
مقال نشر بالعدد الثالث من مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية ص 157 من إعداد أ. محمدي محمد / جامعة الدكتور: الطاهر مولاي سعيدة. الجزائر، للاطلاع على كل العدد يرجى الضغط على غلاف المجلة:
الملخص:
برز الفضاء الشعري كتيمة جديدة في شعر الحداثة، حيث تسعى هذه المداخلة إلى إبراز ما للفضاء من حمولة دلالية في تلقّي النصوص الإبداعية الشعريّة؛ وصلته الوثيقة بعملية التأويل، التي لم تعد محصورة بكلّ ما هو لغوي. بل تعدته إلى جوانب أخرى، فالقصيدة الشعريّة الحداثية تستمدّ جوهرها من سمات فنية جمالية مختلفة لا ترتكز على اللغة فحسب بل تُراعي جوانب عدّة أبرزها الجانب البصري.
الكلمات المفتاحية:
الأيقون، البصري، النص الموازي، التلقّي، النّص الأدبي، الجماليّة، إعادة إنتاج المعنى، التوقّع، الفراغ، القارئ.
العنصر البصري في القصيدة الحديثة والمعاصرة:
شكّل الاشتغال الفضائي موضع اهتمام العديد من النُّقاد العرب خصوصا المغاربة منهم؛ فمحمد بنيس في مؤلّفه “بيان الكتابة” يؤطّر نظرياً لهذا المُعطى البصري ويسعى لتغيير مسار الشّعر بـ « أن نبنين النّص وفق قوانين تخرج على ما نسج النص المعاصر من سقوط وانتظار أن نؤالف بين التأسيس والمواجهة»[1].
فهذه دعوة صريحة إلى تبنّي أنماط جديدة في الكتابة الشّعرية مخالفة لما هو مألوف، ومن ثمّ البناء بلغة جديدة جوهرها الاشتغال الفضائي “المكان “، فهو يرى: « أنَّ إغفال هذا المجال في قراءة النّصوص يعبّر بوضوح عن تحكُّم التّصوّر التقليدي في قراءة النّص الشّعري، خاصة وأنّ أهمية المكان ذات دلالة لا يُمكنُ اعتبارها جانباً هامشياً أو ترفاً فكرياً أو لعبة مجانية…»[2] فهو بذلك يطرح مفهوم الكتابة كبيان للدعوة للتجديد ولصياغة مشروع جديد للشعر، خروجاً من مأزق التقليد والنمذجة المتوارثة.
ويمثل مؤلَّف “الجنون المُعقلن” لعبد الله راجع امتداداً نظرياً لكتابات محمد بنيس حيث سعى صاحبه إلى تبني مشروع الاشتغال الفضائي للكتابة « فالكتابة عرس للعين والأذن والباطن»[3]. فهو يشير في مؤلَّفِه إلى التشكيل الخطّي الذي استمده من تجريد توفاليس وبودلير[4].
بينما يعتبر عمل محمد بلبداوي الموسوم بـ “حاشية على بيان الكتابة لمحمد بنيس ” الأكثر تركيزاً على عنصري الخّط والتشكيل، مع إبرازه لدور السياق النّصي يقول فيه:«…ماذا يحدث مثلاً لو أنّني زوجت الخط بشكل، وليكن علامة من علامـات المرور، حينما يكون سياق النّص يقتضي ذلك (أُلحُّ هنا وأؤكِّد على سياق النّص)… أنّ حرية القارئ مشروطة بالمناخ السّائد في النّص، وهذا المناخ أنا الذي أغزلُ خيوطه الرفيعة بأكبر قدر من العناية والمسؤولية…»[5].
فصاحب الحاشية يجعل من الاشتغال الفضائي ضرورة ملحة يغذيها السِّياق، فتفرض بعض السياقات وجود علامات مزاوجة للخط من أجل تنشيط فاعلية القراءة لدى المتلقي بوصفه عنصراً مشاركاً في عملية البناء النّصي. وقد يكون ذلك سبب وفائه لهذا النّوع من الكتابة، وإصراره على مواصلة كتابة دواوينه بخط اليد[6].
