ما دامت مصالحه تسير وفق مخططاته.
- أيديولوجيا الرفض والنضال:
نلمح في نص المدونة أيديولوجيتين متصارعتين كل منهما تحاول إلغاء الأخرى وإقصائها واستئصالها واجتثاث جذورها بالكامل، فالأيديولوجيا السياسية والأيديولوجيا الإسلامية في صراع دائم، إحداهما تدعو إلى الديمقراطية واللَّحاق بالركب الحضاري والأخرى تدعو إلى إقامة دولة إسلامية والتمسك بمبادئ السلف الصالح، وازداد الصراع حدة بعد تحول هذه الأخيرة إلى قوة سياسية وتيار إسلاموي، وكلاهما متطرف متعصب لرأيه، يرفض الآخر رفضا مطلقا، وكلاهما لجأ إلى العنف واستخدام القوة المادية لتأكيد قدرتهما على تثبيت بنيتهما الفكرية وتحقيق غاياتهما. وهناك أيديولوجيا ثالثة تعلن رفضها القاطع لهاتين الأيديولوجيتين ، وتقف ضد توجهاتهما، وتكشف عن تلاعبات أصحابها إنها أيديولوجيا الإنسان المثقف، صاحب المواقف والقيم التي يسعى إلى تطبيقها والتأثير على المجتمع وتغييره، «فالإنسان المثقف من حيث إنه إنسان علم ومعرفة وموقف حضاري عام سريع التأثر بالبيئة الاجتماعية المحيطة به، كما أنه في نفس الوقت شديد التأثير في وسطه الاجتماعي، وفي محيطه العصري لِم له من قوة ومواهب عقلية خاصة مستمدة من معارفه وعلومه»[7] .
إن الأيديولوجيات التي وظفها الكاتب «تتحاور وتتصارع […] كما ما في الواقع وكل يرفض الآخر ويسعى لتجاوز أطروحاته النظرية وإظهار عجزها في إيجاد الحل الأمثل، فالرفض والإلغاء سمة كل أيديولوجيا»[8]. وما نلمحه في المدونة أثناء رصد الكاتب لهذه الايديولوجيات عدم حياديته أثناء طرحه لموضوع الأزمة، إذ ركز أثناء عرض أحداث الرواية على إظهار سلبيات الجماعات الإسلاموية وتطرفها الديني وتعسفها وقهرها للمثقف والمواطن، في حين لم يهتم كثيرا بإبراز علاقة المثقف بالسلطة بنفس المستوى من السرد، على الرغم من وضوح العلاقة بينهما خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الجزائر، ويظهر ذلك من خلال عرض بعض الشخصيات المثقفة التي عانت قهر السجن السياسي أمثال “رضوان”، “كمال منصور”، “الشيخ السلفي”، و”الدكتور أبو إبراهيم”.
«لقد حاول احميدة أن يصنع دراما سردية تبحث في النتائج النفسية الخطيرة في حياة صنّاع الموت وعشاق الدم، كما حاول كشف عبثية القتل من خلال تقديم أسئلة القاتل عن سبب القتل، وحيث تحضر مرة أخرى الأسئلة تغيب الأجوبة»[9]، فهل هذا يعني أن القاتل لا يعي جيدا ما يفعل أو أن الأمور اختلطت عليه وسقطت أيديولوجيته في جحيم الانتقام، أم أن عملية القتل قد فُرضت عليه فرضا؟
الصحفيون هم أيضا يتساءلون عن سبب قتلهم واستهدافهم «لماذا يموت الصحفيون بالرصاص والمدية والخنجر»[10] «لماذا أصبح الصحفي فجأة ضحية مزدوجة ، ضحية السلطة والجماعات في نفس الوقت»[11] .
إن هذا القتل العشوائي الذي يتعرض له الصحفي، هو الذي زاد من عزيمته وقوّى إرادته. إذ لم يشأ الاستسلام وأبى التراجع، وفضّل النضال في سبيل إعلاء كلمة الحق واختار الكلمة وسيلة لذلك، لأنه يعلم أنها أحدُّ من السيف على عنق الظالم على الرغم من علمه بأن هذه الكلمات التي يخطها على صفحات جريدته هي سبب مأساته، ويعلم أن مهنته في الصحافة أصبحت تعني الموت والانتحار[12] ، لكنه أبى إلا البحث عن الحقيقة ليُنور عقول الناس بها، ذلك ما جعل رجال الدرك يتهمونه بالزندقة حينما تحدثت الجرائد عن قتل العسكر للشعب.
