
مداخلة علمية ألقاها رئيس تحرير مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية أ.جمال بلبكاي خلال الملتقى الوطني الثامن حول: “الدبلوماسية العربية في ظل التحولات السياسية الراهنة” التي تنظمه كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الدكتور الطاهر مولاي بمدينة سعيدة / الجزائر يومي 8 و9 ديسمبر 2014.
الملخص:
إن الإسلام عقيدة وشريعة، نظام دين ودنيا، ينظم علاقة المسلم بربه، وبمجتمعه، وينظم حال الجماعة المسلمة بما يصلح حالها، ويضمن الإستقرار اللازم لقيام مجتمع آمن، يلتزم أفراده فيه بأمر ربهم، ويؤدي كل منهم وظيفته في هذه الحياة، بعيدًا عن الإفساد والفساد والتدمير،محققا بذلك الغاية التي خلقه الله من أجلها، ألا وهي عبادة الله وحده.
ولم تكتف الشريعة الغراء بتنظيم حياة المسلم مع أخيه المسلم فحسب، بل تعدت ذلك إلى علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم والشعوب، راسمة بذلك منهجًا عز نظيره في سموه الأخلاقي،وسيرة الخلفاء ، هذا المنهج الذي سطرته آيات الكتاب العزيز، وسنة الحبيب المصطفى الراشدين رضي الله عنهم، ومن سار على نهجهم من الخلفاء والأمراء والسلاطين المسلمين .
إنه قانون السماء، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه القانون الذي لا يفرق بين الناس على أساس العرق أو اللون أو المكان، إنه النظام الذي ارتقى بالعلاقات بين الشعوب من سيطرة البشر على البشر، ومن ظلم القوي للضعيف، ومن طغيان المستبدين، إلى رحابة العبودية لله رب العلمين.
إن رسالة الاسلام شاملة فهي تتعدى الحدود الاقليمية ، وهي دعوة عالمية إنسانية في مبادئها ودولية في نظامها وأحكامها ومستمدة كل ذلك من الدستور الإلهي القرآن الكريم الذي جاء كاملاً وشاملا لجميع الأحكام والأزمنة وشرع مبادئ العلاقات بين البشر، والدبلوماسية ساهمت في إرساء وتنظيم وترصين العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين بدل الحروب وكوارثها ، فمن الخطأ الاعتقاد بأن الشريعة السمحاء في مجال العلاقات الدولية في غالبية أحكامها كان قانون حرب، إذن الدين الاسلامي يعد السلام قاعدة أساسية في نظامه التشريعي.
الكلمات المفتاحية : الدبلوماسية ، الشريعة الإسلامية.
Diplomacy in Islamic law
Abstract:
Islam is both: the law and doctrine, the religion and life. It regulates the Muslim’s relationship with his God and with his society. It also organizes the events of the Muslim community with what fits it best and stabilizes a safe community. Its members adhere to the order of their Lord and each one of them is committed to his mission in life away from the corruption and destruction, thus, achieving the purpose for which God created him, namely the worshipping of God.
The law of Islam hasn’t only organized the Muslims’ lives with each other, but also their relationship with other peoples and nations; manifesting a lifestyle incomparable due to its moral ethics and the Sera of the Caliphs. It is a style shaped by the verses of the Holy Book, Sunnah of the beloved Prophet (PBUH) and his followers, the Muslim caliphs, sultans, and princes.
Islam is the law of heaven which is just and fair. It is a law that does not discriminate people on the basis of their race, color or place. It is the system that elevated the relations between peoples; rejecting the hegemony and dominance of one group over the other, the social injustices, and the totalitarian regimes to a mercy of God.
The message of Islam is inclusive extraterritorial. It is a global call to humanitarian principles and is international in its rulings and its provisions and all of that is derived from the divine constitution, the Quran, which came complete and comprehensive of all the provisions and all times. It also shaped the principles of relations between humans. On the other hand, diplomacy contributed to the establishment of organized and cemented relationships between Muslims and non-Muslims. It is, then, a mistake to believe that the law of Islam is the law of war when it comes to international relations.So, the Islamic religion takes peace as its fundamental rule in the legislative system.
Key Words: Law of Islam, Diplomacy.
- مقدمة :
مما لاشك فيه أن لوحدة الكلمة أهمية كبرى في تسيير أمور الأمة. والدول المختلفة تتفاخر فيما بينها بقوة الوحدة الوطنية وحرص جميع المواطنين على المصلحة العليا للوطن ومقدراته واستعدادهم للدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة ويدخل في ذلك الالتزام بالنظام في الأقوال والأفعال، فكلما كان هناك انسجام وتناغم بينهما كلما دل ذلك على وعي وإدراك فلا يقال شيء ويفعل شيء آخر حيث أن ذلك ممقوت جملة وتفصيلاً ،وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون} (الصف :03)،لذلك فإن دين الإسلام حرص في كل أركانه وسننه وتشريعاته على التناغم والانسجام وقد أثبت المسلمون أنهم أمة حضارة وتقدم خلال المراحل المختلفة لتكوين الدولة الإسلامية ولم يضعفوا إلا عندما تفرقوا وأخذوا بالمنافسة غير الشريفة وشقوا عصى الطاعة على مركز الخلافة حيث تفرقوا فسهل أمرهم على عدوهم.