ولتبيّن عناصر الاشتغال الفضائي في الشعر الحديث والمعاصر كان لزاماً عليّ الاستئناس ببعض المؤلفات التنظيرية والنقدية في هذا الباب، وتأسيساً عليها سأستعرض هذه العناصر وفق النسق الموالي:
- الخـط:
شكّل الخط العربي، أحد المظاهر البارزة والرئيسة، للحضارة العربيّة الإسلاميّة، منذ نشأتها الأولى وحتى اليوم. تطوّر مع تطورها، وكان أهم دعائمها، والوسيلة الأساس في نشرها وتعميمها؛ وفي الوقت نفسه، عومل هذا الخّط، كعمل فني قائم بذاته، له خصائصه ومزاياه التشكيليّة والتعبيريّة، ولا يزال حتى يومنا هذا، موضع اهتمام وبحث وتجريب بهدف اختلاق منجز بصري عربي معاصر، مما ينطوي عليه من قيم تشكيليّة ودلاليّة وتعبيريّة.
احتفظ الخط العربي بعافيته، تصونه وتحرس أصوله وقواعده ونظمه الراسخة، وظلَّ محط اهتمام وشغف العرب والمسلمين في أصقاع انتشارهم كلها، كونه لغة أسمى النّصوص وأقدسها (القرآن الكريم) الذي كان ولا يزال من أهم وأبرز عوالم حفظه وصونه وانتشاره سليماً معافى، ذلك لأنّ كل إنسان اعتنـق الدين الإسلامي الحنيف، عليه تعلّم اللغة العربيّـة، مهما كانت لغته الأم، ليتمكن من الإحاطة بأفكار وتعاليم دينه وممارستها بالشكل الصحيح والسليم فكانت حتمية الاحتكاك بالخط العربي والجماليات البصريّة التي تكتنـزُها حروفه وتشكيلاته.
- البنية الخطّية:
تتشكّل الصّفحة المخطوطة من وحدات صغيرة تتدرج من النقطة إلى الحروف ثم الكلمات فالجمل لتصل إلى تشكيل نص بهيئة معينة. في القصيدة المعاصرة.
يعرّف الماكري الوحدة الخطّية Graphème بأنّها: « تلك الوحدة الأصغر للخطّ المتّصِل Trait continue وهي تلعب نفس الدور الذي يلعبه الفونيم، الذي هو أصغر وحدة صوتية في السلسلة المنطوقة »[7]
فمن خلال هذا التعريف أجد مقارنة بين الوحدة الخطّية والفونيم؛ فهما يتّفقان في أدائهما الدور نفسه ضمن اللفظة، ويختلفان في أنّ الفونيمات ثابتة العدد ومحدّدة بينما الغرافيمات (الوحدات لخطّية) مرنة، لها تجميعات كثيرة ممكنة. وهذا يقود إلى أنّ الوحدات الخطّية لا تقلّ أهميتها في قراءة المنجز البصري للنّص الشعري عن نظيرتها الصوتية.
لقد أدرك الشاعر المعاصر أهمية البنية الخطّية في تلقي النّصوص الشعرية فطعّموا قصائدهم بنماذج خطّية تجلب القارئ إيمانا منه أنّ العلامات غير اللغوية – كما يسمّيها ديلا فيليوليه، غريماس، جاكبسون[8].
والنموذج الآتي يبرز قيمة تموضع الغرافيمات في النّص الشعري ودورها في إحداث لون من ألوان التفاعل بين القارئ والنّص:[9]
فتظهر استعانة الشاعر بخطاط لكتابة قصيدته بهئية طباعية معيّنة، فهناك خرق بارز لقوانين الكتابة الخطّية المتعارف عليها في اللغة العربية، ويبرز ذلك في تعمّد الشاعر توزيع كلمة ” يُـجَـالِسُـها” إلى بنيتين خطّيتين؛ تضمُّ الأولى ثلاثة عناصر ” يُـجَـا ” أمّا الثانية فتتكوّن من أربعة عناصر ” لِسُـها”.