“حميدو” حينما أوقفوه وصرخوا في وجهه بهذه العبارات لم يأبه لهم ولم يهتم لكلامهم لأنه يعلم أنه معرّض لمثل هذه الاتهامات في كل وقت وفي كل لحظة ويعلم أن رأيه لن يعجب أمثال هؤلاء وغيرهم. الشيء الوحيد الذي كان يقتنع به “حميدو” هو أن يقول ما يعتقد أنه حق وليس عليه أن يقتنع الناس برأيه وموقفه.
في ذلك اليوم الذي هاجمت فيه جماعة “أبي يزيد” ماكدرة مسقط رأسه، كان من بين المحكوم عليهم بالموت. هو كان بالعاصمة لكن حينما بلغه الخبر وعلم بمرض والده وإصابته بانهيار عصبي من هول ما رأى-لأنه كان شاهدا على هذه المجزرة- هرع مسرعا إلى العاصمة لزيارة والده ومعرفة الأخبار على الرغم من تحذير خاله له ودعوته إلى التخلي عن مهنته، إلا أنه رفض ذلك بتظاهره عدم سماعه «لا تأتي ماكدرة في مثل هذه الظروف. أنتم تموتون كل يوم كن حذرا أصحابك قتلوا لأنهم تجنبوا الحذر. هل فهمت؟ جازفوا حيث لا يجب المجازفة بأرواحهم (ثم يجيبه حميدو) لا تقلق يا خالي الأعمار بيد الله، قال: نعم الأعمار بيد الله لكن الحذر مطلوب. اعقلها ثم توكل»[13].
صاحبا “احميدة” اللّذين أشار إليهما خاله (عمر وعلي خوجة) لم يقتلا لأنهما غير حذرين وإنما لكونهما رفضا الواقع المأساوي ومشاهد الدم والخراب، ورفضا سلوك الجماعات والفتاوى العشوائية والقناعات السياسية والدينية المغلوطة. هما قُتلا بسبب الكلمة. “احميدة” و”حميدو” يواصلان نضالهما بالكلمة. هذه الكلمة التي تكررت في نص المدونة على مستوى صفحتين فقط ثمانية وثلاثين مرة. ووردت متتالية بشكل أفقي وعمودي «كلمات، كلمات، كلمات..
كلماتك يا علي خوجة..
كلماتك يا عمر..
كلماتك يا احميدة..
انتقي كلماتك يا عمر، يا علي خوجة ..
أنتقي كلماتي.. أجل الكلمات..»[14]
وتتكرر الكلمات منفردة عدة مرات أفقيا وعموديا مما أثر فنيا على عملية السرد، حتى بدت أنها زائدة ولا معنى لها وفقدت فنيتها وقيمتها الأدبية، لكن الراوي حينما كررها على هذا النحو، أراد أن يوصل فكرة إلى القارئ. مفادها أن الكلمات سبب الموت والبلوى وفي الوقت نفسه علامة الرفض والنضال، وهذه الكلمات لا زالت تسعى إلى تعرية ممارسات القمع و «لا تزال تلعب دورا شبيها بقناع بريوس الذي لاقى به الميدوزا الرهيبة، وقضى عليها بأن وضعها في مواجهة صورتها التي انعكست على صفحة درعها الصقيل كالمرآة، فرأت الميدوزا من بشاعة وجهها ما أفضى بها إلى الدمار»[15] وهذا هو حال الإرهاب حينما يقرؤون حقيقتهم الأصولية ويشاهدون ممارساتهم القمعية على صفحات الجرائد، مما يؤدي إلى اشتعال غضبهم والانتقام من أصحاب الأقلام الذين أباحوا لأنفسهم الموت على صفحات جرائدهم. لذلك فحضور المثقف هو تهديد لهم وتنديد لممارساتهم وبنياتهم الفكرية ومرجعياتهم الأيديولوجية ونظرتهم الدينية المتطرفة.