وعلى أية حال فإن الجميع يعرف أن الإسلام دين ودولة وهذا يعني أن الإسلام لم يقتصر فقط على بيان ما هو ديني بالمفهوم الضيق وإنما شمل إلى جانب ذلك كل ما يتعلق بأوجه التعامل بين الأشخاص العاديين وكذلك بين الكيانات القانونية الدولية والتي يمثل القانون الدولي والعلاقات الدولية والدبلوماسية أبرز وأهم ملامحها أي أن الإسلام ليس مجرد ديانة تقتصر على بيان حقوق وواجبات العباد تجاه الله سبحانه وتعالى وحقوقه تجاههم، وإنما بالاضافة إلى ذلك بين أسس وقواعد التعامل في المجتمع سواء على النطاق الداخلي أو في إطار المجتمع الدولي وفي مقدمة ذلك العلاقات الدبلوماسية لذلك يؤكد كثير ممن كتب عن الدبلوماسية في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم سلك من ضروب السياسة ما يهيئ له أسباب النجاح، ولا يترك أموره تجرى كيف تشاء بل تخير لها السبل والأسباب حتى يصل إلى الغاية التي يقصدها من أقرب طريق كما أنه لا يترك نفسه للأحداث تصرفه وتأخذه قبل أن يأخذها. ولذلك فإن منهج الدبلوماسية الإسلامية تعنى بذل الوسع في استخدام مختلف الكفاءات لمعالجة الأمور الطارئة بالوسائل السلمية استخداماً يهدف إلى نشر الدعوة في العالم شريطة أن يكون هذا الاستخدام في نطاق الأخلاق والمثل الإسلامية العليا وليس من خلال الأسلوب الغاشم والتخريب والإرهاب الذي يعود على صاحبه وأهله وأمته بالضرر خصوصاً إذا كان هو الطرف الأضعف وتجدر الاشارة هنا إلى أن القرآن لم يتطرق لكل المسائل الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية بالتفصيل بل بين القواعد العامة الواجبة التطبيق تاركاً التفصيلات والجزئيات للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأئمة المسلمين وعلمائهم حيث يسيرون الأمور حسب الظروف والامكانات في حدود الخطوط والمبادئ العامة وبما لا يتعارض معها وهذا من معجزات الشريعة الإسلامية التي رشحتها بإذن الله للخلود.
- تعريف الدبلوماسية لغة واصطلاحًا :
يرجع أصل كلمة دبلوماسية إلى اللغة اليونانية القديمة ، فهي مشتقة من كلمة (Diploma) والتي تعني: الوثيقة الرسمية المطوية مرتين، والصادرة عن الرؤساء السياسيين للمدن التي كان يتكون منها المجتمع الإغريقي القديم .
وفي روما كانت كلمة (دبلومات) تطلق على الجوازات وتصريحات المرور التي كانت تعطى للرسل باسم مجلس الشيوخ أو الإمبراطور، وكانت تمنح حاملها الحق في السفر عبر طريق الإمبراطورية ومع مرور الزمن اتسع مفهوم لفظ (دبلوما) ليشمل الأوراق والوثائق الرسمية، والتي تتضمن الإتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها الإمبراطورية الرومانية مع القبائل والمجتمعات الأجنبية ،ولقد أطلق على من يقوم بهذا العمل اسم (الدبلوماسي) وعلى العلم المختص به اسم(الدبلوماتيك(نسبة للفظ (الدبلوم): وهو الصّك الصادر عن رئيس الدولة.
وقد توسع الرومان باستعمال لفظ الدبلوماسية بما يفيد طباع المبعوث أو السفير، وما تقضي به التعليمات الصادرة إليه من وجوب التزام الأدب الجم واصطناع المودة، وتجنب أسباب النقد، وهذا ما قصدت إليه كلمة(Diploma) اللاتينية، بمعنى الرجل المنافق ذو الوجهين ، ومنها اشتق في اللغة الفرنسية (Depliorae) بمعنى مخادع و (Dipliote)بمعنى الرياء والنفاق كذلك.
وظل اصطلاح (الدبلوماسية) يعني حتى القرن الثامن عشر دراسة المحفوظات والمعاهدات،والإلمام بتاريخ العلاقات بين الدول، ومنذ التاريخ المذكور تغير هذا المصطلح، حيث أصبح يعني توجيه العلاقات الدولية .
وهكذا تطور لفظ الدبلوماسية حتى انتهى إلى مفهومه المعاصر الدال على العلاقات بين الدول، ولم يعط المعاصرون تعريفًا محددًا للفظ الدبلوماسية، وقد اختلفوا فيها بين موسع لمدلولها لتشمل كل صور العلاقات الدولية، وما بين مضيق لمدلولها فيقصرها على بعض جوانب العلاقات الدولية، كالأسلوب الذي تدار به العلاقات الخارجية السياسية.
- الدبلوماسية في تصور المسلمين:
لم يكن العرب قبل الإسلام بمعزل عن المحيط الذي كانوا يعيشون فيه ، بل كانت لهم علاقات وثيقة مع جيرانهم، وأنشأوا البعثات الدبلوماسية بين بعضهم البعض ، وبينهم وبين غيرهم من الشعوب، فقد كانت وحدة اللغة هي المحرك الأساسي في توثيق صلات العرب فيما بينهم، والموقع الجغرافي المتميز قد شكل الدافع على الإتصال بغيرهم من البلدان الأجنبية.
