مقاربة فلسفية للأزمة البيئية قراءة في مفهوم ” العقد الطبيعي ” لميشال سير
Philosophical approach to the environmental crisis A reading of the concept of the “natural contract” by Michel Serre
إعداد: الدكتورة عماري خيرة (أستاذة محاضرة بجامعة الجزائر 2 قسم الفلسفة)
AMARI KHEIRA Docteur (Lecturer at Algiers University 2 Department of Philosophy)
مقال منشور في كتاب أعمال ملتقى القانون الدولي وتحديات التغير المناخي الصفحة 17.
Summary:
Nature has attracted human interest since ancient times, so he wondered about its creation, its beginnings, and the matter that came from it, seeking the help of the mind at times and the senses at other times, and seeking help from revelation when both the mind and the senses were unable to find answers to its questions. This diversity of visions sharpened the question of nature in ancient times in Greece, when the name of the natural philosophers or the first naturalists was given to the philosophers whose questions focused on the origin of the universe and nature. And this research continued in the Middle Ages so that nature becomes a creature of God’s creatures subject in its manifestations and changes to the will of the Creator.
This preoccupation with nature remained present in the Renaissance era, and intensified with the scientific and technical progress that characterized the period of modernity and contemporary times, and the accompanying increase in human productive activity in various fields of life, which in turn led to an increase in the dangers facing nature, the danger of which extended. to the threat of human existence itself. This situation has sparked many discussions around which senior scholars, philosophers, politicians and clerics gathered in order to formulate perceptions that may represent a way out of this crisis. Among them is the French philosopher and historian of science Michel Serre. M.Serre, who called for a rearrangement of man’s position in nature according to contractual logic, a “natural contract” that would restore the lost natural balance.
How can this natural contract save both man and nature from the dangers that threaten them?
To answer this problem, Michel Sir suggested a philosophical diagnosis of the imbalances in man’s relationship with nature, which led to this terrible climatic-environmental imbalance. And he ended up with the need to reconcile with nature in order to save what can be saved before it is too late.
Keywords: nature – environment – crisis – Michel Sir – philosophy – man
ملخص:
استقطبت الطبيعة اهتمام الإنسان مند القدم فتساءل في خلقها وفي بداياتها، والمادة التي صدرت عنها، مستعينا في ذلك بالعقل تارةً وبالحواس تارةً أخرى ومستنجداً بالوحي عندما يعجز كل من العقل والحواس عن إيجاد أجوبة لتساؤلاته. وقد شحذ هذا التنوع في الرؤى، سؤال الطبيعة قديماً عند اليونان عندما أطلق اسم الفلاسفة الطبيعيون أو الطبيعيون الأوائل على الفلاسفة الذين ركزت أسئلتهم حول أصل الكون والطبيعة. واستمر هذا البحث في العصور الوسطى باعتبار الطبيعة مخلوق من مخلوقات الله تخضع في مظاهرها وتغيراتها إلى مشيئة الخالق.
وبقي هذا الانشغال بالطبيعة قائماً في عصر النهضة، واشتد مع التقدم العلمي والتقني الذي تميزت به فترة الحداثة والمعاصرة وما رافقهما من تزايد النشاط الإنتاجي للإنسان في مختلف مجالات الحياة، الأمر الذي أفضى بدوره إلى تزايد الأخطار المحدقة بالطبيعة. والتي امتدت خطورتها إلى تهديد الوجود الإنساني في حد ذاته. وقد استثار هذا الوضع العديد من النقاشات اجتمع حولها كبار العلماء والفلاسفة ورجال السياسة والدين من أجل بلورة تصورات قد تمثل سبيلاً للخروج من هذه الأزمة. من بين هؤلاء الفيلسوف الفرنسي ومؤرخ العلوم ميشيل سير. M.Serreالذي دعا إلى إعادة ترتيب وضع الإنسان في الطبيعة وفق منطق تعاقدي ” عقد طبيعي ” من شأنه أن يعيد التوازن الطبيعي المفقود.
فكيف يمكن لهذا العقد الطبيعي أن ينقذ كل من الإنسان والطبيعة من الأخطار التي باتت تهددهما؟
للإجابة عن هذا الإشكال اقترح علينا ميشال سير تشخيصا فلسفيا لمواطن الخلل في علاقة الإنسان بالطبيعة والتي أفضت إلى هذا الاختلال المناخي البيئي الرهيب. وانتهى إلى ضرورة التصالح مع الطبيعة لانقاد ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
الكلمات المفتاحية : الطبيعة – البيئة – الأزمة – ميشال سير – الفلسفة – الإنسان.
مقدمة:
استقطبت الطبيعة مند القدم اهتمام الإنسان باعتبارها المجال الحيوي لبقائه، فتساءل في خلقها وفي بداياتها، والمادة التي صدرت عنها. وقد استعان في ذلك بالعقل تارةً وبالحواس تارةً أخرى بينما استنجد في مواطن أخرى بالوحي وحتى بالأسطورة. وقد شحذ هذا التنوع في الرؤى، سؤال الطبيعة في الفلسفة القديمة منها و الحديثة: حيث ظهر عند اليونان الفلاسفة الطبيعيون أو الطبيعيون الأوائل وهم جمع من الفلاسفة الذين ركزت أسئلتهم حول أصل الكون والطبيعة.
واستمر هذا البحث في العصور الوسطى باعتبار الطبيعة مخلوق من مخلوقات الله تخضع في مظاهرها وتغيراتها إلى مشيئة الخالق. وبقي هذا الانشغال بالطبيعة قائماً في عصر النهضة، واشتد مع التقدم العلمي والتقني الذي تميزت به فترة الحداثة والمعاصرة وما رافقهما من تزايد النشاط الإنتاجي للإنسان في مختلف مجالات الحياة، والذي أفضى بدوره إلى تزايد الأخطار المحدقة بالطبيعة. وقد استثار هذا الوضع العديد من الفلاسفة ودفعهم إلى بلورة تصورات قد تمثل سبيلاً للخروج من هذه الأزمة من بينهم الفيلسوف الفرنسي ومؤرخ العلوم ميشيل سيرMichel Serre [1].
فما هي المقاربة التي اعتمدها هذا الفيلسوف في معالجته لإشكالية البيئة الطبيعية؟
وكيف نعيد بناء علاقتنا مع الطبيعة لمواجهة تداعيات الأزمة البيئية قبل فوات الأوان؟
1-الإنسان الأول في مواجهة الطبيعة:
لتفكيك معضلة البيئة في تمظهراتها الحالية علينا استحضار بدايات علاقة الإنسان بالطبيعة والتي تراوحت بين الذهول و الخوف و الحيرة أمام ظواهرها المختلفة : حيث انتابه شعور الضعف والعجز أمام قوى الطبيعة التي جعلته يقف موقف الجاهل والخاضع لها. فراح يستنجد بخياله ومعتقداته وطقوسه وخرافاته وأساطيره لفهم ما يحدث حوله، لعلّ ذلك يخفّف من وطأة هذا الخوف ويمنحه بعض السكينة والطمأنينة وسط لغز هذا العالم الطبيعي. ولنا في مضامين الأساطير الأولى والميثولوجيا الإغريقية الكثير من النماذج عن تفسير الظواهر الطبيعية كالفيضانات والأعاصير والزلازل ولعل أشهرها ما رواه الشاعر الإغريقي القديم هزيود عن أصل العالم و الطبيعة[2] .