إن المثقف الحامل لأيديولوجيا الرفض والنضال هو مثقف إيجابي، يسعى لأن يعيش شعبه حياة أفضل. يقاوم ويدافع عن وطنيته. والصحفي هو رمز التضحية ذو نظرة ثاقبة، بوسعه الإسهام بإمكاناته في تشكيل تصور نقدي عن المجتمع، وشخصية ثائرة ضد الأوضاع رافضة للواقع الدموي، آثرة الكلمة والقلم عن باقي الوسائل للدفاع والنضال من أجل شعب مضطهد ووطن وقع بين أنياب الظلم وتحت رحمة الأيديولوجيات الزائفة والقناعات المتناقضة والمتضاربة.
- دينامية الأيديولوجيا:
نعني بدينامية الأيديولوجيا تحول مجموع القيم والمبادئ والأفكار والأهداف والغايات التي كانت تتبناها شخصيات معينة، ولعله يرجع ذلك إلى عدم قناعة الشخصيات بهذه الأفكار ورغبتها في استبدال أيديولوجيا أفضل –على الأقل بالنسبة لها تناسب قناعاتها الجديدة- أو يكون نتيجة سيطرة أيديولوجيا معينة على مجتمع معين باستطاعتها أن تفرض نفسها على أفراد هذا المجتمع، لقوة آرائها ومواقفها ومرتكزاتها الفكرية. فنلحظ تغير مواقف الأفراد وتنكرهم لمبادئهم السابقة وتخاذلهم وعدم ثباتهم على مواقفهم. وهذا ما لاحظناه في نص مدونة “عياشي”، إذ كشف عن شخصيات متحولة أيديولوجيا، تنوعت بين شخصيات مثقفة وغير مثقفة، إلا أننا سوف نركز اهتمامنا على الشخصية المثقفة باعتبارها تسعى إلى تحقيق أهداف نبيلة.
أول شيء شغل الشخصيات المثقفة قضية الانتماء الحزبي وهي «قضية مطروحة لدى الروائي العربي والمثقف العربي معاً ، إذ لم يعد الانتماء الفكري غير المنظم كافيا فقد شعر المثقف بضرورة وجود قنوات تنظيمية يستطيع التعبير عن آرائه وممارستها ممارسة فعلية»[16] ، وهذا ما جعل كل من “كمال منصور” والدكتور “أبو إبراهيم” ينْضمّان إلى الحزب الإسلامي (الجبهة الاسلامية للإنقاذ) ظنا منهما أنهما بانتمائهما لهذا الحزب يستطيعان تحقيق كل الأهداف التي يصبوان إليها، والتي يعمل الحزب عامة على تطبيقها. ولعل اندفاع “كمال” وحماسه الزائد من أجل بث الروح الإسلامية وإيقاظ الحس الإسلامي والرغبة الجامحة في الرجوع إلى عهد السلف الصالح لإقامة دولة الحق التي تقوم على مبدأ الشورى وسلطة الشعب، دون تفكير معمق في مدى نجاح هذه الدعوة هو الذي دفعه إلى سلك هذا السبيل بتفاؤل وإيمان كبيرين، بخاصة بعد عودة بعض الإخوان من الحرب الأفغانية وتشجيعهم على مواصلة الدرب والمضي فيه قدما، وما زاد من حماسه الديني المتصاعد، كثرة قراءاته لكتب “حسن البنا” و”أبو الأعلى المودودي” و”سيد قطب”، ومنذ ذلك الحين يقول “كمال” بدأت «أشعر بالضيق بل بالنبذ والاحتجاج ضد هذا العالم الجاهلي، وبعد مرور عامين على وجودي مع جماعة جمال فوزي قال لي هذا الأخير: الجماعة عازمة إنشاء الله أن تخرج إلى النور.. أن تنتقل بالدعوة للنهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومن السر إلى العلن»[17]. ينم هذا الوعي عن وعي ديني معين في فكر هذه الجماعة لأن «الحضور الديني في حياة الناس يشير إلى وعي ما على الرغم ما تحمله علامات هذا الحضور من رهبة وقلق للمثقف العلماني الذي رأى دائما أن الدولة الحديثة لا تنمو إلا بفكر معزول عن الأيديولوجية الدينية، ومهما يكن فإن الحضور الديني أصبح حقيقة واقعة، يختلف بشأن حجمه الفعلي، ومدى درايته وعمقه لكنه أمر ثقافي، كما هو أمر الأيديولوجية العلمانية وكذلك المعارف والتعليم…»[18] .