فقد كان للعرب علاقات مع جيرانهم من الروم والفرس والمصريين والأفارقة عمومًا، ومع بلدان بعيدة عنهم كالهند والصين، وكانت الوفود الدبلوماسية هي المحرك الفاعل في التواصل ما بين العرب وغيرهم.
وبعد ظهور الإسلام نشطت الحياة الدبلوماسية للعرب، حتى بدا العرب اللاعب الأساس في ميدان العلاقات الدولية لا سيما إرسال الرسل والسفراء، و لم يستخدم المسلمون كلمة الدبلوماسية بطبيعة الحال، لأن هذه الكلمة – كما أشرت – هي في الأصل غير عربية، ولم تعن في القديم ما تعنيه اليوم، إلا أن المسلمين منذ عصر النبي نظموا علاقاتهم مع غيرهم من الأمم والشعوب والقبائل، سواء في حال السلم أم في حال الحرب تنظيمًا رائدًا راعى ما كان مألوفًا من قيم العلاقات الدولية والتي لا تتعارض ومفاهيم الدين الجديد، مع إضافة بعض القيم التي كان يفتقدها عرف العلاقات الدولية الذي كان سائدًا آنذاك،فقد مارس المسلمون الدبلوماسية،بالمعنى والمضمون من خلال المفاوضات وإبرام المعاهدات وتبادل المصالح، وما اتسمت به هذه العلاقات من فن الفطنة والذكاء والكياسة.
فها هو النبي حينما قرأ كتاب( مسيلمة الكذاب) ومدى رده التعسفي ؛ سأل صاحبيه عبد الله بن النواحة، وابن أثال عن رأيهما فيما قال صاحبهما على الرغم من شركه البين ، فقالا : نقول كما قال؛ فردَّ النبي قائلا: (أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما) .(ابن قيم الجوزية،” ذاد المعاد في هدي خير العباد”، ج 3، ص139).
ولو تأملنا هذا الرد لرأيناه ردًا دبلوماسيًا بليغًا، فقد كان بمقدوره عليه الصلاة والسلام أن يقتلهما أو يحبسهما، لكنه أعطى لنا وللبشرية كلها درسًا مستفادًا في معاملة الموفد ، رغم غطرسته وخروجه على حد اللياقة في الحديث، فله في الإسلام حق الحماية والأمن.(عبد اللطيف: أحمد توني، 2004،ص 54).
ويؤكد لنا ابن القيم هذا المعنى بقوله :”وكانت تقدم عليه رسل أعدائه، وهم على عداواته فلا يهيجهم ولا يقتلهم “.(ابن القيم،” زاد المعاد”، ص 138-139).
لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة، والمعلم الأول في فن الدبلوماسية، فقد اتبع عليه الصلاة والسلام أرقى أساليب التعامل وأفضلها في علاقاته مع الزعماء والملوك، فقد كان يستخدم العبارات المؤثرة، وأسلوب الخطاب الملائم الذي يليق بمقام من يرسل إليهم، ففي رسالته إلى الملوك كان يصدر رسالته من محمد عبد الله ورسوله إلى عظيم الروم أو الفرس أو القبط.
ولقد كانت كتب رسول الله عليه الصلاة والسلام بأسلوبها ومنهجها ومحتواها تدل على حكمة مرسلها، فها هو المقوقس عظيم القبط في مصر يعبر عن حكمة رسول الله ،التي ظهرت من خلال الرسالة والمُرسَل، حيث قال لحاطب بن أبي بلتعة ( أحسنت، أنت حكيم من عند حكيم).(علي بن برهان اللحلبي، 3/296/ ، 1400 هـ).
وكما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ينتقي للرسالة من بين الصحابة ما اكتملت به صفات المُرسَل من جميع جوانبها ،وكان يحسن استقبال السفراء ويكرم وفادتهم فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك.(المقريزي تقي الدين أحمد بن علي،1/509،1401هـ).
والنبي عليه الصلاة والسلام يلتزم ما تعارف عليه الملوك لإنفاذ مهمة الإرسال، فهو ليس بدعًا من البشر، فقد اتخذ عليه الصلاة والسلام خاتمًا حين علم أن الملوك لا تقرأ الكتاب إن لم يكن مختومًا، فقد روى البخاري قال ، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة بن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول ( لمّا أراد النبي أن يكتب إلى الروم قيل له:إنهم لا يقرأون كتابًا إلا إذا كان مختومًا، فاتخذ خاتمًا من فضة، فكأني أنظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله).(العسقلاني:أحمد بن علي بن حجر، “صحيح البخاري”،3/296).
وهذا يدل على أن المسلمين قد طبقوا مفهوم الدبلوماسية وإن لم يستخدموا المصطلح ذاته ،وهذا لا يقلل من دور الإسلام الرائد في ترسيخ مبادئ الدبلوماسية، إذ لا مشاحَّة في الإصطلاح،وخصوصًا أن هذا الإصطلاح دخله التغيير والتبديل ولم يحمل هذا المدلول إلا في القرن الثامن عشر الميلادي. (عبد اللطيف: أحمد توني ، 2004،ص 3).