واستطاع بعد ذلك، متسلحا بالعقل أن يتجاوز الكثير من مواطن الضعف والعجز عندما استعان بالعلم والتقنية لمواجهة الطبيعة. إلاّ أنّ ذات العلم كشف للإنسان أن الطبيعة أضحت في خطر كبير، وهذا ما جعل موضوع البيئة يستأثر منذ سنوات اهتمام المفكرين باختلاف توجهاتهم بما في ذلك منظّمات المجتمع المدنيّ، ووسائل الإعلام المختلفة. وأصبح الحديث عن مظاهر الأزمة البيئيّة التي يتصدرها التلوّث المتعدّد الأشكال – و ما انجر عنه من تغيُّرات مناخيّة غير مسبوقة كالاحْتِباس الحراري و الذي أفرز العديد من الظواهر- يتصدر أغلب الملتقيات العلمية و الأبحاث الاستراتيجية.
ويبدو أنّ ّ هذا الاختلال في توازن نظام مناخ الأرض ليس طبيعيًّا ولا عاديًّا في غالب الأحيان، وأنّ أسبابه لا ترجع إلى ظواهر الطّبيعة أو قواها، بقدر ما ترجع إلى أنشطة البشر أنفسهم، وإلى اعتماد الحضارة الصناعيّة الحديثة أساسًا على استهلاك واستنزاف رهيب لمصادر الطّاقة في الطبيعة. والواقع أنّ هذه الأزمة تتجاوز بكثير مظاهر التلوث والتلاعب بالجينيات وبالذرة وتجارب الاستنساخ، لأنها تنطوي على مخاطر تهدد البشرية في ذاتها وفي وجودها وفي قيمتها الاخلاقية وحدود انسانيتها..، ممّا جعل الأزمة البيئية تستقطب اهتمام الفلاسفة من بينهم الفيلسوف ميشال سير الذي تناول إشكالية البيئية من منظور فلسفي يتضح في النقاط الأتية:
2-مواطن الخلل في علاقة الإنسان بالطبيعة
يقف ميشال سير بدايةً عند مصطلح المحيط البيئي أو المحيط الطبيعي ويدعونا إلى التخلي عن هذا التعبير (المحيط البيئي) لأنّ كلمة محيط تفترض ضمنياً أن الإنسان هو المركز بينما العالم هو الهامش أو مجموعة من الأشياء التي تدور حوله. وذات المعنى يظهر في المعجم الفلسفي لجميل صليبا حين قال : “الطبيعة هي مجموع ما في الأرض والسماء، من كائنات خاضعة لنظم مختلفة، وهي بهذا المعنى مرادفة للكون”[3].
ولكي يصل الإنسان إلى علاقة متوازنة مع العالم الذى يعيش فيه عليه أن يصحح تصوراته ومفاهيمه وأن يتخلى عن اعتقاده بأنه مركز الكون. وفي ذات السياق يطرح جون ماري شيفر في كتابه “المركزية البشرية”[4] وعلاقتها بالأزمة البيئية مبحثاً بعنوان “نهاية الاستثناء الإنساني”، حيث اعتبر أن تطورات معرفية وعلمية في مجال العلوم الفلكية منها خاصة، والرياضية والفيزيائية، أحالت الإنسانية على توجه أنثروبولوجي غيَّر مسعى المعرفة، عندما منح الأولوية للأنشطة العقلية البشرية والتجريبية، كمصادر لبناء العلم والحقيقة من جهة، وحوّر السؤال المتصل بالعالم والطبيعة من التوجه نحو البدايات والأصول، إلى الانشغال بكيفية صيرورة العالم وصيرورة الأحداث فيه، والقوانين الناظمة له من جهة أخرى.
صار البحث في الطبيعة، منذ فلسفة الأنوار، تابعًا لمنطق الإنسان في النظر والفهم، ومرسخًا لمركزية إنسانية منقطعة النظير وذات بعد اثني أوروبي، ترك بصماته الحضارية على شتى المفاعيل الثقافية والعلمية المعاصرة، إلا أن ذلك أفضى إلى ترسيخ نزعة إنسية مغالية في تمجيد الحياة البشرية والتمركز حول مقوماتها ومطالبها وانشغالاتها، ولو كان ذلك على حساب باقي الموجودات والكائنات الطبيعية. في سياق هذا المنظور، صار الإنسان القيمة المطلقة، يعلو ولا يعلى عليه، هو قيمة القيم وغاية الغايات.. أو كما قال ميشال سير “لقد بنينا عالما يكون فيه الذكاء هو أول ملكة، حيث يدفعنا العلم والتكنولوجيا للأمام ونسقط، وننتج المزيد من البؤس والمجاعة والأمراض[5].
إن تقدير كرامة الإنسان، وفق هذا المقترب الميتافيزيقي، ومكانته بين ثنايا مكونات العالم المحيط به، انتهى إلى ضرورة استعادة المقولة السفسطائية «الإنسان مقياس كل شيء». فاستحكمت فيه نزعة تملكية، آل بها الوجود وما فيه إلى شيء يُمتلك ويُقدر، كأداة قابلة للاستغلال والاستثمار، لتلبية رغبات اقتصادية وسياسية مطبوعة بالهيمنة والتجبر والاستهلاك اللامحدود.
3-الإنسان بين مفارقة الانتماء للطبيعة وتجاوزها:
إن الإنسان جزء من الطبيعة أو مكون من مكوناتها، ومع ذلك يعتبر الشق الوحيد في المنظومة الكونية المتميز بالمعرفة والمسؤولية، مما يوجب الموازنة بين الإحساس بالانتماء للطبيعة، وبين وضعية الاستثناء داخلها، مع أن ذلك لا يبرّْر حصر الطبيعة في مجرد منجم للاستغلال لما في ذلك من غصب فاضح لانتماء الإنسان للنسق الطبيعي. انجرت عنه انعكاسات أدّت إلى انحراف الفعل الإنساني عن مساره الطبيعي.
– فهل البشر هم الكائنات الوحيدة التي تمتلك قيمة أصلية في الكون، أم أن للعالم الطبيعي، بمكوناته المختلفة، قيمته الخاصة به المستقلة عن التقدير النفعي للإنسان؟
– ما الذي يسوغ القول بأن للبشر الزامات أخلاقية إزاء بعضهم بعضا، دون غيرهم من الكائنات والمنظومات الإيكولوجية الحاضنة للجميع؟
يرى ميشال سير أنّ العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة لم تعد قائمة على أساس التوازن والاحترام، انطلاقا من وحدة الأصل الكوني، فنتج عن ذلك تدهور للمحيط الطبيعي والمنظومات البيئية ومستقرات ومستودعات الكائنات الحية، فتحولت الأرض من وضع المنتصر القوي إلى وضع الضحية “[6]. كما انهارت الكثير من الأسس الثقافية التي كانت تحفظ توازن الإنسان وصحته الجسدية والنفسية، على اعتبار أن كائنا ترابيا مثل الإنسان لا يمكنه أن يحقق انسجامه الكوني إلا في حسن التعامل مع الأرض بكل أبعادها الفيزيائية، والكيميائية، والعضوية، والحيوية. وأصبح التقدم التقني خارج إطار السيطرة.