ولعلّ هذه القصدية في تقسيم البنية الخطّية الغاية منها الإدهاش وإثارة فضـول القارئ؛ فهي تكسر أفق توقعه المعتاد وما ألفه من نظم خطّي إذ يقع بصر المتلقي على مثل هذه القصائد وذهنه محمّل برؤية قبلية لقصائد سابقة، فأفق انتظاره محدّد سلفاً، وعند التقائه بقصيدة مثل هذه يحدث تجاوزٌ او انتهاك لأفق انتظار المتلقي، وتسمى هذه لحظة “الخيبة” وهي لحظات تأسيس لأفق جديد، وهكذا يتمّ التطوّر في الفن الأدبي عبر استبعاد الآفاق المتجاوزة وتأسيس آفاق جديدة[10]، وهي بدورها ستدخل احتمال أن تُصبح متجاوزة لدى القارئ لأنها ستحوّل ضمن تجاربه السابقة في قراءة الأعمال، وتلك التجارب تضبطها معايير، والمعايير هي التي ترسم ذلك التطوّر في اللحظة التي تتعرض فيها إلى تجاوزات في الشكل والموضوع واللغة[11]«بحيث يصبح المعوَّل في تلقي القصيدة على تلقي الأحرف وأحجامها وصياغة الفراغ بينها ممّا يستوجب قراءتها قراءة أوركسترالية تعتمد على النظرة الكلية التي تشمل النّص أفقيا وعموديا»[12].
وعليه فالعنصر البصري L’élément visuel هو الذي سيتكشّف القارئ من خلاله القيم الإيحائيـة للنّص من خلال تموضـع بنياتـه الخطّيـة ضمن الإطار العام للفضـاء النّصـي.
تقوم البنى الخطيّة على نوعين من العلاقات[13] الأولى علاقة تركيبية Syntagmatique يحدّد السطر الشعري في خط أفقي يتناوب فيه توزيع البياض والسّواد ليصبح كشريط متّصل « وفي بنية من هذا النّوع نتحدّث عن محور أفقي يسمى أيضاً محور تلاصقي»[14]. أمّا العلاقة الثانية فعلاقة استبدالية Paradigmatique تقلّ فيها عناصر الوحدات الخطيّة وفيها يبرز محور انفصالي. والعلاقة التي تنطبق على الخط العربي هي العلاقة الأولى ( التركيبية ) لمواءمتـها الاعتبارات النحوية والصرفية للخط العربـي.
وقد اعتنى جملة من الشعراء المعاصرين –خصوصا المغاربة منهم – بتوظيف بنى خطية متنوعة في فضاءات نصوصهم وعيا منهم بدورها في عملية التواصل مع المتلقي، وكنتيجة لمثاقفاتهم مع الحضارة الغربية[15].
ولإبراز فعالية البنى الخطيّة في تلقي النصوص الشعرية لدى القارئ أستعرض النماذج الآتية:
- النموذج الثالث:[18]
فأوّل ما يلاحظ كعنصر مشترك بين هذه النماذج هو استعمال الشعراء لخط اليد إما عن طريق الاستعانة بخطاط كما فعل محمد بنيس أو بالاعتماد على خط يده كما يفعل (أحمد بلبداوي) ليساهم في تحقيق شعرية النص بصريا. فـ « مثل هذه الكتابة الشّعرية تبلبل أساساً نظام الكتابة وتقلب رأسا على عقب مراجعه المعروفة »[19]. وذلك متجل في النماذج سالفة الذكر من خلال تتابع وتلاصق البنى الخطية مشكّلةً شريطاً أفقياً مع بروز الفضاءات (البياض). وعندما ندقّق الملاحظة في تلك الفضاءات الشّعرية نجدها تمارس توترا على القارئ، وفيها جانب من الاستفزاز البصريّ والذهني، لا سيما وإنّها تخالف المعتاد عنده، فينقسم التركيز عنده بين فهم المكتوب من خلال تمييز الخط، وبين فهم المعنى المحتوى في القصيدة .
وقد استعان الماكري بالنماذج السابقة ليمثل لمفهوم البنى الخطية، حيث أجرى تمثيلات رقمية ورسوم بيانية لحساب الوحدة الخطية المتوسطة[20]وذلك من خلال قسمة مجموع العناصر (الحروف) على مجموع البنى الخطية وخلُص إلى أنّ البنى الخطية لها دور لا يمكن إغفاله في تلقي النصوص. فهو يعتقد وجود تلازم بين العناصر المشكّلة للجانب البصري (الزمان، المكان، البنية الخطّية) فيقول: « إنّ الزمان حاضر من خلال فعـل البناء، كما أنّ الفضاء حاضر من خلال نتاج ذلك الفعل، بل إنّ الزماني يدرك عبر أثره الذي يمثله الفضاء هنا، لهذا وجب البحث في علاقة البنى الخطّية بمفهومي الزمان والمكان»[21].