ولا بد هنا أن أشير إلى أنّ الدبلوماسية عند المسلمين لا تعني الخداع والنفاق وقلب الحقائق– كما يراها بعض المفكرين الغربيين(جمال أحمد جميل نجم ،2008، ص69). وإنما تعني فن التعامل مع الآخرين بحكمة وفطنة ولباقة، كل ذلك وفق المنهج القويم الذي رسمه الإسلام العظيم، كل هذا لأن الهدف الأسمى للدبلوماسية عند المسلمين الدعوة إلى الإسلام وهو هدف نبيل يحتاج إلى وسيلة نبيلة كذلك، قال تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”. (النحل :125).
والملاحظ أن الشريعة الإسلامية كانت هي السَّباقة لابتكار نظام التمثيل الدبلوماسي، وتحديدًا نظام العمل الدبلوماسي، رغم أن الشريعة ظهرت قبل ظهور القانون الدولي بنحو عشر ة قرون.
- مراحل تطور الدبلوماسية في الإسلام :
والمتتبع لنظام العمل الدبلوماسي الإسلامي يجد أنه قد مر بمرحلتين، أولهما: مرحلة العمل السرِّي، ثم الدبلوماسية العلنية المؤقتة.
ففي عصر الرسالة الأولى كان للرسول عليه الصلاة والسلام ممثلين سريين في الأقاليم المختلفة،ينصبُّ جلُّ عملهم على مدِّ الرسول بالمعلومات عن الأقاليم التي أوفدوا إليها.
وأعقب هذه المرحلة، مرحلة الدبلوماسية المؤقتة العلنية، المتمثلة في المبعوثين الرسل الذين حملوا الكتب والرسائل التي بعث بها الرسول إلى الملوك والأمراء في كافة أنحاء المعمورة والتي دعاهم فيها إلى الإسلام،ولم يكن إرسال هؤلاء المبعوثين إلا ترجمة لقوله تعالى ” : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إَِليْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ َتفْعَلْ َفمَا بَلَّغْت ِ رسَاَلَتهُ وَالّلهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس إِنَّ الّلهَ َ لا يَهْدِي الَْقوْمَ الْكافِرينَ “.(المائدة :67).
وقد تجلت دبلوماسية النبي في تعامله مع الدول والكيانات السياسية المحيطة سواء العربية أو غير العربية، والتي أجملها في ما يأتي:
-1 استقباله للوفود ، فقد استقبل الني أكثر من سبعين وفدًا في فترة زمنية قصيرة، كان منهم وفد النصارى من الحبشة وهو في مكة، وعرض عليهم الإسلام بعد ما سمع حاجتهم فأسلموا، واستقبل سهيل بن عمرو سفير قريش في الحديبية، وفي سنة تسع للهجرة استقبل النبي وفودا كثيرة حتى سمي ذلك العام بعام الوفود، فقد استقبل وفد بني تميم، وقد تحاور معهم حوارا طويلا وأنشدو شعرا يمجد حالهم وقومهم وقد ردّ عليهم حسان بن ثابت رضي الله عنه أحسن رد، وانتهى الوفد بإعلان اسلامه، واستقبل ضمام بن ثعلبة، وكان سفيرا لبني سعد بن بكر، واستقبل الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس، وكذلك وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب، وكذلك وفد طيئ، وغيرهم الكثير.(جمال أحمد جميل نجم ،2008، ص70).
2- إرسال الرسل والكتب إلى ملوك وحكام زمانه، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ويبشر بالدين الجديد
3- قبوله للهدايا، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ويثيب عليه، فقد قبل هدية المقوقس ملك مصر.
4- اتبع النبي اسلوب التفاوض والحوار لحل المنازعات، ولم يلجأ النبي إلى الحرب ، إلا عندما يفشل الحل السلمي، وقد ظهر ذلك جليًا في مفاوضاته عليه الصلاة والسلام في الحديبية، وقبلها في خيبر عندما قبل اقتراح اليهود بالجلاء عن خيبر مقابل حقن دمائهم،وبعد أن طمع اليهود برحمة النبي عرضوا عليه بقاءهم في أرضهم مقابل نصف ثمارهم.
5- المعاهدات، فقد كان أول عمل دبلوماسي قام به النبي بعد وصوله المدينة هو عقد المعاهدات مع القبائل التي كانت تسكن ما بين المدينة وساحل البحر الأحمر، مثل جهينة وبنيضمرة وغفار ، وقد كان صلح الحديبية نموذجًا حيًا فيما اشتمل عليه من شروط وأجل ، وهو دليل قاطع على تفضيل النبي الدبلوماسية على الحرب.
ما سبق ذكره يشير إلى النمط السياسي الذي كان يتبعه النبي والذي يعبر عن دبلوماسية فائقة ، فما استقباله للوفود وإرساله للرسل والسفراء وقبوله الهدايا وتغليبه للغة التفاوض والسلم وعقده للمعاهدات إلا دليل ثاقب على دبلوماسيته عليه الصلاة والسلام.
ولم تقتصر أهداف الدبلوماسية العلنية المؤقتة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين من بعده على الدعوة إلى الإسلام، بل اتخذوها وسيلة لإدارة الشؤون الخارجية للدولة الإسلامية ،كالتفاوض لإبرام معاهدات التحالف ووقف الحرب، وأخذ الجزية، وتدعيم الروابط الإقتصادية والعسكرية.