وإذا كان الفلاسفة البيئيون مجمعون على أن الفكرة الديكارتية القائمة على الفصل بين “المادة” و”الروح”، هي أصل نشوء أخلاقيات “المركزية البشرية” وما نتج عنها من تحقير الطبيعة واستغلالها، فإن الانخراط الفلسفي في هذا النقاش يعتبر ذا فائدة كبيرة من أجل استيعاب أصول الأزمة البيئية المعاصرة.
يتجه نقد الفلسفة عند م. سير إلى فهم المنظور والنظرة التي تأسس عليها فهم الإنسان والطبيعة. حيث اعتبرت الفلسفة – عبر الكثير من محطاتها – أن الإنسان هو الذات، والطبيعة هي الموضوع، والعقل هو المنهج، لتضيف إليه فيما بعد التجربة والخيال. وبقيت الفلسفة الحديثة في طرحها وفية للأفلاطونية والأرسطية. والحيوان الناطق والاجتماعي والسياسي لا يزال هو الكائن العاقل المتميز، وهو الآن صار يتمتع بالذاتية ويتحرر من الخوف من الطبيعة ويشهر سلاح العقل والمنهج الرياضي في وجهها.
ولم تعد إرادة المعرفة عنده تسعى إلى المعرفة من أجل المعرفة، بل تحولت المعرفة عنده إلى إرادة الهيمنة والتملك للطبيعة وتسخيرها لمصلحته. وقد مثل ديكارت الأب الروحي لهذه الفلسفة التي تحمل نظرة جديدة إلى الطبيعة والإنسان. وهو البرنامج الذي كتب له النجاح التاريخي وأدى إلى هذه السيطرة المتزايدة للإنسان على الطبيعة من خلال المنجزات العلمية والتقنية التي صيرت الأرض قرية صغيرة وجعلت لأول مرة مصيرها يغدو عالميا. والأكثر من ذلك أننا “حولنا الأشياء إلى فتات وسلع وإلى رهانات ألعابنا الاستراتيجية و فلسفاتنا. وبعيدا عن عالمنا الطبيعي تحدثت اللغة والسياسة “[7]. كل هذا يدعو إلى مراجعة مقومات الحداثة الغربية وأسئلتها الأنوارية وتصوراتها المعرفية، كما هو الحال في المقاربات الفلسفية الأميركية البيئية، التي أعادت طرح سؤال الأخلاق ومساءلة وضعية الإنسان في الوجود، وفق منظور ما بعد حداثي.
4- انحراف العلم عن مساره الأخلاقي:
حينما نتساءل عن أصل العلوم نميل عادة إلى الإجابة بأن السبب في ذلك هو الفضول وحب المعرفة، ولكن ميشيل سير يرى أن الأصل كان هو الرغبة في تحقيق العدل، ولهذا ظهرت الرياضيات قبل الفيزياء، وكان ذلك في وادى النيل. حيث كان الفلاحون يزرعون الأرض على ضفتي النهر ويأتي الفيضان فيغمرها بالماء، ثم ينحسر فيترك أرضاً للزراعة ربما أقل أو أكثر من المساحة التي كانت موجودة في العام المنصرم، فترسل الدولة القصابين والمساحين لقياس الأرض وإعادة توزيعها بالعدل بحسب قانون النسبة والتناسب. والمشكلة في نظر سير أننا نسينا منذ زمن طويل أصلنا المصري القديم الذي يربط بين العلم و العدل و راح يربط العلم بالتملك و السيطرة، فانتقل الإنسان من الليبيدو المعرفي أي الرغبة في التخلص من الجهل إلى الليبيدو الاستعبادي أي الرغبة في التحكم في كل شيء.
لقد تم اختزال علاقة الانسان بالأشياء إلى علاقة الملكية وأصبح التلوث هو الوسيلة التي يلجأ اليها الانسان ليطرد الكائنات الأخرى ويمتلك الأشياء. هكذا انتقلت غاية العلم من تحقيق العدل إلى الرغبة في السيطرة على كل شيء. ولم يخرج العلم نفسه عن هذا البرنامج والسجل الديكارتي، وكل ما قام به هو العمل النظري والتقني على تطوير إمكانات السيطرة والتحكم والتملك، وهو ما نعيش نتائجه الإيكولوجية اليوم.
ينتقد م. سير هذه النزعة الموضوعية العلمية إلى الطبيعة والتي تختزلها إلى معادلات ودالات وأرقام ومركبات من القوى الرياضية والفيزيائية. وهنا يصادر العلم على حق وجود الموجودات والأشياء والعالم ويطالبها بأن تظهر وفق مخطاطاته النظرية والعملية، ولا ينصت إليها أو يعترف لها بأية إمكانية للظهور غير ما تصوره عنها مسبقًا. والحقيقة أن الطبيعة تكلمنا بلغات كثيرة تقمع جميعها لصالح لغة العقل والعلم.” إن نمو وسائلنا العقلانية تقودنا بسرعة يصعب حسابها ، نحو تدمير العالم الذي يحكم عليه بالانقراض التلقائي. “[8]
وبدل هذا البرنامج الديكارتي الذي يعلن الحرب على الطبيعة ويضع هدفًا له السيطرة والتملك، يقترح م. سير العودة إلى لايبنتز[9] وبالضبط إلى مبدأ السبب الكافي وعلاقته بالحق. فلا يعني السبب الكافي المبرر الكافي لوجود الكائن فقط، بل وهذا هو الأهم حق وجود هذا الكائن أيضًا. فجميع الكائنات بما هي موجودة وجودًا طبيعيًا فهي تتمتع بحق طبيعي في الوجود، وليس الإنسان هو من أعطاها هذا الحق، بل إنه حقها الوجودي في الوجود كما هو حق الإنسان أيضًا في الوجود. ولأن الكائنات الأخرى لا تنازعنا في حقنا في الوجود فمن حقها علينا أن نحترم حقها في الوجود وأن نعترف بحقوقها.
ويمكن إلحاق العمل الفلسفي لميشيل سير Michel Serres إلى أفق الفلسفة المعاصرة، أفق مجاوزة الميتافيزيقا كما حددها مارتن هيدغر، باعتبارها “فكر نسيان الوجود والتفكير بالموجود”. وقد أدى هذا النسيان الميتافيزيقي إلى جملة من الاختزالات الميتافيزيقية، بدء باختزال الوجود إلى الموجود، ثم اختزال الموجود إلى الإنسان وانتهاء باختزال الإنسان إلى العقل ونفي الجسد. هَايْدِغر يقول، من جهة، بأن الاجتياح الحديث للطبيعة هو نتيجة لسيطرة الفهم “التكنولوجي”الحديث للعالَم الذي يرى فيه ذروة “التراث الميتافيزيقي” الغربي، للعالَم…[10] ثم جاء هانس يوناس[11]Hans Jonas، فيلسوف الفكر البيئي الألماني وتلميذ هايدغر ليزعزع القيم الديمقراطية باقتراحه “حلولا سلطوية” تحد من الحريات الفردية حينما تشكل هذه الأخيرة خطرا على استمرار البشرية.