فالزمن الخطّي – حسب الماكري – صورة عاكسة للزمان الشخصي للشاعر فكلّما اتّصلت البنى الخطية؛ وكثرت الوحدات الخطيّة (الغرافيمات)؛ وغلب السواد على البياض (النموذج الأوّل والثاني)كلّما اتّصل زمن الشاعر بزمنه الاجتماعي، في حين أنّ التوقفات المسجّلة في حركات اليّد أثناء فعل الكتابة وانفصال البنى الخطية وقلّة الغرافيمات وغلبة البياض على السواد (النموذج الثالث) يترجم انفصام بين زمن الكاتب وزمنه الاجتماعي، إذ هذه الوحدات ترجمة للاوعي الشاعر وزمنه. فالنّص الشّعري بين موضعين الأوّل موضع انفتاح Extaraverti حين تتوالى البنى الخطّية مشكّلة السّواد، أمّا الثاني فموضع انغلاق Intraverti حين يغلب البياض.
فعملية بناء النّص الشعري تتعلّق بالصورة المشكّلة في مخياله فهي توجه عملية البناء وتتحكّم فيها بل تتعدى ذلك إلى تحديد الشكل (حجم الحروف، أبعادها، السواد والبياض) يقول أحمد بلبداوي عن تجربته في تشغيل الدال الخطي: «حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة وأدعو عينه للاحتفال بحركة جسدي على الورق. يصبح المداد الذي يرتعش على الورق، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويغدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافا إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن»[22].
أقف من خلال هذا القول على قصدية الشاعر إلى ربط الصلة بينه وبين النص من ناحية، وبين النص والمتلقي من ناحية أخرى؛ فعلى الثلاثة أن يحافظوا على رابط التواصل بينهم، وضرورة التفاعل والتناغم هذه جعلها روّاد جمالية التلقي شرطا أساسيا لفعـل القراءة، مع التركيز على عنصر القارئ. يرى “آيزر” في هذا الصدد أنّ « نماذج النص لا تحيط إلا بطرفٍ واحدٍ من الموقف التواصلي فبنية النص وبنية فعل التلقي يمثلان استكمال موقف التواصل الذي يتم بقدر ما يظهر النص في القارئ متعالقاً بوعيه »[23].
كان هذا جانباً حول دور البنية الخطية ومفهومي الزمان والمكان. وسأحاول التعريج على مفهومي الفضاء النّصي والصوري وتمظهراتهما في الدواوين الشعرية الحديثة.
- الفضـاء النّصِّي والفضاء الصوري:
يميّز فرانسوا ليوطار Francoi Lyotard في كتابه ” الخطاب والصورة” بين نوعين من الفضاء المتعلقين بالنّص من حيث هو معطى بصري؛ أحدهما: نصي يُقصد به: «الفضاء الذي يحتوي الدّال الخطي، وبذلك يبقى المعطى المقدّم في إطاره مجرد نص مقدّم للقراءة»[24]. وثانيهما الفضاء الصوري؛ و« هو الفضاء الذي يتضمن أثراً يستوجب من القارئ وضعاً معيناً ليتلقى الأشكال التي يبرزها الأثر»[25].
أستشف من التعريف السابق أنّ الفضاء النّصي تحكمه الدوال اللغوية فهو يركز على الدّال الخطّي بعبارة أدق: الحرف والبياضات والترقيم والسطر الشعري.
أمّا الفضاء الصوري فيضمُّ الأشكال البصرية والعلامات البصرية، وهو متجاور مع سابقه أي النصي تجاور انفصال ويشتركان في التبليغ.
كما أنه يفرض على المتلقي جهداً أكبر في البحث عن العلاقة القائمة بين الفضاءات المؤطرة والمتحررة التي لا يمكن النظر إليها باعتبارها إعادة أو تكراراً أو مقاطع منفصلة لا علاقة بينها كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، وإنما هي إثراء للدلالة يتخذ طابعاً علامياً مزدوجاً[26].
والقصيدة البصرية[27] تحاول أن تستعيض من خلال التعبير بالصورة البصرية عن مبدأ التعبير بالصورة اللفظية، لذا لم يعد المعروض نصاً فقط بل هو إلى جانب النص فضاء صوري شكلي لا يخلو من دلالة (صور، رسم، ألوان، صوت) تحكمها مقصدية منتج الخطاب.[28] وذلك انطلاقاً من أهمية بنية المكان (المساحة) داخل النص باعتباره جزءاً من بناء القصيدة عدا أهمية دور القلق الداخلي في انعكاسه على تحرير الشاعر للنص وعلى طريقة ترتيب الكلمات، مما ساهم في تحولنا عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة التشكيل الذي يذيب اللغة الشعرية في فنون أخرى.[29]
ومن النماذج التي تعكس توظيفهما أعرض الآتي:
- النموذج الأوّل:[30]
مأخوذ من ديوان أحمد بلبداوي خطت يد الشاعر في مفتتح القصيدة إطار صفحة، وداخله تولّد تفاعلا بين البياض والسواد، بين الداخل والخارج. على أن اليد لا تكتفي بداخل الإطار بل تتعداه إلى الهامش من جهة اليمين.