وفي العصر الأموي لم يطرأ تغيير على أهداف العمل الدبلوماسي المؤقت، فقد انتشرت الرسالة الإسلامية والتنظير إليها، ولكن ما يسجل للدبلوماسية الإسلامية في هذه الحقبة، هوتطور أسلوب عملها وطابعها وتنظيمها وتشعب ميدانها بفعل امتداد حدود الدولة الإسلامية وانفتاحها على الحضارات الأخرى. (جمال أحمد جميل نجم ،2008، ص71).
وقد قدم لنا معاوية بن أبي سفيان وصفًًا دقيقًا وشام ً للدبلوماسية التي كان يحتذيها في إدارة شئون بلاده داخليًا وخارجيًا، فهو يحافظ بشدة على العلاقة بينه وبين رعيته، كما يحافظ أيضًا على علاقاته بالدول الأخرى، وعندئذٍ كان يكسب موقف خصومه، ويرفع من رصيد أصدقائه، بما يحقق التوازن والاستقرار لدولته. (عبد اللطيف: أحمد توني ، 2004،ص 5).
والأدلة على دبلوماسية معاوية كثيرة، ومنها ما ذكره اليعقوبي: حينما أحضر الناس لبيعته تقدم أحدهم قائلا له: والله يا معاوية إني لأبايعك وإني لكاره لك، فرد عليه معاوية بقوله: “إن الله جعل في المكروه خيرًا كثيرًا ” ، وهو رد دبلوماسي يدل على مدى حنكة ودربة معاوية، فقد كان بمقدوره أن يأمر بالقبض عليه، أو يعنفه على أقل تقدير، ولكنه آثر الرد الدبلوماسي، فربما يكسبه إلى جانبه.
ويمكن القول أن العصر العباسي، كان العصر الذهبي للدبلوماسية الإسلامية وكان هذا الإزدهارالدبلوماسي انعكاسًا لازدهار الدولة الإسلامية وتوطد أركانها، فقد غدت إحدى أكبردولتين في العالم إلى جانب الدولة البيزنطية، الأمر الذي اقتضى زيادة عدد رسلها لتغطية نشاطها السياسي الدبلوماسي، ناهيك عن الحاجة لمزيد من الرسل لتسوية الخلافات والمسائل العالقة التي لم تجد لها حلا خلال الحقب السابقة أو قبل توطد أركان الخلافة العباسية. (جمال أحمد جميل نجم ،2008، ص72).
من خلال هذا الإستعراض الموجز للعمل الدبلوماسي عند المسلمين، يتبين لنا أن المسلمين قد مارسوا الدبلوماسية وطوروا في أدواتها، وفي ذلك ردٌّ واضح على بعض فلاسفة الغرب الذين قالوا بأن العالم لم يعرف الدبلوماسية إلا من خلالهم، وأن سائر الأمم والشعوب قد أخذت الدبلوماسية عنهم.
- طبيعة ممارسة الدبلوماسية في الشريعة الإسلامية:
شهدت البشرية من الحروب ويلات مروعة رافقتها الخطوب والمحن فكشفت عن حاجتها إلى سلام دائم فاتجهت للبحث عن قواعد جديدة تضمن فيها حياتها وديمومتها وتحفل بواسطتها بمراقي التقدم ومعاني الوجود وأولت العلاقات الدبلوماسية في الشريعة الاسلامية أهمية خاصة بسبب طبيعة الدعوة الاسلامية لبناء علاقات مع المسلمين ومع غيرهم من الشعوب الأخرى وهذا النوع أطلق عليه مجموعة الأحكام والقواعد التي تنظم علاقات المسلمين بغيرهم(صبحي محمصاني،1972،ص51) لذلك أصبحت للعلاقات الدبلوماسية في ظل العهد الاسلامي أهمية متميزة بسبب طبيعة الدعوة الاسلامية بحيث احتل المبعوث الدبلوماسي مكانةً خاصةً عند المسلمين انطلاقًا من مبادئ الشريعة في نشر الدعوة الجديدة بأسلوب المفاوضة والاقناع فنظرت إلى رسلها نظرة احترام واعتبرت الاعتداء عليهم اعتداء على كرامة الأمة كما أن الاسلام سعى للمسالمة أثناء المنازعات وتنظيم العلاقات في حال السلم والحرب وكانت تنظم العلاقات الدبلوماسية من خلال الممارسات التالية :
- التحكيم : إن التحكيم كان معروفًا بين قبائل الجزيرة في الجاهلية ، و المشرع الاسلامي أثبت جواز التحكيم طريقة سلمية لتسوية المنازعات في مجال القانونين الخاص والعام وإقرار صحة التحكيم سواء كان التحكيم بين فريقين مسلمين أو بين مسلم وغير مسلم .(صبحي محمصاني ،1972، ص161) كما مورس التحكيم في الشريعة الاسلامية بموجب سوابق النبي محمد (صلى الله عليه وسلم ) حيث كان أول محكم في الخلاف الذي دب بين شيوخ قريش في مكة المكرمة عندما اختلفوا في رفع الحجر الأسود وجاء حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) ضامنًا لجميع حقوقهم ودرجاتهم المتساوية في نيل ذلك الشرف وبعد أن حمل النبي (صلى الله عليه وسلم) لواء الرسالة السماوية أصبح قائد الأمة الاسلامية فقد لجأ الى التحكيم ،وأورد القرآن الكريم التحكيم بآية صريحة في قوله تعالى :” فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا”(النساء:65). وعلى ذلك سار الخلفاء الراشدون وصحبهم .