والنتيجة بلغة م. سير هي اختفاء العالم والأرض من أفق التفكير الفلسفي المنشغل فقط بالذات العاقلة وبحقوقها المدنية والسياسية كما تجلت في التعاقد الاجتماعي. هذا التعاقد الذي يعبر عن احتفال وفرح الإنسان بالإنسان وتمجيد الإنسان ونسيان مطلق للطبيعة والكائنات والعناصر، كالهواء مثلاً، التي تشاركه الوجود فوق الأرض، والتي من دونها لا يستطيع السيد الإنسان أن يعيش ثانية واحدة.
والحل في تصوره هو وقف الحرب التي لا يزال يشنها ديكارت من قبره ضد الطبيعة لأنّ “إن التحكم الديكارتي يؤسس العنف الموضوعي للعلم كاستراتيجية مهدِّدِة … لقد أصبحنا بحكم تحكمنا المفرط في الطبيعة ضعفاء أمامها، حتى إنها تهددنا هي بدورها …ينبغي لنا منذ الآن البحث عن التحكم في تحكمنا … لقد بنينا عالما يكون فيه الذكاء هو أول ملكة، حيث يدفعنا العلم والتكنولوجيا للأمام ونسقط، وننتج المزيد من البؤس والمجاعة والأمراض.”[12]
5- السيطرة على الطبيعة أم التطفل على الطبيعة؟
المفارقة هي أن الإنسان حينما ينجح في السيطرة على الطبيعة يصبح وضعه في الكون أكثر هشاشة من ذي قبل. فحياة الإنسان في الطبيعة تخضع لوضع الطفيلي، والطفيلي كائن حي يعيش على حساب كائن حي آخر. والعلاقة بين الطفيلي والمضيف يحكمها قانونان: إما الإفراط وإما التكامل. أو كما قال م. سير “إنّ الطفيليات القديمة المعرضة لخطر الموت بسبب التجاوزات المرتكبة على مضيفها والتي لم تعد قادرة على إطعامهم أو إيوائهم، أصبح تعايشها إلزاميا، لذلك يجب على البشرية ان تختار إما التعايش أو الموت”[13] .
في الحالة الأولى إذا استمر الطفيلي في استنزاف المضيف فقد ينجح هذا الأخير في التخلص منه، أو يموت المضيف وتنتهي معه حياة الطفيلي. أما التكامل فهو يعنى قبول الضيافة مع مراعاة حقوق المضيف وحدوده. ولحل هذا المشكل يجب أن نصوغ عقد تعايش مع العالم يحل محل عقد التطفل، الذي ولد من الآثار السلبية للثورات التكنولوجية في القرون الماضية، والتي تم تصور الغرض منها لصالح البشر فقط. إن الإنسانية في طور تدمير مضيفها، الأرض، التي هي جزء منها لعدم اعتبارها أن العالم كله يشكل نظامًا مغلقًا تترابط فيه جميع الأجزاء، ولأنها مع ذلك سمحت للأناني بالتطور والاستمرار. بدلا من ذلك، دعونا نحترمهم على وجه السرعة بالتشريع ومن هنا العقد الطبيعي.
يعيش الإنسان اليوم في علاقته بالطبيعة في ظل قانون الإفراط وعليه أن ينتقل فورا إلى وضع التكامل. ويبدو أنّ الإجراءات التي تم اتخاذها حتى الآن لم تعالج الأزمة من جذورها، بل تعمل فقط على تأجيل الكارثة. وبذلك علينا اليوم -وأكثر من أي وفق مضى- أن نفكر بجد في تأسيس عقد مع الطبيعة والذي يتم بموجبه الاعتراف بالحقوق الطبيعية لكل الموجودات دون استثناء.
6- من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي
عاشت الدول الغربية زمنا طويلا لا توجد فيه حقوق إلا للمواطنين الذكور وجاء العقد الاجتماعي ليمنح الحقوق لكل المستبعدين: العبيد، والنساء، والأطفال، والأجانب. وتكمن قوة العقد الاجتماعي في أنه يبدأ بعبارة لكل إنسان الحق. ويكمن ضعفه في أنه يقتصر على البشر وحدهم ويضع العالم والكائنات الأخرى خارج الملعب. وحتى حينما يصف العقد الاجتماعي الحق الانساني بأنه طبيعي يكون المقصود هنا هو الطبيعة الانسانية وحدها والتي يعبر عنها العقل فيمنح نفسه كل الحقوق، ولا حقوق لكائنات أخرى. وعندما تقترح الفلسفة السياسية الحديثة مفهوم التعاقد الاجتماعي[14]، فهي لا تفكر خارج أفق فلسفة الذاتية والبرنامج الديكارتي. فالاهتمام السياسي هنا هو بالذات وبالفرد وبالمواطن، وبالإنسان، وحقوقه المدنية، والسياسية. ولم يتم التفكير في حقوق باقي التجمعات/المجتمعات الطبيعية منها الحيوانية والنباتية وعناصر الحياة الأساسية (الماء، الهواء، التراب، النار). فقط الإنسان ولا شيء غير الإنسان هذا هو شعار التعاقد الاجتماعي والأنوار.
هذا الاهتمام بالإنسان ونسيان الأرض، البيت والمأوى[15] الأنطولوجي للكائنات هو ما ينتقده م. سير في التعاقد الاجتماعي ويدعو إلى تجاوزه عن طريق توقيع التعاقد الطبيعي. وهنا يكمن التجديد السياسي. أين يحل الإعجاب التأمل والاحترام والفن والجمال وحب الأرض محل السيطرة والامتلاك والاعجاب. هو تعاقد المجاملة حيث يعمل الجميع على معاملة الجميع برقة ولطف وتجنب كل ما يزعج الأخر والسهر على سلامته ضمانًا للسلامة الجماعية لركاب سفينة الطبيعة. فكل خلاف بين المسافرين أو شجار أو عنف قد يؤدي إلى غرق السفينة وهلاك الجميع. ولتوقيع هذا التعاقد الطبيعي نحتاج إلى سياسيين جدد يأخذون بعين الاعتبار المدى البعيد، سياسيين فيزيائيين أي علماء طبيعة وليس خطباء غارقين في الإشهار والإعلام.
إن مفهوم التعاقد الطبيعي عند ميشال سير هو نقد جذري للميتافيزيقا في أبعادها الفلسفية والعلمية والسياسية والأخلاقية من خلال لغة لا تعترف بالحدود الميتافيزيقية للأجناس الفلسفية، أو العلمية، أو الأدبية أو الشعرية أو الأسطورية أو الدينية. لغة عائمة فوق اللغات والأجناس، جاعلة من سؤال الكتابة ممارسة ضرورية لمجاوزة لغة الميتافيزيقا وطرقها في التساؤل والتفكير.