“كمال منصور” طالب جامعي يحضر رسالة الماجستير ومعيد في الجامعة من مدينة عين تيموشنت. كان يُعرف وسط أترابه وأساتذته في الثانوي بالشاعر. بعد دخوله الجامعة تغير تفكيره وتخلى عن كتابة الشعر وأصبح ينظر إليه نظرة رجعية ويشعر بالخجل والتقزز كلما تذكر أنه كان يرغب في أن يصبح شاعرا، لذلك قرر أن يصبح مناضلا في الحزب الشيوعي ثم عضوا فاعلا في التنظيم الطلابي الإسلامي ما يؤكد تغير وجهته وانتمائه. قُبض عليه بعد مظاهرات أكتوبر بتهمة الانضمام إلى تنظيم سري مسلح يعمل على تنظيم الجهاد من أجل قلب النظام. حُوِّل إلى سجن لامبيز ، وأمضى فيه عدة سنوات إلى أن جاءته الفرصة وشارك «في أكبر مغامرة هروب من أكبر سجن كله حكايات عجيبة وأساطير ورهبة»[19] متجها ومن معه إلى جبال “تادموت”، إذ كانت المرة الأولى التي يصعد فيها الجبل ليدخل الأسطورة من بابها العريض. كان في البداية مترددا خائفا «لم أكن متحمسا للهروب .. كنت خائفا أن أذبح لو رفضت الهروب .. وكنت خائفا أن أسقط تحت رصاص حراس السجن»[20] . هذا هو حال مثقفينا الذين تورطوا بانتمائهم الحزبي زمن الأزمة، مشتتين خائفين يعانون انشطار الشخصية وتشظيها. يرى الظلم بأم عينه أثناء إقامته بالجبل ولا يستطيع أن ينبس ببنت شفة، يحس بالخنوع والخيانة والجبن، لكن سرعان ما يتلاشى ذلك الإحساس مع مرور الأيام بعد أن ألِف حياة الذل والمهانة رفقة جماعة “أبي يزيد”، فقد أصبح يُكنى “بأبي جمانة”[21]، ومنذ ذلك اليوم بدأ في التدرب على السلاح وارتداء الزي الأفغاني وحمل البندقية ليبدأ حياته الجديدة مع أبشع العمليات الإرهابية. و يمكن أن نمثل لمسار “كمال منصور” وتحوله بهذه الخطاطة:
الإنضمام إلى حزب إسلامي |
النضال في إطار غير شرعي |
عودة الوعي |
الاستسلام |
النضال في إطار غير شرعي |
الإنضمام إلى تنظيم مسلح |
مسار تحول كمال منصور
“كمال منصور” عند بداية تحوله الفعلي والسلبي، كان مشتت الأفكار لضبابية الرؤية وعدم وضوح معالم الطريق الذي سلكه واختاره لنفسه، مما جعله يكثر من التساؤلات عن حقيقته «من أكون؟ من أنا في نظرهم وفي نظرها؟ ضحية؟ بطل؟ مجاهد؟ إرهابي؟» «من أنا ماذا حدث لي بالفعل وكيف وصلت إلى هنا، ثم هل أنا؟ ÷ل هل أنا؟» [22] .
التحاقه بالجماعة المسلحة في نهاية المطاف لم يكن عن قناعة تامة، وممارسته القتل لم تكن برغبة منه، ولكن بعد أُن أُقنع بذلك أصبح الأمر عاديا بالنسبة إليه، فالفرد حينما يلتحق بالجماعات في الجبل تصبح عقيدته الجديدة «هي الهواء الذي يتنفسه والماء الذي يشربه والطعام الذي يأكله، هي حياته وينفصل تماما عن كل صلة بما كان فيه في الماضي، ينفصل عن صلة الدم عن العادات والتقاليد التي ورثها عن مجتمعه الفاسد ينفصل عن الدين كما فهمه من أهله وأبائه وأجداده، ويصبح إنسانا آخر، خلع الماضي كما خلع الضرس الذي نخره السوس»[23].