فكأن يد الشاعر تلح على اختراق الإطار المرسوم للصفحة مرتين ففي الأولى كان اختراقاً بسيطاً، أمّا الثانية فكان الاختراق مكثّف يشكّل تجاوزاً للخطوط الحمراء التي لا ينبغي تخطيها ؛ ويمكن ربط الاختراق بالمتن باعتبار الفضاء الصوري ترجمة لجدّية البحث (ما يفتأ يبحث في البرية…عن قطع غيار لعضوه الأوحد).
والصورة نفسها تبرز في القصيدة الواردة في باب الانكشاف[31]. اختراق للإطار المرسوم، والكتابة في الهامش يسارا:
أمّا بن سالم حميش فيأتي بنموذج فضائي “المتن الفارغ”[32]ضارب في الغرابة والإثارة يعكس السخرية فهو يترك المتن فارغاً والإطار ويستغل الهامش بالكتابة فيه كما هو مبيّن أسفله:
من هنا، يمكن أن نخلص إلى أبعاد توظيف الشاعر لمختلف مكونات الصفحة- الإطار«فالكتابة تتم في الهامش وتخترق الإطار من جهة اليمين قبل أن تخترقه من جهة اليسار»[33] على أن انتهاء الديوان بقصيدة تخترق الإطار، وتكتب في الهامش من جهة اليسار دليل على استمرار عملية الكتابة والمراهنة على المستقبل. كما يتبدى لنا هذا الاختراق، ولو بشكل أقل حدة، في قصيدة باب النمل:[34]
الإطار الداخلي المرسوم باليد كأنّه ينمّ عن مدخل جحر النمل، فهو مواز بصريا لما خُطّ على أساس أنّه عنوان للقصيدة؛”باب النمل”.ومن داخله ينادي الفقر ورديّ موجّها دعوته إلى الدّوري، والزّرزور، والهدهد، والغراب، والبوم، والدّراج، والسّمّان، والشحرور، والخطّاف، فكلّ هؤلاء يدعوهم لاقتسام سهم الماء، غير أنّهم لم يدخلوا، وهذا ظاهر من خلال بقاء واو الجماعة اللاحقة بالفعل الماضي” أوقد “خارج الإطار اليدوي للقصيدة. فما وصل منهم إلى داخل البيت الحجري سوى الأصابع: ” …ثمّ تركوا أصابعهم تتحدّث من داخل ميتافيزياء الحجر.”
أمّا عن دعوتهم لاقتسام سهم الماء، فذلك إشارة إلى الحاجة والفاقة، وفي هذا صوت منفجر يندُب ما وراء طبيعة الحجر. ينفذ إلى أغوار الذات الإنسانية في صرختها المعذبة.
- النموذج الثاني:[35]
يعمد فيه الشاعر إلى توظيف الأسطر الشعرية المكتوبة بخط اليد كلبنات لبناء أشكال هندسية منها المثلث الذي تلتقطه العين المبصرة للمتلقي وتساهم في تشكيل ووصل خطوطه الوهمية. وما يشدّ انتباه المتلقي هو الحركة الخطيّة المتقلصة بدءاً من السطر الأول الذي حوى ست كلمات؛ لتختتم القصيدة – عن طريق تقنية التفتيت- بحرف واحد، وكأنّ اللغة عنده في تناقص مستمر.
واعتمده شعراء آخرون بخط الآلة كالنموذج الموالي لسعدي يوسف:[36]
معلنةً أن باباً فتحناهُ بين الأغاني تناءى ومرّ مرور الأغاني تناءى ومرّ مرورا تناءى ومرّ تناءى … |
فيظهر توظيف تقنية الخط الوهمي وهو« الناتج عن الإدراك الحسّي الذي يقوم بتنظيم خطوط الصورة تلقائياً داخل مثلث المجال البصري وهو الرّابط بين النقاط الثلاث لأي مثلث على نحو تلقائي»[37] ومع أنه لا يُرى إلا أن له حضوراً حقيقياً في ممارستنا البصرية، ففي حالة وجود فجوات في التكوين، فإن الخط الوهمي سيجبر العين على إكمال حدود محيط التشكيل.