يدعو ميشيل سيريس إلى تأسيس “عقد طبيعي”، هو بمثابة معاهدة سلام مع الأرض كأساس قانون جديد، لتعايش حيوي، ينتهي بميثاق الحرب التي نخوضها ضد الطبيعة ويمنح العقد الطبيعي الكرامة القانونية للطبيعة ويحدد واجبات الإنسانية تجاهها.
بل يتعامل العقد الطبيعي مع فلسفة القانون وبذلك يحدث ثورة في فلسفة القانون عندما جعل من الطبيعة موضوعا للقانون لكبح جماع السلطة العلمية والتقنية ورسم حدود العلاقة بين العقل العلمي والعقل القانوني كما يقول ميشال سير “إن التغير البيئي العالمي أجبرنا على إعادة النظر في علاقتنا بالطبيعة للتفاوض بين الأرض و سكانها. “[16]
ويجب أن نصوغ عقد تعايش مع العالم يحل محل عقد التطفل، الذي ولد من الآثار السلبية للثورات التكنولوجية في القرون الماضية، والتي تم تصور أهدافها لصالح البشرية فقط. لذلك فإن العقد الطبيعي سيكون له دعوة استكمال – من دون تدمير– العقد الاجتماعي الذي تم تصميمه وفق ما يخدم البشر فقط في القرن الثامن عشر، ليضيف إليه عقدًا يسعى من أجل المنفعة الشاملة والمتبادلة بين البشر والطبيعة، ذلك أن الإنسانية وصلت إلى تدمير مضيفها، الأرض، التي هي جزء منها لعدم احترامها.
يشكل العالم كله نظامًا مغلقًا تترابط فيه جميع الأجزاء، الواجب احترمها على وجه السرعة بالتشريع للعقد الطبيعي.
في مقدمة الطبعة الجديدة لعام 2018 من العقد الطبيعي، كتب ميشيل سيريس “كان السؤال جديدًا للغاية بحيث لا يزال بإمكان المرء أن يظل هادئًا وينغمس في التكهنات النظرية”. قصيدة علمية وقانونية جميلة تنسج فيها النظرية نسج ما قبلها بدلاً من أن تبني نمط ما بعده … لكن الحل الحقيقي هو أن يكون لدينا نموذج بديل. نحن مفقودون … لست متأكدا حتى من أن لدي أي فكرة عن نموذج لقد حثّ أفراد العالم كي يعملوا باستثمار قوتهم ضمن الحدود المعقولة، وبكيفية لا يفسدون بحسبها جمال الطبيعة المرهف كي تتجلى انعكاساتها على مستوى الفن، والعلم ثم الثقافة عموما.”[17]
لذلك، دعاهم إلى توقيع ”عقد طبيعي” يجعل من الطبيعة ليس فقط فضاء لاكتساحه؛ بل إحدى المواضيع التي تحظى لدى الإنسان بالحماية القانونية، يعيد في إطاره تجديد فاعلية التحفظ، الحياء، الاعتدال، وكذا أقصى دلالات الإنصاف والعدالة انطلاقا من توزيع الموارد. لذلك أصبح ميشيل سير، أحد الفلاسفة الأكثر شعبية، وقد بلغ أوج شهرته مع كتابه ”الإصبع الصغيرة” الذي تجاوز سقف المبيعات في فرنسا 200 ألف نسخة بحيث انصب وصفه على واقع الثورة الرقمية الجارية، التي غيرت تقريبا كل شيء، الممارسات، رؤية العالم، الاهتمام بالأشياء، العلاقة مع الآخرين، كيفيات التعلم، القانون، السياسة، الأخلاق، ثم وجودنا ذاته وسط العالم والطبيعة.
ويضيف سير قائلاً: “بصفتنا سادة ومالكين، فإننا نسيطر على الطبيعة ونختزلها إلى حالة كائن، ومع ذلك، فهذه الطبيعة تستقبلنا وترحب بنا وتجعلنا نعيش. إذا كانت عمليات استخراجنا وعملياتنا تشكل خطراً على ذلك، فإن التهديد ينقلب علينا الآن، فالطبيعة تضعنا في ظروفنا، ومن الآن فصاعداً نقوم بتكييف الطبيعة. عن طريق تأسيس “عقد طبيعي” [18]، أساس قانون جديد، لتعايش حيوي، ينتهي بميثاق الحرب التي نخوضها ضد الطبيعة. تم تمريره بين البشر والعالم، بمجرد استبعاده من اللعبة بموجب العقد الاجتماعي، يمنح العقد الطبيعي الكرامة القانونية للطبيعة ويحدد واجبات الإنسانية تجاهها. إنها العودة إلى الطبيعة والتعامل معها بفن الحياة البيئي أو تجربة الحب كما يقول سير “أن نحب أمنا الطبيعة الأرض “[19]أو ما اصطلح على تسميه بأخلاقيات البيئة.
7-من أجل أخلاق الأرض. تقترح أخلاقيات البيئة إعادة التفكير في علاقة الإنسان بالطبيعة من وجهة نظر فلسفية، لفهم جذور الأزمة، وربما بشكل أعمق من التفسيرات الاقتصادية للاستغلال المفرط وغير العقلاني للموارد الطبيعية بحيث يكون الفكر الإيكولوجي والخطاب الإيكولوجي أكثر حضورًا في الثقافة وفي وسائل الإعلام وفي عمليات صنع القرار والبناء.
كما جاء في حديث بول ريكور حين قال “الإحساس العميق بالانتماء إلى المنظومة الكونية لا يتعارض مع التفكير في إعلان حقوق البشرية في المستقبل” [20]، وهذا هو رهان هانس يوناس الذي يعتقد أن “مستقبل البشرية ليس مضمونا بطبيعته، ولا ينبغي أن يكون فقط مرغوبا فيه بل مفضلا ومقيّما بمعنى: “عش بالطريقة التي تتيح بها أن تستمر البشرية بعدك”..
لا يمكن لأخلاق إنسان ديكارت أن تخرج عن النفعية والتملك والتحكم والعنف والإخضاع في علاقة الذات بموضوعات العالم. ومن تم فأفق الحرب يظل دائمًا مفتوحًا ضد الطبيعة كما هو ضد الإنسان.
ومن تم فالأساس الميتافيزيقي للحرب اليوم بين الأمم هو إعلان الحرب على الطبيعة الذي صدر في القرن السابع عشر عن ديكارت. فهذه النزعة الحربية تجاه الطبيعة تصيب الإنسان أيضًا باعتباره جزء لا يتجزأ من الطبيعة. وهكذا تنقلب هذه النزعة إلى دمار مزدوج للطبيعة والإنسان. فانهيار الأنظمة البيئية هو انهيار النظام البيئي للإنسان، ولأن حياتنا مشروطة بحياة تلك الأنظمة فالواجب الأخلاقي يتجلى في احترامها والمحافظة عليها والتعايش معها وتنميتها.