الدكتور “أبو إبراهيم” لا يختلف كثيرا عن “كمال منصور” وإن كان انضمامه إلى الحزب الإسلامي -بعدما كان في السابق من دعاة الشرعية الثورية- بدافع سياسي إذ «كان ممن نجحوا في الدور الأول في الانتخابات التشريعية الملغاة.. ألقي عليه القبض مباشرة بعد إلغاء المسار الانتخابي.. قضى حوالي سنة في محتشدات رقان ولدى خروجه من المحتشد وجد الجزائر تغلي، لم يكن يفكر مطلقا في الصعود إلى الجبل شرع الاقتتال يثير في نفسه مخاوف وهواجس كبرى.. لم يكن راضيا على انتهاج طريق السلاح.. كان يرى في ذلك انتحارا سريعا للمشروع.. كان من دعاة الحفاظ على الشرعية. أفكاره تلك جلبت له الكثير من الاستعلاء من جانب السلفيين المتشددين.. كانوا يعتبرونه رأسا من رؤوس الجزأرة .. وذات مساء هجموا على حي الدكتور بتلمسان .. كان ينظر إلى النافذة عندما رأى أحدهم يطلق النار على أحد الأئمة الملتحين.. أحس بالخوف والفزع، فتح النافذة وتسلق الجدار […] وفي الفجر شق طريقه إلى الجبل.»[24]
هكذا كانت بداية الدكتور أبو إبراهيم مع حياة الجبل والإرهاب، على الرغم من رفضه الدائم لهذه الحركة، إذ كان من خصوم الإرهاب والنشاط المسلح مما جعل زملاءه في الجامعة يتساءلون عن سبب ذلك، وهو الذي كان من دعاة الشرعية. إلا أن تصرفه هذا لا يحتاج إلى تفكير معمق بخاصة بعد قتل الإمام، لأنه يعلم أن دوره آت لا محال، بعد اتساع عملية القبض على أعضاء الحزب الناجحين في الانتخابات والمتعاطفين والمشجعين لهذا الحزب، إذ بالفعل جاء العسكر في اليوم الموالي للقبض عليه ولم يجدوه. ومن هنا نقول إنه إذا كان هناك من التحق بالجماعات نتيجة لقناعاتهم السياسية فإن كثيرا منهم «فعلوا ذلك ببساطة لأنهم لم يعودوا يتحملون الضغط الذي يمارسه عليهم الهرم العسكري»[25]، فيدفعون ثمن حريتهم واختيارهم ودعوتهم الدينية والسياسية غاليا .نهايتها إما السجن أو الموت أو اللّحاق بالجماعات في الجبل كما جاء ذلك في المدونة.
الدكتور أبو إبراهيم حين التحق بالجماعات في الجبل كان ضمن لجنة الدعوة والإعلام رفقة المعلمين والأساتذة الجامعيين والمثقفين، التي اختصت بنسخ الشرائط والبيانات وعلى الدعاية والدعوة والإعلام[26]. كان كثيرا ما يُسِرُّ “لكمال منصور” بضرورة الحوار لأنه لا طائل من وراء التشدد والتعنت فيقول: «إننا غير قادرين على إزالة النظام والقضاء عليه، وهم غير قادرين على اجتثاثنا واستئصالنا»[27].وكان هذا التفكير الإيجابي هو الذي رد إليهما وعيهما ليسلما نفسيهما دون أن يذكر الراوي تفاصيل الحادثة.
إن كمال منصور والدكتور أبو إبراهيم نموذجان لشخصية المثقف الإشكالي السلبي الذي يميل أكثر إلى السلبية، كونهما يحملان قناعات أيديولوجية معينة ويؤمنان بها، إلا أنهما لم يستطيعا الحفاظ عليها وتخليا عنها نتيجة الضغوطات و الظروف السياسية التي مرا بها، والشخصية الإشكالية في الحقيقة هي موقع وسط بين الشخصية الإيجابية والشخصية السلبية، في حين أن ركوبها ظهر الموجة جعل منها شخصية سلبية[28] وهذا هو حال كمال وأبو إبراهيم حينما ركبا موجة الهلاك وكادت أن تؤدي بهما إلى نهايتهما لولا تفطنهما واستيقاظهما من غفلتهما في نهاية المطاف.