واختيار الشاعر لهذا النسق الكتابي له فعاليته في عملية التلقي حيث أنّ انحسار السواد وقصر الأسطر الشعرية من سطر لآخر وغلبة البياض على المتن يترجم تنائي الباب واندثاره في غيابات المجهول.
أما فيما يخـصُّ الفضاء الصوري فسأعرض له نماذج متعلقة بالتشكيل الأيقوني[38]، فقد اهتم الشعراء بعرض نصوصهم الشعرية المجسمّة في شكل أيقونات احتفوا فيها ببعض عناصر الجسد وسعوا إلى إثارة فضول القارئ بها؛ وربط شعرهم المجسم بالمعاني العميقة للنّص ومن هنا فكان محتماً علينا:« الاعتراف بوظائف الشعر المجسم وباندماجه في الخطاب الشعري لتكوين نص واحد، سواء أوقع الرسم بالكلمات أم كان رسماً مستقلاً مصحوباً بحروف أو بكلمات توضيحية؛ وكل رسم بالكلمات، وذلك رسم بغيرها يدعى أيقوناً، وكل أيقون له شكل معين، وكل أيقون أنشئ لخدمة أهداف معينة»[39].
فلجوء الشاعر إلى استخدام الأيقون Icone ليس من باب إدعاء الحداثة في التشكيل الخطي بل لغاية دلالية ينشأ لها؛ ويسعى لتثبيتها بصرياً في ذهن المتلقي، وليأخذ بيده إلى المعنى من خلال الأيقون. ومن أبرز التشكيلات أذكر:
- النموذج الأول:[40]
هو لأحد الأشكال المتصلة بالجسد التي تلقي بدلالات منفتحة على الثقافة والتقاليد العربية.
إنّ ما تقع عليه العين في أوّل التقاء مع هذا الفضاء البصري، يحيلها على عادات اجتماعية وتقاليد شعبية ممثلة في النقش بالحناء، وما يرمز إليه من احتفالية (الأعراس والأفراح). وبمزيد من إمعان نظر، وإذا ما أقررنا بأنه نقش، فالمفروض أن يكون على اليد التي يظهر فيها الجمالي بارزاً. كما تبدو القدمان وطأتين لشخصين مختلفين؛ وطأة يمنى تخترق من جديد إطار الصفحة “إلى الأمام” ، والثانية عائدة إلى الوراء، وفيما هما معا، احتفال بالكتابة في تقاطعها مع حقول مختلفة، وقلب للحمولات الدلالية لليد والقدم كرموز ثقافية، فاليد التي كانت موضع تقديس في ارتباطها بالديني، والمتخيل الشعري صارت منشغلة بهم آخر يوضحه النموذج الموالي.
- النموذج الثالث:[41]
يترجم هذا النموذج همّ رفع الشعارات واللافتات، فاليد تشكل خطرا متنوعا، في ارتباطها بخروج العمال. وبهذا ينفتح الشكل في حداثته، على الواقع ونقله بشكله المرموز. وما يسترعي انتباه القارئ هو كون اليد المرسومة مبتورة الساعد ممّا يفتح مجال التأويل في ذهنه كأن يتساءل عن مصدر البتر وسببه، وكيف استطاعت حمل همّ اللافتة رغم حدوثه، واللافتة المحمولة تترجم الخطر المجهول، والذي كشفته الكتابة أسفله. بمعنى أنّ تواجد العمّال يشكِّلُ خطراً.
- النموذج الرابع:[42]
وهو واجهة ديوان “حتى يُورِقُ ظلُ أظافِره” لأحمد بلبداوي الصادر سنة 2009 عن منشورات بيت الشعر في المغرب، يظهر فيها بوضوح تمسك الشّاعر بالاشتغال الفضائي وتوظيفه لأيقونة شكل يبدو كاليد القابضة على ثلاثة أصابع، وترفع السبابة والوسطى، وهذه الأيقونة ترمز إلى حصول أحد الأمرين (الحياة بعزّة أو الموت بشرف). مع تموضع العنوان داخل الدائرة (كف اليّد). « فقد امتزج الأيقون منذ القديم بالحروف اللغوية فاندمجا معاً لتكوين بنية واحدة لأداء رسالة معيّنة»[43].