وبدل هذه الحرب الشاملة التي يشنها الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه، يدعوه م. سير، إلى الإسراع بتوقيع التعاقد الطبيعي وتعويض غرائز الحرب تجاه الأرض والذات بغرائز الحب للأرض باعتبارها سكننا الأنطولوجي الذي علينا أن نهتم به وأن ننصت إليه وننفتح عليه ونتناغم معه تحقيقا لحياة إيثيقية سعيدة تأخذ بعين الاعتبار الحاضر والأجيال القادمة.
اليوم أصبحت دراسة الأسئلة الفلسفية التي تطرحها البيئة والعلوم البيئية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. واستنادًا إلى هذا النقاش الفلسفي يمكننا مواصلة التحليل من خلال طرح تساؤل مزدوج: تساؤل أخلاقي بشأن البيئة، وقيمتها الجوهرية أو الآلية، وتبرير سياسات المحافظة التي ستسمح بالتطرق للنظريات الأخلاقية الأساسية للبيئة. فكل من يطلع على الأدبيات الفلسفية الإيكولوجية يجد أنها تنشغل بسؤال البيئية عمومًا، وبدراسة العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها، أي دراسة واقع المنظومة البيئية بمستوياتها الثلاثة: المستوى المادي (العناصر المادية في الطبيعة) والمستوى الحي (الكائنات الحية) والمستوى الإنساني.
إلا أن أهم ما يميز خطاب الفلسفة البيئية، هو نزعته النقدية الجذرية التي تنشغل بتقديم الأدوات المفهومية والمعرفية للكشف عن حقيقة البيئة وقضاياها ومشكلاتها. أي أن الخطاب الإيكولوجي يعمل على تهيئة الأطر النظرية والعملية القمينة بفهم الأزمة البيئية وانعكاساتها العامة على كل مكونات الوجود، والكفيلة «بمراجعة فكرية للنظرة الحديثة إلى العالم، التي نشأت في الغرب الأوروبي وحكمت رؤاه وامتدت تأثيراتها إلى بقية أنحاء العالم، وشكلت في الوقت نفسه، نواة الحضارة الحديثة والمعاصرة، وأنماط الحياة والاجتماع والتمدن التي نشرتها في العالم.
تروم الفلسفة الإيكولوجية اعتماد الآلية النقدية التجاوزية، بغية تأسيس مشروع إنساني جديد، يُقوّم أعطاب الحداثة ويعيد ترتيب وضع الإنسان في الطبيعة ودوره فيها. وعادة ما يستسيغ روادها إطلاق لفظ الاخضرار على مشروعهم العام، كرديف للانسجام والتناغم بين مكونات الوجود، وهو مشروع يغيب المركزية البشرية أو أفضلية الإنسان وأسبقيته على كل الكائنات.
يستند رواد فلسفة الأخلاق البيئية، على قناعة أساسية مفادها أن للطبيعة قيمة أصلية وذاتية، تستلزم البحث في الواجبات الأخلاقية البشرية حيال المنظومة البيئية برمتها (حيوانات، نباتات..)، عبر تعديل قاعدة المعايير الأخلاقية، ذات المنشأ العقلاني الغربي الصرف، وتوسيعها لتشمل الكائنات غير البشرية، بغية تحريرها من النزعة النفعية الضيقة، إقرارًا بخيريتها الأصلية الذاتية.
فالفلسفة البيئية إذن، فلسفة ثورية بامتياز، تحكمها نزعة طبيعية تحريرية للقيم الأخلاقية، التي حكمت الحيوان والطبيعة في تاريخ الغرب، بغية التخلص من كل طرائق الفلسفة الغربية التقليدية، والسعي بدلا عنها، إلى تطوير فلسفة قيمية جديدة، تعتمد على منظور إيكولوجي شامل كفيل بتغيير القيم الاجتماعية، وبلورة مُثل ثقافية بديلة. ولعل ذلك ما جعل رواد الفلسفة الأخلاقية (توم ريغان، بيتر سينغر..) يحرثون أرضا جديدة في الفلسفة الخلقية، عندما تمكنوا من تجاوز عتبة المعايير الإنسانية الصرفة في التقدير والتقويم، وأسسوا لبنات منظور شمولي يجعل من «الحياة» معيارا كليا لتقدير الإنسان والحيوان معا.
وعلى المنوال نفسه، بنيت رؤية الإيكولوجي ألدو ليوباولد، على الدعوة إلى تحرير مفهوم المجتمع الإنساني، ذي النزعة الأنثروبولوجية الخالصة، وتوسيع حدوده الضيقة ليشمل كل الكائنات (التربة، المياه، النباتات والحيوانات..)، حتى يستقيم الحديث عن مجتمع طبيعي، يسوغ الانتقال من الأقاليم البشرية إلى الأقاليم الحيوية. ولأن معاني الغيرية لم تعد تنحصر دلالاتها عند حد إنساني خالص، فقد أضحت تشمل باقي الموجودات والمكونات الأرضية، وترسخ أخلاقا نوعية جديدة تجعل قيم التعاطف والخيرية تعبر كل الحدود والموجودات على الأرض، وتسهم في بناء حضارة أرضية سليمة، تقوم على الموازنة بين المصالح البشرية وبين مصالح الموجودات الطبيعية، ثم مصالح الأرض عموما.
يتضح مما سبق، أن المقاربة الإيكولوجية الأخلاقية بمختلف ألوانها، سعت إلى تأسيس خطاب إيكولوجي عميق، يتجاوز ضحالة اختيارات المجتمعات الصناعية في معالجة الأزمات البيئية، ويراجع الطرق التقليدية للفلسفة الغربية ونموذجها الإرشادي المعرفي الحداثي، بغرض تطوير بدائل فلسفية كفيلة بصياغة مُثل أخلاقية جديدة، تستجيب لمستجدات الإنسان المعاصر، وتعيد تقييم المحيط البيئي، بناء على منطلقات تروم التوازن الطبيعي وفق منطق تعاقدي طبيعي خلّاق، يضمن التقدير العادل والشمولي لكل الموجودات[21].
وتتميز فلسفة “التمركز حول البيئة” بمحاولة استخلاص مفاهيم أخلاقية انطلاقا من النتائج التي توصل إليها علم البيئة خلال القرن العشرين، لكن بخلفية فلسفية تستلهم من التاريخ والأنثروبولوجيا. إن “أخلاق الأرض”، كما عرفها ليوبولد، ترفض الأطروحات “الفردانية” و”المختزلة” التي تطبع توجها كالفلسفة “المتمركزة حول الحياة” biocentrique التي تبوئ الكائنات الحية مقاصد أخلاقية باعتبارها كائنات معزولة … تبعا لذلك يعتقد “المتمركزون حول البيئة أن الإدراك السليم لمعطيات الطبيعة يستلزم توسيع زاوية النظر بحيث لا يتم الاقتصار على “رؤية” “مكونات الطبيعة” معزولة عن بعضها، بل ينبغي التركيز على “مفهوم التبادل” و”العلاقات البينية” و”تداخل الارتباطات” بين جميع عناصر النسق البيئي التي تشكل الغلاف الحيوي biosphère برمته.