- الوساطة : أوصى المشرع الاسلامي بالوساطة لحل النزاعات وخاصة بين الجماعات الاسلامية فقد حرم الاسلام الحرب الاعتدائية حتى مع غير المسلمين وبالتالي فإنه من باب أولى أن يتناول التحريم كل قتال بين المسلمين وتأيد ذلك بالحديث النبوي الشريف ” من حمل علينا السلاح فليس منا “.( الامام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج / صحيح مسلم، رقم الحديث 101).
- والدليل الشرعي لوجوب اللجوء إلى الوساطة قوله تعالى “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ” “(الحجرات:9). من هذه الآية يتضح لنا أنها أوجبت الوساطة للسعي إلى الإصلاح ونهى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في وقت الفتنة سدًا لذريعة الإعانة على المعصية وأوجبت الآية أن يكون الحكم عادل وعدم البغي في الوساطة ضد طرف لمصلحة طرف آخر.( الشيخ محمد أبو زهرة، ص 20).وهذه الآية لها مغزاها الدولي ففي ثناياه وجوب التعاون في سبيل تحقيق السلام الدولي القائم على العدل والقسط ،وتأمر بالمصالحة والوساطة كتدبيروقائي دبلوماسي ،وأشارت الآية إلى نوع العقاب الجماعي ضد الطرف الباغي. وهنا لابد من التنويه بأن القواعد الشرعية التي تحكم العلاقات الدولية في الاسلام هي قواعد عالمية تطبق على جميع الشعوب من غير تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الجنسية أو المعتقد لأن الانسان هو غاية الاسلام وجميع الناس أمة واحدة. (الشيخ محمد أبو زهرة ،مرجع سابق، ص21).أما عندما نتناول الصورة المعاكسة للسلام في الشرع الاسلامي إذ لم يجيز الاسلام الحرب إلا في حالات خاصة محددة وما عداه عده الشرع جريمة .( عبد الفتاح حسن ، ص 16)، وهذا الحكم هو الأساس لما يسمى حاليًا بحق الدفاع الشرعي في العلاقات الدولية ، كما أن الاسلام أول من وضع نظام يفرض فيه على المسلمين حقوقًا ويلزمهم بواجبات وأن حقوقهم قائمة أساسا على العدالة والاصلاح بين الناس ودفع الفساد من غير أن تذهب حقوق المخالف سدى ،إن هذه العلاقة التي توصل المسلمين بعضهم ببعض مستمدة من أصلها على أساس الود والسلم. (عبد الله دراز ، ص 5).
مما تقدم يمكن اعتبار أسس القواعد التي تحكم العلاقات الدولية حاليًا ووصفها مبدأ المساواة والسيادة والحقوق والواجبات بين الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير وتسوية المنازعات بالحسنى قد أقرته الشريعة الاسلامية، وهي صاحبة اللبنات الأولى في هذا المضمار.
- الصلح : الصلح في الاسلام إما أن يكون مؤقتًا كصلح الحديبية، حيث كان أمده عشرة سنوات أو أن يكون دائمًا ، وإنهاء الحرب وعقد الصلح في الاسلام مشروط بوجود المصلحة فيه.(43) لقوله تعالى (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (النساء:90).ولعل أجمل ما قيل في الصلح الكلام المأثور للإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: “لاتدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا ، فإن في الصلح دعه لجنودك وراحة من همومك ،وأمنًا لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل”.(عباس محمود العقاد، بدون سنة نشر، ص 946).
- خصائص وامتيازات الدبلوماسي في الشريعة الإسلامية :
تحتل العلاقات الدبلوماسية في الشريعة الاسلامية أهميةً خاصة بسبب طبيعة الدعوة الاسلامية التي تتطلب الاتصال بالشعوب الأخرى بواسطة الرسل بهدف نشرالاسلام وتوثيق الروابط السياسية والاجتماعية والعلمية مع تلك الشعوب.(ابراهيم أحمد ، بلاسنة نشر ، ص13).
ومصطلح الرسول (Messenger) يحتل مكانة خاصة عند المسلمين نتيجة الاهتمام الذي أولته الشريعة الاسلامية بالرسل وأطلقت هذا المصطلح على الأنبياء كما ورد في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال العلماء، وانطلاقًا من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الاسلامية في نشر الإسلام تنظر الشريعة الاسلامية إلى رسلها نظرة تقدير واحترام بالنظر للمهمة الصعبة الموكلة إليهم وتعتبر الاعتداء عليهم اعتداءً على كرامة الأمة التي أرسلتهم . ولهذا ركز القادة المسلمون في اختيار الرسل (الممثلين الدبلوماسيين) ممن تتوفر فيهم الخصائص التالية:
- طلاقة اللسان ولباقته.
- المدارك الثاقبة وحسن المنظر والمخبر.
- الشخصية الفذة التي تستطيع التأثير في النفس ليكون معبرًا صادقًا عن شخصية مرسلة .
- أن يكون أمينًا في نقل ما أوكل إليه ويستطيع التصرف في الظرف الملائم.
- صحيح الفطرة والمزاج ومؤدبا.(محمد كمال عبد العزيز،1972 ، ص361).