كما أنّ بعض الشعراء يلجأ إلى توظيف الرسومات ليعطي لنصه الشعري أبعاداً دلالية أخرى تعجز اللغة عن الإفصاح بها، ومن هؤلاء أذكر الشاعر الجزائري “يوسف وغليسي” في ديوانه “أوجاع صفصافة”، حيث عمد إلى الاستعانة بالرّسام “معاشو قرور”[44]، ومن بين نصوص هذا الديوان أُقدّم للقارئ نص تراتيل حزينة – مقطع موت وحياة[45]–
بدايةً يتشكّل فضاء الصفحة من جزئين الأوّل فضاء نصّي والثاني فضاء تصويري يفصل بينهما بياض، ولعلّ سبب مزج الشاعر بين الخط والرسم يرجع لغاية توصيل الدلالة إلى القارئ، فـ « هذا التلاحم بين الحرف والرسم هو ما تفطّن إليه أصحاب الشعر المجسّم…فالشّعر المجسّم تعبير مركّب مستقاة عناصره من أنساق متداخلة متجلّية في حروف اللغة الطبيعية وفي خصائص الرّسم، يهدف إلى تحقيق إقناع بليغ بالمقدّس أو بالدنيوي أو يسعى للسخرية منهما »[46].
فأول ما يلتقطه المتلقي لمثل هذه النصوص الإبداعية الرسم البارز المتشكّل من لفظة “موت” التي نُكّرت لأنها شيء مجهول الكُنه، ميتافيزيقي من الغيبيات الخمس[47]، كما أنّها في الرسم – على تفردها مقارنة بكلمة حياة – تخترق السواد بشكل يوحي بالتحدّي والتجاوز؛ هذا السّواد الذي يشكّل الحياة أو مجموع حيوات مصغرة، فكأن النّص يقدّم تصوّراً للعلاقة الجدلية بين الحياة والموت، ويعلن تغلُّب الموت في الأخير.
أمّا إذا أردت تسليط الضوء إلى مضمون الأسطر الشعري التي اختار الشاعر لها أعلى الصفحة، فهي تصوّر نهاية الشاعر بشكل أسطوري، تمتزج فيه مراسيم التشييع بالتجدد والانبعاث (السندباد، العنقاء).
فالنّص الشعرّي توّج في نهايته بملخّص عن طريق الرسم الذي يمكن اعتباره نصّاً موازياً يؤكد ويبيّن مضمونه.
[1] . محمد بنيس، بيان الكتابة، مجلة الثقافة الجديدة، العدد 19، 1981، ص 39.
[2] . محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب – مقاربة بنيوية تكوينية -، دار العودة، بيروت، د ت، ص 95
[3] . عبد الله راجع، الجنون المعقلن، الثقافة الجديدة، العدد 19، 1981، ص 56.
[4] . ينظر: محمد الماكري، الشكل والخطاب – مدخل للتحليل الظاهراتي -، المركز الثقافي العربي، ط1، 1991، ص 225
[5] . أحمد بلبداوي، حاشية على بيان الكتابة، المحرر الثقافي، 19 أبريل، 1981.
[6] . أقصد: الدواوين الآتية: حدثنا مسلوخ الفقر وردي 1983، وهبوب الشمعدان 1990، وتفاعيل كانت تسهر تحت الخنصر 2001، وحتى يورق ظل أظافره 2009.
[7] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 93
[8] . ينظر: شربل داغر، الشعرية العربية الحديثة تحليل نصي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء. المغرب، ط1، 1988، ص ص 14،15.
[9] . محمد بنيس، موسم الشهادة، الصيغة الأولى، الثقافة الجديدة، ع 2/ س3، 1979، ص 119.
[10] . ينظر: بشرى موسى صالح، نظرية التلقي –أصول وتطبيقات-، المركز الثقافي العربي، المغرب، ص 47.
[11] . ينظر: ناظم عودة خضر، ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقي، دار الشروق، عمان الأردن، 1997، ص 140 وما بعدها
[12] . فتوح أحمد محمد، الرمز والرمزية في الشّعر المعاصر، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978، ص 124.