وكما يقول ألدو ليوبولد في كتابه الشهير “[22] Sand county Almanac”: إن أخلاق الأرض ببساطة هي توسيع “دائرة الكائن البيئي” ليشمل التراب والماء والنبات والحيوان؛ أي باختصار “الأرض”. وتوصل ليوبولد إلى “مسلمته” التي أصبحت “شعار” الفكر الإيكولوجي المعاصر والتي تقول: “أن الشيء السليم هو الذي ينحو منحى الحفاظ على الوحدة والاستقرار و”الجمال” الذي يسود المجتمع الحي، وسيكون عين الخطأ إن نحى منحىً مغايرا”. ويبدو مفهوم ألدو ليوبولد،Aldo Leopold عن الطّبيعة، قريبًا من عِلم كونيّات الشّعوب الأصليّة، وخاصّة الهنود الحمر، أو من نظريّة “غايا”، التي ترى الأرض كائنًا حيًّا عالميًّا، ولكن نقطة البداية مختلفة بالنسبة لنظريّة التّطوّر. حيث يدعي داروين “بأنّ الإنسان: ليس سوى رفيق متنقّل للأنواع الأخرى في ملحمة التّطوّر، وكان يجب أن يمنحنا هذا الاكتشاف، منذ زمان، شعورًا بالأخوّة مع المخلوقات الأخرى؛ أي الرّغبة في العيش وتركها أيضًا تعيش.”
على هذا الأساس، يقترح ألدو ليوبولد ما سمّاه أخلاق الأرض [land ethic]، إنّه مفهوم المجتمع الحيويّ، الذي يشكّل الإنسان جزءًا منه، بل يشكّل قلبه. إنّه أساس علاقتنا مع الأنواع الحيّة الأخرى، وهي علاقة عضويّة مماثلة لتلك التي تربط الأجزاء المختلفة من الجسم نفسه. ونظرًا لأنّها أجزاء متكاملة من الكلّ ذاته، فلكلّ واحد منها قيمة جوهريّة لا يجب تدميرها. فيجب حثّ البشر على التّعاون باعتباره عضوًا في المجتمع البشريّ، وليس حثّه على العمل مدمِّرًا، لذا يلزم أن نتصرّف باستقامة.
8-مع من نعقد هذا العقد؟ لقيت دعوة ميشيل سير إلى تأسيس عقد طبيعي بنقد نابع من الاستغراب، يتجلى ذلك في طرح أسئلة من نوع: من يصيغ العقد؟ وهل ستقوم الطبيعة بالتوقيع عليه؟ وفى حالة إخلال أحد الطرفين بواجباته من سيصدر الحكم؟ كل هذه الاعتراضات تم توجيهها قبل ذلك إلى الفلاسفة الداعين إلى العقد الاجتماعي. فهو عقد افتراضي وهذه سمة لكل عقد تأسيسي.
العقد –مهما كانت صفته- هو عقد ميتافيزيقي يتجاوز الطبيعة إلى الثقافة وهو عقد منشئ لعلاقات جديدة بين البشر والأشياء ينبغي مراعاتها. أما فيما يتعلق بمسألة التوقيع على العقد، فصحيح أن العقد يضع حدودا لتدخلات الإنسان في الطبيعة، ولكن غايته الأخيرة هي حماية الإنسان من نفسه. فالأرض عاشت قبل الإنسان وسوف تعيش بعده، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون الأرض ولهذا فهو الذى سوف يقوم بتوقيع العقد. فالاعتراف بالعقد الطبيعي سوف يكون له آثار على عمل المؤسسات السياسية وعلى التشريعات الصادرة، وقبل كل هذا آثار كبيرة على تربية الأطفال وإعدادهم للتعامل مع ما يقتضيه المستقبل.
انتقد لوك فيري Luc Ferry بشدة نظرية ميشال سير ويرى أن خلاص البشرية سيكون عن طريق العقل لا غير، فحقوق الطبيعة تتنافى ومركزية الإنسان وإهانة للتكنولوجية والتفكير في الطبيعة كموضوع للقانون حماقة لا يؤمن بها إلا اولئك الذين يشعرون بخيبة أمل أمام العالم الحديث. وفي سياق نقدي واستشرافي تندرج آراء الباحث الفرنسي لوك فيري Luc Ferry الذي ينطلق في كتابهLe nouvel ordre [23]écologique، من المقابلة بين تصور يدافع على البيئة في اتجاه الحياة السعيدة للبشر وبين أصولية “الإيكولوجيا العميقة” ؛ وبعد أن يذكر لوك فيري بأن هذا الاتجاه في التفكير تطور بالخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وأنه ينحو إلى نقد جذري لنموذج التطور الغربي المبني على الحضارة التقنية ويدعو إلى القطع مع مفهوم “التمركز حول الإنسان” anthropocentrisme بمعنى اعتبار الإنسان لب ومركز “الكون”، يطرح إضافة جوهرية هي إشكالية “الحيوية المعاصرة”. بيد أن جِبلِّة الاختلاف المحترمة لذاتها بما يجعل كل كائن حي لا يفضل كائنا آخر في شيء تتجاوز أي معيار آخر؛ يستتبع هذا بداهة أن الحياة تستحق الاحترام، لكن “طقس الحياة” الذي نحثه الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير [24] Michel Serresلا يمكن من استخلاص أي مؤشر دال على القرارات الواجب اتخاذها من طرف المجتمع لاستشراف مستقبله البيئي…
الخاتمة
إن جلّ المخاطر التي تتعرض لها البيئة هي نتاج طبيعي لضعف الوازع الأخلاقي لدى الإنسان، لأنّ الأخلاق ليست هي الحصن المنيع الذي يمنح الإنسان معنى إنسانيته ويؤمن له الاستقرار الداخلي وينظم علاقاته بالآخرين فحسب، وإنما هي أيضاً عنصر الحماية الرئيسي للبيئة ومواردها ومكوناتها، وكلما سما الإنسان أخلاقياً وروحياً كان ذلك أدعى للاستقرار البيئي فضلاً عن الاستقرار الاجتماعي… وكلما تداعت أو تصدّعت المنظومة الأخلاقية وتردّى الإنسان روحياً كان ذلك مؤشراً على ازدياد المخاطر البيئية، فضلاً عن الأزمات الاجتماعية، ولذا فإن إصلاح البيئة يبدأ من إصلاح الإنسان، وإصلاح الإنسان لن يكون إلا بإعادة الاعتبار إلى القيم الأخلاقية السامية، فعندما تسود مبادئ النفعية والأنانية ويغدو الطمع والجشع والاحتكار دليل النجاح”، وفي المقابل تصبح قيم الرفق والإحسان والاقتصاد، دليل السذاجة والفشل؛ عندما يسود هذا “المنطق” بموازينه المغلوطة ومفاهيمه المعكوسة فعلى الإنسانية السلام، وعلى البيئة ألف سلام!