وللشريعة الاسلامية منحى خاص في نظرتها حيث أنها استخدمت الرسل في وقتي السلم والحرب كون الفتح الاسلامي لايتخذ الحرب المباغتة وسيلة للفتوحات ،بل يسبق ذلك إبلاغ الأعداء بالدعوة الاسلامية حتى عند الحد الذي يصل فيه الجيش الاسلامي حدود المدينة المراد فتحها،حيث لايجوز أن يقاتل الشخص الذي لم تبلغه الدعوة إلى الاسلام ومن يرفض يطالب بدعوته لدفع الجزية قبل أن يقول السيف كلمته وهو ماجرى عليه منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ،حيث كان رسل النبي صلى الله عليه وسلم يحملون الرسائل إلى الملوك والأمراء للتفاوض معهم وبيان موقفهم من الاسلام كون العرب لم يعرفوا الغدر والخداع.إذ أن الحرب عندهم شجاعة وإباء.(فاضل زكي محمد ، 1973، ص9).
ولهذا اتسمت الدبلوماسية التي كانت تقوم – كما ذكرنا سابقًا- على عدم البدء بالحرب المسلحة وعدم اللجوء إلى استخدام السلاح إلا في حالة الدفاع ضد الأعداء وحماية الضعفاء من الظلم وفي حالة التمرد وهذا أدى إلى خروج الاسلام من جغرافيتة العربية إلى جغرافية العالم .(حسين مروة ،1999، ص 409-422).
ورافق نشر الدعوة الاسلامية مبدأ الاعتراف الدولي الذي اعتمده الخلفاء الراشدون منذ البداية وكان هذا مبدأ ذا أهمية بالغة، فهو يقوم على الاعتراف بالسيادة للخليفة مقابل الاعتراف بسيادة سلاطين الممالك الاسلامية وكان نمط المبايعة في الاسلام نوعًا من الاعتراف بالسيادة للحاكم .(محمد المجذوب ، 2007، ص 35).
وكذلك اتبع الخلفاء الراشدون سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الاعتماد على الرسل بنشر الدعوة الاسلامية ولاسيما أنهم كانوا رسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأقوام الأخرى .
وبسبب سعة رقعة الدولة الاسلامية ومجاورتها لدول متعددة وازدياد تبادل الرسل مع هذه الدول ظهرت الحاجة إلى وضع قواعد خاصة تنظم مركز الرسل في الدولة الاسلامية ومنحهم امتيازات خاصة تضمن أداء مهمتهم، ولهذا أكد فقهاء الشريعة الاسلامية منح الرسل الأجانب الذين يوفدون إليها الامتيازات كافة التي يتمتع بها المستأمن في الدولة الاسلامية واعتبروا الرسول مستأمناً تطبق عليه القواعد الخاصة بالمستأمن ومنحوه الامتيازات التالية :
- دخول الرسول الدولة الاسلامية بدون عقد أمان .( وثيقة تمنح للمستأمن الذي يأتي من أجل الزيارة والتجارة، وأن وجوده بينهم يقتضي تحديد إقامته بمدة محددة وهي في الغالب سنة واحدة) شرط أن يراعي واجباته دون تجاوز وأن لا يأتي بفعل لا يأتلف مبادئ الشريعة الاسلامية، ويتمتع الرسول بحق التنقل في أرض المسلمين بحرية تامة ويستطيع العودة إلى دولته في أي وقت يشاء.
- مدة إقامة الرسول. ذهب فقهاء الشريعة الاسلامية إلى أن مدة إقامة الرسول تكون مطلقة وغير محدودة بمدة معينة. ولايجوز إخراج الرسول من الدولة الاسلامية إلا في حالة قيامه بأعمال خطرة كالتجسس أو الدعوة ضد الدين الاسلامي .
- الاعفاء من التكاليف ،لقد أقرفقهاء الشريعة الاسلامية إعفاء الرسل من التكاليف التي تفرض على المسلمين .
- صيانة شخص الرسول وأمواله. ألزم فقهاء الشريعة الاسلامية توفير حماية شخص الرسولوضمان تمتعه بحرية العقيدة وأداء أعماله بحرية تامة.فلايجوز قتله أو أسره أو استرقاقه وعدم التعرض لأمواله.
بناءا على ما تقدم تستند مصادر امتيازات الرسل في الشريعة الاسلامية إلى :
أ.المبادئ الانسانية التي جاءت بها الشريعة الاسلامية في حماية شخصية الانسان وإن كان غير مسلمًا كقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَد مِنْ الْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَع كَلَام اللَّه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنه).(التوبة :6) كون الشريعة تخص الناس جميعًا وتعمل على حمايتهم لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا )(سبأ:28).
ب.أقوال وأفعال وإقرار النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) فقد روي عن النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم) عندما أتاه رسولان من مسيلمة الكذاب يزعمان أن مرسلهما نبي فقال لهما أتشهدان أني رسول الله قالا لا نشهد أن مسيلمة رسول الله فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لو كنت قاتلا رسولاً لقتلتكما. فمضت السنة على أن الرسل لا تقتل .
- الخاتمة والاستنتاجات:
بعد استعراض مفردات البحث والتوصل إلى مفهوم الدبلوماسية في الشريعة الاسلامية والوقوف على خصائصها وامتيازاتها ومن ثم طبيعة ممارستها تم التوصل إلى النتائج التالية :
- أن جميع تعريفات الدبلوماسية تشترك بأنها فن المفاوضة لإدارة العلاقات الدولية وإبعاد شبح النزاعات الدولية .