[13] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 94
[14] . محمد الماكري، المرجع نفسه، الصفحة نفسها
[15] . نجد القصيدة الكونكريتية جلية ومشخصة لدى الكثير من الشعراء الغربيين ولاسيما الفرنسيين منهم كمالارمي Mallarmé في قصيدته :”Un coup de dès n’abolira pas le hasard”، ورامبو Rimbaud، وبول إيلوار Paul Eluard، وكيوم أبولينير Guillaume Apollinaire في قصائده المجسمة كقصيدة : “برج إيفيل”، وقصيدة: ” الحمامة” وقصيدة :” النسر” بالإضافة إلى قصائد المستقبليين في إيطاليا، وتجارب القصيدة العينية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان.
[16] . أحمد بلبداوي، أبواب من كتاب فتوح المحن، باب الشهادة، الصيغة الأولى، مجلة آفاق، عدد 5، السلسلة الجديد، جوان 1980، ص 75.
[17] . بنسالم حميش، كناش ايش تقول، دار النشر المغربية، يناير 1977. نقلاً عن محمد الماكري، المرجع السابق، ص 96
[18] . محمد الميموني، حكاية، مجلة آفاق، عدد 10، 1982، ص 112
[19] . شربل داغر، المرجع السابق، ص 32
[20] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 94.
[21] . محمد الماكري، المرجع نفسه، ص 101
[22][22] . أحمد بلبداوي، حاشية على بيان الكتابة، مصدر سابق
[23] . صلاح فضل، المرجع السابق، ص 123
[24] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 233
[25] . محمد الماكري، المرجع نفسه، ص 107
[26] . ينظر: رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث، مجلة فصول مجلد 15، عدد 1، مصر، 1996، ص103.
[27] . تعددت مسميات هذا النمط الشكلي فمنها: الأيقونية عند بوول شاوول ومحمد مفتاح، وقصيدة الشكل الخطي عند شربل داغر أو قصيدة البياض أو الفراغ كما أسماها طراد الكبيسي
[28] . ينظر: محمد الماكري، المرجع السابق، ص5 و213.
[29] . ينظر: محمد التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي، الهيئة المصرية العامة، 1998، ص171، 174.
[30] . أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقر وردي، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر” بنميد”، الدار البيضاء، 1983، ص6
[31] . أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقر وردي، المصدر السابق، ص 76.
[32] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 247
[33] . خالد بلقاسم، الكتابة وإعادة الكتابة في الشعر المغربي المعاصر، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2007، ص 83
[34] . أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقر وردي، المصدر السابق، ص 31.
[35] . محمد الماكري، المرجع السابق، ص 243
[36] . سعدي يوسف، الأعمال الشعرية، مج3، دار المدى، بيروت، ط4، 1995، ص 225
[37] . امتنان عثمان الصمادي، شعر سعدي يوسف -دراسة تحليليّة-، دراسات أدبيّة، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2001، ص 50
[38] . عرف بيرس الأيقون بوصفه علامة لها بعض المشابهة مع الشيء الذي تحيل إليه، أما بالنسبة لشارل موريس فالأيقون علامة تملك بعض خصائص الشيء الممثل، ويقسم إلى أيقون مثالثي، ومتماثل، ومتوازي ومتشابه ومتناظر. ينظر: محمد مفتاح، التشابه والاختلاف – نحو منهجية شمولية -، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، المغرب، 1996، ص ص 195، 200.
[39] . محمد مفتاح، المرجع نفسه، ص 195
[40] . أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقر وردي، المصدر السابق، ص 81
[41] . أحمد بلبداوي، حدثنا مسلوخ الفقر وردي، المصدر نفسه، ص 82
[42] http://alsamlalsharif.maktoobblog.com/
[43] . محمد مفتاح، التشابه والاختلاف، ص 209.
[44] . ينظر: خرفي محمد الصالح، التلقـي البصـري للشعـر” نماذج شعرية جزائرية معاصرة، الكتاب الخامس السيمياء والنص الأدبي أعمال الملتقى الدولي الخامس “السيمياء والنص الأدبي” 15 -17 نوفمير 2008، جامعة محمد خيضر قسم الأدب العربي، بسكرة، ص 546
[45] . يوسف وغليسي، أوجاع صفصافة في مواسم الإعصار ( مجموعة شعرية)، دار الهدى، عين امليلة، 1995، ص33
[46] . محمد مفتاح، التشابه والاختلاف، مرجع سابق، ص 209
[47] . إشارة لقوله تعالى: « إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ». سورة لقمان، الآية:34.