وإذا أردنا النجاة ، فعلينا أن ننتقل من العنف والرعب الى السلام من أجل “إيجاد توازن و انسجام بين قوى الطبيعة والتقنيات التي اخترعها العقل الإنساني، لكن عماء وصمم الحتمية الطبيعية قد وقف حاجزا وعائقا أمام أجدادنا الأوائل في وضع عقد مع الطبيعة ممّا ساهم في نهايتهم وطحنهم بقسوة شديدة من طرفها أي الحتمية الطبيعية “[25] هو توازن جديد بالرغم من صعوبة المهمة ينتقل فيه الإنسان من وضعية المتحكم في الطبيعة إلى المنبهر والمعجب والمحترم والمحب للطبيعة، الأمر الذي وجه إليه ميشال سير الإنسان أو المزارع بأن ‘يقاوم”، مواصلا زرع حقول المعرفة، وغرس أشجارها. لم يستحسن قط ميشيل سير، تلك الجذوع المستقيمة مثل حقائق مكتملة بالمطلق، وعقائديات صلبة، متطابقة. في المقابل، كان شغوفا بالقمم، عاشقا لـ” أغصان الأشجار”، والتي مع أنها أكثر ضعفا وخضوعا؛ تتجاور، وتتبادل، وتتعانق، ثم تدمدم لذات الريح، بل تبدو أحيانا أنها تتحدث. وفي ذات السياق اقترح الفيلسوف آرني نيس Arne Naess 1912-2009 مفهوماً جديداً أطلق عليه اسم “الذات الإيكولوجية” للإشارة إلى هذه الصورة الذاتية التي يرتبط فيها مفهومنا بأنفسنا بالبيئة الطبيعية التي ينتمي إليها وبمجتمع الكائنات الحية التي تتعايش فيها.
المصادر والمراجع:
باللغة الأجنبية
-Jean-Marie Schaeffer, La fin de l’exception humaine Gallimard, 2007
-Michel Serre , le contrat naturel Ed bourrin , paris 1990
Luc ferry. Nouvel, ordre écologique, Grasset, 1992-
-Aldo Leopold, A Sand county Almanac, Oxford University Press, 1949.
– L’éthique, le politique, l’écologie. Entretien avec Paul Ricœur (propos recueillis par Edith de Jean Paul Deléagel). Ecologie politique. Sciences, Culture, Société. 1993. N°7, été.
-Zakaria Rhani, l’Humanisme à l’ère technologique: vers une éthique Heideggérienne de la parole et de la technique. Altérités; Vol:5, 2008.
– Hans Jonas, le principe de la responsabilité, une éthique pour le société
démocratique, le Cerf, 1995
باللغة العربية:
المعجم الفلسفي جميل صليبا الشركة العالمية للكتاب 1994
عبد المعطي شعراوي: الأساطير الإغريقية -الهيئة المصرية العامة للكتاب 1982 .
[1] ميشال سير( 1930-1019 ) بخصوص الجواب عن سؤال: ماذا يلزم كي تصبح فيلسوفا؟، رد ميشيل سير باستمرار: ”ينبغي أن تسافر”. وهكذا سافر الفيلسوف بعيدا عن هذا العالم، وعمره يقارب الثامنة والثمانين.”تشير بطاقة هويتي إلى اسم سير Serres، وهو اسم جبل، كما الشأن مع سييرا في إسبانيا والبرتغال؛ يحمل آلاف الأشخاص اسما من هذا القبيل، على الأقل في ثلاثة بلدان. في حين، بالنسبة لميشيل، يتضاعف أكثر عدد الأشخاص الذين يلقبون بهذا الاسم”. يحيل اسم سير Serres على مخالب طائر النسر والعُقاب، لكن يبقى الماء ”مسكنهما”.
[2] عبد المعطي شعراوي : الأساطير الإغريقية-الهيئة المصرية العامة للكتاب 1982 ص 45.
[3]المعجم الفلسفي جميل صليبا الشركة العالمية للكتاب 1994 – الصفحة 90.
[4]Jean-Marie Schaeffer, La fin de l’exception humaine Gallimard, 2007
[5] Michel Serre , le contrat naturel edt bourrin , paris 1990 p 75
[6]Michel Serre : le contrat naturel edt , Bourrin .1990 p 90
[7]Ibid , p54
[8] Ibid p 32
[9] ليبنتز (1646-1716) عالم الماني متعدد المواهب جمع بين الرياضيات و المنطق الفلسفة و اللاهوت
[10]Zakaria Rhani, l’Humanisme à l’ère technologique : vers une éthique Heideggérienne de la parole et de la technique. Altérités; Vol:5, 2008. P 83-91.
[11] Hans Jonas, le principe de la responsabilité, une éthique pour la société démocratique, le Cerf, 1995
[12] Michel Serre , op cit , p 63
[13] Ibid , p 65
[14]وضعه الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو سنة لتنظيم الحياة بين البشر1762
[15]– مفهوم البيئة :البيئة في اللغة مشتقة من الفعل “بوأ” و “تبوأ” أي نزل وأقام. والتبوء: التمكن والاستقرار والبيئة: المنزل. فالبيئة بمعناها اللغوي الواسع تعني الموضع الذي يرجع إليه الإنسان، فيتخذ فيه منزله ومعيشته.
ومن ثم يجب أن تنال البيئة بمفهومها الشامل اهتمام الفرد كما ينال بيته ومنزله اهتمامه وحرصه. اصطلاحاً: رجع الفضل الأول في تحديد مفهوم البيئة العلمي، إلى العلماء العاملين في مجال العلوم الحيوية والطبيعية، حيث يرى هؤلاء أن للبيئة مفهومان يكمل بعضهما البعض أولهما البيئة الحيوية وهو كل ما يختص بحياة الإنسان نفسه من تكاثر ووراثة فحسب، بل تشمل علاقة الإنسان بالكائنات الحية، الحيوانية والنباتية، التي تعيش في صعيد واحد. أما ثانيهما وهي البيئة الطبيعية أو الفيزيقية وهذه تشمل الغلاف الجوي، الغلاف المائي، اليابسة، المحيط الجوي، بما تشمله هذه الأنظمة من ماء وهواء وتربة ومعادن، ومصادر للطاقة .وتعد البيئة البيولوجية جزءاً من البيئة الطبيعية.
[16]M.Serre , op cit p 120
[17] M.Serre ibid p 09
[18] Michel Serre le contrat naturel Edition François Bourin paris 1990 p 90
[19] Ibid p 83
[20]L’éthique, le politique, l’écologie. Entretien avec Paul Ricœur (propos recueillis par Edith de Jean Paul Deléagel). Ecologie politique. Sciences, Culture, Société. 1993. N°7, été.
[21] للمزيد طالع مقال زهير الخويلدي حول العقد الطبيعي لميشال سير
[22]Aldo Leopold, A Sand county Almanac, Oxford University Press, 1949
[23] Luc ferry. Nouvel, ordre écologique, Grasset, 1992 p 33
[24] Michel Sere : Le contrat naturel edt , François Bourin, Paris. 1990 .p 56
[25] Ibid p 67