- إن إرسال الرسل والسفراء، عرف دولي قديم، قدم الجماعة البشرية ذاتها، وهو ليس من مبتكرات العصر الحديث.
- إن الإسلام لم يكن مجرد حلقة من حلقات التاريخ في تعاطيه مع موضوع الرسل والسفراء، وإنما كان له يد السبق في إقرار قواعد عمل الرسل والسفراء والعلاقات الدبلوماسية، معطيًا بعدًا دينيًا وأخلاقيًا جديدًا.
- هناك علاقة بين إرسال الرسل وعقد الأمان، حيث لا يمكن للرسول أو السفير القيام بمهمته إلا بالأمان الذي يمثل الحصانة الدبلوماسية للرسل والسفراء بأنوعها.
- لابد وأن تتوافر شروط عدة فيمن يتولى مهمة الرسول أو السفير،كالفطنة والذكاء، وحسن التصرف، والإختصاص، وحسن المنظر، والقدرة على الإقناع، وغيرها من الصفات.
- الرسول أو السفير هو ممثل لدولته في الخارج، واللسان الناطق باسم بلاده، فهو يفاوض نيابة عن حاكمه، ويحافظ على مصالح بلده لدى الدول الأخرى، ويقوم على مصالح مواطنيه في البلد الموفد إليها، ومهام أخرى توكل إليه بحسب مقتضيات مهمته.
- للسفير حقوق منها: حماية نفسه وحاشيته وماله، فلا يصح أن يعتدي عليه أحد من الناس،بل يجب احترامه وتوفير مايلزمه من سبل الراحة وكرم الضيافة.
- يجب على السفير أن يؤدي مهمته بأمانة، بعيدًا عن الإفساد واستغلال الأمان الذي يتمتع به، وعليه أن يبتعد عن كل ما يثير الشبهات حول مهمته.
- تستطيع الدولة الإسلامية أن تقيم علاقات سلمية مع غيرها من الدول، شريطة أن لا تتضمن هذه العلاقات اشتراطات فاسدة تضر بمصالح المسلمين.
قائمة المراجع :
1.ابراهيم أحمد العدوي،” السفارات الاسلامية إلى أوربا في العصور الوسطى”، سلسلة اقرأ، العدد 179 ، القاهرة،مصر، بلاسنة نشر .
2.ابن قيم الجوزية،” ذاد المعاد في هدي خير العباد”، ج 3، ص 139 ، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت لبنان 1991 م. والسيوطي، الدر المنثور، ج 3، ص 79 ، دار الفكر، بيروت، دون طبعة،ودون تاريخ نشر، وأخرجه الهندي في كنز العمال، حديث رقم (30315) و (18287) ، دار التراث الإسلامي،بيروت، دون طبعة، ودون تاريخ نشر.
3.الامام الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج ” صحيح مسلم” ،الرياض 1990 رقم الحديث 101.
4.الشيخ محمد أبو زهرة ،”العلاقات الدولية في الاسلام” ، القاهرة ،مصر.
5.العسقلاني:أحمد بن علي بن حجر،” فتح الباري بشرح صحيح البخاري”،3/296، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، بشر إدارة البحوث العلمسية والإفتاء، السعودية.
6.المقريزي تقي الدين أحمد بن علي،” إمتاع الأسماع”،1/509، الشؤون الدينية ، قطر، ط 1،1401هـ.
جمال أحمد جميل نجم ،”أحكام الرسل والسفراء في الفقه الإسلامي”،أطروحة مقدمة استكمالا لمتطلبات درجة الماجستير في الفقه والتشريع بكلية الدراسات العليا في جامعة النجاح الوطنية في نابلس ، فلسطين،2008.
7.حسين مروة، “النزاعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية “، دار الفارابي ، ط1، بيروت ،1999.
8.صبحي محمصاني،” القانون والعلاقات الدولية في الاسلام”، مطبعة دار العلم للملايين بيروت ،1972.
9.عباس محمود العقاد، “العبقريات الاسلامية” ، دار الفتوح للطباعة ، القاهرة ، بدون سنة نشر.
10.عبد الفتاح حسن ، “ميثاق الأمم والشعوب في الاسلام “، مجلة نحو قانون إسلامي عادل، العدد 4 ، بيروت ، لبنان ، بدون سنة نشر.
11.عبد اللطيف: أحمد توني،” العلاقات الدبلوماسية للخلافة العباسية”، مركز الاسكندرية للكتاب، 2004.
12.عبد الله دراز ،” القانون الدولي في الاسلام”، المجلة المصرية للقانون الدولي .
13.علي بن برهان اللحلبي ،”السيرة الحلبية”،3/296/ دار المعرفة ، بيروت، لبنان، 1400 هـ.
14.فاضل زكي محمد ،” الدبلوماسية بين النظرية والتطبيق” ، مطبعة شفيق ،ط3 بغداد ،1973.
15.محمد المجذوب، “الدبلوماسية، نشأتها وتطورها وقواعدها في الحصانات والامتيازات الدولية” ،بيروت، 2007.
16.محمد كمال عبد العزيز،”الشريعة الاسلامية والقانون الدولي”، مجلة القانون والعلوم السياسية ج 1، بغداد، 1972 .