هكذا تمكنت الرواية من تجسيد الصراع الأيديولوجي القائم بين أطراف وجماعات مختلفة، ورصدت تخبط المثقف ومعاناته ووقوعه بين مطرقة السلطة وسندان الإرهاب وسقوط الآخر في شرك الأيديولوجية الإسلاموية.
إن وعي الكاتب بما حدث في الواقع المعيش ومعايشته لذلك يوميا باعتباره صحفيا كان في قلب الأحداث، مكنه من رصد الأحداث بكل تناقضاتها في بناء روائي جعلت القارئ يستحضر الكثير من المشاهد والوقائع التي حدثت فترة التسعينيات، مما يكشف عن تسجيلية الرواية وظرفيتها، مما أثر نوعا ما على البناء النصي جماليا، إذ اهتم بنقل الأحداث بدءاً بحياته الشخصية ليسجل رواية سير ذاتية من خلال شخصية “احميدة الصحفي” والعودة عن طريق الاسترجاع إلى أيام الطفولة والشباب، فلم يكلف نفسه حتى تغيير أسماء شخصياته الروائية لينقلها من عالمها الواقعي إلى عالمها التخيلي.
[1] . الشريف حبيلة: الرواية والعنف دراسة سوسيو نصية في الرواية الجزائرية المعاصرة، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، عمان، ،ط1، 2010.، ص 14.
[2] . حبيب سوايدية: الحرب القذرة ، ترجمة. روز مخلوف، دار ورد للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 2003.ص 21.
[3] . عمرو عيلان: الأيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي،، دراسة سوسيو بنائيية في روايات بن هدوقة، منشورات جامعة منتوري، قسنطينة، 2011، ص86،85.
[4] . نفسه، الصفحة نفسها.
[5] . احميدة عياشي: متاهات، احميدة عياشي: متاهات ليل الفتنة، منشورات البرزخ، الجزائر، (د، ط)، 2003. ص 93.
[6] . عمرو عيلان: الأيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي، ص 83.
[7] . عبد السلام محمد الشاذلي: شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة 1882- 1952، دار الحداثة للطبع والنشر، لبنان، ط1، 1985، ص 10.
[8] . عمرو عيلان: الأيديولوجيا وبنية الخطاب الروائي، ص 89.
[9] . وليد بوعديلة: السياق والتأويل نموذج الرواية والقصة الجزائرية (وطار، الأعرج، مفتي، والعياشي)، مجلة كتابات معاصرة، لبنان، عدد62، 2007، ص 96.
[10] . احميدة عياشي: متاهات، ص 185.
[11] . نفسه، ص 223.
[12] . نفسه، ص 180.
[13] . نفسه، ص 25.
[14] . نفسه، ص 185.
[15] . جابر عصفور: مواجهة الارهاب قراءة في الأدب المعاصر، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2003، ص08.
[16] . محمد رجب الباردي: شخصية المثقف في الرواية العربية المعاصرة، الدار التونسية للنشر، ط1، 1993، ص1043
[17] . احميدة عياشي: متاهات، ص 251.
[18] . محسن جاسم الموسوي: النظرية والنقد الثقافي الكتابة العربية في عالم متغير واقعها سياستها سياقاتها وبناها الشعورية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005..، ص 95.
[19] . احميدة عياشي: متاهات، ص 247.
[20] . نفسه، ص 260.
[21] . نفسه، ص 258.
[22] . نفسه، ص 247، 248.
[23] . عبد السلام حيدر: الأصولي في الرواية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2003، ص 152.
[24] . احميدة عياشي: متاهات، ص 264.
[25] . حبيب سوايدية: الحرب القذرة في الجزائر، ص 139.
[26] . احميدة عياشي: متاهات، ص 265.
[27] . نفسه، ص 263.
[28] . ينظر محمد عزام: البطل الإشكالي في الرواية العربية المعاصرة، الأهالي للطباعة والنشر، (د ط) 1992، ص10، 11.